دعوى أن الإسلام دين رجعي، تجاوزته الحضارة العصرية
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإسلام دين سماوي صحيح، لا يأتيه الباطل بأي سبيل.
2) حمل هؤلاء المغالطون الإسلام أخطاء بعض المسلمين الناتجة عن فهمهم السقيم، وبنوا على هذه الأخطاء نتائج خاطئة عن الإسلام وصلاحيته لمواكبة التطورات.
3) للنصوص الإسلامية خصوصية الصلاحية الدائمة لكل زمان ومكان.
التفصيل:
أولا. الإسلام دين سماوي صحيح لا يأتيه الباطل بأي سبيل:
تم الوحي واكتملت رسالة الإسلام في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك ما نصت عليه آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة:3)، وهو دين سماوي صحيح لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من لدن حكيم خبير.
وهذا الإسلام هداية كاملة للإنسان والناس، فإن الله – عز وجل – جعله كاملا وشاملا بحيث لا تبقى قضية من قضايا الوجود إلا وقد بين حكمها… سواء في ذلك شئون العقيدة أو العبادة أو السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الحرب أو السلم أو التشريع… إلخ، قال – عز وجل – واصفا كتابه: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل:89)، وقال عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38)، وما لا يعرف من الكتاب والسنة صراحة يعرفه مجتهد الأمة بالاستنباط والقياس([1]).
إن رسالة الإسلام ليست رسالة لعقل الإنسان دون روحه، ولا لروحه دون جسمه، ولا لأفكاره دون عواطفه، بل إنها رسالة الإنسان كله: روحه وعقله وجسمه وضميره وإرادته ووجدانه. فالإنسان ليس مجزوءا؛ إنه كل متكامل وكيان واحد، لا تنفصل فيه روح عن مادة ولا مادة عن روح، ولا عقل عن عاطفة ولا عاطفة عن عقل، إنه وحدة لا تتجزأ من الجسم والروح والعقل والضمير.
إنه رسالة للإنسان في كل مجالات حياته، وفي كل ميادين النشاط البشري؛ فلا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيها موقف: قد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، قد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة – كل موضعه، وكان الله عزيزا حكيما.
وإذا كان الإسلام شاملا لجميع نواحي الحياة الإنسانية؛ فأي سلبية هذه التي يرجف بها المدعون ويصمون المسلمين بالتواكل والسلبية، وأن الإسلام هو الذي أدى بهم إلى هذا؟ وأين هذه السلبية في قوله تعالى: )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله( (الجمعة: ١٠)؟ وأين هذه السلبية في قوله تعالى: )ولا تنس نصيبك من الدنيا( (القصص: 77)؟ بل أين هذا التواكل في شعوب أقامت حضارة شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء؟ وأين هذه السلبية في دين دعا إلى الانفتاح على كل حضارة نافعة؟ ومن هنا انفتح المسلمون على الآخر، وتعرفوا على حضارة الشعوب الأخرى، وعملوا على تنقية العلوم من الشوائب، وأصلحوا مفاسدها، ومزجوها بما عندهم بعد التنقيح والجمع، حتى أصبحت لهم حضارة إسلامية خاصة، يستقي منها الآخرون، وتنتشر في ربوع المعمورة، ويعمل بها لقرون عديدة وأزمان عديدة. ألا خسأ المبطلون.
فكل إفك وبهتان يراد به
محو الحقيقة لا ينجو من العطب
كناطح صخرة يوما ليوهنها
من البلاهة قطع الصلب بالخشب
ثانيا. الفهم السقيم هو سبب الأزمة:
لقد آمن المسلمون بهذا الدين الصحيح، والتزموا تعاليمه، فازدهرت أحوالهم باقترابهم من هذه التعاليم وتطبيقهم لها وتفاعلهم معها، وانحطت هذه الأحوال – بالمقابل – بتباعدهم عنها وتنكبهم إياها وتنكرهم لها.
