دعوى أن البيع مثل الربا
وجوه إبطال الشبهة:
1) البيع يختلف في أصله عن الربا، فالبيع معاوضة بين شيئين، والربا زيادة دون مقابل، وكل معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل فهي بيع حلال، وكل زيادة لا مقابل لها فهي ظلم وأكل لأموال الناس بالباطل؛ ولذا حرمها المولى عز وجل.
2) مساوئ الربا ومفاسد النظام الربوي من علل تحريمه.
3) جزاء من يتعامل بالربا محق بركة ماله في الدنيا، وتخبطه من المس والعذاب الأليم في الآخرة؛ وذلك لأنه بأكله الربا يعلن الحرب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
4) الربا لا يحل مشكلة المعسر إنما حل مشكلته في إنظاره إلى ميسرة كما بين القرآن وهذا هو العلاج الناجع الشافي.
التفصيل:
أولا. البيع يختلف عن الربا:
يحتج المشركون على صحة شبهتهم بأن البيع مثل الربا، يعنون أن الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد؛ وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكان أهل الجاهلية إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: زدني في الأجل وأزيدك في المال، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال! فحرم الله – عز وجل – ذلك، ورد عليهم قولهم بقوله الحق: )وأحل الله البيع وحرم الربا( (البقرة: ٢٧٥)، وأوضح الله أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة[1].
وقوله سبحانه وتعالى: )وأحل الله البيع وحرم الربا(، معناه: أنه أحل الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرم الربا، وهو الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه، فأعلمهم الله أنه ليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء، وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، وأحللت الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضل فضلها، فنبه الله أنه: ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا؛ لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضى فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي.
ويفهم من رد القرآن مغالطة هؤلاء المشركين حين استحلوا الربا وجعلوه كالبيع، وما هو كالبيع، فإن البيع معاوضة بين شيئين، وأما الربا الذي كانوا يأكلونه فهو زيادة عن دينهم يزيدونها عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء، وما يؤخذ من غير مقابل فهو باطل؛ لذلك حرم الله الربا دون البيع، ولو كانا متساويين لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين، فكل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهو بيع حلال، وإنما تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل، وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لها، فهي ظلم[2].
يذكر صاحب “التحرير والتنوير” أن مبنى شبهة القائلين: )إنما البيع مثل الربا( (البقرة: ٢٧٥) أن التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات؛ لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنه يرجعها له أحد عشر درهما، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأن المقرض تصدى لإقراضه وأعد ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله.
وكشف هاته الشبهة قد تصدى له وبينه علماء المسلمين، فقال بعضهم: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية، فلم يأخذ المقرض العشرة الزائدة من المشتري شيئا بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يقال: إن الزائد عوض عن الإمهال؛ لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة، ومرجع هذه التفرقة إلى أنها مجرد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.
وأشار بعضهم في أثناء تقرير هم حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى حاصلها أن الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرواج والربح، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنه لم يحصل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنه يستطيع أن يتجر به فيربح؛ لأن هذه منفعة موهومة غير محققة الحصول، مع أن أخذ الزائد أمر محقق على كل تقدير.
وهذه التفرقة أقرب من التفرقة الأولى، لكنها يرد عليها أن انتفاع المقترض بالمال فيه سد حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصديه للمتاجرة بمال القرض، أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.
فالوجه عندي – والحديث لابن عاشور – في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعها إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدون التداين هما وكربا، وقد استعاذ منه النبي – صلى الله عليه وسلم – وحال التاجر حال التفضل. وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا؛ لأن المتسلف مظنة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال. فالتجارة معاملة بين غنيين، ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه، فالمتسلف مظنة الفقر والمشتري مظنة الغنى؛ فلذلك حرم الربا؛ لأنه استغلال لحاجة الفقير، وأحل البيع؛ لإنه إعانة لطالب الحاجات. فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، وأنها مؤكدة التعين على المواسي وجوبا أو ندبا، وأيا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف، فأما الذي يستقرض مالا ليتجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنة الحاجة، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا أقرضه فقد تطوع بمعروف، وكفى بهذا تفرقة بين الحالين[3].
