دعوى أن السنة لا تصلح للاحتجاج في الدرس اللغوي
وجوه إبطال الشبهة:
1) مما لا شك فيه أن كثيرا من علماء اللغة قد استشهدوا بأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسائل اللغة، وإن حدث أن بعض العلماء القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فإنما كان ذلك لعدم معرفتهم وقتئذ بهذا العلم الدقيق – علم رواية الحديث ودرايته؛ لأن تحصيله يحتاج إلى فراغ وطول زمان.
2) إن رواية الحديث بالمعنى لا تشوش على طراوة أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعانيها ذلك أن من تولاها كان من الصحابة، وهم العرب الأقحاح الذين خبروا أساليب العربية ومعاني ألفاظها، وكذلك الشأن بمن روى بالمعنى من التابعين وأتباعهم، وشروط العلماء في ذلك مقررة معلومة, وأهمها: الإحاطة بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها بحيث لا تؤدي إلى اختلاف المعنى.
3) إن اعتذارهم بأعجمية بعض الرواة في عدم الاحتجاج بالحديث اعتذار واه لعور منطقهم في الاستدلال؛ ذلك أن أعجمية الراوي لا تقف حائلا للاحتجاج بحديثه لا سيما وقد أجاد العربية ونبغ فيها، فضلا عن أن وقوع اللحن في بعض المروي لا يؤثر إذ غربلها الجهابذة من العلماء.
التفصيل:
أولا. إن عدم استدلال بعض اللغويين القدامى بالحديث، كان لعدم خبرتهم بعلم رواية الحديث ودرايته، أما من درس هذا العلم فإنه أكثر من الاستشهاد بالحديث في اللغة:
بداية نشير إلى أن الإجماع قائم على صحة الاستشهاد بالحديث في اللغة بين القدامى والمحدثين, فلو ذهبنا نتصفح كتب اللغة قاطبة لرأينا الأحاديث النبوية منثورة فيها بكثرة مستفيضة، سواء منها المتواتر وغير المتواتر.
فمن اللغويين الذين استشهدوا بالحديث في مسائل اللغة:
أبو عمرو بن العلاء، والخليل، والكسائي، والفراء، والأصمعي، وأبو عبيدة، وابن الأعرابي، وابن السكيت، وأبو حاتم، وابن قتيبة، والمبرد، وابن دريد، وأبو جعفر النحاس، وابن خالويه، والأزهري، والفارابي، والصاحب بن عباد، وابن فارس، والجوهري، وابن بري، وابن سيده، وابن منظور، والفيروزآبادي، وغيرهم.
واستنادا إلى ذلك كله جاء قول “ابن الطيب الفاسي” حيث يقول: “ذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف جمع من أئمة اللغة، منهم: ابن مالك، وابن هشام، والجوهري، وصاحب البديع، والحريري، وابن سيده، وابن فارس، وابن خروف، وابن جني، وابن بري، والسهيلي، وغيرهم ممن يطول ذكره[1].
حتى ولو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث، فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به؛ إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به, كما أنهم لم يصرحوا برفض الاستشهاد به, بل يمكننا القول بكل صراحة: إن عدم استدلال بعضهم بالحديث على أنه مرفوع للنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعني أنهم لا يجيزون الاستدلال به، وإنما يعني عدم خبرتهم بهذا العلم الدقيق، وهو علم رواية الحديث ودرايته؛ لأن تحصيله بحاجة إلى فراغ، وطول زمان، كما يعني عدم تعاطيهم إياه[2].
