دعوى أن الإسلام يبيح الرأسمالية
وجوه إبطال الشبهة:
1) الملكية الفردية في الإسلام وطبيعتها تختلف تماما عن النظام الرأسمالي.
2) لم يعرف الإسلام هذه الرأسمالية[1]؛ إذ نشأت في الغرب بعد اختراع الآلة، وقد تعددت مساويها بما جعل الإسلام ينأي عنها.
3) كيف يقال إن الإسلام يبيح الرأسمالية، وهو الذي يواجهها بكثير من التشريعات الاقتصادية؛ منها:
-
-
- تحريم الغش في المعاملات.
- تحريم الاحتكار.
- تحريم الربا.
-
التفصيل:
أولا. الملكية الفردية في الإسلام وطبيعتها:
الملكية ظاهرة فطرية قديمة ارتبط تاريخها بتاريخ الإنسان الأول، وقد تختلف في مفاهيمها وفي أسبابها، وقد تتباين أشكالها ومظاهرها، إلا أن من المؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن فكرة الملكية، فهو يختص بأشياء لا ينازعه التصرف بها واستثمارها والانتفاع بها منازع؛ كثيابه وطعامه، وأثاث منزله، أو خيمته وأدواته الخاصة، والنقود التي يكسبها من عمله. وهذا الاختصاص بالتصرف والانتفاع بشيء من الأشياء هو ما يسمى بالتملك أو الملك أو حق الملكية.
ونظرا لأن الحياة البشرية في العصور البدائية الأولى كانت أقرب إلى الطبيعة الجماعية في تكوينها؛ بسبب عدم إمكان الكائن البشري أن يعيش منفردا عن غيره، وأن الملكية كانت تأخذ الطابع الجماعي، فما يملكه الفرد البدائي – وبخاصة في غير الحاجات الشخصية – يعتبر ملكا لعشيرته، بل إن الفرد كان يعتبر ملكا لعشيرته، تدافع عنه وتحمي حقوقه.
وكانت الملكية الفردية تتمثل في حاجات الفرد الشخصية كالسلاح والملابس. ومع تطور الإنسان والمجتمع بدأت ملامح الملكية الفردية تتضح تدريجيا وتحل محل الملكية الجماعية.
فالاشتراك والشيوع هو الحالة الابتدائية في الحياة البشرية، وكان ظهور الملكية الفردية مرافقا لاستقلال الفرد الإنساني وشعوره الذاتي بكيانه.
على أن الملكية الفردية نفسها تختلف من بلد إلى آخر، ومن نظام إلى نظام بحسب العصور والمذاهب، من حيث توسيعها وتصنيفها أو تقييدها وإطلاقها.
ويقوم الاقتصاد الرأسمالي أساسا على الملكية الخاصة أي الملكية الفردية، فهو يعطي كل فرد الحق في امتلاك ما يشاء من السلع الإنتاجية أو الاستهلاكية، دون أن يفرض أية قيود على حريته في التملك أو الإنفاق أو استغلال ثروته.
وموقف الاقتصاد الرأسمالي هذا من الملكية ينبع من الفلسفة التي يستند إليها، وهي فلسفة المذهب الفردي التي تنظر إلى الفرد على أنه محور الوجود، وأن سعادته وحريته واستقلاله هي ما يهدف إليه النظام السياسي والاقتصادي، ومن ثم كان تقديسه للملكية الفردية، لكن ذلك لا يمنع من اعتراف هذا النظام – على سبيل الاستثناء – ببعض صور الملكية العامة حين تفرض الضرورة تأميم مرفق من مرافق الدولة أو أن تؤدي الدولة نشاطا معينا.
وعلى العكس من الاقتصاد الرأسمالي، فإن الاقتصاد الاشتراكي يقوم أساسا على الملكية العامة، أي ملكية الجماعة التي تمثلها الدولة لوسائل الإنتاج، ولا يعترف بالملكية الفردية إلا استثناء، وعلى خلاف هذا الأصل العام ولضرورة اجتماعية، ففي ظل الاقتصاد لا يسمح للفرد – كقاعدة – أن يمتلك أي مال من أموال الإنتاج، وتصبح الدولة هي المالكة الوحيدة لكل أدوات الإنتاج ولجميع المشروعات ومرافق الخدمات.
مفهوم الملكية:
الملكية كلمة تفيد معنى الاحتواء والقدرة على الاستبداد بالشيء، ويراد بها حق الفرد في احتواء شيء ما، وتمكينه من الانتفاع بكل الطرق الجائزة شرعا، بحيث لا يجوز للغير الانتفاع بهذا الشيء إلا بموافقة المالك الأصلي، وفقا لصورة من صور التعامل الجائز.
وتختلف علاقة الفرد بالمال عن علاقته بالملك؛ لأن الملكية ليست شيئا ماديا كالأموال، وإنما هي حق يحتاج إلى اعتبار شرعي، فالملكية تعبر عن معنى العلاقة بين الفرد والمال، وتستدعي البحث عن أسباب التملك، وطريقة استعمال هذه الملكية واستثمارها؛ لكي تلائم الأسلوب الشرعي [2].
حق الملكية الفردية:
يوضح سيد قطب هذه الملكية قائلا: إن الإسلام قرر حق الملكية الفردية للمال بوسائل التملك المشروعة، وجعلها هي قاعدة نظامه، ورتب على هذا التقرير نتائجه الطبيعية في حفظ هذا الحق لصاحبه، وصيانته له عن السرقة أو النهب أو السلب أو الاختلاس بأية طريقة من الطرق، أو المصادرة بدون ضرورة عامة مع التعويض المجزي الذي لا غبن فيه وضع الحدود الرادعة لكفالة هذا كله، فوق ما يضع من التوجيهات التهذيبية لكف النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها، وما هو داخل في ملك الآخرين، كما يرتب عليه نتائجه الأخرى، وهي حق التصرف في المال بالبيع والإجارة والرهن والهبة والوصية… إلى آخر حقوق التصرف الحلال، وفي نطاق الحدود التي سنها للتصرفات.
ولا شبهة في تقرير هذا الحق الواضح الصريح في الإسلام، ولا شبهة كذلك في أنه قاعدة الحياة الإسلامية، وقاعدة الاقتصاد الإسلامي، القاعدة التي لا تخالف إلا لضرورة.
وبقدر هذه الضرورة: )للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن( (النساء: ٣٢)، )وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب( (النساء: ٢)، )وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك( (الكهف: ٨٢). وقد جاء في الحديث: «من قتل دون ماله فهو شهيد»[3].
وتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء، فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصيلة في النفس البشرية، تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع. وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة. فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال، ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين، يقفون في وجه المنكر ويحاسبون الحاكم وينصحونه، دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت في يديه.
