دعوى أن الإسلام أغفل بعض الأعمال الحياتية ومنها الزراعة
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإسلام دين الوسطية التي تجمع بين المادية والروحية.
2) آيات كثيرة من القرآن وأحاديث متنوعة دلت على اهتمام الإسلام بالزراعة وعدم إهماله لها.
3) شهادات المنصفين من الغرب على اهتمام الحضارة الإسلامية بالزراعة والتقدم فيها.
التفصيل:
أولا. الإسلام دين الوسطية:
نشير بداية إلى أن الإسلام دين الوسطية فلم يدع إلى روحية مطلقة، ولا مادية مطلقة، فمن حكمته أن جمع بين الطرفين، فلا طغيان على طرف دون طرف، إنما العبرة باستواء واعتدال الحد، وهذا التوفيق بين الطرفين سر من أسرار قوة الإسلام، ولم تذهب هذه القوة إلا حين أضاع المسلمون ميزان الاعتدال بين مطالب الدنيا ومقتضيات الآخرة.
أما القول: إن الإسلام كان وراء صرف العرب عن الزراعة، فهذا افتراء؛ لأن الإسلام لا يحث على العمل بالزراعة فحسب، بل يجعله كغيره من الأعمال في مرتبة الجهاد، ومن الآيات التي تشير إلى ذلك قوله عز وجل: )كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)( (الأنعام)، وقوله – عز وجل – أيضا: )أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)( (الواقعة). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» ([1]).
وقد عرف العلماء الدين الإسلامي بأنه: وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات([2]). إذن فهو منظومة شاملة من المبادئ والإرشادات والقوانين تعالج شئون الحياة كافة؛ استعدادا للآخرة، ولا يغفل الحديث عن أصل من الأصول، ولا جانب من الجوانب: )ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام).
فكيف يسوغ القول إذن بأنه قد أهمل – ولو بالإشارة – جانبا من جوانب حياة الإنسان الأساسية، زراعة كانت أم صناعة أم ما شابه ذلك؟ فهو دين شامل كامل، يوازن بين النواحي المادية والروحية، ولا يطغي فيه جانب على آخر.
ثانيا. شواهد اهتمام الإسلام بالزراعة:
فمن شواهد اهتمامه بالنشاط العمراني عموما والزراعي خصوصا قوله عز وجل: )هو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)( (الأنعام)، )ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)( (النحل)، )أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)( (الواقعة).
ومن الشواهد كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»([3])، «من كان له أرض فليزرعها، أو ليمنحها فإن أبى فليمسك أرضه»([4])، «من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها»([5])، «من أحيا أرضا ميتة فهي له»([6]).
وقد تواترت الأخبار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أمر أهله بالزراعة في مساحات واسعة من المدينة، ومن الآثار كذلك أن عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – كتب إلى عماله يقول: انظر إلى ما قبلك من الأرض فأعطها بالمزراعة على النصف، وإلا فعلى الثلث حتى تبلغ العشر، فإن لم يزرعها أحد فامنحها، وإلا فأنفق عليها من مال المسلمين، ولا تبيرن قبلك أرضا”.
إذن فقد دلت هذه الشواهد على حرص تعاليم الإسلام وانتباهها لنشاط حيوي للبشر، وهو الزراعة، وحضها عليه، إلا أن يدعو داعي الجهاد عند طروء الخطر، فهذا نشاط وميدان يغلب ما عداه، ويعطله حتى يفرغ المسلمون من ردع عدوهم.
وهذا شبيه بتصرف الحكومات المعاصرة وقت الحرب من إعلانها للطوارئ والتعبئة العامة، وتجنيد الطاقات كاملة لميدان القتال، فلا صوت وقتها يعلو فوق صوت المعركة، فإن انقضت استأنف الناس أعمالهم بعد عودتهم من جبهة الحرب، وبالطبع ليس بسائغ القول بأن تغليب الشئون العسكرية على المدنية زمن الحرب يعني عدم اهتمام الحكومات بهذه الأخيرة([7])، وفي شأن اهتمام الإسلام بالزراعة والفلاحة، يقول د. محمود الديك: “أكثر القرآن الكريم من الآيات التي تذكر بحرث الأرض وزراعتها؛ وذلك لما في حرث الأرض وزراعتها من الخير المكنون والرزق المقسوم، وقد جعل الله الأرض منشأ الخلق وأصل وجودهم. منها يخلقون وفيها يموتون، ومنها يخرجون يوم القيامة تارة أخري: )الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53)( (طه)، وهكذا عدد الله ما في الأرض من نعيم، وما فيها من رزق وبركة، وما فيها من قوام الحياة.. وأمر سبحانه بحرثها وفلاحتها والضرب فيها؛ طلبا للرزق.