ومن هنا نشأت المفارقة بين التعاليم السامية، وبين الفهم السقيم لها، أو التطبيق الخاطئ أو التفلت منها. ولكن المغرضين والجاهلين خلطوا – إما عمدا وإما جهلا – بين الأمرين، فحملوا أخطاء المسلمين، وتأخرهم وعدم أخذهم بأسباب التقدم على تعاليم الإسلام فاتهموها بأنها السبب فيما وقع فيه المسلمون من أخطاء وأوضاع اتسمت بالرجعية والتخلف، ومن ثم قفزوا إلى النتيجة المرجوة وهي اتهام الإسلام بفقدان الفاعلية وعجزه عن الاستمرار في النهوض بالبشرية وتجاوز الحضارة الحديثة والمدنية العصرية له.
في هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي: “هناك أفكار وتقاليد ومسالك خاصة وعامة تنتشر بين المسلمين، وتتقيد جمهرتهم بها على أساس أنها تعاليم إسلامية ومقتضاها، والحق أن الإسلام بعيد عنها أو لعله ينكرها ويعترض مسارها.
وقال حذيفة بن اليمان: «كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد ذلك الخير من شر؟ كان متوجسا يتساءل في نفسه: هل سيبقى هذا الخير أم ينهزم، ترى كم يطول أمده؟ وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم:” نعم” سيقع بعد هذا الخير شر. هكذا الدنيا، الحرب فيها سجال بين الحق والباطل، والنور والظلام. وعاد حذيفة يسأل: هل بعد هذا الشر خير؟ وجاء جواب الرسول – صلى الله عليه وسلم – الجدير بالتأمل: “نعم، وفيه دخن “،أي: غش، إنه خير مشوب، قال حذيفة: وما دخنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر».([2])
وهذه الإجابة تعني أمرين: أولهما: أن خليطا من أهواء الناس وشرورهم سيلتصق بالحق، وكأنه منه… ولكن أولي الألباب أو أهل الذكر أو فقهاء الأمة يستطيعون ميز هذا الغش والتحذير منه.
والمحزن أنه في غيبة الفقه الذكي، انتشر الدخن المخوف، وامتد أذاه وأصاب الإسلام الصحيح منه شر مستطير، وقد نظرت إلى خصال بعض الناس من علماء الدين فوجدتها لا تتجاوز هذا الدخن. إنهم يلقون أحاديث، ويصدرون فتاوى، ويخوضون باسم الإسلام معارك، والإسلام بعيد عما يقولون وعما يفعلون، وإن كان يصلى نارهم ويحمل عارهم، وهو مظلوم مظلوم.
الإسلام الصحيح يقدم لأتباعه الخير، ويهب لهم النصر، وهذا التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف ويحس الناس معه بالحرج. وكان يجب على المسلمين أن يغربلوا مواريثهم التي أثقلت كواهلهم، وقذفت بهم في ذيل القافلة البشرية، وأن يحاكموا أعمالهم وأحوالهم إلى الوحي الأعلى فيمحو ما يخالفه وهو كثير، بيد أنهم لم يفعلوا.
فلما هجم الاستعمار العالمي على بلادهم أحرجهم إحراجا شديدا، وأرغمهم على ترك كثير مما لديهم، حتى قال بعض الجهلة: انهزمت التعاليم الإسلامية. فقلت: بل انهزم الدخن الذي حرصتم عليه وتشبثتم به وزعمتمونه دينا، وما هو بدين. كيف يهزم الإسلام في معركة لم يدخلها؟ إن الهزيمة لحقت بالبدع الذميمة والأفهام السقيمة، والأوضاع الجامدة والعادات الفاسدة التي أتى الناس بها من عند أنفسهم، وأوهنوا بها الفرد والمجتمع والدولة، وشوهوا بها وجه الحق، وأضاعوا بها الكتاب والسنة.
