دعوى أن الدين يسلب أتباعه حريتهم وكرامتهم ويخضعهم لقيوده وحدوده
وجوه إبطال الشبهة:
1) هذا الحكم إن صدق فإنه يصدق على غير الإسلام؛ لأنه جاء ليحرر الإنسان من كل حقارة ومذلة.
2) أعلى القرآن من شأن العقل، فهو لا يفتأ يخاطب العقول ويوجهها إلى النظر والتفكر في ملكوت السموات والأرض لاستلهام العبرة والعظة والبرهان واليقين.
3) الإسلام كرم الإنسان ورد له حقوقه المسلوبة، ولم يكرهه أو يجبره على اعتناقه إلا بالتصديق الكامل واليقين التام.
4) ليس في الإسلام رهبانية، ولا واسطة بين العبد وربه، ولا سلطة من أحد على أحد إلا بالحق.
5) العقل له حدوده الإدراكية، فهناك أمور أبعد من أن يحيط بكنهها وماهيتها.
التفصيل:
أولا. هذا الحكم إن صدق فإنه يصدق على غير الإسلام:
لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من كل مذلة وحقارة، وأتاح له حرية التفكير والتعبير، والاعتقاد، فأمره بالتفكر والتدبر حتى يشعر بإنسانيته عندما يعمل عقله ويتحمل مسئولية اتخاذ قراره، بل إن أول ما يحرص عليه الإسلام هو التخلص من العبودية والخضوع لغير الله سبحانه وتعالى، وتقوية وتشجيع حرية النزوع الفطري في الإنسان إلى السمو والرقي، بدءا من حرية الاعتقاد وانتهاء بحرية الرأي والقول والفعل.
فمثلا: لم يفرض الإسلام على معتنقيه وأتباعه أفكارا معينة عن شكل الأرض، وعمر الإنسان على سطح الأرض، تخالف ما وصلت إليه حقائق العلم الثابتة، وقال لهم: إن هذه أفكار مقدسة؛ لأنها منزلة من عند الله، ومن خالفها فهو كافر ملحد، كما في بعض ديانات غير المسلمين، بل على العكس من ذلك، نجد القرآن يدعو إلى العلم، واكتشاف حقائق الكون، يقول الله سبحانه وتعالى: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)( (يونس)، ويقول سبحانه وتعالى: )يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11)( (المجادلة)، ويقول سبحانه وتعالى: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28)، ويقول سبحانه وتعالى: )قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون( (الزمر: 9)، ولا يوجد دين دعا إلى تقدير العلماء واحترامهم مثل الإسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»[1]، أو «كفضل القمر على سائر الكواكب»[2]، ويقول أيضا: «إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم»[3].
ثانيا. إعلاء القرآن من شأن العقل البشري:
لا يزال القرآن يخاطب العقول ويوجهها إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض. قال الله سبحانه وتعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت:20)، وقال سبحانه وتعالى: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190)( (آل عمران)، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق( (الروم: 8)، كل هذا وغيره كثير يؤكد تلك الحقيقة، وهي دعوة الإسلام إلى صحوة العقل، واستخدامه في البحث والاكتشاف والاختراع، على عكس ما يدعي هؤلاء، وما كان الإسلام ليدعو أتباعه لاستخدام العقل، ثم يسلب منهم حريتهم، وكرامتهم، ولو كان ذلك صحيحا لما دعاهم إلى استخدام العقل والفكر، بل كان يدعوهم إلى ترك عقولهم جانبا وعدم استخدامها في شيء، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، فلقد نعى على الكفار تقليدهم الأعمى بدون حجة أو برهان، قال سبحانه وتعالى: )قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة).
بل إن القرآن يرفض أن يقبل الإنسان شيئا وهو غير مقتنع به، حتى الدخول في الإسلام نفسه؛ بل إن الإسلام قد حرم إكراه أحد على الدخول فيه ما دام غير مقتنع وأمر بترك حرية الاختيار للناس جميعا في أعظم الأمور شأنا وهو الدين قال سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، وقال سبحانه وتعالى: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29)، فهل ثمة بعد ذلك حرية؟ وهل يوجد على وجه الأرض دين أو هيئة أو منظمة أو جماعة، أطلقت مثل هذه الحريات؟ فكيف يدعي هؤلاء أن الإسلام يسلب حرية أتباعه، ومن أين أتوا بهذا الكلام، وما دليله عندهم؟! ألم يقرءوا تلك الآيات السابقة؟
يحسن بنا أن نعرض لما كتبه العقاد في كتابه “التفكير فريضة إسلامية” تحت عنوان “فريضة التفكير في كتاب الإسلام” يقول: من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين؛ لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحساب ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء، وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف. ففيكتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو ضمنية إلى العقل، أو إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضا غير مقصودة، وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والإنكار.
ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل إنها تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله، وقبول الحجر عليه، ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته؛ فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي، أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مادة “عقل” التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر، فإن كلمة “مايند” Mind وما خرج من مادته في اللغات الجرمانية، تفيد معنى الاحتراس والمبالاة وينادي بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه، ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس.
ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور، وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي، وإدراك أسبابه وعواقبه، تستقل أحيانا بإدراك الأمور مما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي، أو بالحسنات والسيئات.
ومن خصائصه أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة “الحكم” وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه.
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني “الرشد”، وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد، حيث لا نقص ولا اختلال، وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك.
وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر عرضا مقتضبا، بل يذكره مقصودا مفصلا، على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان.
فمن خطابه إلى العقل عامة – ومنه ما ينطوي على العقل الوازع – قوله سبحانه وتعالى: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)( (البقرة).
ومنه قوله سبحانه وتعالى: )وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون (80)( (المؤمنون). ومنه قوله سبحانه وتعالى: )ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27) ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28)( (الروم).
ومنه قوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109)( (يوسف).
ومنه بيانا لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم: )تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (14)( (الحشر).
وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر، وتنتهي إلى التذكير بالعقل؛ لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان، كقوله سبحانه وتعالى: )أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)( (البقرة)، وكقوله سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65)( (آل عمران)، وكقوله سبحانه وتعالى: )وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)( (المائدة)، وفي قوله سبحانه وتعالى: )وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32)( (الأنعام)، وقوله سبحانه وتعالى: )يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51)( (هود)، وقوله سبحانه وتعالى: )أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67)( (الأنبياء)، وفي غير هذه السورة الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي، وهما أعم وأعمق من مجرد الإدراك. وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم، فهو خطاب إلى اللب – هذا العقل المدرك – الفاهم؛ لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان كما يدل عليه اسمه باللغة العربية. وقال سبحانه وتعالى: )والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)، وقال سبحانه وتعالى: )قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (100)( (المائدة)، وقال سبحانه وتعالى: )الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (18)( (الزمر)، وقال سبحانه وتعالى: )لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب( (يوسف:111)، وقال سبحانه وتعالى: )يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب (269)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة).
ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى، وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء، ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث، والتمييز بين الحسن والأحسن في القول.
أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والرؤية، فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى، فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم، وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول – كما قدمنا – ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى.
قال سبحانه وتعالى: )ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض( (آل عمران: 191)، وقال سبحانه وتعالى: )قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)( (الأنعام)، وقال سبحانه وتعالى: )ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)( (النحل(، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق( (الروم: 8)، )نظـر كيـف نصـرف الآيـات لعلهـم يفقهـون (65)( (الأنعام)، وقال سبحانه وتعالى: )أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء( (الأعراف: 185)، وقال سبحانه وتعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)( (يونس)، وقال سبحانه وتعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)( (ق)، وقال سبحانه وتعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17)( (الغاشية)، قال سبحانه وتعالى: )من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72)( (القصص)، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27)( (السجدة)، وقال سبحانه وتعالى: )والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13)( (آل عمران)، وقال سبحانه وتعالى: )أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68)( (المؤمنون)، وقال سبحانه وتعالى: )أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته( (ص: 29)، وقال سبحانه وتعالى: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)( (محمد)، وقال سبحانه وتعالى: )فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار (2)( (الحشر)، وقال سبحانه وتعالى: )ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون (221)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126)( (الأنعام)، وقال سبحانه وتعالى: )أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب (19)( (الرعد)، وقال سبحانه وتعالى: )وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13)( (النحل)، وقال سبحانه وتعالى: )أو يذكر فتنفعه الذكرى (4)( (عبس)، وقال سبحانه وتعالى: )فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43)( (النحل)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون (43)( (القصص)، وقال سبحانه وتعالى: )قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلـم والجسـم والله يؤتـي ملكـه مــن يشـاء والله واسـع عليـــم (247)( (البقرة: 247)، )وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97)( (الأنعام)، وقال سبحانه وتعالى: )قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون( (الزمر: 9)، وقال سبحانه وتعالى:)يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11)( (المجادلة)، وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)( (يونس)، وقال سبحانه وتعالى: )قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66)( (الكهف)، وقال سبحانه وتعالى: )خلق الإنسان (3) علمه البيان (4)( (الرحمن)، وقال سبحانه وتعالى: )الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)( (العلق)، وقال سبحانه وتعالى: )تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنـا ومـا يذكـر إلا أولــو الألبــاب (7)( (آل عمران).
