دعوى أن أكثر الصحابة لم يكونوا عدولا بشهادة القرآن
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن ما تحدثت عنه آية سورة الجمعة من انفضاض أكثر الصحابة إلى العير القادمة من الشام، وتركهم خطبة الجمعة – قد وقع في بدء زمن الهجرة؛ إذ لم يكونوا واقفين على مثل هذا من الآداب الشرعية، فنزلت هذه الآية توجيها وتربية لتلك الجماعة الأولى، التي صارت فيما بعد النموذج الفريد في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ البشرية جمعاء، فكيف يلامون على أمر لم ينبهوا إليه بعد؟!
2) إن ما نزل في القرآن مما يخص فرار الصحابة يوم أحد وحنين، إنما هو عتاب من الله لعباده المؤمنين، قد أعقبه عفو عنهم جميعا يوم أحد، وإنزال السكينة عليهم، والنصر لهم، والرضا عنهم يوم حنين، وفي هذا صفح وتجاوز عما فعلوا، ولو أن الله غضب عليهم لأوقع عقابه بهم.
3) إن الروايات التي قالت بأن آية )إن جاءكم فاسق بنبإ( نزلت في الوليد بن عقبة، روايات موقوفة وضعيفة لا تصح، وغاية الأمر في هذه الآية أنها نزلت في وقت حادثة إرسال الوليد إلى بني المصطلق، ولم تتعين عليه، وإطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد؛ لأنه توهم وظن الغدر به فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا.
التفصيل:
أولا. انفضاض الصحابة – رضي الله عنهم – إلى التجارة وترك الجمعة كان في بداية زمن الهجرة:
إن حادثة سورة الجمعة قد وقعت في بدء زمن الهجرة؛ إذ لم يكن الصحابة واقفين على الآداب الشرعية كما ينبغي، كما أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يبرحوا مكانهم، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «بينا النبي – صلى الله عليه وسلم – قائم يوم الجمعة، إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر، قال: ونزلت هذه الآية: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (11)( (الجمعة)»([1]).
ولم يتوعدهم الله – سبحانه وتعالى – في هذه الآية بعذاب، ولم يعاقبهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أيضا[2]، فهو عتاب وتوجيه لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتركوه قائما يخطب يوم الجمعة؛ والمعنى: إذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقة قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إليها، وأعاد الضمير إلى التجارة دون اللهو.
إن هذه الآيات قد نزلت للتوجيه والتعليم من المولى – عز وجل – إلى العباد حتى يكونوا خير أمة أخرجت للناس، وقد كان ذلك في بداية الدعوة لهذا الدين الجديد، وإرساء تعاليمه في قلوب تلك الجماعة المسلمة، فكيف يؤخذ عليها ما يصدر منها من أفعال في بداية عهدها بالإسلام على أنه قدح في عدالتها؟! فكم يصدر من الطفل من أخطاء في بداية تعليمه! وكم يعلمه أبواه حتى يصير سويا قادرا على مواجهة الحياة! فهكذا كانت تلك الجماعة الأولى المسلمة في بدايتها لم تزل بها بقايا عادات وتقاليد الجاهلية الأولى، فكان المولى – عز وجل – يوجهها ويعلمها؛ حتى يـخلصها من هذه الآثار الجاهلية، ويعدها لتكون خير أمة أخرجت للناس، وذلك لا يقدح في عدالتها شيئا، ففي تلك الفترة لم تكن تعلم تلك الجماعة التي تركت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائما يخطب أن في ذلك إثما، وبمجرد أن جاءت الآيات تنبههم على تصرفهم، كانوا أشد التزاما وحرصا على تنفيذ أوامر المولى – عز وجل – فوجدنا عراك بن مالك – رضي الله عنه – يصلي الجمعة، ويقف على باب المسجد يقول: “اللهم إني أجبت دعوتك وصليت في بيتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين”[3].
فهي صورة تطبيقية لهؤلاء الصحابة الذين يمتثلون لأوامر الله بكل دقة وينفذونها، فإن كانوا قد سمعوا هذه الآية ثم لم يطيعوا ولم ينفذوا كان ذلك مما يقدح في عدالتهم، ولكنهم سمعوا الأمر فنفذوه فور سماعه بحرفيته وحقيقته كذلك، فهل هناك التزام أكثر من ذلك؟ وهل بعد ذلك يفتري عليهم المغرضون، كما يفترون على القرآن ويحملونه ما لا يحتمل قائلين بأنهم لم يكونوا عدولا بشهادته؟!