هناك تصاريح تهتف وتدعو إلى العودة إلى الإسلام، فإذا ذهبت تبحث في هذا الإسلام الذي تعود إليه لم تجد أمرا ذا بال، إنها عودة إلى منابع الدخن في ثقافتنا التقليدية، وتكرار لأخطاء سابقة. وهل يتصور عاقل أن تقوم نهضة بعيدا عن الاكتمال الثقافي والخلقي، بعيدا عن الرشد الاجتماعي والسياسي؛ لأن اهتمامها البالغ بأحكام فقهية فرعية، ومجادلات كلامية نظرية، وصور ساذجة عن الملابس والهيئات.
إن الغزو الثقافي – بشقيه الشيوعي والصليبي – لا يجد أفضل من هذا الجو لينطلق وينتصر، من أجل ذلك قلت: إن الغزو الثقافي يمتد في فراغنا! هناك فراغ حقيقي في النفس الإسلامية المعاصرة؛ لأن تصورها للإسلام طفولي وسطحي يستقى من عهود الاضمحلال العقلي في تاريخنا، وكأن بينه وبين عهود الازدهار تره.
إنني – من منطلق إسلامي – أرفض التبعية النفسية للآخرين، ولكنني من هذا المنطلق نفسه أرفض التصورات الإسلامية للحياة، أعني التصورات التي ينسبها بعض الناس للإسلام، وهي عند التأمل خيالات مرضى وقاصرين.
إن الإسلام يظلم باسم الإسلام، يظلمه علماء يخدمون السلطة، وشبان عديمو الفقه، وغوغاء حيارى. إنني أنذر بأن أوضاعا إسلامية شتى تواجه مستقبلا كالحا، وقد تقع للمسلمين كوارث جديدة.. ولن تحمينا أبدا إلا عودة حقيقية إلى الإسلام الحقيقي”([3]).
أما أن الإسلام دين التواكل والدعة، والوحشية والقبح، فنقيضه هو الصحيح الثابت الظاهر لكل ذي بصر وبصيرة من أنه دين التوكل – بعد الأخذ بالأسباب – والنشاط والرفق والسلم والحسن، وقد تفرق مثل هذا الكلام في ردود سابقة فضلا عن أنه من بدهيات الفكر مما لا يحوج إلى الوقوف عنده طويلا.
نتائج خاطئة انبنت على مقدمات فاسدة:
أما ما قد يستحق الانتباه له فهو النتيجة التي بناها المغالطون على تلك المقدمات – أقصد الاتهامات سابقة الإشارة إليها – وهي قولهم بأن هذا الدين صار تحفة تراثية تاريخية لا علاقة لها بالعصرية والشئون الحداثية، وما يرتبط بهذا من نفي أو إنكار صحة القاعدة المشهورة القائلة بأن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” في الأحكام الشرعية.
يعني هذا من ناحية أخرى – في نظر أصحاب هذا الفكر – أن نصوص هذا الدين وتعاليمه ناسبت الأمة الأمية التي وجهت إليها فقط.
وفي تفنيد هذا الزعم يقول د. إبراهيم عوض ردا على أحد القائلين به: “يردد بعضهم هنا نغمة غريبة هي أنه يؤمن بتاريخية النصوص وربطها بأسباب ورودها والزمن والمجتمع والبيئة التي انبعثت منها، وكذلك الظروف الجغرافية ودرجة التحضر التي كان عليها المسلمون في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ومستواهم الثقافي، وبخاصة أن النصوص ذاتها قد ذكرت صراحة – كما يقول – أنها موجهة إلى أمة أمية، وكلامه عن البيئة التي انبعثت منها هذه النصوص معناه فيما هو بين أن هذه النصوص لم تنزل من السماء، بل نبتت من الأرض.