بهذه الآيات وما جرى مجراها تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر، ويحسن الادكار والرواية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون، فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان، والشرائع، وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت والضلال، غير مسقطة للتكليف في الإسلام، وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير.
ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة؛ فيستحب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في الكتاب الكريم يدل عليها قوله سبحانه وتعالى: )ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا( (البقرة: ٢٦٩)، ويدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد ويبتغون علما به من عباد الله الصالحين، كما جاء في قصة موسى وأستاذه عليهما السلام.
والذي ينبغي أن نثوب إليه مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه، لم يأت في القرآن عرضا، ولا تردد فيه كثيرا من قبيل التكرار المعاد، بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره، ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه وعرف كنه الإنسان في تقديره[4].
ثالثا. تكريم الإسلام للإنسان:
القاعدة الأساسية في الإسلام أن الإنسان مكرم على سائر المخلوقات، قال سبحانه وتعالى: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء)، وهو خليفة الله في الأرض )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة: 30)، ولقد رفع الظلم عن الناس بتحريمه، فالله تعالى عدل لا يظلم، كما في الحديث: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا»[5]. وحق الحقوق بين الناس جميعا، فشرع حق الحاكم والمحكوم، وحق الزوج والزوجة، وحقوق الأبناء، وحقوق الجوار.. إلى غيرها مما شرع الإسلام من الحقوق التي كانت مهضومة ومسلوبة قبله، كحقوق المرأة، وحقوق الرقيق والضعفاء والمساكين، فأعاد لهم حقوقهم واعتبارهم وكرامتهم في المجتمع. فلن تأتي منظمة أو هيئة في العالم بمثل ما جاء به الإسلام في شأن حقوق المرأة، وحقوق الرقيق خاصة. فهل يقال بعد ذلك إن الإسلام يسلب أتباعه حريتهم وكرامتهم، إن هذا لإفك عظيم!
رابعا. لا رهبانية ولا واسطة في الإسلام:
ليس في الإسلام انقطاع الإنسان للعبادة والتبتل مطلقا، وعدم مراعاة شئون الحياة؛ لأن الطبيعة الإنسانية تأبى ذلك، وما كتب الله ذلك على بعض من قبلنا إلا لأنهم ابتغوا بها رضوان الله، ولكنهم لم يرعوها حق رعايتها، وحدث الفساد الخلقي داخل دور العبادة عندهم أبشع بكثير مما يجري خارج المجتمع على أيدي الفساق والمنحلين[6].
وليس في الإسلام وساطة بين العبد وربه، يحتكرها بعض الناس، ولا يستطيع غيرهم أن يتصلوا بربهم إلا عن طريق هؤلاء الكهنة، ولا تقبل منهم التوبة والاستغفار من الذنوب إلا بالجلوس أمام الكاهن على كرسي الاعتراف، وإعلان الكاهن بقبول توبته، إنما جعل الإسلام علاقة العبد بربه مباشرة، وحرم اتخاذ الوسائط حتى ولو كانوا أولياء، فلا ينجو الإنسان إلا بعمله.
ليس للحاكم ولا رجال الدين في الإسلام أن يفرضوا على الناس العشور؛ أي أن يقدم الناس لهم عشر ما لهم هبة خالصة لهم من دون الله، فهي ليست لله ولا للمساكين، إنما ليعيش بها رجال الدين في بزخ لا يحلم به الأباطرة في عصر من العصور.
وليس في الإسلام أن يفرض الحاكم أو رجال الدين السخرة على الناس، أي: أن يعملوا في فلاحة الأرض المملوكة لهم سخرة بغير أجر يوما كل أسبوع، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى مع أعدائه اليهود بعد هزيمتهم في خيبر أعطاهم الأرض يعملون فيها مزارعة، أي: مقابل نسبة من إنتاجها.
وليس في الإسلام أن يتعين على الناس أن ينحنوا عند مرور الحاكم أو الكاهن بهم حتى تلتصق جباههم بالأرض، ولو كانت الأرض مملوءة بالوحل والطين. وليس فيه صكوك غفران يبيعها رجال الدين للناس؛ ليغفروا لهم ذنوبهم ويدخلوهم الجنة، مقابل مبالغ مادية معينة من المال.