والمقصود أن الشبهة التي ركنوا إليها في قولهم: )إنما البيع مثل الربا( (البقرة: ٢٧٥)، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا، وهي شبهة واهية، فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة، والمهارة الشخصية، والجهد الشخصي، والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة، أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة، وهذا هو الفارق الرئيسي وهذا هو مناط التحريم والتحليل.
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده، ولا مجال للماطلة في هذا ولا للمداورة! )وأحل الله البيع وحرم الربا( (البقرة: ٢٧٥).
لانتفاء هذا العنصر من البيع، ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية، وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية[4].
ولهذا نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في هذه الآيات، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول، وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغني ففرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أو تطوعا وهو الصدقة، فأطنب في الحث عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ. عطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبي – صلى الله عليه وسلم – ربا الجاهلية، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار. فإذا حل الأجل ولم يدفع زاد في الدين، يقولون: إما أن تقضي وإما أن تربي، وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلما طلب النظرة أعطى ربا آخر، وربما تسامح بعضهم في ذلك، وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب»[5] [6].
ولقد أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع، وهي:
- ربا الجاهلية: وهو زيادة على الدين لأجل التأخير.
- ربا الفضل: وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه.
- ربا النسيئة: وهو بيع شيء من الأصناف الواردة في حديث أبي سعيد الخدري حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء”.[7] وزاد المالكية نوعا رابعا: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث عائشة في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي.
وفي تحريم الربا يقول صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الربا آكله وموكله وشاهديه»[8]. وقوله: )وأحل الله البيع وحرم الربا( (البقرة: 275) من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها؛ لأنهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممن تشملهم أحكام الإسلام، وهو إقناع للمسلمين بأن ما قاله الكفار هو شبهة محضة، وأن الله العليم قد حرم هذا وأباح ذلك، وما ذلك إلا لحكمة وفروق معتبرة لوتدبرها أهل التدبر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة، فهو مما وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين، مع أن ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة [9].
ثانيا. علل تحريم الربا:
لم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا – في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى – ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها في ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى، ويدرك من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين، وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام، اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة.
وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، وتتلقى – حقا – حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفرادا وجماعات، وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق!
وحينما كان السياق – من سورة البقرة – يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة، كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.
إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي، والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس، ولا يتوافقان في نتيجة. إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف، ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب!
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي – ونظام الحياة كلها – على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود يقيمه على أساس أن الله – عز وجل – هو خالق هذا الكون، فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده.
وأن الله – عز وجل – وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض، ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات على عهد منه وشرط، ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه ما يشاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة، استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف. فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله، فالحاكمية في الأرض – كما هي في الكون كله – لله وحده. والناس – حاكمهم ومحكومهم – إنما يستمدون سلطانهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم – في جملتهم – أن يخرجوا عنها؛ لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق.
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل، لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية، ولكن على أساس المكلية الفردية المقيدة، فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده، وفيما يسره الله له، فلا يكون أحدهم كلا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر، وجعل الزكاة فريضة في المال محددة، والصدقة تطوعا غير محدد.
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم، وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم، ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال، وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة، وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره.
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7).
وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها.
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود، وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض.
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا، ونظام يقوم على تصور آخر، تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى. ومن ثم لا رعاية فيه للمبادئ والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها.
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر، فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء، وهوغير مقيد بعهد من الله، وغير ملزم باتباع أوامر الله!
ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال، وفي طرق تنميته، كما هو حر في التمتع به. غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط، وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين، ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته، وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحد من حريته هذه جزئيا في تحديد سعر الفائدة مثلا؛ وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب والغش والضرر. ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية!
كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد، هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال – بأية وسيلة – واستمتاعه به على النحو الذي يهوي! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!
ثم ينشيء في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا، لمصلحة حفنة من المرابين؛ ويحطها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا وينتهي – كما انتهى في العصر الحديث – إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرا؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة.. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا، كما يداينون الحكومات والشعوب – في داخل بلادهم وفي خارجها – وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا!