فالفرد مخلوق بفطرته على حب الخير لذاته: )وإنه لحب الخير لشديد (8)( (العاديات)، مفطور على حب الحيازة والضن بما يملك: )قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق( (الإسراء: ١٠٠)، مفطور كذلك على حب ذريته والرغبة في أن يورثهم نتاج كده، والمال الذي يدخره لهم إن هو إلا عمل مختزن في صورة مال، يؤثر به الرجل ذريته على متاعه الخاص في حياته، ولا ضير من مجاراة هذه الميول الفطرية، ليبذل الفرد أقصى طاقته، وهو نشيط مقبل على العمل والإنتاج؛ لأنه يلي أشواقه وحاجات نفسه، ولا يحس أنه مسخر للعمل، ولا يبذل جهده كارها ولا يائسا، والجماعة هي التي تفيد بعد ذلك من جهده هذا وكده، والإسلام يضع القواعد التي تتيح للجماعة هذه الفائدة، وتضمن تخفيف الأذي من إطلاق حرية الفرد، وتقرير حق الملكية الفردية له.
والعدالة تقتضي أن يلبي النظام أشواق الفرد ويرضي ميوله – في الحدود التي لا تضر الجماعة – جزاء ما بذل هذا الفرد من طاقته وجهده، وعرق جبينه، وكدح فكره، وكد أعصابه، والعدل أكبر قواعد الإسلام، والعدالة الاجتماعية لا تكون دائما على حساب الفرد.
فهي للفرد كما هي للجماعة، متى شئنا أن نسلك طريقا وسطا، ونحقق العدالة في جميع صورها وأشكالها في الحياة.
وفضلا عن هذا كله فإن أحدا لا يجزم بأن تحطيم الحوافز الطبيعية المعقولة ينتج خيرا للفرد أو للجماعة، وسوء الظن بالفطرة هو الذي يعين طريقا واحدا للعدالة، تحطيم هذه الحوافز والوقوف في وجهها، كما أن النظريات الخيالية التي لا تعترف بالواقع، هي التي تفترض أن هذه الحوافز يمكن القضاء عليها من الخارج بالنظم والتشريعات في جيل أو عدة أجيال، والإسلام لا يسوء ظنه بالفطرة إلى هذا الحد، كما أنه لا يعمد إلى إقامة بنيانه على الخيال، متجاهلا كل الواقع العميق!
كذلك يمكن القول بأن احترام الإنسانية يقتضي أن ننظر إليها نظرة أعمق، وأكثر إدراكا لعمق طبيعتها وأصالة فطرتها، وتأصل جذورها، فنكون أكثر تعقلا، وأشد حرجا، وأدق تفكيرا في محاولة توجيهها وإقامة نظمها، فدلائل ملايين السنين التي عاشتها البشرية لا يجوز أن تذهب سدى، لنفترض نظريات عن ميولها وفطرتها وسلوكها، ثم نطبق هذه النظريات غصبا وقسرا!
وأما الإرث والتوريث، فهو حق يتمشى مع الفطرة، كما يتمشى مع العدالة في مستواها الأعلى، ومع مصلحة الجماعة في حدود النظرة الشاملة التي لا تضع الحواجز بين الجيل والأجيال من بني الإنسان! وذلك فوق أنه وسيلة من وسائل تفتيت الثروة.
طبيعة الملكية الفردية:
ولكن الإسلام لا يدع حق الملكية الفردية مطلقا بلا قيود ولا حدود – كالنظام الرأسمالي – فهو يقرره، ويقرر بجواره مبادئ أخرى، تجعله أداة لتحقيق مصلحة الجماعة بنفس الدرجة التي تتحقق بها مصلحة الفرد المالك سواء بسواء وهو يشرعه ويشرع له الحدود والقيود التي ترسم لصاحبه طرقا معينة في تنميته وإنفاقه وتداوله، ومصلحة الجماعة كامنة من وراء هذا كله، ومصلحة الفرد ذاته كذلك، في حدود الأهداف الخلقية التي يقيم الإسلام عليها الحياة.
وأول مبدأ يقرره الإسلام – بجوار حق الملكية الفردية – أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكا، وأن المال في عمومه إنما هو – أصلا – حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله الذي لا مالك لشيء سواه سبحانه وتعالى، والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهدا خاصا لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله فيها جنس الإنسان.
جاء في القرآن الكريم: )آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( (الحديد: ٧)، ولا يحتاج نص الآية إلى تأويل؛ ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه، وهو أن المال الذي في أيدي البشر هو مال الله، وهم فيه خلفاء لا أصلاء. وفي آية أخرى في صدد المكاتبين من الأرقاء: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم( (النور: ٣٣)، فما يعطونهم هذا المال من ملكهم، ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء.
وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال الفردية، بوصفها ملكية التصرف والانتفاع، وهذا هو الواقع، فالملكية العينية لا قيمة لها بدون حق التصرف والانتفاع، فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف، فإذا سفه التصرف كان للولي أو للجماعة استرداد حق التصرف: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم( (النساء: ٥)، فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة، فإذا لم يحققهما المالك وقفت النتائج الطبيعية للملك، وهي حقوق التصرف، ويؤيد هذا المبدأ أن الإمام وريث من لا وريث له، فهو مال الجماعة وظف فيه فرد، فلما انقطع خلفه عاد المال إلى مصدره.
ولسنا نقرر هذا الأصل لنقرر شيوعية المال، فحق الملكية الفردية حق أساسي واضح في النظام الإسلامي، ولكننا نقرره لما فيه من معنى دقيق مفيد في تكوين فكرة حقيقية عن طبيعة الملكية الفردية، وتقيدها بهذا الأصل العام في نظرة الإسلام إلى المال، واختلافها كلية عن النظرية الرأسمالية في الملكية الفردية، وبلغة أوضح: نقرر أن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي في يده والذي هو في أصله ملك للجماعة، يجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه، والقيود التي يحد بها تصرفاته، كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال، يجعله أجرا في فرض الفروض وسن الحدود دون تجاوز لقواعد النظام الإسلامي التي أشرنا إليها، وينتهي بهذا إلى قواعد تحقق العدالة الاجتماعية كاملة في الانتفاع بهذا المال.
ومبدأ آخر يقرره الإسلام في ملكية المال، وهو كراهيته لأن يحبس في أيدي فئة خاصة من الناس يتداول بينهم ولا يجده الآخرون: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: ٧)، ومعنى هذا أن يؤخذ بعض المال من الأغنياء فيملك بالفعل للفقراء، ولهذا النص قصة تفيدنا هنا في فهم هذا المبدأ الإسلامي العام.
لقد هاجر المهاجرون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، فأما الفقراء فما كان لهم مال ينقلونه معهم، وأما الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم، فهم فقراء كالفقراء، ولقد سخت نفوس الأنصار وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية، فآخوا المهاجرين في كل شيء يملكون، حتى في أخص خصوصياتهم، طيبة نفوسهم بذلك، سمحة قلوبهم: )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (الحشر: ٩)، وبذلك كانوا نموذجا رائعا لما تصنعه العقيدة بالنفوس، وضربوا مثلا جميلا للتخلص من ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق.