إن الحاصل في الإسلام أن من أراد أن يرجع عن ذنوبه فعليه بالتوبة إلى الله تعالى بشروطها، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يعلن أنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا، ولا حتى نفسه، إلا أن يتغمده الله برحمته، بل يقرر أن قرابته ونسبه من أحد لن ينفعه إذا لم يسرع به عمله.
ونجده – صلى الله عليه وسلم – ينهى أصحابه عن الغلو في مدحه، ويقول: «فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»[7]. ويهدئ من روع رجل هابه حين لقيه ويقول له: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد»[8] [9]. وحينما يريدون صنع طعام لا يتعالى على أصحابه، بل يشاركهم ويقوم بأصعب عمل، وهو جمع الحطب، ويستشير أصحابه في السلم والحرب، ولا يفرض رأيه عليهم، كما في غزوات: بدر وأحد والخندق، ويأخذ بمشورتهم، وقد أمره الله تعالى بذلك فقال: )وشاورهم في الأمر( (آل عمران: ١٥٩)، وأثنى على المؤمنين المتصفين بهذه الصفة فقال: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى: 38).
ومضت الأمة على ذلك، فكان أبو بكر – رضي الله عنه – يستشير أصحابه في كل شأن لم ينص عليه في الدين، فاستشارهم في جمع القرآن، وكان يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعرف شيئا من شئون الدين أو الدولة، وكان عمر – رضي الله عنه – يأخذ برأي رعيته، ويعلن صواب من أصاب منهم، ويعلن خطأه في شجاعة، وقصة المرأة التي اعترضته وهو يخطب في شأن المهور، وأعلن خطأه عقب ذلك قائلا: “أصابت امرأة وأخطأ عمر” قصة مشهورة.
وعلماء الدين في الإسلام لا وصاية لهم على أحد، فليس لهم حق إلهي ولا عصمة، ولا يملكون الغفران أو الحرمان، ولكنهم يقدمون للناس دين الله الذي عرفوه، وتبقى مسئولية الإنسان عن نفسه أمام ربه.
أما التعاليم والتكاليف التي جاء بها الإسلام في صورة أوامر ونواهي، فليست فيها أي قيود على أحد؛ فهي أمور لتزكية النفس وتطهيرها، وصون المجتمع من الفساد والرذيلة، وحفظ حقوق الناس من: أنفس وأموال وأعراض ودماء، فما شرع القصاص إلا لحفظ الدماء والأنفس وضمان عدم التعدي على الآخرين، وما شرع حد الزنا إلا لحفظ الأعراض، وضمان عدم التعدي عليها، وما شرع قطع اليد للسارق إلا لضمان حفظ أموال الناس… إلخ. وما شرعت العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج إلا لتطهير النفس وتزكيتها، قال سبحانه وتعالى: )إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( (العنكبوت: 45)، قال سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم( (التوبة: 103).
هذا بالإضافة إلى الأسرار والمقاصد والحكم الأخرى من وراء هذه التشريعات والتي خاض في ذكرها العلماء ولا يتسع المقام هنا لسردها.
إن الدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة[10]، ولا يتوسط فيه السدنة[11] والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسمو به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة؛ فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها الحاكمين بأمر الإله المعبود فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى.
لا هيكل في الإسلام: )فأينما تولوا فثم وجه الله( (البقرة: ١١٥)، ولا كهانة فيه حيث لا هيكل، فكل أرض مسجد، وكل من في المسجد واقف بين يدي الله، ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب – بداهة – إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم، كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه ويحاسبه بعمله، فلا يؤخذ أحد بعمل غيره، قال سبحانه وتعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: 164)، )كل امرئ بما كسب رهين (21)( (الطور)، وقال سبحانه وتعالى: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40)( (النجم).
فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو يجتبي المرء قبل مولده؛ لأنه مولود فيها، أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد، أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك إلى سعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل أن الله بكل شيء محيط، فإن خلق الإنسان العاقل لا يسلبه القدرة على التفكير، ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير.
وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة، ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم، فإنها لوصايا منطقية في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد[12].