وهذا الكلام فيه احتقار لجيل الرسول – صلى الله عليه وسلم – والصحابة – رضي الله عنهم – وللنصوص التي كانت تلائمهم، ولكنها لا تصلح لنا ولا تلبي حاجات حياتنا ولا تنسجم مع أوضاعنا وظروفنا؛ لأننا نفوق الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – رضي الله عنهم – حضارة وثقافة وبيئة.. أما قوله: إن العبرة في النصوص التشريعية بخصوص السبب لا بعموم اللفظ فهو قول لا يقوله من له أدنى مسكة من منطق، ذلك أنه ليس لهذا القول من معنى إلا أن الآيات التي من هذا النوع في القرآن هي عبث محض؛ إذ لن يكون لها حينئذ من حكمة ما دامت لا تمثل حكما بل مجرد (سد خانة والسلام)، تعالى الله عن ذلك العبث! ثم إن معنى هذا أيضا أن القرآن الكريم والحديث النبوي كانا يذكران لكل حالة حكما مغايرا لأمثالها من الحالات السابقة، وهذا غير صحيح البتة. وفضلا عن ذلك فإن هذه التشريعات ما هي إلا قوانين، والقانون – كما نعرف جميعا – يقوم على الاطراد سواء كان قانونا علميا أو قانونا تشريعيا، هذه هي طبيعة القوانين، فما الذي يجعل هذه الطبيعة تتخلف في حالة القوانين الشرعية الإسلامية بالذات؟ والدول المتخلفة التي يسود أنظمتها الاضطراب والفوضى هي التي تكون قوانينها عرضة للتغيير كل حين مما يدل على التخبط والفشل وشيوع الفساد وعدم الاستقرار.. فليدلنا الكاتب المفضال على نص واحد منها يذكر صراحة أو ضمنا أو يفهم منه ولو على سبيل الرمز والتلميح، أن التشريعات المذكورة في كتاب الله أو أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي تشريعات وقتية لا تتمتع بصفة الدوام والاستمرار”([4]).
ثالثا.خصوصية النص الإسلامي والتجربة الإسلامية:
يزيد الأستاذ العقاد هذا الأمر وضوحا، مؤكدا صلاحية أصول هذا الشرع الحنيف لكل عصر ومصر، مستغربا الزعم القائل بحدودية هذه الأصول والنصوص الشرعية في الزمان والمكان، فيقول: “ولقد كانت الشريعة الإسلامية ضرورة لا محيد عنها في إبان الدعوة الإسلامية، فلم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تلبث الأمة الإسلامية حقبة من الزمن على شريعة الجاهلية، أو تمضي في حياتها العامة هملا بغير شريعة يدين بها الحاكم والمحكوم، ونزلت شريعتها في حينها على مثال لا تفضله شريعة عاصرتها في جملتها ولا في تفصيلها، وتعاقبت بعدها العصور، وما في عارض من عوارضها حالة لم تقدر لها الشريعة كفايتها من التصرف والتوفيق”. ([5])
ويقول أيضا: “وعلى هذه السنة من المساواة بين حق الدين في نشر العقائد، وحقه في فرض الشرائع والمعاملات ننظر إلى معاملات الدين الإسلامي كما ننظر إلى عقائده، فلا نرى فيها ما يعوقه عن أداء رسالته العالمية الإنسانية، التي توافرت له بدعوته إلى إله واحد هو رب العالمين أجمعين، وخالق الأمم بلا تمييز بينها في الحظوة عنده غير مزية التقوى والصلاح، رب المشرقين والمغربين يصلي له المرء حيث شاء، وأينما تكونوا فثم وجه الله.
فما منع الإسلام قط معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الضرر بهم والغبن لفريق منهم، وأساس التحريم كله في الإسلام أن يكون في العمل المحرم ضرر أو إجحاف، أو حطة في العقل والخلق، وما فرض الإسلام من جزاء قط إلا وهو بحدود مقدرة بشروطها وقيودها، صالحة على تلك الشروط والقيود للزمان الذي شرعت فيه، ولكل زمان يأتي من بعده؛ لأنها لا تجمد ولا تتحجر ولا تتحرى شيئا غير مصلحة الفرد والجماعة، وكفى باسم الحدود تنبيها إلى حقائق الجزاء والعقاب في الإسلام، فإنها حدود بينة واضحة تقوم حيث قامت أركانها ومقاصدها، وتحققت حكمتها وموجباتها. وإلا فهي حدود لا يقربها حاكم ولا محكوم إلا حاقت به لعنة الله”([6]).