الحقيقة أنها ليست شهادة من القرآن على عدم عدالتهم، إنما هي مرحلة التعليم والتوجيه، مرحلة الخروج من الجهل والجاهلية إلى العلم والإسلام، فهل توجيه الله لهم وإرشادهم يؤخذ عليهم ويطعن به في عدالتهم؟!
ومما يؤكد أن هذه الآية ليست شهادة على عدم عدالتهم ما جاء في أن هذه الحادثة – حادثة سورة الجمعة – قد وقعت لـما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقدم الصلاة على الخطبة، كما في صلاة العيدين، وقد كان انفضاضهم هذا في الخطبة بعد الصلاة.
“قال القاضي: وذكر أبو داود في (مراسيله) أن خطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه التي انفضوا عنها؛ إنما كانت بعد صلاة الجمعة، وظنوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن الخطبة، وأنه قبل هذه القضية إنما كان يصلي قبل الخطبة.
قال القاضي: هذا أشبه بحال الصحابة، والمظنون بهم أنهم ما كانوا يدعون الصلاة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم ظنوا جواز الانصراف بعد انقضاء الصلاة”[4].
أما ما وقع في رواية البخاري من حديث جابر: «بينما نحن نصلي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما(»[5]، فمعنى “بينما نحن نصلي”؛ أي: ننتظر الصلاة، وقوله “في الصلاة”؛ أي: في الخطبة مثلا، وهو من تسمية الشيء بما قاربه، فبهذا يجمع بين الروايتين، ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح”[6].
ورجح الحافظ ابن حجر كون الانفضاض وقع في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل أن ذلك وقع قبل النهي، كآية: )ولا تبطلوا أعمالكم (33)( (محمد)، وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة[7]، ونزول قوله سبحانه وتعالى: )الذين هم في صلاتهم خاشعون (2)( (المؤمنون).
وخلاصة القول: أن الطعن في الصحابة بهذه القصة لا يصح؛ لأن الآية نزلت في بدء زمن الهجرة، ولم يكن في ذلك الوقت تقدم نهي عن ترك الخطبة، فكانت توجيها وإرشادا لهم حتى لا يقع هذا الأمر مرة أخرى، والانفضاض كان في أثناء الخطبة لا في أثناء الصلاة كما زعموا، ومع كل هذا، فالعدالة لا تعني العصمة من الذنوب أو السهو والخطأ، ومن فضل الله عليهم أن وعدهم بالمغفرة.
ثانيا. عفو الله – عز وجل – عن الصحابة الذين تولوا يوم أحد وحنين بعد عتابه لهم:
إذا كان القرآن الكريم الذي يستشهد به هؤلاء على نفي عدالة الصحابة ويحملون ألفاظه ما لا تحتمله من المعاني، أو يبترون السياق من أجل الاستدلال على صحة ما يريدون – إذا كانوا يؤمنون بالقرآن – وهذا هو ظاهر منطقهم كما يدعون – فإن القرآن هو الذي ذكر ثناء الله تعالى عليهم في مواضع كثيرة، وفي القرآن زكاهم الله تعالى وعدلهم، وفي هذه المواقف – موقف أحد وحنين – نجد القرآن الكريم بعدما يحكي ما حدث من بعض الصحابة يعقب عليه بأن الله قد عفا عنهم وغفر لهم، فلماذا يبترون السياق فيأخذون ما وقع في البداية، ثم يتركون خواتيم الأمور ومآلاتها وهي المغفرة والتوبة والعفو الذي من الله به على عباده المؤمنين لصدق نياتهم، وخلوص قلوبهم من أي أغراض دنيئة أو خبيثة.
أما عن استدلالهم بفرار بعض الصحابة يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين إنما هو عتاب أعقبه عفو ومغفرة، ففي عتابهم على الفرار يوم أحد قال عز وجل: )إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا(، ثم ختم العتاب بقوله سبحانه وتعالى: )ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155)( (آل عمران)، ولا تعبير بعد عفو الله تعالى عن الجميع.