خامسا. محدودية عمل العقل الإنساني:
- حدود الإدراك العقلي في القضايا العقدية:
العقل منحة ربانية أعطاها الله للإنسان، بيد أن لها عملا محدودا، وعن هذا العمل يحدثنا د. عبد الرحمن الزنيدي فيقول: العقل ذو طبيعة محدودة من حيث نوعية المعقولات، فالعقل في هذا النطاق يستطيع معرفة كثير منها على وجه صحيح لا زيف فيه من حيث طبيعته هو، وفي مقابل ذلك هناك أشياء أخرى ليس في طاقته علمها؛ لأنها تتجاوز حدود هذه الطاقة، كالبصر، ففيإمكانه رؤية أشياء في عالمنا المادي كثيرة على وجه صحيح لا تزوير فيه، لكن طاقته تكل عن إدراك أشياء أخرى كوجه الله سبحانه، فإذا جاء يوم القيامة أمد الله المؤمنين بقوة إبصار تفوق هذه القوة، فرأوا ربهم عيانا، لعل هذا الإمداد يتجاوز البصر إلى سائر مدارك الإنسان، ومنها العقل.
كذلك، فإن العقل نسبي من جانبه الكسبي، نتيجة المؤثرات الخارجية من جهة، وحركته من جهة أخرى، فالنسبية من هذا الجانب تتطرق إلى الذات العارفة، سواء كانت مصدرا أم وسيلة، في مجال معرفة حقائق الوحي – خاصة السمعيات – ومن هنا انتقد علماء السلف المتكلمين والفلاسفة، الذين سعوا جهدهم للوصول إلى علم مطلق في حقائق العقيدة – لا يقدر عليه إلا الله – فكان نصيبهم الإخفاق، وقيدوا – علماء السلف – العلم المطلوب بأنه بقدر الطاقة البشرية، وفي حدود قوى الإنسان المتاحة له، واعتبروا ما تحت هذا القيد كافيا في إيصال الإنسان إلى مستوى من اليقين، لا يتحقق في كثير من معارفه الأخرى، كما أنه كاف في تحقيق مطلوب الشرع من الإنسان.
يقول الشاطبي: إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك المطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان، وما يكون، وما لا يكون، لو كان كيف يكون، فالشيء الواحد من جملة الأشياء، يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أحكامه، ولا في أحواله، بخلاف العبد، فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص.
بل إن القرآن قد أوضح المسالك التي يسلكها العقل ليصل إلى هذه الحقائق، فيعرف أنها حق، وأن ما سواها باطل، كما نبه – سبحانه وتعالى – إلى المواقع التي تصد عن السير في تلك السبل، أو عن الوصول إلى الحقيقة، أو تحجبه عنها، وذلك حينما أمر العقل بأن يتجرد للحق، ويتحرر من سلطان الأعراف، والعادات، التي تتوارثها المجتمعات حتى تصبح مسلمات جارية لا تقبل النقاش، ومن ثم تكبل العقل عن الانطلاق، ورؤية الحق إذا ما خالفها، حيث تكتسب قداسة بتواطؤ الآباء والأجداد عليها.
لهذا ندد القرآن كثيرا بالجمود على أعراف ليس لسلطانها سبب إلا وراثتها عن السابقين: )وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23) قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)( (الزخرف)، كما يحرر العقل من سلطان القوى المهيمنة في المجتمعات سواء كانت سيطرة المنحرفين من الذين يتكلمون باسم الدين، أو لرجال السياسة الغاوين، أو للإعلام المضل.
فالإدراك المطلوب الذي يتعلق بتلك الحقائق يرتبط بإثبات وجودها أو وجود ما أثبت لها، وما يترتب عليه من آثار وصفات، دون أن تنظر إلى ما وراء ذلك، بتعقل الكيفيات التي يترتب عليها من آثار وصفات هذه الأشياء الغيبية؛ لأن العقل قاصر عن التكييف الصحيح لهذه الأشياء؛ وذلك أنها خارجة عن نطاق الزمان والمكان والمادة، المحدود بها عقل الإنسان، والذي لا يستطيع تجاوزها، مهما حلق به الخيال؛ لأنه سيركب لماهية هذه الأشياء من الأجزاء التي يأخذها من عالم المادة، ولهذا نهى الشرع، والسلف عن ذلك، قال ـ سبحانه وتعالى ـ: )ليس كمثله شيء( (الشورى:11)، وقال أيضا: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء). وكما جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله عز وجل»[13].