ولكن الفجوة ظلت واسعة بين أثرياء المدينة وبين فقراء المهاجرين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يرى سماحة الأنصار وسخاءهم، فلا يجد حاجة لأن يطلب إليهم أكثر مما بذلوا، ولا أن يكلفهم رد بعض من أموالهم على المهاجرين، وهم يؤاخونهم في كل ما يملكون، إلى أن كانت موقعة “بني النضير” التي لم تقع فيها حرب، بل سلمت للنبي صلحا، فكان فيؤها[4] كله لله وللرسول، عندئذ رأي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعيد لجماعة المسلمين شيئا من التوازن في ملكية المال، فمنح فيء بني النضير للمهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، تنطبق عليهما الحكمة التي أوحت إليه بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين.
وفي هذه الواقعة يقول القرآن: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)( (الحشر).
ودلالة هذا التصرف من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهذا التعليل لذلك التصرف في القرآن – غير خافية ولا في حاجة إلى بيان، فهي تقرر مبدأ إسلاميا صريحا، هو كراهة انحباس الثروة في أيد قليلة من الجماعة، وضرورة تعديل الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطا من المال، ليكون هناك نوع من التوازن: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم(، ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر مثار مفسدة عظيمة، فوق ما يثيره من أحقاد وأضغان، فحيثما وجدت ثروة فائضة كانت كالطاقة الحيوية الفائضة في الجسد، لا بد لها من تصريف، وليس من المضمون دائما أن يكون هذا التصريف نظيفا ومأمونا، فلا بد أن تأخذ طريقها أحيانا في صورة ترف مفسد للنفس مهلك للجسد، وفي صورة شهوات تقضى؛ بحيث تجد متنفسها في الجانب الآخر المحتاج إلى المال، يصل إليه عن طريق بيع العرض والاتجار فيه، ومن طريق الملق[5] والكذب وفناء الشخصية؛ لإرضاء شهوات الذين يملكون المال، وتمليق غرورهم وخيلائهم، والمضطر يركب الصعب، وصاحب المال المتضخم لا يعنيه إلا أن يجد متصرفا للفائض من حيويته والفائض من ثروته، وليست الدعارة وسائر ما يتصل بها من: خمر وميسر وتجارة رقيق وقوادة[6] وسقوط مروءة وضياع شرف – سوى أعراض لتضخم الثروة في جانب وانحسارها عن الجانب الآخر، وعدم التوازن في المجتمع نتيجة هذا التفاوت.
ذلك عدا أحقاد النفوس، وتغير القلوب على ذوي الثراء الفاحش من المحرومين الذين لا يجدون ما ينفقون؛ فهم إما أن يحقدوا؛ وإما أن تتهاوى نفوسهم وتتهافت، وتتضاءل قيمهم الذاتية في نظر أنفسهم؛ فتهون عليهم كراماتهم أمام سطوة المال، ومظاهر الثراء؛ ويصبحوا قطعا آدمية حقيرة صغيرة، لا هم لها إلا إرضاء أصحاب الثراء والجاه.
وهذا ما وقع فيه النظام الرأسمالي…
والإسلام على كثرة ما يشيد بالقيم المعنوية، لا يغفل أثر القيم الاقتصادية؛ ولا يكلف الناس فوق طاقاتهم البشرية مهما تسامى بهم عن الضرورات الأرضية؛ لذلك كره أن يكون المال دولة [7] بين الأغنياء فحسب؛ وجعل هذا أصل نظريته في سياسة المال.
وأوجب رد بعض هذا المال للفقراء؛ ليكون لهم مورد رزق مملوك لهم، يضمن لهم الكرامة والذاتية، ويجعلهم قادرين على القيام بأمانة هذا الدين في التغيير للمنكر من الحكام والمحكومين على حد سواء.
فخلاصة الحقيقة عن طبيعة الملكية الفردية في الإسلام: أن الأصل هو أن المال للجماعة في عمومها، وأن الملكية الفردية وظيفة ذات شروط وقيود، وأن بعض المال شائع لا حق لأحد في امتلاكه، ينتفع به الجميع على وجه المشاركة، وأن جزءا منه كذلك حق يرد إلى الجماعة؛ لترده على فئات معينة فيها، هي في حاجة إليه لصلاح حالها وحال الجماعة معها[8].
طرق اكتساب الملكية:
حدد الإسلام في مصدريه الأصليين – الكتاب والسنة – طرقا لكسب الملكية، كما حدد الطرق التي اعتبرها غير شرعية ونهى عنها، وحدد عقوبتها.
والطرق المشروعة لكسب الملكية:
- التملك نتيجة الجهد الشخصي: ويدخل في هذا الباب أنواع من النشاط الإنساني المشروع؛ كالعمل المأجور بأنواعه من صناعة وغيرها، كالزراعة والتجارة وحيازة المباحات، ومنها الصيد والاحتطاب، ويدخل ذلك من جهة التكييف الفقهي في أبواب البيع والإجارة والمضاربة والشركة[9] والمزارعة والمساقاة ونتاج ما يملكه نتيجة الجهد كنسل الحيوان يتملكه تبعا للأصل الذي تملكه بسبب مشروع.
- التملك بحكم الشرع من غير جهد: وذلك لمصلحة متحققة وحكمة ظاهرة؛ كاستحقاق النفقة والميراث، وفي كلا الحالين لا عبرة برضى مالك المال الأصلي؛ أي: المورث والمكلف بالنفقة، وكالاستحقاق من بيت المال من الزكاة أو غيرها، وكاستحقاق جائزة السباق في الأحوال التي أجازها الشرع؛ تشجيعا لأنواع محددة من السباق.
إن التملك في جميع هذه الأحوال، وخاصة في الثلاثة الأولى ليس نتيجة جهد شخصي أصلا؛ وذلك لحكمة ظاهرة، فالنفقة داخل الأسرة للأقارب الأقربين واجب في مقابل حق الإرث، وهي من جهة أخرى ضرب من التكافل في نطاق الأسرة، والميراث حكمته تبدو في استقرار الأسرة وطمأنينتها واستمرارها، وفي تفتيت الثروة وتوزيعها[10].
وتمشيا مع نظرية الإسلام كذلك في ملكية المال يتدخل في طريقة تنميته والتعامل به، فلا يدع الحرية مطلقة لصاحب المال أن يتصرف به في هذا السبيل كيف شاء. فإن وراء مصلحة الفرد مصلحة الجماعة التي يتعامل معها.
لكل فرد إذن الحرية في تنمية أمواله، ولكن في الحدود المشروعة. فله أن يفلح الأرض، وأن يحول المادة الخام إلى مصنوعات، وله أن يتجر… إلخ، ولكن ليس له أن يغش، أو يحتكر ضروريات الناس، أو أن يعطي أمواله بالربا، أو أن يظلم في أجور العمال؛ ليزيد في أرباحه، فذلك كله حرام.
إنما هي الوسائل النظيفة وحدها التي يبيحها الإسلام؛ لتنمية المال، والوسائل النظيفة عادة لا تضخم رؤوس الأموال إلى الحد الذي يباعد الفوارق بين الطبقات، إنما تتضخم رؤوس الأموال ذلك التضخم الفاحش الذي نراه في النظام الرأسمالي والغش والربا وأكل الأجور والاحتكار، واستغلال الحاجة والابتزاز والنهب والسلب والاغتصاب.. إلى آخر الجرائم الكامنة وراء طرق الاستغلال المعاصرة، وهذا ما لا يسمح به الإسلام.