وهم لا يملكون المال وحده، إنما يملكون النفوذ.. ولما لم تكن لهم مباديء ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق؛ بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ؛ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم.. وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!
والكارثة التي تمت في العصر الحديث – ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية – هي أن هؤلاء المرابين الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية – قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها.. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها.. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي؛ وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب. وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين – غير العمليين – وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه. الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي. ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف عن أن يكون نافعا للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة!
إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة، وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم قد نشأوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق.
وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة ” دكتور شاخت ” الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة. ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد – بالحساب الرياضي – أن يصير إلى الذي يربح دائما! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه – ملكا حقيقيا – بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء.. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين؛ وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا. فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء.. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية. ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة!
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين. فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك. إذ إن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون.. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!
ونحن هنا لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي، فهذا مجاله بحث مستقل، فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقة الأولى: التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم – أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان.
وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا، دجل وخداع. فأساس التصور الإسلامي – كما بينا – يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم.
الحقيقة الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية – لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب – بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!
الحقيقة الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته، ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده، ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء. وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية.
الحقيقة الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة؛ وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة. أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار. كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين. ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما.. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشيء أنفع المشروعات للبشرية؛ بل همه أن ينشيء أكثرها ربحا. ولو كان الربح إنما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول.. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض. وسببه الأول هو التعامل الربوي!
الحقيقة الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه؛ وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد.
الحقيقة السادسة: أن الإسلام – حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص – لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم.
ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه، ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة. وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث.
الحقيقة السابعة: – وهي الأهم – ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما، بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها.. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها؛ وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه. فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه. وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها. وإنما هو سوء التصور. وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي. وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين، وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر، وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان، كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه، وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة.
الحقيقة الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي.. ليست سوى خرافة. أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية – أو تعزم الأمة المسلمة – أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلا، ونمت الحياة في ظله فعلا؛ وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله لو عقل الناس ورشدوا[10]!
ثالثا. جزاء من يتعامل بالربا في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( (البقرة: ٢٧٥).
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلا التوجه إليهم؛ لأن ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة( (آل عمران: ١٣٠)، وهم لا يقولون: )إنما البيع مثل الربا( (البقرة: ٢٧٥)، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأجل ما تفرع عن كفرهم من وضع الربا.
وتقدم ذلك كله إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم: )وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39)( (الروم) وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية ولأن بعد الآية قوله: )الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)( (الروم).
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظا عليهم، وتعريضا بتخويف المسلمين، ليكره إليهم أحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: )ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275)( (البقرة)، وقال تعالى: )والله لا يحب كل كفار أثيم (276)( (البقرة).
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله( (البقرة:٢٧٨) الآيات، ولعل بعض المسلمين لم ينكف عن تعاطي الربا أو لعل بعضهم فتن بقول الكفار: إنما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبيانا لكيفية تدارك ما سلف منه.
والربا يقع على وجهين:
أحدهما: السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف.
والثاني: السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل.
وقوله: )لا يقومون( (البقرة: ٢٧٥) معناه: لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان؛ أي: إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان، أو معناه: أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم… ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الأول وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: )ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا( (البقرة: ٢٧٥)، وهي على المعنى الثاني تشنيع، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.
والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع، فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها[11].
ثم قال تعالى: )فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف( (البقرة: ٢٧٥)، أي: فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا، ونهيه عنه فترك الربا فورا، بلا تراخ ولا تردد، انتهاء عما نهى الله عنه، فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا: )وأمره إلى الله( (البقرة: ٢٧٥) يحكم فيه بعدله، ومن العدل أن لا يؤاخذ بما يأكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه، ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف رخصة للضرورة، وترمي إلى أن رد ما أخذه من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أقل العزائم، ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم )عفا الله عما سلف( (المائدة: ٩٥)، وأنه عقب هذه الإباحة بإيهام الجزاء وجعله إلى الله، والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة، كما قال في آخر آية محرمات النساء: )وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23)( (النساء)، أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله لعله يغص بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي، فقال: )ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275)( (البقرة)؛ أي: ومن عاد إلى ما كان من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكون خالدين فيها.
