دعوى أن أبا هريرة كان يكتم العلم
وجها إبطال الشبهة:
1) إن أبا هريرة معروف بتمسكه بالحق، وما كان يخشى الناس في الله – سبحانه وتعالى – ومواقفه من مروان بن الحكم معروفة، ولكنه عمل بقاعدة “دفع الضرر مقدم على جلب النفع” وقول علي: «حدثوا الناس بما يعرفون»، فلم يتكلم بأحاديث قد لا تدركها كل العقول خاصة أخبار الفتن والملاحم مما قد يحدث الفتنة ويهيج من لا يفهمها من الناس، لاسيما أنها لم تضم أحكاما تشريعية يحتاج إليها المسلمون.
2) لا يسع أبا هريرة أن يكتم علما ينتفع به الناس، وهو الراوي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة».
التفصيل:
أولا. أبو هريرة وقاعدة دفع الضرر:
يتحتم علينا بداية أن نذكر أن حديث أبي هريرة: «حفظت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»[1]، حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو كما يقول الدكتور أبو شهبة: “في غاية الصحة رواية ودراية، والمراد بالوعاءين: نوعان من الأحاديث التي تلقاها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأحد الوعاءين وهو الأول: فيه ما يتعلق بأحاديث الأحكام والآداب والمواعظ وقد بلغه حتى لا يكون كاتما للعلم، وأما الآخر: وهو ما يتعلق بالفتن والملاحم، وأشراط الساعة، والإشارة إلى ولاة السوء، فقد آثر أن لا يذكر الكثير منه حتى لا يكون فتنة لسامعه”[2].
قال العلامة ابن كثير في البداية والنهاية: “وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع مع معرفة أبي هريرة لها، التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم، وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني”[3].
وينبغي علينا – أيضا – أن نذكر أن أبا هريرة – رضي الله عنه – ما كان ليخشى الناس في الله – سبحانه وتعالى – وهو المعروف بصرامته في الحق ومواجهته للحكام بما يكرهون، ولقد قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في تأويل الحديث: “هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول، أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه، فإنه من البينات والهدى”[4].
ويؤيد ذلك “أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم كتم العلم”[5]، يقصد قول أبي هريرة رضي الله عنه: «إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: )إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)( (البقرة)»[6].
وعليه فلم يكن كتمان أبي هريرة – رضي الله عنه – لهذا الوعاء من العلم بسبب خشية الناس كما يزعم بعض المغرضين، وكيف هذا وهو المعروف بصرامته في الحق ومواجهته للحكام بما يكرهون، وندلل على ذلك بما ذكره ابن كثير في “البداية والنهاية” عن الوليد بن رباح، قال: “سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت وال، وإن الوالي لغيرك فدعه – يعني حين أرادوا أن يدفنوا الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك، يعني معاوية… قال – أي أبي الوليد بن رباح – فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك، ويخافه ويخاف جوابه”[7] وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان: “إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم فندم مروان على كلامه له واتقاه”[8].
فها هو أبو هريرة – رضي الله عنه – يسمع مروان ما يكرهه، ومروان هو والي المدينة وأحد أقارب الخليفة معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – ترى لو كان تركه الحديث خشية الناس كما يزعمون – هل كان يقول ما قاله لمروان؟
إذن السبب الحقيقي الذي منع أبا هريرة – رضي الله عنه – من بث بعض الأحاديث، هو – كما ذكرنا آنفا – أن هذه الأحاديث تذكر الفتن التي يتعرض لها المسلمون، وما يقع بينهم من حروب وقتال، ولا شك أن التحدث بها يزيد هذه الفتن اشتعالا، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
وقد ذكر “بعض العلماء سببا آخر لكتم أبي هريرة – رضي الله عنه – هذه الأحاديث، وهو أن يكون أراد ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال في آخر الزمان، فينكر ذلك ما لم يألفه ويعترض عليه من لا شعور له به”[9]، وذلك عملا بحديث ابن مسعود موقوفا عليه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[10]
يؤكد ذلك – أيضا – حديثه – أي: أبو هريرة – الذي قال فيه: “لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر”، قال الحسن راوي الحديث عن أبي هريرة: “صدق، والله لو أخبرنا أن بيت الله يهدم أو يحرق ما صدقه الناس”[11].