وفلاحة الأرض وزراعتها مأخوذ من الفلاح والنماء، فلا عال من فلح ولا افتقر من زرع، ولا يزال في الناس على اختلاف مللهم وأقطارهم من يعيب الفلاحة والفلاحين، والزراعة والمزارعين، كما لا تزال المجتعات البشرية تعاني من البطالة والحرمان والفقر، وهي تملك مساحات واسعة من الأرض البور الصالحة للزراعة.
ولو سخرت هذه الطاقات المعطلة في عمارة الأرض وزراعتها لدرت عليهم الخيرات، وفاضت بيوتهم بالغلات، ولكن الناس مالوا إلى الدعة والفراغ، وهجروا الفلاحة والزراعة ليعيشوا عالة على الأمم العاملة والطاقات الفاعلة، وشغلوا أنفسهم بالتوافه، وربما تجد العطلة على قارعة الطريق في بعض البلاد وفي النوادي والمقاهي، يتحدثون بالسياسة العامة، وبطونهم خاوية من الفراغ والجوع، يطالبون بالخبز، ووفرة الطعام، والأرض تلعنهم من تحت أقدامهم وتقول: فلحوني ولاتكونوا بطالين، ازرعوني أغنكم عن مذلة الواجدين.
قال الإمام ابن حزم الأندلسي: اعلموا أن الراحة واللذة والسلامة والعز والأجر في أصحاب فلاحة الأرض، وفلاحة الأرض أهنأ المكاسب.
وفي “كشف الظنون” عن بعض العلماء قال: لو علم عباد الله رضا الله في إحياء أرضه لم يبق في وجه الأرض خراب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»([8])، ويقول صلى الله عليه وسلم: «سبع يجري أجرهن للعبد وهو في قبره: من علم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» ([9]).
الزراعة رافد من أهم روافد الاقتصاد في القديم والحديث، والإسلام لا يرضى من المسلمين أن تبقى الأرض في أياديهم معطلة، ولا أن يزهدوا في الزراعة والفلاحة، ولا أن تشيع فيهم البطالة والعطلة.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه». ([10]) وقال بعض السلف: من أراد أن يتوسع في الرزق فليتقن مع تجارة له ضيعة – أي: مزرعة -، ألا ترى أن الله – عز وجل – قرن بينهما في كتابه، فقال: )يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض( (البقرة: ٢٦٧).
وقد بلغ الإسلام المدى وهو يحث على إعمار الأرض، واستخراج خباياها وزراعتها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أحيا أرضا ميتة، فهي له» ([11]).
يقولون: إن مشكلة العالم الحديث هي الانفجار السكاني، والواقع أن مشكلة العالم الحديث هي الدعة والبطالة، وإهمال الأرض، وتشجيع الترف المقيت والجشع المميت. إن الأرض خيرها أكثر من أهلها، ولو تعاون البشر على الخير واستقاموا على نهج الله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وما الحياة بأنفاس نرددها
إن الحياة حياة العلم والعمل ([12])
وأخيرا أيبغي هؤلاء المدعون اهتماما أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا قامت القيامة، وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها»؟ ([13]) أم أنه يصدق هنا قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ثالثا. شهادات المنصفين على هذا الاهتمام في تاريخ الحضارة والتمدن الإسلامي:
وفي كتاب “الحضارة والتمدن الإسلامي بأقلام فلاسفة النصارى” يورد د. عبد المتعال الجبري شهادات لغربيين على مدى اهتمام الحضارة الإسلامية بالنشاط الزراعي، فيقول:
- قال رامبو: لم يكن في عصر العباسيين أهم من مهنة الفلاحة، فقد أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفرس، وأزهار إقليم مازندران، وقد أغنوا العلم – ولا سيما علم النبات – بمسائل جديدة كثيرة ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة؛ كالأشربة، والدهون، والمراهم وغيرها فهم الذين كشفوها.