ويعلل الدكتور صبحي الصالح عدم كثرة احتجاج بعض أئمة النحو المتقدمين بالحديث؛ بأن ذلك عائد إلى أن كتب الحديث لم تكن متوفرة لغير ذوي الاختصاص في ذلك الحين, ولولا ذلك لاقتصروا على الاستشهاد بها دون الأشعار, وقد تلافى المتأخرون هذا, فكانوا يحتجون دائما بأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيقول: على أنا نلتمس بعض العذر للمتقدمين من أولئك اللغويين والنحويين – فنرى شح المورد، وندرة الرواية، وقلة التصنيف، من أقوى الأسباب التي حملت القوم على انتجاع الجدب في غير الحديث والخصب محيط بهم من كل جانب فيما صحت يومئذ روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ضوء هذا التفسير يمكننا أن نفهم سر الامتناع عن الاحتجاج بالحديث الذي عزوه إلى واضعي النحو الأولين كأبي عمرو بن العلاء وسيبويه والكسائي والفراء…. كما أنا في ضوء هذا التفسير نفسه، يمكننا أن نفهم سر احتجاج المتأخرين من اللغويين بأحاديث الرسول في معجماتهم التي اشتملت على أنقى الألفاظ وأفصحها مصحوبة بشروحها وشواهدها، كما في “تهذيب” الأزهري، و”صحاح” الجوهري، و”مقاييس” ابن فارس، و”فائق” الزمخشري، وكما في مسائل كبار النحويين كابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي…[3].
وعليه فإن للرواد الأوائل من دارسي النحو، في القرن الأول ومفتتح القرن الثاني للهجرة عذرهم في عدم الاعتماد على الحديث؛ لأن عملية الجمع كانت في بداياتها[4].
أما ابن مالك – الذي أكثر من الاستشهاد بالحديث – فهو إمام في الحديث، بالإضافة إلى إمامته في علم العربية، وهذا هو السبب الذي حدا به إلى الاستشهاد بالحديث.
قال “الصلاح الصفدي”: كان – ابن مالك – أمة في الاطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب”[5].
كما أننا يمكننا أن نضيف سببا آخر لقلة استشهاد بعض القدماء بالحديث النبوي في الدرس اللغوي وهو قلة خبرتهم بعلم الحديث رواية ودراية مما جعلهم يتحرجون من رواية الحديث خوفا من الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما كان الرعيل الأول من الرواة العلماء فاختاروا لأنفسهم السلامة في دينهم ورعا واحتياطا، ولا ريب أنهم في رواية الشعر كانوا أسلم منهم في رواية الحديث… أي نعم: إنهم لم يكونوا متساهلين في رواية شيء وأنهم حاولوا ما وسعهم الأمر أن يكونوا في كل ما يروون صادقين حذرين محتاطين، ولكن حزم أهل الحديث لم يكن يدركهم إذا أرسلوا مسندا، أو أسندوا مرسلا، أو قطعوا موصولا، أو وصلوا مقطوعا، أو أدخلوا رواية في رواية، فإن لهم العذر على كل حال، وإنما يتمثل هذا العذر في أخذ معظمهم أخبار الأدب وشواهد النحو واللغة من رجال لم يشهدوا العصر الجاهلي[6].
وإذا عزا بعضهم السبب في ترك بعض العلماء القدامى الاحتجاج بالحديث إلى عدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم[7]، فلم يكن قد انتشر علم نقد الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها؛ إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية، فإن ذلك أيضا راجع إلى قلة دراستهم ودرايتهم بعلم الحديث.
ومن ثم فلا عجب في أن يتدارك المتأخرون ما فات المتقدمين، بل إن ذلك هو المنتظر المعقول؛ إذ كان العالم من الأوائل يعلم روايات محدودة، وخيرهم من صنف مفردات اللغة في موضوع واحد كالأصمعي مثلا, ثم جاءت طبقة بعدهم وصل إليها كل ما صنف السابقون، فكانت أوسع إحاطة، ثم جاءت طبقة بعد طبقة، وألفت المعاجم بكل ما اطلع عليه أصحابها من تصانيف ونصوص غاب أكثرها عن الأولين، فكانوا أوسع علما؛ ولذلك نجد ما لدى المتأخرين من ثروة نحوية، أو لغوية، أو حديثية شيئا وافرا مكنهم من أن تكون نظرتهم أشمل وأحكامهم أسد.
وعليه فلو كانت هذه الثروة الحديثية في أيدي الأقدمين كأبي عمرو بن العلاء، وسيبويه، والأصمعي، لعضوا عليها بالنواجذ ولأثروا بها – فرحين مغتبطين – كثيرا من قواعدهم التي صاحبها – حين وضعها – شح المورد، إذ لم يكتمل تصنيفها في عصرهم.