ثم إن كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرمونه بالبعر وبالمزابل؛ بل لأنه أراد أن يحدث الناس على قدر عقولهم وأن يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون”[12].
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: «حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!»[13]، وقد ذكر البخاري هذا الأثر في باب “من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا”، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ” ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب… ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين[14]؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب”[15].
وقد يعتقد بعض الناس أن الحديث دال على أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد كتم شيئا من الوحي عن جميع الصحابة سوى أبي هريرة، فإذا نظرنا في هذا الاعتقاد لوجدنا أنه جهل منهم؛ وذلك لأن الحديث ليس فيه ما يفيد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد اختصه بهذا الوعاء دون غيره من الصحابة، فليس فيه شيء من كتمان الوحي الذي أمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يبلغه الناس[16]، إذ إن هذا غير معقول؛ لأنه ينافي – أيضا – تبليغ الرسالة، وأمر الله – عز وجل – في قوله: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة).
وأما أن يكون ما اختصه به من الآداب فبعيد جدا؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأمة ينافي تبليغ الرسالة أيضا، فليس من المتصور أن يلقن الرسول الكريم بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأمة من غير أن يفيدها بشيء من هذا”[17].
وبالرغم من هذا فإن أبا هريرة ليس بدعا في قوله أو فعله؛ فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يختص بعض أصحابه بأشياء دون الأخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا وأخبر بها معاذ عند موته تأثما» [18]، أي: “خوفا من أن يكون قد كتم العلم”[19]، وأعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – حذيفة بن اليمان أسماء المنافقين فكان لا يعرفهم سواه – رضي الله عنه – ولا مشاحة في ذلك.
ومن هنا يتأكد لنا أن الوعاء الثاني الذي لم يبثه أبو هريرة لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق إنما بعض ما يتعلق بأشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمة من فتن، وكتمان مثل هذه الأمور جائز، وعليه فليس هذا الكتمان مطعن على صحابي جليل مثل أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانيا. أبو هريرة ينشر العلم بين الناس:
كان أبو هريرة من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الصحابة في الحديث، مع الجلالة والعبادة، والتواضع والورع، وكان يقول: «وايم الله… لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: )إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)( (البقرة)»[20].
وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما يرويه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة»[21]، وعنه أيضا: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»[22].
هكذا كان يشعر أبو هريرة أن من واجبه أن يفقه الناس ويعلمهم ما سمعه من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ويرى هذا لزاما عليه، لذلك لم يتوان في هذا المضمار ولم يقصر فيه، بل كان في طليعة المعلمين، سعى لنشر العلم، وأفتى الناس أكثر من عشرين سنة، وكان طلاب العلم وأصحاب المسائل لا ينقطعون عنه؛ لعلمه الجم، وحفظه الجيد، فقد كان من أعلم الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر لنا ذلك فيما حدث له مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: “أخذت الناس ريح بطريق مكة، وعمر بن الخطاب حاج، فاشتدت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته، فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرت أنك سألت عن الريح، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا به من شرها»[23].
انظر إلى حرصه – رضي الله عنه – في تبليغ ما عرفه من علم، فلم ينتظر عودة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى يحدثه عن الريح، بل استحث راحلته وسعى خلفه عندما علم وأخبره بما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في ذلك.
ومما يثبت حرصه – رضي الله عنه – على نشر العلم وعدم كتمانه أن من عاصره من التابعين لاحظوا كثرة تحديثه، فجعلوا يسألون الصحابة عن السبب؛ فقد جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله، فقال: “يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني – يعني أبا هريرة – أهو أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منكم؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول عن رسول الله ما لم يقل؟ قال: أما أن يكون سمع ما لم نسمع، فلا أشك، وسأحدثك عن ذلك! إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل، كنا نأتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرفي النهار، وكان مسكينا ضيفا على باب رسول الله يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، ولا تجد أحدا فيه خير يقول عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما لم يقل”[24].
فهل بعد شهادة معاصريه له بكثرة الحديث حتى لفت أنظارهم هذا منه، يتهم بأنه كان يكتم العلم؟! إنه لو كان كتوما للعلم ما اشتهر عنه ذلك.