ثانيا. نشأة الرأسمالية ومساويها:
يجلي محمد قطب الحقيقة عن نشأة الرأسمالية قائلا: “لم تنشأ الرأسمالية في العالم الإسلامي؛ لأنها نشأت بعد اختراع الآلة. وهذا تم – كما نعلم – في العالم الغربي، ولم يكن ذلك حتما؛ لأنه كان يمكن أن يحدث في الأندلس على يد العرب المسلمين لو استمرت الدولة الإسلامية قائمة هناك، ولم يقتلها التعصب الديني، ومحاكم التفتيش التي تمثل أبشع ما حدث في تاريخ العالم من اضطهاد بسبب العقيدة، والتي كانت موجهة في حقيقتها إلى المسلمين.
نعم، كانت الحركة العلمية في الأندلس سائرة في طريقها الطبيعي إلى اختراع الآلة، ولكن الظروف السياسية التي طردت المسلمين من هناك أخرت التقدم العلمي عن موعده بضعة قرون حتى أفاقت أوربا من غشيتها، وتعلمت علوم المسلمين وعلوم الإغريق التي كانت هي الأخرى في رعاية الجامعات الإسلامية، وانطلقت من ثم تشق طريقها في ميدان الاختراع.
وإنما انتقلت الرأسمالية إلى العالم الإسلامي وهو مغلوب على أمره، واقع في قبضة الأوربيين غارق في الفقر والجهل والمرض والتأخر، فسرت فيه بحكم “التطور”، وظن بعض الناس أن الإسلام يقبل الرأسمالية بخيرها وشرها، وأنه ليس في نظمه وتشريعاته ما يعارضها أو يقف دونها؛ لأنه يبيح الملكية الفردية، وهذه قد صارت بحكم التطور الاقتصادي العالمي إلى ملكية رأسمالية، وما دام الإسلام يبيح الأصل فهو يبيح النتائج بطبيعة الحال!
وكان يكفي للرد على هؤلاء أن نذكر بدهية صغيرة يعرفها كل من درس الاقتصاد، وهي أن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم وتأخذ صورتها الواسعة التي هي عليها اليوم بغير الربا والاحتكار، والإسلام قد حرمهما كليهما قبل نشوء الرأسمالية بأكثر من ألف عام!
ولكنا لا نريد أن نتعجل الرد على أولئك المبطلين، ونريد أن نفترض أن اختراع الآلة قد نشأ في العالم الإسلامي – كما كان يمكن أن يحدث – فكيف كان الإسلام سيواجه التطور الاقتصادي الذي سينشأ لا محالة نتيجة اختراع الآلة، وكيف سينظم علاقات العمل والإنتاج في ظل نظمه وتشريعاته؟
يجمع كتاب الاقتصاد حتى المعادون منهم للرأسمالية – وعلى رأسهم كارل ماركس – على أن الرأسمالية في نشأتها كانت خطوة تقدمية جبارة، وأدت خدمات هائلة للبشرية في شتى مناحي الحياة، فقد زادت الإنتاج، وأصلحت وسائل المواصلات، واستغلت موارد الطبيعة على نطاق واسع لم يكن متاحا من قبل، ورفعت مستوى الحياة بالنسبة لطبقة العمال عما كانوا عليه في عهد الاعتماد الكلي أو الرئيسي على الزراعة.
ولكن هذه الصفحة المشرقة لم تدم طويلا؛ لأن الرأسمالية – بتطورها الطبيعي – كما يقولون – قد أدت إلى تكدس الثروات في أيدي أصحاب رؤوس الأموال وتضاؤلها النسبي المتزايد في أيدي العمال، فصار صاحب رأس المال يشغل العامل – وهو وحده المنتج الحقيقي في نظر الشيوعية – لإنتاج أكبر قدر من المنتجات، ويعطيه أجرا ضئيلا لا يفي بالحياة الكريمة لجمهور العمال الكادحين مستخلصا لنفسه “فائض لا قيمة” في صورة أرباح فاحشة يعيش بها حياة ترف فاجرة لا تقف عند حد.
هذا فضلا عن حقيقة أخرى: وهي أن ضآلة أجر العامل تمنعه من استهلاك كل إنتاج المصانع في البلاد الرأسمالية؛ لأنه لو أخذ من الأجر ما يكفي لاستهلاك الناتج كله أو معظمه لانتفى ربح رأس المال أو لتضاءل إلى أقصى حد. وهذا ما لا تسمح به الرأسمالية؛ لأنها تنتج للربح أولا قبل كل شيء، ومن هنا تتكدس البضائع سنة بعد سنة، وتبحث الدول الرأسمالية عن أسواق جديدة لتصريف بضائعها. فينشأ الاستعمار وما يتلوه من تطاحن على الأسواق وعلى موارد المادة الخام ينتهي بالحروب المدمرة.
ومع ذلك كله فلا بد أن تحدث في ظل النظام الرأسمالي أزمات دورية نتيجة الانكماش الذي ينشأ من ضآلة الأجور وضآلة الاستهلاك العالمي بالنسبة للإنتاج المتزايد.
وبغض النظر عن التفكير العجيب الذي يجعل دعاة المادية والمؤمنين بجبرية الاقتصاد يقولون: إن هذا كله لا ينشأ عن سوء نية أصحاب رؤوس الأموال، ولا رغبتهم الذاتية في الاستغلال، وإنما هذا من طبيعة رأس المال!! بغض النظر عن هذا التفكير الساذج العجيب الذي يجعل الإنسان كله بأفكاره ومشاعره مخلوقا سلبيا لا حول له ولا قوة أمام قوة الاقتصاد.. فإننا نعود إلى الفرض الذي افترضناه، وهو نشأة الرأسمالية في العالم الإسلامي.
فأما الخطوات الأولى التي يجمع كتاب الاقتصاد بما فيهم كارل ماركس على أنها كانت خيرا عميما للبشرية، أو على الأقل كان الخير فيها غالبا على الشر، فإن الإسلام لم يكن ليقف في سبيلها؛ لأنه لا يكره الخير للبشرية، بل مهمته الدائمة هي نشر الخير في ربوع الأرض.
ومع ذلك فهو لم يكن ليتركها وشأنها بدون تشريع ينظم علاقاتها، ويمنع ما قد يصاحبها من سوء استغلال، سواء كان ناشئا من نية خبيثة عند صاحب رأس المال، أم كان من طبيعة رأس المال ذاته دون دخل لصاحبه فيه! والمبدأ التشريعي الذي وضعه الفقه الإسلامي في هذا الباب – وسبق به كل الدول الرأسمالية على الإطلاق – هو اعتبار العامل شريكا في الربح مع صاحب رأس المال، وذهب بعض فقهاء المذهب المالكي إلى حد تحديد الشركة بالنصف، على أن يدفع صاحب المال جميع التكاليف، ويستقل العامل بعمل يده، فجعل جهد صاحب المال في إنتاج المال مساويا لجهد العامل في صناعة الإنتاج، وساوى بين نصيبهما في الربح على هذا الأساس.