ولهذا كان عاقبة الذين أجهدوا عقولهم بالبحث في حقائق صفات الله – سبحانه وتعالى – وأفعاله أن تخبطوا، وقاسوا الله على خلقه، وأوجبوا عليه أشياء، وقبحوا صدور أشياء منه، وحسنوا أخرى إلى ذلك، ولعل حوار أبي الحسن الأشعري حين كان معتزليا[14] مع شيخه الجبائي يعكس لنا مدى ما وصلوا إليه من تكييف لصفات الله يقوم على تنظيرها وفق الحدود البشرية، سأل أبو الحسن عن ثلاثة إخوة ماتوا: مؤمن، وكافر، وصبي، ما عاقبتهم؟
أجاب الشيخ الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة، فسأل الأشعري ولم؟ فقال الجبائي: لأنه يقال: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليست لغيره، فرد الأشعري قائلا: فإذا قال الصبي لم أقصر، ولكني مت قبل أن أتمكن من عملها، فقال الجبائي: إن الله يقول له: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت، فكانت مصلحتك في الموت صغيرا، فرد عليه الأشعري: فإذا قال الكافر: ولماذا لم تراع مصلحتي أنا الآخر، فأموت صغيرا؟ فبهت الشيخ، ولم يجر جوابا.
وليس في هذا حجر على العقل الإنساني، ولكنه توجيه له أن يعمل في حدوده ومجاله الذي يدركه، وحفظ له من التيه والضياع في أودية ليس له فيها دليل، ولا هاد.. كما يعترف علماء الطبيعة أن كثيرا من الحقائق لا ندركها كما ندرك الأشياء المحسوسة، وإنما نعرفها عن طريق الاستنباط والتعليل، وكلاهما طريق فكري نبتدئ فيه بواسطة حقائق معلومة حتى ننتهي إلى أن الشيء الفلاني يوجد هنا، ولم نشاهده مطلقا، فلا نستطيع توصيف وضعيته. يقول السير آثر أدبختن (1944م): “نجد لكل شيء صورة ذات وجهين: أحدها ملحوظ، والآخر صورة فكرية، لا سبيل إلى مشاهدتها، بأي ميكروسكوب، أو تلسكوب”، فإذا كان هذا إقرار العلماء بعجز العقل عن إدراك ماهيات أشياء بين يديه أو في متناول أجهزته، فلا ريب أن حقائق عالم الغيب أبعد على العقل من أن يحيط بكنهها وماهيتها.
فقد تجلى منهج العقل في هذا الميدان من منظور إسلامي فيما يأتي:
- اعتماد الإسلام على الفطرة التي أودع الله في قرارتها هذا الدين حيث تكون عونا لصاحبها في عرفان الحق في هذا السبيل، في جانبها الإلجائي الذي تحدو به صاحبها للبحث عن الحق والالتزام به، وفي جانبها الإمكاني الذي عليه يقوم فهم العقل لكثير من مسائل العقيدة.
- وعندما يعرض لهذه الفطرة ما يحجب رؤيتها، فإن الأدلة العقلية التي جاء بها الوحي، بخصائصها التي تفرد بها، كفيلة بإيقاظ هذه الفطرة، وجلاء صدئها لتشرئب إلى الحق وتطمئن إليه.
- كما أن للعقل عملا فيما عرضه الوحي من قضايا العقيدة، يتمثل في تلقيها بصفتها هبة من لدن الله للإنسان، وتفهمها بقدر الطاقة البشرية.
- وهذا الإيمان والمعرفة إنما يتناول وجود هذه القضايا، دون الإغراق في تعقل حقائقها، وتكييفها، مما يضل فيه العقل عن الحق، ولا يجني فائدة.
- كما أن العلم المطلوب في هذا المجال ليس على الصورة التي فرضها المتكلمون ورسموها فيها، فالعلم محدود بحدود الطاقة البشرية، كما أن له طرقا عدة، وليس محصورا في القياس البرهاني وحده.
- حدود العقل في ميدان التشريع:
إن ثمة شروطا ضرورية يجب أن تتوفر في العقل الإنساني؛ ليكون مؤهلا للاستقلال بالتشريع للحياة البشرية، وهذه الشروط هي:
- العلم بحقيقة الإنسان كما هي في نفس الأمر.
- العلم بحقيقة الخير والشر على الإجمال والتفصيل.
- العلم اليقيني بما ستكون عليه الحياة البشرية في مستقبلها.
وقد تبين من خلال ما وجهته الدراسات النقدية للعقل أنه مخفق في الوفاء بتلك الشروط جميعا، حيث:
o بقي الإنسان عصيا على فهم العقل البشري له، لما ينطوي عليه من جانب وحي غيبي – ميتافيزيقي – لا يخضع لمناهج العقل التحليلية.
o أخفقت معايير القيم الخلقية وقوانين الأنظمة عن إقامة السلوك البشري على نحو تتحقق به سعادة الإنسان، وأمنه.
o لم يتجاوز هذا العقل في حكمه على مستقبل الحياة البشرية المتفردة في أحداثها – خلافا للمادة – الظن والتخمين.