ثم بين الله تعالى الفرق بين الربا والصدقة، إذ جاء الكلام عنه بعد الكلام عنها وبيان أثرها فقال: )يمحق الله الربا ويربي الصدقات( (البقرة: ٢٧٦)، فسروا محق الله الربا بإذهاب بركته وإهلاكه، أو هلاك المال الذي يدخل فيه، وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة، فهم يذكرون دائما ما يحفظون من أخبار آكلي الربا الذين ذهبت أموالهم وخربت بيوتهم، وفي حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» [12].
وقال الضحاك إن هذا المحق في الآخرة، أن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه، فلا يبقى لأهله منه شيء، وقال الأستاذ الإمام: ليس المراد بهذا المحق محق الزيادة في المال فإن هذا مكابرة للمشاهدة والأخبار، وإنما المراد ما يلاقي المرابي من عداوة الناس، وما يصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها، أما عداوة الناس فمن حيث هو عدو المحتاجين وبغض المعوزين، وقد تقضي العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضرات، واعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، وقد ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، إذ قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء، ويتألب العمال عليهم حتى صارت هذه المسألة أعقد المسائل عندهم، وأما ما يصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام فهو ما لا يعرفه إلا من راقب هؤلاء العابدين للمال وبلا أخبارهم، ولا أذكر عنه مثالا على ذلك وما الأمثال فيه بقليلة؛ فمنهم من يشغله المال عن طعامه وشرابه وعن أهله وولده حتى يقصر في حق نفسه وحقوقهم تقصيرا يفضي إلى الخسر أو المهانة والذل، ومنهم من يركب لذلك الصعب ويقتحم الخطر حتى يكون من الهالكين.
والمراد بمحق الربا محو ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة وزيادة الربا تذهب بذلك لاشتغال المرابي غالبا عن اللذة وخفض المعيشة بولهه في ماله، ولمقت الناس إياه وكراهتهم له، وأما إرباء الصدقات فهو زيادة فائدتها وثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة ومضاعفة الله إياها “فمعنى” يمحق الله الربا ويربي الصدقات أن سنته قضت في عابد المال الذي لا يرحم معوزا ولا ينظر معسرا إلا بمال يأخذه ربا بدون مقابل أن يكون محروما من الثمرة الشريفة للثروة وهي كون صاحبها ناعما عزيزا شريفا عندالناس، لكونه مصدرا لخيرهم والتفضل عليهم وإعانتهم على زمنهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال فهو في عدم انتفاعه بماله هذا الضرب من الانتفاع كمن محق ماله وهلك، وقضت سنته في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من تصدق بعدل تمرة[13] من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله تعالى يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه،[14] حتى تكون مثل الجبل»[15]. والحديث من باب التمثيل كما هو ظاهر، قال تعالى: )والله لا يحب كل كفار أثيم (276)( (البقرة)، قالوا: لا يحب: لا يرضى، والكفار: المستحل للربا، والأثيم: المقيم على الأثم، وإن حب الله للعبد شأن من شئونه يعرف باستعمال العبد إتمام حكم الله في صلاح عباده ونفي هذا الحب يعرف بضد ذلك.
والكفار هنا هو المتمادي على كفر أنعام الله عليه بالمال؛ إذ لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسي به المحتاجين من عباده، والأثيم هو الذي جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده، فافترض إعسارهم لاستغلال اضطرارهم[16].
ثم قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)( (البقرة).
ويعلق صاحب “الظلال” على هذه الآية قائلا: “إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا، فأما الذي سلف فأمره إلى الله، وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعة أثرا رجعيا، فهذه صفة الترغيب وإلى جوارها صفة الترهيب، الترهيب الذي يزلزل القلوب، )فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله( (البقرة: 279) حرب من الله ورسوله تواجهها النفس البشرية، حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة، فأين الإنسان الضعيف من تلك القوة الساحقة الماحقة؟! ولقد أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي. وقد أمر – صلى الله عليه وسلم – في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية – وأوله ربا عمه العباس – عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة. وقال – صلى الله عليه وسلم – في هذه الخطبة: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب..».[17] ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية.