وأول ما يبدو هنا في هذا المبدأ هو حرص الإسلام العجيب على العدالة، وسبقه إلى التفكير فيها والعمل عليها؛ تطوعا منه وإنشاء، لا خضوعا للضرورات الاقتصادية التي لم تكن قد وجدت بعد بصورة فعالة يحس بضغطها الفقهاء، ولا نتيجة للصراع الطبقي الذي يزعم بعض دعاة المذاهب الاقتصادية أنه العامل الوحيد الفعال في تطور العلاقات الاقتصادية!
وقد كانت الصناعة في مبدأ عهدها صناعة يدوية بسيطة، يشتغل فيها القليل من العمال في مصانع بسيطة، فكان هذا التشريع الذي أشرنا إليه كفيلا بإقامة العلاقات بين العمل ورأس المال، على أساس من العدالة لم تحلم بها أوربا في تاريخها الطويل.
ولكن الفقه الإسلامي وقف عند هذا الحد، وهو حد رفيع في ذاته؛ لأن العالم الإسلامي بعد ذلك تناوشته المصائب من كل صوب، من التتار مرة، ومن الحكام الجبابرة مرة، ومن نكبة الأندلس، ومن المنازعات الداخلية التي صرفت طاقة المسلمين عن التقدم، وحولتها إلى بلادة ذهنية وروحية وحسية، ظل يعاني آثارها إلى وقت قريب.
وفي أثناء وقوف الفقه الإسلامي، كان العالم يتطور بسرعة بعد اختراع الآلة الميكانيكية، وكانت تستجد كل يوم أحداث جديدة، وعلاقات جديدة بين طوائف البشر، لم يشترك فيها العالم الإسلامي، ولم يضع لها من الفقه ما يناسب تطورها.
ولكن الفقه شيء والشريعة شيء آخر، الشريعة هي المصدر الثابت الذي يحتوي المبادئ العامة، ويحتوي أحيانا تفصيلات دقيقة كذلك.
أما الفقه فهو التطبيق المتطور الذي يستمد من الشريعة ما يناسب كل عصر، وهو عنصر متجدد لا يقف عند عصر ولا جيل.
على أننا إزاء تطور الرأسمالية لم نكن في حاجة إلى تعب كبير في استنباط التطبيق الفقهي من الشريعة؛ لأنها أمدتنا بمبادئ صريحة واضحة لا تحتمل التأويل.
يقول مؤرخو الاقتصاد: إن الرأسمالية في أثناء تطورها من صورتها البسيطة الخيرة التي كانت عليها في مبدأ الأمر إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم، أخذت تعتمد رويدا رويدا على الديون الأهلية، ومن هذا نشأ نظام المصارف التي تنظم العمليات الرأسمالية الكبرى، وتقرض ما تحتاج إليه من الأموال لتشغيلها في مقابل ما تأخذه من “الفوائد” والأرباح.
ولا نحتاج هنا أن ندخل في تفصيلات اقتصادية معقدة، فهذه حقيقة مسلم بها، وليرجع لكتب الاقتصاد من يرغب في الاطلاع على التفصيلات، وإنما يهمنا أن نشير إلى أن هذه القروض وجملة من أعمال المصارف قائمة على الربا، وهو محرم تحريما صريحا في الإسلام.
كذلك يقول الاقتصاديون – وهو أمر مشاهد في الوقت الحاضر -: إن المنافسة الرأسمالية العنيفة تؤدي في النهاية إلى تحطيم الشركات الصغيرة، أو اندماج بعضها في بعض؛ لتأسيس شركة كبيرة، وهذا وذلك يؤديان حتما إلى الاحتكار في نهاية المطاف، والاحتكار حرام في الإسلام بنص أحاديث الرسول القاطعة بشأنه [11].
وعلى ذلك فلم يكن من الممكن أن تتطور الرأسمالية – لو نشأت في أحضان الإسلام – إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم، والتي تؤدي إلى سوء الاستغلال، والاستعمار والحروب، وإذن فكيف كان يكتب لها أن تسير؟ هل تقف عند حد الصناعات البسيطة التي وصل إليها الفقه الإسلامي أم تتخذ طريقا آخر يكون فيه الخير ولا يقع الشر المرهوب؟
أما وقف الصناعة فهو عمل لا يرضاه الإسلام، ولا بد للاختراع أن يأخذ طريقه، ويؤثر حتما في وسائل الإنتاج – Mass Production – في النهاية.
وأما تطور علاقات الإنتاج بصورة أخرى غير ما حدث في أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فهذا هو الذي كان يمكن أن يكون، بتنمية التشريعات الاقتصادية وفق نظريات الإسلام الخاصة، كما سبق الإسلام بمسألة نصف الربح في موضوع الأجور.
وبهذا كان الإسلام يتفادى أمرين في وقت واحد: يتفادى اللجوء إلى الربا والاحتكار اللذين تحرمهما شريعته، ويتفادى الظلم الشنيع الذي يقع على العمال حين يتركون فريسة لأصحاب رؤوس الأموال، يستغلونهم أبشع استغلال ويمتصون دماءهم، ثم يتركونهم في حمأة الفقر المدقع والحياة المذلة لكبرياء الإنسان. وهو أمر لا يقره الإسلام.
ولا يقولن أحد إنه لم يكن من الممكن أن يطفر الإسلام ذلك دفعة واحدة، قبل أن يمر بالتجارب القاسية والصراع الطبقي والضغط الاقتصادي الذي يلجئه إلى تعديل تشريعاته، فها قد ثبت لدينا بدليل قاطع أن الإسلام قد سبق تطور البشرية في مسألة الرق والإقطاع والرأسمالية البسيطة متطوعا غير خاضع لضغط، وإنما مدفوعا بفكرته الذاتية عن الحق والعدل الأزليين اللذين يسخر بهما فردريك إنجلز وغيره من الشيوعيين.
كما ثبت أيضا أن روسيا ذاتها قد انتقلت طفرة من الإقطاع إلى الشيوعية ولم تمر بالمرحلة الرأسمالية، فكانت – وهي الدولة التي اعتنقت آراء كارل ماركس – أكبر مكذب عملي لنظرية ماركس في تحديد المراحل التطورية التي ينبغي أن تمر فيها البشرية.
أما الاستعمار والحروب واستغلال الشعوب وكل ما صاحب الرأسمالية من شرور عالمية، فهو خارج من حساب الإسلام أصلا بطبيعة الحال.