ولعل هذا الأمر جعل الأئمة والعلماء بعد ذلك يكثرون من الاستشهاد بالحديث في النحو، ومن هؤلاء: الزمخشري (ت: 538هـ)، وعز الدين الزنجاني، وناظر الجيش، وأبو علي الشلوبيني، وابن الشجري، وابن يعيش (ت: 643هـ)، وعلم الدين السخاوي (ت: 643هـ)، والرضي (ت:682 هـ)، والأشموني، والكافيجي، وابن عقيل، والشيخ الأزهري (ت: 909 هـ)، وغيرهم.
وأكثر السهيلي (ت: 581هـ) من الاستشهاد بالحديث في كتابه “أمالي السهيلي” في النحو، واللغة، والحديث، والفقه، فقد ذكر فيه أربعا وسبعين مسألة، وتناول مشكلات وقعت في الحديث، وأغلبها مشكلات نحوية ولغوية.
وفاقهم في ذلك كله “ابن مالك” وبلغ الذروة في كتابه “التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح” فقد عقده للأحاديث التي يشكل إعرابها في الجامع الصحيح للبخاري، وذكر لها وجوها يستبين بها أنها من قبيل الكلام العربي الصحيح[8].
ومن يرجع إلى كتب ابن هشام، كالقطر والشذور، أوشرح ابن عقيل، أو الخصائص لابن جني، أو لسان العرب لابن منظور، يجد كما هائلا من الحديث النبوي الذي سيق للاستشهاد به على مختلف الأغراض، مما يؤكد أن علماء النحو واللغة كانوا يثقون في مفردات وتراكيب الأساليب اللغوية، بما لا حصر له من كلامه صلى الله عليه وسلم[9].
ودعما لهذه الرؤية، فإن الحديث النبوي – نفسه – قد قامت حوله دراسات لغوية ذات شأن، ومعروفة لأهل العلم المعاصرين، منها:
- غريب الحديث للخطابي.
- غريب الحديث للهروي.
- الفائق في غريب الحديث للزمخشري.
- إعراب الحديث للعكبري.
وبعد كل هذا لو افترضنا – جدلا – أن عدم الاحتجاج بالحديث النبوي هو موقف النحاة واللغويين جميعا – وهذا لم يصح كما بينا – فهذا الموقف لا تأثير له على سلامة السنة من التزوير، فعلماء السنة والحديث – بلا شك – كانوا أشد ضبطا وأحكم منهاجا وأشد احتياطا من علماء اللغة في تمحيص الرواية، والتمييز بين صحيحها وعليلها[10].
ومن خلال ما سبق يتبين لنا فساد هذه الشبهة لضعف الحجة القائمة عليها، وتتأكد لدينا سلامة السنة النبوية وحجيتها وعظمة صاحبها صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. الرواية بالمعنى قليلة ولا تأثير لها على سلامة الأحاديث النبوية:
بداية لا بد لنا أن نعلم أن المذاهب في رواية الحديث بالمعنى قد تعددت، وقد تم تلخيص هذه المذاهب في مذهبين:
المذهب الأول: إن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز لمن لا يعلم مدلول الألفاظ في اللسان العربي ومقاصدها وما يحيل معناها، والمحتمل من غيره، وكذا المرادف، وذلك على وجه الوجوب بلا خلاف بين العلماء؛ لأن من اتصف بذلك لا يؤمن بتغييره الخلل، ووجب على من هذا حاله أن يروي الحديث بالألفاظ التي سمع بها مقتصرا عليها بدون تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص لحرف فأكثر، ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، ولا مشدد بمثقل أو عكسه؛ إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة، وتصرف على غير حقيقة في أصول الشريعة، وتقول على الله ورسوله بما لم يحط به علما.
أما من كان عالما بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرا بما يحيل معانيها، بصيرا بمقادير التفاوت بينها، فاختلف فيه السلف وأصحاب الحديث، وأرباب الفقه والأصول، فالمعظم منهم أجاز له الرواية بالمعنى؛ إذا كان قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه سواء في ذلك الحديث المرفوع أو غيره.
المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقا، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين عارف بمعاني الألفاظ أو غير عارف، وهو مذهب كثير من السلف، وأهل التحري في الحديث، وهو مذهب الإمام مالك، ومعظم المحدثين، وهو مذهب الظاهرية.
ومن هنا يظهر لنا جليا أن الأصل في رواية الحديث روايته باللفظ للعالم بالألفاظ ومدلولاتها وغيره، والفرع هو الترخص في الرواية بالمعنى للعالم دون غيره، وهذا هو خلاصة المذهب الأول، وهو المختار عند الجمهور من السلف وأصحاب الحديث[11].
وقد كانت رواية الحديث بالمعنى موضع حرج شديد عند الرواة، فقد كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يتحرجون في الرواية بالمعنى؛ لأنهم وحدهم هم الذين رووا، ونقلوا ما سمعوه منه – صلى الله عليه وسلم – ولم يشاركهم في ذلك أحد.
أما التابعون وتابعوهم فهم الذين سمعوا الحديث من الصحابة، والصحابة مشهود لهم بالعدل والاستقامة بصريح القرآن في قوله عز وجل: )لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117)( (التوبة). وكذلك التابعون في قوله عز وجل: )والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100)( (التوبة).
وفي الحديث الصحيح: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[12].
وعن طريق هؤلاء البررة الكرام وصل إلينا كتاب الله العزيز، وعنهم أخذنا السنة النبوية الطاهرة، فهل يقع في وهم واهم أن هؤلاء الصفوة من الأصحاب، ثم التابعين يتهاونون في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وهل قاوم ظاهرة الوضع في الأحاديث، ووقف لها بالمرصاد إلا هؤلاء التابعون؟!
ثم إن الرواية بالمعنى، لم تقع بالصورة التي زعم أنها شملت الأحاديث كلها، بل إن الثابت أنها كانت ضرورة أو رخصة في أضيق الحدود، إذ اضطر الراوي إليها، وأنها كانت تقع في بعض الألفاظ – أحيانا – مثل وضع كلمة مكان أخرى تؤدي معناها، أو في أداة من أدوات العطف، وأنها لم تقع تعمدا ولا اختيارا، بل إذا نسي الراوي لفظا في حديث يسوقه للاستشهاد به على أمر، وأنها كانت تقع في الرواية الشفهية العابرة لا في تدوين الحديث وكتابته، وأن من كان يروي أمرا بالمعنى كان ينبه إلى تلك الرواية حتى لا يفهم السامع أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم[13].
وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن تجويز الرواية بالمعنى قد أحيط – عند المجوزين – بشروط لم تتوافر إلا في الصحابة والتابعين وكبار أئمة الفقهاء والرواة ممن كانت لغتهم سليمة وجبلتهم عربية، فلو غير أحدهم – وهو العربي المطبوع – لفظا بلفظ آخر مرادف له، لكان على النحاة تفضيله على غيره من كلام العرب، لأن تقلب صاحبه في البيئات العربية الفصحى لا يسمح قط بالتردد في قبوله والأخذ به؛ لذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في الشافعي: “إن كلامه في اللغة حجة”[14].
ومن ثم فإن قول المشككين بأن علماء اللغة اعتذروا عن الاستشهاد بالحديث لروايته بالمعنى أمر غير صحيح, لا سيما وقد استشهد به معظم النحاة واللغويين، خاصة بعد جمعه وتدوينه، وبذلك يتضح أن رواية الحديث بالمعنى لم يكن لها ضرر، كما يتبين أنها لم تكن مانعا من الاحتجاج بالحديث في الدرس اللغوي.
وإليك هذه الدلائل:
- أن الأحاديث أصح سندا من كثير مما ينقل من أشعار العرب؛ ولهذا قال “الفيومي” بعد أن استشهد بحديث: «فأثنوا عليه شرا»[15] على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر، قال: “قد نقل هذا العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم يكتفون بالنقل عن واحد، ولا يعرفون حاله”[16].