وهذا ما يبينه الأستاذ عبد العزيز جاويش موضحا فكرة صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان ومؤكدا عليها بقوله: “فترى من جميع ما تقدم أن الإسلام لم يخالف مقتضى الفطرة السليمة في اعتبار ما سبق من الشرائع والأخذ بما تقرر من النواميس العادلة سواء ورد بها دين إبراهيم، أو دين عيسى بن مريم – عليه السلام – أو غيرهما. نعم إن الإسلام نسخ بعض ما فرض الله على الماضين من التكاليف الشاقة، التي جلبها عليهم عنادهم وظلمهم، كما قال تعالى: )فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161)( (النساء)، فإنهم لم يزالوا كذلك، حتى جاء المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حريصا على المؤمنين رءوفا بهم رحيما بهم، فأباح الطيبات من الرزق، ولم يكلف نفسا إلا وسعها، فكان دينه بذلك أكثر الأديان ملاءمة للطباع والعادات والقوى البشرية على اختلافها.
ربما قيل: كيف ذلك مع أن أكثر الأحكام النظامية والنواميس التعاملية قد وضعها بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – الفقهاء والخلفاء والأمراء، فلم يحط الإسلام في بدء نشأته بكل ما يلزم البشر من القوانين والأحكام، فنقول: إن جميع ما وضعه الفقهاء والخلفاء والأمراء من الأحكام، إنما بنوه على ما أباح لهم الشرع الشريف من الاجتهاد والقياس، كما قدروه واعتبروه بالأحكام العامة، التي قررها لهم الشرع، فكل ما جاء مبنيا على قواعد الدين فهو دين، سواء نص عليه الشارع نفسه، أو استنبطه أهل الفكر والنظر الصحيح، وهذا هو كون الدين الإسلامي دين الأبد وختام الأديان” ([7]).
وقد أجمل د. محمد عمارة القضية من مختلف جوانبها تحت عنوان “حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم” فأشار إلى أن هذه الدعوى ليست جديدة؛ فقد سبق أن تبناها فلاسفة التنوير الغربي العلماني بالنسبة للتوراة والإنجيل زاعمين أن الدين والتدين مرحلة غابرة من عمر التطور الإنساني هي مرحلة طفولة العقل البشري، وهو يرى أنه إن جاز هذا القول – بتاريخية النصوص الدينية – ووجدت له بعض المسوغات في الغرب بالنسبة لرسالات نزلت لزمان معين وبتفاصيل وتشريعات – خاصة في التوراة – تجاوزها تطور الواقع، فإن هذا لا يجوز ولا ضرورة تستدعيه بالنسبة للقرآن الكريم؛ لأنه كتاب الشريعة الخاتمة.
ثم يقول: “إن التاريخية لا يقول بها أحد في أحكام العبادات، وإنما يقول بها أصحابها في آيات وأحكام المعاملات، وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها في أحكام المعاملات التي جاء بها القرآن، ذلك أن القرآن – في المعاملات – قد وقف عند فلسفة وقواعد ونظريات التشريع، أكثر مما فصل في تشريع المعاملات.
فهو قد فصل في الأمور الثابتة، التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل منظومة القيم والأخلاق، والقواعد الشرعية التي تستنبط منها الأحكام التفصيلية والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة. ونزل تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه الذي هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية، ذلك حتى يظل هذا الفقه – فقه المعاملات – متطورا دائما وأبدا، عبر الزمان والمكان؛ ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث، في إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها، التي تحفظ على أحكامها المتطورة إسلاميتها دائما أبدا”([8]).