فليس من مبادئه أن يستعمر أو يشن حربا للاستغلال؛ لأن الحرب الوحيدة التي يقرها هي الحرب لدفع العدوان، أو لنشر الدعوة حين تقف القوة المسلحة في سبيل الدعوة السلمية، ولا مجال في الإسلام لما يقوله الشيوعيون وأضرابهم من أن الاستعمار كان مرحلة حتمية في حياة البشرية، لا يمكن أن تقف في سبيله المبادئ ولا قضايا الأخلاق؛ لأنه مسألة اقتصادية ناشئة عن تكدس البضائع في البلاد المنتجة والحاجة إلى أسواق خارجية لتصريفها. لا مجال لهذا الهراء كله؛ لأنهم هم أنفسهم يقولون – أو على الأقل يزعمون – أن روسيا ستتصرف في هذه المشكلة بطريقة أخرى هي زيادة نصيب العمال من الإنتاج أو تخفيض ساعات العمل، بحيث لا يتبقى فائض يحتاج في تصريفه إلى استعمار، والذي تزعم الشيوعية أنها اهتدت إليه ليس وقفا عليها وحدها. على أن التاريخ يشهد أن الاستعمار نزعة قديمة في البشرية، ولم ينتج من الرأسمالية، وإنما الرأسمالية زادته حدة في العصر الحديث، بما تملك من وسائل جديدة للتخريب، ولكنه كان في عهد الرومان لا يقل بشاعة عما هو اليوم، من حيث المبدأ، ومن حيث استغلال الغالب للمغلوب، ويشهد التاريخ كذلك أن أنظف نظام في هذا الباب هو النظام الإسلامي؛ لأن حروبه – فيما عدا قلة نادرة لا تحسب عليه – كانت بريئة من الاستغلال والاستذلال، فكان هو أولى النظم – لو نشأت فيه الصناعات الكبرى – أن يلجأ لحل مشكلة الفائض من الإنتاج بغير الاستعمار والحروب، على أن مشكلة الفائض من الإنتاج ذاتها إنما هي إفراز للنظام الرأسمالي بصورته هذه. فلو تغيرت أسسه ما وجدت المشكلة.
هذا كله من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن ولي الأمر في الإسلام لا يقف عاجزا أمام مشكلة تضخم الأموال في يد فئة قليلة من الناس، وبقاء المجموع في حالة من الشظف والحرمان، فهذا مخالف لمبادئه الصريحة التي تحتم توزيع المال بين الجميع: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: ٧)، وولي الأمر مكلف بتنفيذ الشريعة بكل طريقة يرى أنها توصله إلى ذلك ما دام لا يقع فيها ظلم أو ضرر. وفي يده سلطة واسعة لهذا الشأن لا حدود لها إلا طاعة الله. على أن مجموعة الأنظمة الإسلامية في ذاتها تمنع ابتداء من هذا التضخم، ونشير هنا إلى نظام الإرث وتفتيته للثروة على رأس كل جيل. وإلى نظام الزكاة واقتطاعه واحدا من أربعين من رأس المال وربحه في كل عام. ونظام التكافل الذي يبيح في بعض الحالات التوظيف في رؤوس الأموال بالقدر الذي يحتاج إليه بيت المال للضرورات.
ثم تحريم كنز المال، وتحريم الربا الذي هو العامل الأول والأساسي لتضخم رؤوس الأموال، ثم طبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم وقيامها على التكافل العام.
ثم إن الضمانات التي كفلها الرسول الكريم لموظفي الدولة مشتملة على المطالب الأساسية للإنسان: «من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتخذ زوجة، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أوليست له دابة فليتخذ دابة». [12]
هذه الضمانات لا يمكن عقلا أن تكون وقفا على موظفي الدولة، وإنما هي المطالب الأساسية التي سيحتاج إليها كل شخص وينالها بوسيلة من الوسائل مقابل العمل الذي يؤديه، سواء كان للدولة مباشرة، أو في حرفة يحترفها ويعود النفع منها على المجتمع، وإذا كانت الدولة قد تعهدت لموظفيها بكفالة هذه المطالب، فهي مكلفة كذلك أن تضمنها لكل فرد يعمل في أي عمل في الدولة، يؤيدنا في ذلك أن بيت المال يكفل العاجزين عن العمل لسبب من الأسباب – كالمرض أو الشيخوخة أو الطفولة… إلخ، ويكمل الحاجات الأساسية لمن تقصر بهم مواردهم الخاصة عن بلوغها، كل ذلك يدل دلالة واضحة على مسئولية الدولة في أن تكفل لعمال المصالح هذه المطالب الأساسية التي ذكرها الرسول في حديثه بوسيلة من الوسائل، فليست الوسيلة هي المهمة – وهذه يحددها كل عصر بما يراه – وإنما المهم هو المبدأ الذي يكفل توزيع المغانم والمغارم على طوائف الأمة. وحين يكفل الإسلام هذه المطالب للعمال يكون قد حماهم من الاستغلال السيئ وكفل لهم الحياة الحرة الكريمة.
على أي حال لم يكن ليسمح الإسلام بقيام الرأسمالية في صورتها البشعة التي نراها اليوم في الغرب المتحضر، وكانت تشريعاته الموجودة منها مباشرة في صلب الشريعة، والمستحدث منها لمواجهة الظروف المتطورة في حدود المبادئ العامة للشريعة، كانت هذه التشريعات وتلك ستقف في سبيل شرور الرأسمالية، لا تسمح لها بما ترتكبه اليوم من استغلال لعرق الكادحين ودمائهم، ومن استعمار وحروب واسترقاق للشعوب.
ولكن الإسلام – كعادته – لم يكن ليكتفي بالتشريعات الاقتصادية وغير الاقتصادية، فهو يلجأ كذلك إلى الدعوة الخلقية والروحية التي يسخر بها الشيوعيون؛ لأنهم يرونها – في أوربا – معلقة في الفضاء، غير قائمة على أساس عملي. ولكنها في الإسلام ليست كذلك. فهذا النظام العجيب لا يوجه دعوة للروح وأخرى للتنظيم الاقتصادي منفصلة هذه عن تلك، ولكنه يمزج بطريقته الفريدة بين تهذيب الروح وتنظيم المجتمع، فيوفق بين هذا وذاك، ولا يترك الفرد تائها حائرا يحاول التوفيق بين الواقع والمثال، فلا يهتدي ولا يستطيع. إنه يقيم التشريع على أساس خلقي، ويجعل الدعوة الخلقية متمشية مع التشريع، فيلتقي الجانبان في نظام واحد، ويصبح كل منهما مكملا للآخر موصلا إليه، بلا تعارض ولا انفصال.
والدعوة الخلقية هنا تحرم الترف وتحاربه. وهل ينشأ من تضخم الأرباح في يد فئة قليلة من الناس إلا الترف البغيض والمتاع الحسي الغليظ؟ وتحرم ظلم الأجير وعدم توفيته أجره، وهل ينشأ تضخم الأرباح إلا من ظلم الأجراء؟ وتدعو إلى إنفاق المال في سبيل الله – ولو خرج الإنسان عن كل ماله، وهل ينشأ الفقر الذي يعيش فيه أغلب الشعب إلا لأن الأغنياء ينفقون أموالهم على أنفسهم، ولا ينفقونها في سبيل الله؟
والدعوة الروحية تربط الإنسان بالله، وتزهده في كل مغانم الأرض وملذاتها في سبيل مرضاة الله وانتظارا لثوابه في الآخرة.. وهل يتكالب الإنسان على تكديس المال ويسلك إلى ذلك سبيل الظلم والاستغلال وبينه وبين الله رابطة، أو في قلبه إيمان باليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب؟
وهكذا تكون مهمة الدعوة الخلقية والروحية أن تمهد للتشريعات الاقتصادية التي تقف في سبيل الرأسمالية، حتى إذا جاءت هذه التشريعات لم تكن طاعتها ناشئة من خوف القانون، وإنما تنبعث هذه الطاعة كذلك عن رغبة في داخل الضمير.