ونراه بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجالس أصحابه يسألهم ويسألونه حتى إنه كان يأتي إلى كل من يظن عنده بعض العلم[25]؛ فقد “جاء إلى كعب الأحبار يسأل عنه، وكعب في القوم، فقال كعب: ما تريد منه؟ فقال: أما إني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحفظ لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مني، فقال كعب: أما إنك لم تجد طالب شيء إلا شبع منه يوما من الدهر إلا طالب علم أو طالب دنيا، فقال: أنت كعب؟ فقال: نعم، فقال: لمثل هذا جئتك”[26].
ولقي أبو هريرة كعب الأحبار فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: “ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة”[27].
نشر أبي هريرة العلم في سائر الأمصار:
كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة وفي مكة المكرمة، كما حدث في دمشق، وحفظ عنه أهلها، وحدث في البحرين، وكان يحدث حيثما حل، ويفتي الناس بما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يتبع حديثه يرى أنه قد جعل بيته معهدا للمسلمين يترددون عليه، ليسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان يستقبل طلاب العلم في أرضه بالعقيق ويحدثهم ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم بما أنعم الله عليه من حسن المعشر ولطيف الخلق، وكثرة العلم والخير.
أبو هريرة يفتي بحضرة الصحابة:
وكانت أكثر مجالسه في المسجد النبوي إلى جانب الحجرة المشرفة، وقد عرف الناس فضله ومكانته، فكانوا يرجعون إليه في كثير من أمورهم، وكان يفتي بوجود علماء الصحابة، وكان بعض الصحابة كزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس يحيلون السائلين عليه؛ لأنهم عرفوا علمه وإتقانه.
فعن معاوية بن أبي عياش الأنصاري:”أنه كان جالسا مع ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن البكير، فسأل عن رجل طلق ثلاثا قبل الدخول، فبعثه إلى أبي هريرة وابن عباس – وكانا عند عائشة – فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال الواحدة تبينها والثلاث تحرمها”[28].
ويصف لنا محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم مجلسا لأبي هريرة، فيقول: “إنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بضعة عشر رجلا، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه فيعرفه بعضهم، ثم يحدثهم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مرارا، قال: فعرفت – يومئذ – أنه أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “[29].
وقد وثق الناس بأبي هريرة وعرفوا مكانته، فكانوا يتواعدون لينطلقوا إليه، فيسمعوا حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه مكحول، قال: “تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة: فحدثهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أصبح”[30].
وعن محمد بن سيرين أن أبا هريرة كان يقوم كل خميس فيحدثهم[31]، وقد عرف الصحابة والتابعون سعة علمه، ومكانته من الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكانوا لا يرونه في مكان إلا اجتمعوا حوله ينهلون من علمه.
وكان أبو هريرة حريصا كل الحرص على تبليغ العلم ونشره، وبيان السنة في أية فرصة تسنح له، من هذا ما رواه مسلم بسنده عن أبي الشعثاء، قال: «كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم»[32]؛ وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن.
وكان أبو هريرة يدعو الناس إلى طلب العلم بالحكمة والموعظة الحسنة ويضفي إلى ذلك شيئا من مرحه فتقبله النفوس وتطمئن له القلوب، من هذا ما روي عن أبي هريرة أنه مر ذات يوم بسوق المدينة – وقد هاله انشغال الناس في الدنيا – فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق ما أعجزكم!! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقسم وأنتم ههنا، تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا فدخلنا فلم نر فيه شيئا يقسم، فقال لهم أبو هريرة: أما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم»[33].
وكان أبو هريرة حين يعقد حلقات الحديث، يسمح لبعض طلابه بالكتابة عنه، ويمكننا أن نعتبر هذه الحلقات التي يكتب فيها طلاب أبي هريرة عنه مجالس إملاء الحديث[34].
فمما سبق يتبين لنا أن أبا هريرة – رضي الله عنه – لم يكتم علما ينتفع الناس به، وقد نشر الحديث في كافة ربوع الأرض وتلقى الصحابة على يديه الحديث، وكان يحدث بحضرتهم، ويفتي بحضرتهم، وما سئل من علم من فتيا أو حديث إلا أجاب عنه، وأفتى فيه، واعترف له الصحابة بكثرة حديثه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه فلا مسوغ لشبهة أو افتراء يصم أبا هريرة بكتمان العلم والحديث.