ويضاف إلى ما سبق في مجال نقد العقل في هذا المجال شرط رابع وهو: تحرر العقل من التأثر بالأشياء الخارجية؛ بحيث لا يكون لها تأثير على ما يقدمه من أحكام، وهذا ما يصف به العلمانيون العقل الذي سيتولى تخطيط الأنظمة بنفسه، حيث يكون في حالة صفاء فطري خالص، وهو الصورة التي رسمها كانت للعقل الذي سيتسلم سلطة التشريع للأخلاق.
فهل يا ترى له وجود في عقل الإنسان الذي عاش في بيئة معينة، وتعلم علوما متنوعة، واكتسب ما شاء من ثقافات، وصار لصاحبه وضع اجتماعي ومادي معين، هل باستطاعة هذا العقل أن يتجرد من الهوى وحظ النفس، والعوامل الأخرى، فيستقرئ فطرته مباشرة؟!
الحقيقة التي تشهد بها الحياة البشرية أن العادة والوراثة والمصالح المباشرة والنوازع الغريزية والشهوات عوامل لا يستطيع العقل أن يتخلص من تأثيرها كلها أو بعضها.
ولقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه الحقائق، مبينا جهل الإنسان بنفسه، وبمستقبل حياته، وبحقيقة الخير والشر في الأفعال، وبتأثره بالعواطف.
فإذا ما تجاوزنا الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي في مدى أهلية العقل في هذا الميدان، وجدنا تاريخ التشريع، والنظم يشهد بصدق النتيجة التي أدت إليها المقدمات السابقة القاضية بعدم قدرة العقل على الاستقلال باعتباره مصدرا للمعرفة في هذا المجال، من خلال ما طبع الأنظمة التي قدمها من اختلال وتطرف وتأرجح ذات اليمين، وذات الشمال، وإفراط في جانب يقابله تفريط في الآخر، واستعباد من فئة لغيرها مما ليس في وسعنا أن نفيض فيه.
وحسبنا هنا قول دوفرجيه، الذي يعتبر أحد العمالقة في فقه القانون الدستوري في العصر الحديث: “إن القانون الوضعي كان دائما خادما للسلطة الحاكمة، تستخدمه لأغراضها، مخالفة بذلك الأوضاع الطبيعية؛ فهي إذا أرادت أمرا، فإنها تبادر إلى إصدار قانون، تقيد به حريات الناس، وتأكل به أموالهم، تحل به الحرام، وتحرم به الحلال”.
وبعد، فلا يبقى أمامنا سوى البحث عن مصدر آخر يحقق لنا ما عجز العقل عن تحقيقه، مصدر أعلى من العقل تتوفر فيه الشروط السابقة التي لم تتوفر في العقل، وما هذا المصدر سوى الوحي، الذي أنزله الله خالق الإنسان العليم بحقيقته، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد بين – سبحانه وتعالى – انفراد الوحي بمصدرية هذا المجال، وأن على الإنسان أن يتجاوز مصادره الضعيفة ليتلقاه منه، قال سبحانه وتعالى: )إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)( (النجم).
كما بين – عز وجل – أن من تجاوز هذا الوحي إلى غيره فقد أقحم نفسه في ميادين ليس فيها سوى الاضطراب والشقاء: )بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)( (ق). أي: في أمر مضطرب لا ثبات له ولا قرار، وهو الباطل الذي مالوا إليه بعد أن حادوا عن الحق، ومن هنا فقد تكفل الوحي بهذا الميدان كما تكفل بسابقه ميدان العقيدة.
وخلاصة القول في مجال العقل في ميدان الشريعة أن الله عز وجل قد أودع في فطرة الإنسان معرفة الحسن والقبح، والخير والشر، لكن هذه المعرفة لا تتجاوز معرفة القيم في جملتها، دون تفاصيلها، وحسبها أن تكون مهيأة لاستقبال العلم اليقيني فيها من الوحي، وأن تكون شاهدا في النفس على صدق هذا العلم. وقد أنيطت بالعقل مهمة البحث عن الحكم الشرعي واستخراجه من الشريعة التي جاء بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتكييف الواقع الإنساني على ضوئها بتطبيق أحكامها على الجزئيات الموجودة فيه، وملاحقة ما يجد من أحداث؛ لتبقى مربوطة بشرع الله.