أما الرأسمالية التي تقوم اليوم في العالم الإسلامي بأبشع مظاهرها، فليست من الإسلام، والإسلام ليس مسئولا عنها؛ لأن الناس لا يحكمون الإسلام في حياتهم في قليل ولا كثير [13]!
ثالثا. التشريعات الاقتصادية الإسلامية لمواجهة الرأسمالية الغربية:
يحدد سيد قطب بعض هذه التشريعات منها:
- يحرم الإسلام الغش في المعاملة: «من غشنا فليس منا». [14] و «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مـحقت بركة بيعهما»[15]. فلك أن تبيع وأن تشتري، على ألا تغش في السلعة ولا في العملة، فإن كان بها عيب فعليك بيانه، وإلا فأنت غاش، وربحك عليك حرام، ولن ينجيك من المؤاخذة أن تتصدق بهذا الربح الحرام، فالصدقة لا تحسب لك إلا من مالك الحلال، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل». [16] وقال: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به». [17]
والإسلام في هذا يسير على قواعده الخلقية، كما يسير على مبادئه في منع الضرر وتحقيق التعاون بين الناس، فالغش قذارة ضمير وإضرار بالآخرين، ورفع للثقة من صدور الناس، ولا تعاون في الجماعة من غير ثقة، فضلا عن أن ثمرة الغش هي الحصول على كسب بلا جهد مشروع، وقاعدة الإسلام العامة هي أن لا كسب بلا جهد، كما أنه لا جهد بلا جزاء.
- واحتكار ضروريات الناس لا يعترف به الإسلام وسيلة من وسائل الكسب وتنمية المال؛ ذلك أن الاحتكار إهدار لحرية التجارة والصناعة، فالمحتكر لا يسمح لسواه أن يجتلب ما يجتلبه، أو يصنع ما يصنعه، وبذلك يتحكم في السوق، ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار، فيكلفهم عنتا، ويحملهم مشقة، ويضارهم في حياتهم وضرورياتهم، فوق أنه يغلق باب الفرص أمام الآخرين ليرتزقوا كما ارتزق، وليجودوا فوق ما جود، وقد يقع أحيانا أن يسد المحتكر الموارد وأن يتلف البضاعة الفائضة؛ حتى يتمكن من فرض سعر إجباري، وفي ذلك إعدام أو نقص في تلك الأرزاق والأقوات العامة التي أتاحها الله للإنسان في الأرض.
ولقد بلغ من حرص الإسلام على منع هذه الوسيلة من وسائل تنمية المال، أن جعل الاحتكار مبعدا للمحتكر من دائرة الدين: «من احتكر فهو خاطئ»[18]. فما هو بمسلم كامل الإيمان ذلك الذي يضار الجماعة هذه المضارة، ويشيع فيها الخوف، والحاجة إلى الضروري؛ ليحصل منها على كسب حرام يزيد به ماله الخاص على حساب الصالح العام.
- والربا وسيلة محرمة يكرهها الإسلام كراهية واضحة، ويبشعها تبشيعا شديدا وينذر أصحابها بأشنع مصير: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130)( (آل عمران)، وليس النهي هنا عن الأضعاف المضاعفة فتحل النسب الصغيرة، إنما هذا تقرير للواقع، ووصف لما هو كائن، أما النهي فمنصب على أصل الربا ومبدئه المجرد، يتضح ذلك في الآيات الأخرى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275)( (البقرة)، )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)( (البقرة).
ويبلغ الإسلام في تفظيع الربا إلى حد أن يلعن كل من شارك في صفقة من صفقاته، ولو كاتبا أو شاهدا، فعن جابر قال: «لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» [19].
يجري الإسلام في كل هذا على مبادئه في المال والأخلاق ومصالح الجماعة، فالمال وديعة في يد صاحبه وهو موظف فيه لخير الجماعة جميعا، فليس له أن يقلب الوظيفة إضرارا بالناس وابتزازا، يتحين ساعة احتياجهم، ويستغل ضعف موقفهم، فيأخذ منهم أكثر مما أعطاهم، وقد تكون الحاجة هي حاجة الطعام للحياة، وحاجة الدواء للعلاج، وحاجة النفقة للعلم ولغير العلم، فإما أن يتعطل هذا كله، وإما أن يتحكم صاحب المال في المحتاج إلى المال فيمنحه القليل، ويسترد منه الكثير، ويظلمه بذلك جهده، فيكد ويعمل؛ ليؤدي للمرابي رباه، أو يتضاعف الدين عاما بعد عام.
هذا الجزء الفائض يستمتع به صاحب المال، وهو لم يعمل شيئا سوى أنه صاحب مال! إنه العرق والدم يمتصها في نهم وهو قاعد. والإسلام الذي يقدس العمل ويجعله السبب الأساسي للملك والربح، لا يسيغ أن يفيد المال قاعد، ولا أن يلد المال المال، إنما يلد المال الجهد، وإلا فهو حرام!
ويلحظ الإسلام طهارة خلق الفرد كما يلحظ المودة بين الجماعة، فما يأكل الربا فرد له خلق وضمير، وما يشيع الربا في الجماعة وتبقى فيها مودة وتعارف، والذي يمنحني الدينار ليسترده مني دينارين هو عدوي، فما أطيب له نفسا، وما أحمل له ودا، والتعاون أصل من أصول المجتمع الإسلامي، يهدمه الربا ويوهن أساسه؛ لذلك يكرهه الإسلام.
وثمة حكمة أخرى تبرز لنا في هذا العصر الحديث لتحريم الربا، ربما لم تكن بارزة حينذاك: ذلك أن الربا وسيلة لتضخيم رؤوس الأموال تضخيما شديدا. لا يقوم على الجهد! ولا ينشأ عن العمل، مما يجعل طائفة من القاعدين يعتمدون على هذه الوسيلة وحدها في تنمية أموالهم وتضخيمها، فيشيع بينهم الترهل والبطالة والترف على حساب الكادحين الذين يحتاجون للمال فيأخذونه بالربا في ساعة العسرة، وينشأ عن ذلك مرضان اجتماعيان خطيران: تضخيم الثروات إلى غير حد، وتفريق الطبقات علوا وسفلا بغير قيد، ثم وجود طبقة متعطلة مترهلة مترفة لا تعمل شيئا، وتحصل على كل شيء، وكأنما المال الذي في يديها فخاخ لصيد المال، دون أن تتكلف حتى الطعام لهذه الفخاخ، إنما يقع فيها المحتاجون عفوا، ويساقون إليها بأقدامهم، تدفعهم الضرورات! ذلك أن أكل الربا يخالف القاعدة الأساسية للتصور الإسلامي وهي أن المال لله، جعل الناس فيه خلفاء، وفق شروط المستخلف – وهو الله سبحانه – لا كما يشاء الناس.