قال سيد قطب عند تفسير هذه الآية: )ولقد عفا الله عنهم( عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان، وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد، عفا عنكم فضلا منه ومنة، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة، عفا عنكم؛ لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله، والاستسلام له، وتسليم قيادكم لمشيئته.
)والله ذو فضل على المؤمنين (152)( (آل عمران)، ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم، ما داموا سائرين على منهجه، مقرين بعبوديتهم له”[8].
وفي عتابه – عز وجل – لفرارهم يوم حنين قال: )لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25)( (التوبة)، ثم يمن رب العزة عليهم بقوله سبحانه وتعالى: )ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26)( (التوبة). وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟!
نعم تنزل السكينة على قوم مؤمنين ليزدادوا بها إيمانا مع إيمانهم، وصدق
رب العزة حيث قال: )هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4)( (الفتح)، ويقول عز وجل: )إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (26)( (الفتح)، فها هو رب العزة يشهد لهم بالإيمان والتقوى، وينزل سكينته على قلوبهم وينزل جنوده لينصرهم نصرا عزيزا[9].
“و )استزلهم الشيطان( (آل عمران: 15٥)؛ أي: استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، وهو معنى )ببعض ما كسبوا(، وقيل: )استزلهم( حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة. وقيل: زل وأزل بمعنى واحد، ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول، وعلى الثاني: بمعصيتهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة… وقيل: لم يكن الانهزام معصية؛ لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قتل، ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – للهول الذي كانوا فيه… لعلهم توهموا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – انحاز إلى الجبل أيضا، وأحسنها الأول، وعلى الجملة: فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ”[10].
ونخلص من هذا إلى أن هذه الآيات هي عتاب من الله لعباده المؤمنين على ما وقع منهم، وقد أعقبه الصفح والعفو من الله، وإعلان رضاه عنهم؛ لذلك فليس هناك ما يقدح في عدالتهم بعد رضا الله عنهم، فلو لم يغفر الله لهم ويعف عنهم كان ذلك قدحا فيهم، لكن بعد العفو والمغفرة فلا قدح ولا طعن في قوم رضي الله عنهم، وعدلهم في كتابه الكريم، ثم عدلهم النبي – صلى الله عليه وسلم – وأجمعت الأمة على عدالتهم فلا يعتد بمن خالف ذلك وطعن فيهم.
ثالثا. الوليد بن عقبة ليس فاسقا، والآية عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
إننا إذا استعرضنا في البداية ما روي في سبب نزول الآية المستدرك بها – يتضح المقام، فقد روي في سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6)( (الحجرات) “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم، فلما بلغهم مجيئه، أو لـما استبطـئوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه، أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحال، وهي حال غير مألوفة في تلقي المصدقين، وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لـما رآهم مقبلين كذلك – على اختلاف الروايات – خاف أن يكونوا أرادوا قتله؛ إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولى راجعا إلى المدينة… وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بني المصطلق أرادوا قتلي، وإنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم أن يبعث إليهم خالد بن الوليد لينظر في أمرهم، وفي رواية: أنه بعث خالدا وأمره بألا يغزوهم حتى يستثبت من أمرهم، وأن خالدا لما بلغ ديار القوم بعث عينا له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة، فأخبرهم بما بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنهم، وقبض زكاتهم وقفل راجعا.
وفي رواية أخرى: أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يظن بهم منع الصدقات، فجاءوا النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة، وفي رواية: أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجا إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات، وهي بأسانيد ليس منها شيء في الصحيح”[11].
وقبل أن نبين معنى الفاسق هنا، وهل هو الوليد، أو أن الآية عامة؟ نتحدث عن إسناد هذه الروايات، وبيان مدى صحتها وضعفها.
يقول العلامة محب الدين الخطيب تعليقا على هذه القصة في تحقيقه كتاب “العواصم من القواصم”: “كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقا، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ على مدى بضعة عشر عاما قبل أن يوليه عثمان الكوفة، إن هذا التناقض بين ثقة أبي بكر وعمر بالوليد بن عقبة، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقا، حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا استبعادا لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقا، ولكن استبعادا لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله – عز وجل – بعد رسوله – صلى الله عليه وسلم – من هو أقرب إلى الله منهما.
وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول هذه الآية: )إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6)( (الحجرات)، فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة، أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم ولا أسمائهم شيئا، فمن غير الجائز شرعا وتاريخا الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها.