ولعله من البين هنا أن هذا العمل المنوط بالعقل يتفق مع فطرته وحدود إدراكه، وأنه يختلف مع الاتجاه العقلي الذي فرض على العقل ما ليس في طاقته بأن يشرع ابتداء دون مدد يستقي منه أو ضوابط يسير في ضوئها[15].
الخلاصة:
- ادعاء أن الدين يسلب أتباعه حريتهم وكرامتهم، إن صدق على الأديان الباطلة، فإنه لا يصدق على دين الإسلام؛ لأنه جاء ليحرر الإنسان من عبودية غير الله، وأتاح له حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وأشعره بكرامته وإنسانيته، حينما جعله حرا في اتخاذ قراراته.
- القرآن دائما يخاطب العقول، ويوجهها إلى النظر في ملكوت السموات والأرض؛ لاستلهام العبرة والعظة، فكيف يدعوهم إلى ذلك، وهو يسلب منهم حريتهم وكرامتهم؟!
- آيات القرآن ترفض أن يقبل الإنسان شيئا، وهو غير مقتنع به، حتى الدخول في الإسلام نفسه؛ اعتبارا لإرادته واختياره، فكيف يتصور أن فيه سلبا لحرية الإنسان وكرامته؟!
- الإسلام هو الذي أعطى للإنسان كرامته ورد له حقوقه المسلوبة، بل فضل الإنسان على سائر المخلوقات واستخلفه في الأرض، بل إن تعاليمه سبقت كل مواثيق حقوق الإنسان، وقصرت دونها كل دساتير العالم في هذا المجال.
- ليس في الإسلام رهبانية، ولا واسطة بين العبد وربه، ولا سلطة لأحد على أحد، بل إن علماء الإسلام وحكام المسلمين كانوا مع رعيتهم سواء أمام الشريعة والقضاء.
- تعاليم الإسلام جاءت لتزكية النفوس وتطهيرها، وصون المجتمع من الفساد والرذيلة، وحفظ حقوق الناس، وليست فيها أي قيود.
- اعتماد الإسلام على الفطرة التي أودع الله في قرراتها هذا الدين؛ لتكون عونا لصاحبها في معرفة الحق والالتزام به.
- العقل له حدوده الإدراكية، وهناك أمور أبعد من أن يحيط بكنهها وماهيتها، كأمور الغيب، وكذلك لا يستقل بالتشريع في الحياة البشرية، إنما يفهم مرادها، ولا تصطدم بمبادئه وفطرته السوية.
(*) بين الدين والحياة في رحلة قطار، د. عبد الحليم حفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
[1]. صحيح: أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله (289)، والترمـذي في سننـه، كتـاب العلـم، بـاب في فضـل الفقـه على العبـادة (2685)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4213).
[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، باقي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (21763)، وابن ماجه في سننه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة ـ رضي الله عنه ـ والعلــم، بـاب فضـل العلمـاء والحـث على طلـب العلم (223)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (182).
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، باقي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (21763)، وابن ماجه في سننه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة ـ رضي الله عنه ـ والعلــم، بـاب فضـل العلمـاء والحـث على طلب العلـم (223)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (182).
[4]. التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، دار القلم، القاهرة، ط1، د. ت، ص5: 19.
[5]. أخرجـه مسلــم في صحيحـه، كتـاب البـر والصلـة والآداب، بـاب تحريـم الظلـم (6737).
[6]. انظر: ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص147.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم: ١٦) (3261)، وفي موضع آخر.
[8]. القديد: اللحم المقطع والمملح المجفف في الشمس.
[9]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة ق (3733)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1876).
[10]. الكهانة: حرفة الكاهن، وهي ادعاء معرفة الأسرار أو أحوال الغيب.
[11]. السدنة: جمع سادن، وهو الحاجب.
[12]. التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، دار القلم، القاهرة، ط1، د. ت، ص19: 21.
[13]. حسـن: أخرجـه الطبرانـي في المعجـم الأوسـط، بـاب الميـم مـن اسمـه محمــد (6319)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في الإيمان بالله عز وجل، فصل في الإشارة إلى أطراف الأدلة في معرفـة الله ـ عز وجل ـ في حـدث العالــم (120)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1788).
[14]. المعتزلي: نسبة إلى المعتزلة، وهم فرقة من الفلاسفة المسلمين تعد أول مذهب في علم الكلام الإسلامي، اعتمدت على المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية، نشأت في البصرة في أواخر القرن الأول الهجري، ويرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري حينما سئل الحسن عن مسألة “مرتكب الكبيرة”.
[15]. مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتبة المؤيد، السعودية، ط1، 1424هـ/ 1992م، ص405: 415.