“إن النظام الربوي معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة – وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم، وهم قد نشئوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق.
وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة د. شاخت الألماني ومدير بنك الريخ الألماني سابقا، وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953م: إنه بعملية رياضية غير متناهية يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد – بالحساب الرياضي – أن يصير إلى الذي يربح دائما! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل، فإن معظم مال الأرض الآن يملكه – ملكا حقيقيا – بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!
“وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة، فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة، فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة، ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة، ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال؛ لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء، عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين، وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء، وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا، فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد. وتعود دورة الحياة إلى الرخاء، وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية، ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة!
“ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجارة لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومة من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية، فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك. إذ إن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها.
وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، وثم يكون الاستعمار هو نهاية الديون. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!”.
وإنه ليستوي أن يكون الدين للاستهلاك أو الإنتاج في عرف الإسلام، فإنه إن كان للاستهلاك، أي: لينفقه المستدين على حاجته الضرورية، فإنه لا يجوز أن يرهق برد الفائض عن دينه، فحسبه أن يرد أصل الدين عند الميسرة، وإن كان للإنتاج، فالأصل أن الجهد الذي يبذله هو الذي ينال عليه الربح، لا المال الذي يستدينه – إلا عن طريق المشاركة – القائم على احتمال الربح والخسارة؛ لذلك يحرم الربا في جميع الأحوال، ويحتم إقراض المستقرض لضروراته في جميع الأحوال. [20]
هذا بخلاف الرأسمالية التي تبيح كل هذه العلاقات التي تزيد من التضخم؛ نظرا للفجوة الكبيرة بين الدخول وارتفاع الأسعار، فضلا عن تجمع الثروة في أيدي فئة قليلة.
ومن ثم فالإسلام لا يعرف الرأسمالية، بيد أنه يعرف الملكية الفردية ووسائل تنميتها المشروعة التي لا تضر بالمسلمين أو المجتمع، وحين يعلم ولي الأمر أن هناك تضخما في الثروة له حق الحرية في أن يتعامل مع أصحاب رؤوس الأموال بما يتناسب وهذا الموقف.
وهكذا يحرص الإسلام على رد الحقوق لأصحابها حرصه على إعانة المضطر والتيسير عليه في الأداء، فيجمع الأمر من أطرافه، ويضمن المصالح جميعا، ويعدل في القسمة بين الحقوق والواجبات.
الخلاصة:
يقرر الإسلام حق الملكية الفردية للمال بوسائل التملك المشروعة، ويجعلها قاعدة نظامه، ويرتب على هذا التقرير نتائجه الطبيعية في حفظ الحق لصاحبه وصيانته له عن السرقة أو النهب أو السلب أو الاختلاس.
من المبادئ التي يقررها الإسلام في حق المال أن الفرد أشبه بالوكيل في المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكا، وأن المال في عمومه إنما هو أصلا حق الجماعة، وهي مستخلفة فيه عن الله، والملكية الفردية تنشأ عن بذل الفرد جهدا خاصا لحيازته، كما قرر الإسلام كراهية أن يحبس المال في أيدي فئة خاصة من الناس.
حدد الإسلام طرقا لكسب الملكية، ومنها: التملك نتيجة الجهد الشخصي، والتملك بحكم الشرع بالنفقة والميراث وغيرهما من الأسباب المشروعة؛ كالوصية والهبة.
نشأت الرأسمالية في أوربا الغربية نتيجة لاختراع الآلة، ومن أهم الأمور التي تقوم عليها هي أن الفرد هو كل شيء، ومن ثم اعترفت بالملكية الفردية، بيد أنه اعتراف أساء إلى المجموع، ومن ثم أصبحت الرأسمالية تقوم على مبدأ الاحتكار والربا، مما أدى إلى إهمال مصالح العامل، وتضخم المال في أيدي فئة قليلة من أبناء الشعب، فضلا عن امتلاء الأسواق الأوربية، ففكر هؤلاء في فتح أبواب للتسويق، ومن هنا جاءت فكرة الاستعمار؛ والتي تعد من أخبث نتاج الرأسمالية، فضلا عن باقي مساويها.
واجه الإسلام الرأسمالية بعديد من التشريعات ومنها منع الغش والتدليس في البيع والشراء وباقي المعاملات، كما حرم الاحتكار تحريما قاطعا، وختم بتحريم الربا وشدد على قطع دابر التعامل الربوي. كل هذه التشريعات للحد من الرأسمالية التي تسحق الفرد والمجتمع معا.
(*) شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، مصر، ط 23، 1422 هـ/ 2001م. الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات، منير شفيق، مقال بموقع الوحدة الإسلامية، 27/ 8/ 2003م.
[1]. الرأسمالية: نظام اقتصادي وسياسي يقوم على حرية الملكية الفردية، وحرية التبادل التجاري في الأسواق.
[2]. مبادئ الاقتصاد الإسلامي وبعض تطبيقاته، د. سعاد صالح، مصر لخدمات النشر، القاهرة، 1986م، ص95، 96.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2348)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه (378).
[4]. الفيء: ما رده الله ـ عز وجل ـ على أهل دينه من أموال من خالفهم في الدين بلا قتال، إما بالجلاء أو بالمصالحة على جزية وغيرها.
[5]. الملق: الترفق والمداراة، والملق: الذي لا يصدق وده، يعد ولا يفي، فهو دائما يتزين بما ليس عنده.
[6]. القوادة: وساطة الفحشاء، أو الذي يقبل الفحشاء في أهل بيته.
[7]. دولة: ما يتداول من مال وغيره، والمعنى: فعلنا ذلك في هذا الفيء؛ كي لا تقسمه الرؤوساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء.
[8]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط 16، 2006م، ص88: 94.
[9]. الشركة لغة: من شرك فلان فلانا في الأمر: كان لكل منهما نصيب منه، واصطلاحا: عقد بين اثنين أو أكثر للقيام بعمل مشترك، أو مؤسسة تجارية يشارك أصحابها في توظيف مالية بغية اقتسام الأرباح الناتجة منها.
[10]. مبادئ الاقتصاد الإسلامي وبعض تطبيقاته، د. سعاد صالح، مصر لخدمات النشر، القاهرة، 1986م، ص107، 108.
[11]. الأحاديث في تحريم الاحتكار كثيرة، نختار منها أخصرها وأشملها: « من احتكر فهو خاطئ »، «أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات (1605)».
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه (18044)، والطبراني في المعجم الكبير (20/ 305)، باب الميم مستورد بن شداد الفهري رضي الله عنه(726)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[13]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، مصر، ط 23، 1422 هـ/ 2001م، ص75: 84.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا” (294).
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع (1973)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان (3937).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول (1344)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (2389)، واللفظ للبخاري.
[17]. صحيح: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 31)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 56)، باب في المطاعم والمشارب، الفصل الثالث في طيب المطعم والملبس واجتناب الحرام (5759)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4519).
[18]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات (4206).
[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب لعن أكل الربا ومؤكله (4177).
[20]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط 16، 2006م، ص101: 107.