- أن المحدثين الذين ذهبوا إلى جواز الرواية بالمعنى اشترطوا في الراوي أن يكون محيطا بجميع دقائق اللغة، ذاكرا جميع المحسنات الفائقة بأقسامها، ليراعيها في نظم كلامه، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى على أن المجوزين للرواية بالمعنى معترفون أن الرواية باللفظ هي الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون في الكتب وفي حالة الضرورة فقط.
وقد ثبت أن كثيرا من الرواة في الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية، ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف.
- أن كثيرا من الأحاديث، دون في الصدر الأول – قبل فساد اللغة – على أيدي رجال يحتج بأقوالهم في العربية، فالتبديل على فرض ثبوته، إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه. فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ يصح كذلك.
- أن اللغويين احتجوا بالحديث في اللغة؛ لأجل الاستدلال على معاني الكلمات العربية, وهو ما دفع السهيلي إلى أن يقول: “لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا النذر القليل”[17].
واستنادا إلى ما سبق فلفظ الحديث في هذه الحالة أيضا حجة، ولم لا، وعلماء اللغة عندما جمعوا اللغة العربية النقية البعيدة عن الخطأ واللحن كانوا يذهبون إلى البوادي ليستمعوا إلى اللغة من فصحاء العرب، ومن بلغاء البادية مختارين القبائل التي اشتهرت بفصاحتها، مثل: قريش وتميم، وهذيل وأسد وغيرهم.
وكانوا يتحرون في اختيار الفصحاء، فلم يأخذوا إلا من الذي وثقوا في فصاحته، ولم يشكوا في مخالطته لغير العرب، وقد حدد العلماء بعض العصور التي أخذوا عنها اللغة، كالعصر الجاهلي، وصدر الإسلام، وبني أمية، حتى بداية القرن الثاني الهجري، ولم يلتفتوا إلى ما جاء بعد ذلك عن العرب من شعر ونثر، باعتبار أنه لا يحتج به، وكل هذا ينطبق على رواة السنة والأحاديث المروية؛ لأن الرواية بالمعنى كانت في القرن الأول قبل فساد اللسان العربي وعلى قلة وفي حدود ضيقة، هذا في الوقت الذي كانت فيه كتابات عديدة للصحابة في زمن النبوة وبعده، وكذلك كتابات التابعين فمن بعدهم حتى زمن التدوين الرسمي للسنة في القرن الأول نفسه، مما يرجح أن الذي في مدونات الطبقة الأولى لفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – نفسه، فإن كان هناك إبدال لفظ بمرادفه، فالذي أبدله عربي فصيح يحتج بكلامه العادي، حتى إذا دونت السنة المطهرة منع من الرواية بالمعنى وتغيير اللفظ المدون بلا خلاف كما قال ابن الصلاح[18].
وعلى ذلك؛ فلا مانع من الاحتجاج بالحديث النبوي حتى ولو كان مرويا بالمعنى، لما علمنا أن مرحلة الرواية بالمعنى كانت في عصر الفصحاء من الصحابة والتابعين.
ثالثا. لا تقف حجية السنة على أن بعض الرواة أعاجم، أو أن راويا قد لحن في الحديث، بل القدح يكون في هذا الراوي دون الحديث:
إن كون الراوي غير عربي لا يقوم وحده دليلا على رفض الاحتجاج بالحديث النبوي في الدرس اللغوي، فقد كان من أصدق مصنفي كتب الحديث دقة مثلا أناس من غير العرب كالبخاري ومسلم، ذلك أن “الإمام البخاري” هو صاحب أصح كتاب في السنة جميعها وأن “الإمام مسلم” هو صاحب ثاني أصح كتاب في السنة بعد صحيح البخاري، وما ذلك إلا لاعتمادها على أصح الأحاديث سندا ومتنا.
وعليه فما زعموه من وقوع اللحن في بعض الأحاديث بسبب عجمة بعض الرواة هو شيء – إن وقع – قليل جدا، لا ينبني عليه حكم، ولا يقوم بهذا الزعم حجة لأحد، ولا يصح أن يمنع من أجله الاحتجاج بالحديث الصحيح، ثم إن اللحن كان موجودا في غير نصوص السنة من موارد اللغة التي اعتمد عليها النحاة من شعر ونثر, ورغم ذلك فقد قبلت؛ لأن العبرة بغلبة العصر لا بلحن الأفراد, ولم يقل أحد أنه لا يحتج بهما في اللغة والنحو[19].