الخلاصة:
- إن مما عرف به أبو هريرة – رضي الله عنه – من الشدة في الحق، وعدم هيبته من الحكام، مثل قوله لمروان بن الحكم يوما: “والله ما أنت بوال، وإن الوالي لغيرك؛ فدعه، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك، يعني معاوية”، وأنكر عليه عندما رأى في داره تصاوير، فلو كان أبو هريرة يخشى الناس ما أمر الحكام وما نهاهم، أما وقد عرفت جرأته فلا تقبل دعوى أن أبا هريرة كتم شيئا من العلم خشية الناس.
- ما كان لمثل أبي هريرة أن يكتم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو يستنكف عن نشر علم علمه منه – صلى الله عليه وسلم – أو فتيا سئل عنها، وهو الراوي لحديث “من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة”.
- إذا كان لا يحل لعالم أن يسأل عن علم فيكتمه، فمن باب أولى ألا يكتمه أبو هريرة لمقام الصحبة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقربه الشديد من مصدر النور المحمدي، ولكن العلم نوعان:
ـ علم يحتاج إليه لصلاح الدنيا والآخرة، وهذا العلم يأثم كاتمه، وهو المقصود بالذم في الحديث والمتوعد عليه بالعقاب.
ـ وعلم لا يتوقف عليه حكم شرعي، ولا يتوصل به إلى غيره، ومعرفته فضلة، وهذا بالخيار حدثت به أو لم تحدث، وهو يدور – أيضا – تحت قاعدة المصالح والمفاسد؛ أي إذا رأى العالم به أن التحدث به لا نفع فيه بل يجلب مضرة وجب كتمانه، ولا يحل التحدث به، وهذا المعني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أنت بمحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
- الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة – رضي الله عنه – كان من قبل العلم الذي معرفته فضلة، وهو ما يتعلق بالفتن والملاحم وشرائط الساعة، ويجوز كتمان ما يتعلق بذلك إذا أدى إلى مفاسد، وهذا يتضح من قول أبي هريرة: “لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني”، والقاعدة الشرعية تقول: دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة، وقد كان أبو هريرة – رضي الله عنه – في ذلك مثل سائر الصحابة لا يحدث الناس إلا بما ينفعهم.
- ليس صحيحا أن أبا هريرة – رضي الله عنه – كان يكتم العلم، بل المعروف عنه أنه كان أكثر الصحابة نشرا لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد حدث في المدينة ومكة كما حدث في دمشق، كما كان يفد إليه طلاب العلم من كل مكان، وقد حدث عنه – رضي الله عنه – خلف كثير من الصحابة والتابعين، فقيل: بلغ عدد أصحابه ثمانمائة كلهم روى عنه الحديث، فكيف يتهم مثله بكتمان العلم؟!
(*) الرد على الطاعن في أبي هريرة رضي الله عنه، الحسن بن علي الكتاني.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: حفظ العلم، (1/261)، رقم (120).
[2]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص262.
[3]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 590).
[4]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 597).
[5]. فتح الباري بشرح صحيح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 262).
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: حفظ العلم، (1/ 258)، رقم (118).
[7]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 593).
[8]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 593).
[9]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 262) بتصرف.
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، (1/170، 171).
[11]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (5/ 237).
[12]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، ط4، 1425هـ/ 2004، ص453.
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن يفهموا، (1/272) معلقا.
[14]. قصة العرنيين: رواها البخاري عن قتادة: « أن أنسا ـ رضي الله عنه ـ حدثهم: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يانبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستاقوا الذود، فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، قال قتادة: “بلغنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة » صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: قصة عكل وعرينة، (7/524)، رقم (4192).
[15]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 272).
[16]. الحديث والمحدثون، محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1378هـ/ 1958م، ص154 بتصرف.
[17]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص123.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفقهوا، (1/272)، رقم (128).
[19]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص123 بتصرف.
[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: حفظ العلم، (1/ 258)، رقم (118).
[21]. صحيح: أخرجه الإمام أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (15/ 194)، رقم (8035). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي، (1/242)، رقم (107). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/169).
[23]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (14/ 52)، رقم (7619. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
[24]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 605، 606).
[25]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص118: 121 بتصرف.
[26]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (5/ 237).
[27]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (5/ 237).
[28]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 607).
[29]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 617).
[30]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م (2/ 599).
[31]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 64).
[32]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، (3/1236)، رقم (1462).
[33]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، (2/ 114),رقم (1429). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (83).
[34]. انظر: أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص110: 115.