ومضى دهر طويل كانت فيه شعوب الأمة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال، وأصبحت الزراعة التي أخذوها من أساليب بابل، والشام، ومصر علما حقيقيا للعرب، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة، ولا يستنكف أعلى الطبقات عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينما كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملا مهينا، وقد روى “دوزي” أن ابن الخطيب لم يكتسب من غير التجارة والفلاحة مالا. وقد أقام من أعمال العمران ما يحسده عليه أعظم طواغيت الزمان.
- وقال سنيوبوس في “تاريخ الحضارة”: جرى أمراء العرب على أصول إسقاء الأرضين بفتح الترع فحفروا الآبار، وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب الفواغير؛ لتمنح المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة هو من بقايا العرب وعنايتهم بالسقيا.
وقال أيضا: لقد نظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في شئون الري، وذكر ويليام ويلكوكس – من أعاظم مهندسي الري في أوائل الثلاثينيات – أن عمل الخلفاء في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا في هذا العصر. ولعله يعني ري الحياض في بعض المناطق، وبالآلات في بعضها الآخر، وبالأمطار في مناطق أخرى.
- وذكر سنيوبوس أن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم، وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا، وربوها في أوربا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها متوطنة.
- وقال ديسون: إن استبحار عمران العرب مع سرعة انتشار سلطتهم في المعمور يدل على مكانتهم في التقدم، فكانت هذه الحضارة مزيجا للحضارات، وتم هذا المزيج المدني بأمرين: عشق التجارة، والغرام بالتعمير.
- ويقول المستشرق لويس البرتغالي: إن تاريخ العرب حافل بذكائهم وتقدمهم وسيادتهم في كل العلوم والفنون حتى في الزراعة؛ فقد كانوا بعد غزوهم إحدى المقاطعات حين يجدونها خربة يحيلونها بعد سنين إلى جنات حقيقية؛ بفضل مساعيهم وتفوقهم وتدابيرهم العجيبة.. وأخذت فرنسا عن العرب – بعد فتحهم الأندلس وجنوب فرنسا – أساليبهم في الزراعة، وحفر الترع، والخلجان، ونظام الري، وبلدوا في الأندلس النباتات والأشجار التي لم تكن تعرفها، فانتقلت إلى أوربا” ([14]).
الخلاصة:
- الإسلام معروف بوسطيته، فلم يدع إلى روحية مطلقة ولا إلى مادية بحتة، فمن حكمته أن وازن بين الطرفين وراعى الجانبين، وهذا سر قوته.
- الشواهد من القرآن والسنة والآثار شاهدة على اهتمام بالغ بالزراعة والعمران.
- المنصفون من الغربيين شهدوا باهتمام المسلمين بالزراعة وفنون الري، وسجلوا إنجازاتهم الباهرة في هذا الشأن.
(*) الفكر الاستشراقي تاريخه وتقويمه، محمد الدسوقي، دار الوفاء، المنصورة، 1995م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (13004)، والبخاري في الأدب المفرد، باب اصطناع المال (479)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1424).
[2]. وظيفة الدين في الحياة، د. محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، طـ2، 1999م، ص20.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2195)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (4055).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب ما كان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يواسي بعضهم بعضا (2215)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراء الأرض (4006).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب من أحيا أرضا مواتا (2210).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14401)، والترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1379)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5975).
[7]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي خليل، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص318: 322.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2195)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (4055)، واللفظ للبخاري.
[9]. حسن: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 344)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3602).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب ما كان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يواسي بعضهم بعضا (2216)، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراء الارض (4013).
[11]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في إحياء الموات (3075)، والترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1378)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5976).
[12]. الإسلام وفقه الحياة، د. محمود الديك، مطابع البيان التجارية، دبي، طـ1، 1992م، ص212: 217.
[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (13004)، والبخاري في الأدب المفرد، باب اصطناع المال (479)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1424).
[14]. الحضارة والتمدن الإسلامي بأقلام فلاسفة النصارى، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1993م، ص38: 40.