توهم وقوع الخطأ من بعض كتبة الوحي
وجه إبطال الشبهة:
معنى كلمة (زوج) في اللغة من جهة، وإجابة زيد على السائل من جهة ثانية، ورد فعل السائل وسكوته إدراكا للمعنى الذي غاب عنه من جهة ثالثة، وطبيعة الدور المنوط بزيد من جهة رابعة؛ كل هذا ينفي عنه تهمة الوهم أثناء تدوين القرآن وجمعه، ويثبت أن المتوهم هو السائل نفسه لا زيد بن ثابت رضي الله عنه.
التفصيل:
معنى كلمة ” زوج ” في اللغة يدل على أن المتوهم هو السائل لا زيد:
واضح في مضمون الشبهة أن السائل قصر مدلول “زوج” على الاثنين معا دون أحدهما، وتوهم – بمقتضى ذلك – أن زيدا هو الذي أخطأ حين دون قوله سبحانه وتعالى: )ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (144)( (الأنعام).
وبالوقوف على معنى كلمة “زوج” في اللغة يدرك خطأ تصوره هو للآية الكريمة بالتفصيل هكذا: الضأن اثنين اثنين، والمعز اثنين اثنين، والإبل اثنين اثنين، والبقر اثنين اثنين؛ ليكون المجموع ثمانية أزواج، ومناط خطأ السائل أن لفظة “زوج” تقع للواحد وللاثنين؛ فيقال: هما زوجان وهما زوج، كما يقال هما سيان وهما سواء، وتقول: اشتريت زوجي حمام، وأنت تعني ذكرا وأنثى.
ولعل هذا ما ألمح إليه زيد نفسه حين استدل للسائل بآية القيامة: )فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة)، ولو لم تكن “زوج” للمفرد كما هي للمثنى لما صح قوله “الزوجين” هكذا بالتثنية![1] واللغة تؤيد استشهاد زيد السابق وتؤكد صحة دليله في آية القيامة، وبراءته من الوهم في آيتي الأنعام؛ ذلك أن كل فرد يحتاج إلى آخر يسمى – عند العرب – زوجا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج.
وأمر آخر تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد – من شأنه أن يبرئ زيدا – مؤداه أن السائل إن كان يتهم زيدا بالوهم في كتابة القرآن حال تدوينه الوحي بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فدعواه أقرب للوهن منها للقوة، ومستحيل عقلا أن يترك وهم كهذا – إن جاز أن زيدا وهم فيه أصلا – ولا يتداركه أحد من سائر كتبة الوحي، ثم إن جبريل – عليه السلام – كان يعارض النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن مرة كل عام، ومرتين في عام وفاته على ما بأيدي الكتبة من قرآن، فكيف لم يقف أحد على هذا الوهم إن كان وقع؟!
هذا إن كان السائل يرمي زيدا بالوهم حال كتابة الوحي بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – أما إن كان وصمه لزيد بذاك حال نسخه القرآن في مرحلتي جمعه، فلا يقل وهانة في الحجة، وبعدا عن المنطق من سالفه؛ إذ لم يقم زيد بهذه المهمة – وجليلة ما هي – وحده، وإنما كانت على كاهل جمع من الصحابة الثقات الأثبات بإشراف من أمير المؤمنين أبي بكر – رضي الله عنه – في الجمع الأول – وأمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في الجمع الثاني -، فإذا كان زيد أخطأ، فهل أخطأ هؤلاء جميعا وهم بين حافظ للقرآن وكاتب للوحي؟!
ونحيط هؤلاء علما بأن زيدا في المرحلتين – كتابة الوحي في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وجمع القرآن ونسخه في عهد الراشدين – لم يكن مؤلفا يكتب القرآن من تلقاء نفسه، بل يقف دوره في المرحلة الأولى عند كتابة ما يمليه النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه عقب نزول الوحي، فهل وهم هو أم وهم النبي صلى الله عليه وسلم؟! وفي المرحلة الثانية – الجمع والنسخ – يقف دوره فقط عند جمع ونسخ ما تم تدوينه من ذي قبل في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يؤلف شيئا من بنات أفكاره حتى يتوهم أو يخطئ!!
وإذا تجاوزنا هذه المناقشات التفصيلية لنقف على رد فعل السائل بعد ما أجابه زيد بن ثابت، والواضح أن الرجل سكت اقتناعا بإجابته حسبما ورد في الرواية التي استدلوا بها، وإذا صح هذا نتساءل: ما وجه تكرار دعوى توهم صاحبها فيها ثم هدى إلى رشده؟! ونحن في الحقيقة لا نكاد نجد مسوغا لمثل هذا التكرار البين إلا أن يكون هوى في نفس مردد الدعوى وحاجة في نفسه قضاها، ومثل هذه الأسباب غير العلمية لا تسوغ لهم أن يعيدوا القول ويبدوه فيما مات من الشبهات قبل أن يولد.
الخلاصة:
- معنى كلمة “زوج” في اللغة يدلنا على أن المتوهم فيها هو السائل نفسه لا زيد بن ثابت؛ ذاك أنها تطلق على كل فرد يحتاج إلى آخر؛ فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج، وتقع للواحد وللاثنين؛ فيقال هما زوجان وهما زوج، كما يقال: هما سيان وهما سواء.
- لقد أجاب زيد السائل مستشهدا بآية القيامة: )فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة) ولو لم تكن “زوج” للمفرد كما هي للمثنى لما صح قوله سبحانه وتعالى: “الزوجين” هكذا بالتثنية!
- واضح من الرواية المستدل بها أن سائل زيد اقتنع بإجابة زيد؛ وسكت إدراكا لخطئه ووهمه هو، وهذا نفسه ينفي وجاهة الاستدلال بكلام عدل عنه صاحبه ومثيره الأول، ولا مسوغ لإعادة القول وإبدائه في هذا الشأن.
- إن الدور المنوط بزيد لا يحتمل أن يقع – رضي الله عنه – في وهم أو خلافه؛ فمهمته في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – تقف عند مجرد تدوين ما يمليه النبي – صلى الله عليه وسلم – عليه عقب نزول الوحي، وفي عهد الراشدين – رضي الله عنهما – تقف عند مجرد جمع ما دون سلفا ونسخه في مصحف واحد، ومثل هذا الدور لا يحتمل وهما، فهو إما مدون يملى عليه، أو جامع (ناسخ) ينسخ ما هو مدون أمامه، ولم يكن مؤلفا للقرآن حتى يتوهم شيئا فيصوغه بما يخالف قواعد اللغة.
(*) هل القرآن معصوم، عبدالله عبد الفادي، موقع إسلاميات.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص 113 بتصرف.