وهناك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة، زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة، وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة، وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم، فلم يذكر في “تهذيب التهذيب”، ولا في “تقريب التهذيب”، ولا في “خلاصة تهذيب الكمال”، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام أعني: “ميزان الاعتدال” و”لسان الميزان”، وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد، فقرأتها واحدا واحدا، فلم أجد فيها هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابتا، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبرـ إن صح عنها، ولا سبيل إلى أن يصح عنها -: إن الآية نزلت في الوليد، بل قالت – أي: قيل على لسانها -: “بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلا في صدقات بني المصطلق”.
والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس، والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه؛ لأن ابن سعد لما توفي ببغداد سنة (230هـ)، كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره، ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده (آمل) في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها، وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه السلسلة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم، فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم، وعليه، فإن الوليد بن عقبة كان – حقيقة – موضع ثقة أبي بكر وعمر، وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله”[12]، كما أن ابن سعد – محمد بن سعد العوفي – الذي روى عنه الطبري، قد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه: “إسناد مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة”[13].
“وأخرج الإمام أحمد في مسنده هذه القصة من طرق عن محمد بن سابق، عن عيسى بن دينار، عن أبيه، وذكره الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، كذا قال، واعترض محققو سير أعلام النبلاء على قول الهيثمي، إذ إن دينارا والد عيسى لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل، ولم يرو عنه غير ابنه عيسى”[14].
وعلق شعيب الأرنؤوط على حديث أحمد قائلا: “وهذا إسناد ضعيف لجهالة دينار والد عيسى”[15].
وعلى هذا فالقصة موطن الشاهد جاءت من طرق مختلفة بعضها موقوف على مجاهد وقتادة وابن أبي ليلى، وطريقان موصلان إلى أم سلمة وابن عباس، وهما ضعيفان كما بينا، وقد نص على ضعف هذا الخبر أكثر المحققين المحدثين بعد بحث طويل في إسناده؛ لذلك فلا يطعن في عدالة صحابي عدله الله تعالى في كتابه، وعدله النبي – صلى الله عليه وسلم – في سنته بخبر ضعيف لا يعول عليه، ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه إلى هذا الوقت، فإن الحق قديم، ولا يؤثر احتجابه إلى وقتنا هذا في صحته.
وغاية ما في الأمر أن هذه الآية نزلت في الوقت الذي بعث فيه الوليد إلى بني المصطلق، وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصرا عليه وليس متعديا إلى غيره فلا، بل نقول: هو نزول عام لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، ويدل على ضعف قول من يقول: إنها نزلت لكذا – أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، وغاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ونحن نصدق ذلك، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد؛ لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، وكيف ذلك والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان؟! لقوله سبحانه وتعالى: )إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6)( (المنافقون: 6)، وقوله تعالى: )ففسق عن أمر ربه( (الكهف: ٥٠)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها( (السجدة: ٢٠)[16].
يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره: “والفاسق: المتصف بالفسوق، هو من فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر، وفسر هنا بالكاذب، قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله، وأوثر في الشرط حرف “إن” الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه؛ للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون.
واعلم أن ليس في الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحا ولا تلويحا، وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظن ذلك، وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب… ولو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – تعنيفه واستتابته… إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة، وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنه حقا، إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقي السعاة، وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد على الدخول في حيهم تعيرا منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدو لهم إلى ديارهم، ويتولى قبض صدقاتهم فتعيرهم أعداؤهم بذلك، فيمتعض منهم دهماؤهم؛ ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية، أو جاءوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى.
ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد أعلم بخروج القوم إليه، وسمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعز به إليه ليخاف فيرجع، وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعا جوادا، وكان ذا خلق ومروءة…
وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان؛ إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة، فحملوا الآية على غير وجهها، وألصقوا بالوليد وصف الفاسق – وحاشاه منه – لتكون ولايته الإمارة باطلة، وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين، فلماذا لا تحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول إلى ديارهم قصدا لإرجاعه؟!
وفي بعض الروايات أن خالدا وصل إلى ديار بني المصطلق، وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شحناء من عهد الجاهلية.
وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم، وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا: خشينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء… وهذه الآية أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور، وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به.