وبعد أن يناقش أمثلة تفصيلية لقضايا مثيرة لشبهة ” التاريخية ” هذه وأحكام تجاوزها الزمن من وجهة نظر القائلين بها، مثل ميراث المرأة وكونه إلى النصف من ميراث الرجل، فيخلص إلى أن هذا في حالات معينة، وأن الجداول الإسلامية تجعل المرأة ترث مثل الرجل أو أكثر من الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل في أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث الإسلامي، بينما هي ترث نصف ما يرث الذكر في أربع حالات فقط. وكذلك مثل شهادة المرأة وكونها نصف شهادة الرجل فبين أن هذا في الأمور التي تقل فيها خبرة المرأة عن الرجل، أما الميادين التي تختص بالمرأة والتي تكون خبرتها فيها أكثر، فإن شهادتها تكون أحيانا ضعف شهادة الرجل، بل إن شهادتها تعتمد ولا تعتمد شهادة الرجل في بعض الميادين.
ثم يعقب إجمالا بقوله: “ولو فقه الداعون إلى تاريخية آيات الأحكام في القرآن حقيقة هذه الأحكام التي توهموا الحاجة إلى تجاوزها – فقالوا بتاريخية ووقتية معاني نصوصها القرآنية – لأدركوا أن وقوف النص القرآني عند كليات وفلسفات وقواعد ونظريات التشريع، مع ترك تفصيلات التشريع لاجتهادات الفقهاء، هو الذي جعل أحكام القرآن الكريم في المعاملات – فضلا عن العبادات والقيم والأخلاق – صالحة لكل زمان ومكان، فكانت شريعة الإسلام آخر الشرائع السماوية وخاتمتها، دونما حاجة إلى هذه التاريخية التي استعاروها من الفكر الغربي، دونما إدراك لخصوصية النص الإسلامي، وتميز مسيرة الفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية، ولو أنهم فقهوا حقيقة الأمثلة التي توهموها دواعي لهذه التاريخية – من مثل ميراث المرأة وشهادتها – لكفونا مئونة هذا الجهد في كشف هذه الشبهات”([9]).
الخلاصة:
- الدافع وراء مثل هذه الشبهات هو جهل القائلين بها بطبيعة الإسلام من ناحية ومجانبة سلوك بعض المسلمين لتعاليم دينهم من ناحية أخرى؛ فالإسلام دين التوكل – بعد الأخذ بالأسباب – لا التواكل.
- الإسلام دين يملك طاقة حيوية واستمرارية، مردها إلى أنه وضع الأسس وأصل الأصول، وقعد القواعد وهيكل الإطار العام، ثم ترك لأهل كل عصر ومصر أن يملئوا الفراغات والتفاصيل بما يوائم ظروفهم ويواكب مستجدات حياتهم.
- جهل هؤلاء المغالطين أو تجاهلهم لخصوصية صلاحية النصوص الإسلامية لكل زمان ومكان، حدا بهم إلى القول بجمودها ومن ثم عدم صلاحيتها ومناسبة أحكامها لظروف عصرنا، فقد صارت ماضيا تراثيا متحجرا جامدا – على حد زعمهم – عاجزا عن مجاراة ظروف العصر ومستجداته.
(*) القرآن وعلومه في مصر، عبد الله خورشيد، دار المعارف، مصر، 1970م.
[1]. الإسلام، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، المقدمة ص6 بتصرف.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (6673)، وفي موضع آخر بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن (4890).
[3]. الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، الشيخ محمد الغزالي، مؤسسة الشرق، عمان، ط1، 1985م، ص5: 8.
[4]. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ / 2000م، ص28: 33.
[5]. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد، طبعة المؤتمر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1376هـ/ 1957م، ص138.
[6]. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد، طبعة المؤتمر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1376هـ/ 1957م، ص122.
[7]. الإسلام دين الفطرة والحرية، عبد العزيز جاويش، دار الهلال، القاهرة، ص69.
[8]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص308، 309.
[9]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص314.