فالإمام مكلف – حين يقوم المجتمع الإسلامي – أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون. كما حارب أبو بكر – رضي الله عنه – مانعى الزكاة، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامتهم للصلاة. فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة!
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام. فهذه الحرب معلنة – كما قال أصدق القائلين – على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة، وهي حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف.. وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رءوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات. ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع – إن لم يقع هذا كله – هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية المرعبة!
إنها الحرب المشبوبة دائما. وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا.. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها – وهي تخرج من منبع الربا الملوث – لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقا؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون!
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء: )وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)( (البقرة).
فهي التوبة عن خطيئة، إنها خطيئة الجاهلية، الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام.. إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان.. خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة. وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة. وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته. ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي!
واسترداد رأس المال مجردا عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين.. فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي، ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة، ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق – بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح – وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه، ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة – على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة – ولا تعطيها بالفائدة الثابتة – ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت.. وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال.. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها.. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن[18]!
رابعا. علاج الإعسار في الإنظار إلى ميسرة وليس في الربا الذي يزيد تفاقم المشكلة:
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار.. فليس السبيل هو ربا النسيئة: بالتأجيل مقابل الزيادة.. ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة. والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى: )وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280)( (البقرة).
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار. إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع!
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما معقولا في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد! – وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال والطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش، فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها. تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية. فكلهم سواء. غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش.. كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون!!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب.. ولكنا نعرف أنها الحق، ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها: )وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280)( (البقرة).
إن المعسر – في الإسلام – لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم، إنما ينظر حتى يوسر.. ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين. فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه – إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين. وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة. لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر!
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق. وهو معسر لا يملك السداد. فهنا كان الأمر – في صورة شرط وجواب – بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء. وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار.
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، وهم أصحاب الديون، الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم. إنما أنفقوها في الطيب النظيف ثم قعدت بهم الظروف!
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء الذي ترجف منه النفس المؤمنة، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب: )واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281)( (البقرة).
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول. والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان!
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات. جو الأخذ والعطاء. جو الكسب والجزاء.. إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه. والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه. فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه.
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارا منه لأنه في الأعماق هناك!
إنه الإسلام.. النظام القوي.. الحلم الندي الممثل في واقع أرضي.. رحمة الله بالبشر. وتكريم الله للإنسان. والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان[19]!
الخلاصة:
- البيع مبادلة مال بمال على سبيل التراضي، أو نقل مال بعوض على الوجه المأذون فيه بألا يكون منهيا عنه، والربا: الزيادة على رأس المال قلت أو كثرت، سواء أكانت في القرض أو في البيع.
- الربا محرم في جميع الأديان السماوية (الإسلام، اليهودية، النصرانية) ومن علة تحريمه: أنه يسبب العداوة بين الأفراد، ويقضي على روح التعاون والتكامل بينهم، كما أنه يؤدي إلى خلق طبقة مترفة بين المجتمع تنمو على حساب غيرها بلا جهد منها، ويرجع إليها الحصيلة الحقيقية من جهد البشرية.
- وقد ذكر لحكمة تحريم الربا أسباب؛ منها:
o أن فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه.
o أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة، والصناعة، والعمارة.
o أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
o أن الغالب في المقرض أن يكون غنيا، وفي المستقرض أن يكون فقيرا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 275).
الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 275).
[1]. للمزيد انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج3، ص96، ج7، ص433. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص1102، ج6، ص3258.
[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج3، ص96، 97 بتصرف.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص84، 85.
[4]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص327.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (3009).
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص78، 79.
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (4148).
[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3725)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 396) برقم (4981)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5089).
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص84.
[10]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص318: 323.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص82 بتصرف.
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3754)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 456) برقم (5042)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[13]. عدل تمرة: أي بمقدار قيمتها.
[14]. الفلو: هو المهر أول ما يولد.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب (1344)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2389)، واللفظ للبخاري.
[16]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج3، ص97: 101 بتصرف.
[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (3009).
[18]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص330: 332.
[19]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص332، 333.