والخطاب: )يا أيها الذين آمنوا( (الأنفال: ٢٩) مراد به النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن معه، ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريدون له سوءا، ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم؛ لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة، ومجيء حرف “إن” في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي ألا يقع إلا نادرا”[17].
وعليه فإن القول بأن هذه الآية نزلت في الصحابي الوليد بن عقبة بن أبي معيط قول ضعيف، نص على ضعفه أكثر محققي تراجمه، والآية ليس فيها وصف للوليد بالفسق تصريحا ولا تلويحا؛ لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، وجاء لفظ الفاسق منكرا ليدل على العموم، وليس فاسقا بعينه، أو أن الآية نزلت فيمن أخبر الوليد بخروج بني المصطلق لقتله.
الخلاصة:
- إن حادثة سورة الجمعة قد وقعت في بدء زمن الهجرة؛ إذ لم يكن الصحابة واقفين على الآداب الشرعية، كما أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولما أنزل الله فيهم: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما(، كان ذلك لتعليمهم وتوجيههم إلى أصول دينهم، ولذا لم يتوعدهم الله – سبحانه وتعالى – بعذاب ولم يعاقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
- إن هذه الحادثة قد وقعت لما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة كما في صلاة العيدين، وقد كان انفضاضهم في الخطبة وليس في الصلاة، وذلك ظنا منهم أنه ليس في ترك خطبة الجمعة شيء ما داموا قد أدوا الصلاة، فنزلت هذه الآية ليعلمهم الله دينهم ويوجههم إلى الصواب. والطعن في الصحابة بهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم، وفي بداية مراحل إرشادهم وتعليمهم لا يصح بأي حال من الأحوال.
- إن فرار بعض الصحابة يوم أحد وحنين لا يطعن في عدالتهم، فبعد عتاب الله لهم يوم أحد قال – عز وجل – عنهم: )ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155)( (آل عمران) ولا تعبير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، وفي عتابه لهم يوم حنين يمن رب العزة عليهم بقوله: )ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها( (التوبة: ٢٦)، وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟! فعلم أن ما جاء في القرآن من آيات عن توليهم يوم الزحف، فإنها عتاب من الله لعباده المؤمنين قد أعقبه بالصفح عنهم وإعلان رضاه وعفوه عنهم؛ ومن ثم فليس فيها ما يقدح في عدالتهم.
- إن الروايات التي تقول بنزول آية: )إن جاءكم فاسق بنبإ( في الوليد بن عقبة روايات موقوفة أو ضعيفة، ولا يصح أن يطعن في صحابي عدله الله ورسوله بخبر ضعيف لا يصح، لاسيما بعد ثقة أبي بكر وعمر وعثمان فيه، وإسناد بعض المهام الجليلة إليه.
- إن غاية ما في الأمر أن الآية نزلت في وقت هذه الحادثة، ويتأكد ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد؛ لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا؛ لأن الفسق هو الخروج عن ربقة الإيمان.
- لو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – تعنيفه واستتابته، لكن هذا لم يحدث ثم إن لفظ “فاسق” بالتنكير يدل على العموم، وليس فاسقا بعينه كما يزعمون.
(*). عدالة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2006م.
.[1] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجمعة، باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة، (2/ 490)، رقم (936). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجمعة، باب: قوله سبحانه وتعالى: ) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما (، (4/ 1445)، رقم (1967).
[2]. عدالة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد الشربيني، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2006م، ص27.
[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (4/ 367).
[4]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1466).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجمعة، باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة، (2/ 490)، رقم (936).
[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 490).
[7]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 493).
[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، (1/ 494).
[9]. عدالة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد الشربيني، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2006م، ص33.
[10]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 244).
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (26/ 228).
[12]. العواصم من القواصم، محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب ومحمود مهدي الإستانبولي، دار الجيل، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1987م، هامش ص102، 103.
.[13] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، هامش (1/ 263).
[14]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 414).
.[15] مسند أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة قرطبة، القاهرة، د. ت، (4/ 279).
[16]. مفاتيح الغيب، الإمام أبو عبد الله فخر الدين الرازي، دار الفكر، دمشق، 1401هـ/ 1981م، عند تفسيره الآية (6) من سورة الحجرات.
[17]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت (26/ 229: 231).