وتأكيدا لما سبق فإن أصحاب الكتب الشهيرة في الحديث النبوي، وأشهر المصنفين فيه كان معظمهم من بلاد غير بلاد العرب.
فكما ألمحنا آنفا، فقد كان البخاري من مدينة بخارى، إحدى مدن ما وراء نهر جيحون، على بعد ثمانية أيام من سمرقند في بلاد فارس[20]، وكذلك كان الإمام مسلم من نيسابور[21]، وها هو النسائي – صاحب السنن – كان من بلاد خراسان[22] وغيرهم كثير؛ لذلك خصص المباركفوري في مقدمة كتابه “تحفة الأحوذي” فصلا في أن علم الحديث أكثر من اهتم به هم الأعاجم.
ومن ثم فعجمتهم هذه لم تمنعهم من التصنيف والتدوين لكتب الحديث النبوي؛ إذ سخرهم الله تعالى حراسا أمناء للسنة يذبون عنها، ويذودون عن حياضها.
وبناء على ذلك، فلا ضير إذن من الاحتجاج بأحاديث الراوي غير العربي، متى أجاد اللغة العربية وأتقنها وتعلم قواعدها.
هذا وإن ادعاء اللحن في الحديث ادعاء باطل؛ لأنه إن أراد اللحن الذي هو الخطأ في الإعراب، بحيث لا يتخرج على وجه من الوجوه، فهذا لا وجود له في شيء من الأحاديث أصلا.
وإن أراد أنه على خلاف الظاهر كنصب الجزأين بـ “إن” ونحوه من الأحاديث الواردة على لغة من اللغات غير المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن قعر جهنم لسبعين خريفا»[23]، فهذا لا يضر؛ لأن القرآن العظيم – وهو متواتر – فيه آيات على خلاف الظاهر في الإعراب، ولم يدع أحد أن بها لحنا.
ولو افترضنا جدلا وقوع لحن في بعض الأحاديث المروية فهو من قبل الرواة غير الضابطين فيؤخذ بالرواية الصحيحة ويترك ما عداها من الروايات.
وهذا يظهر في تشدد النقاد في أخذ الرواة بضبط ألفاظ الحديث، حتى إذا لحن فيه شاد[24] أو عامي، أقاموا عليه النكير، بل إن بعضهم ليدخله النار بسببه، وكان هذا التشديد تقليدا متوارثا في حملة الحديث، حتى يومنا هذا.
قال الشيخ جمال الدين القاسمي: “من قرأ حديث رسول الله، وهو يعلم أنه يلحن فيه، سواء أكان في أدائه أم في إعرابه، يدخل في هذا الوعيد الشديد – يعني قوله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»[25]؛ لأنه بلحنه كاذب عليه”[26].
وأغلب الظن أن من لم يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر بهم الزمن إلى العهد الذي راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه، بعد القرآن الكريم، ولما التفتوا قط إلى الأشعار والأخبار التي لا تلبث أن يطوقها الشك إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة، ولجرى الاحتجاج بما صح منها دون قيد ولا شرط.
ويعرض د. طه الراوي للذين اعترضوا بوجود أعاجم في رواة بعض الأحاديث فيقول: “والقول بأن في رواة الحديث أعاجم ليس بشيء؛ لأن ذلك يقال في رواة الشعر والنثر اللذين يحتج بهما، فإن فيهم الكثير من الأعاجم، وهل في وسعهم أن يذكروا لنا محدثا ممن يعتد به أن يوضع في صف “حماد الراوية” الذي كان يكذب ويلحن ويكسر، ومع ذلك لم يتورع الكوفيون ومن نهج منهجهم عن الاحتجاج بمروياته، ولكنهم تحرجوا في الاحتجاج بالحديث”.
ويستدرك قائلا: “ثم لا أدري لم ترفع النحويون عما ارتضاه اللغويون من الانتفاع بهذا الشأن، والاستقاء من ينبوعه الفياض العذب الزلال، فأصبح ربع اللغة به خصيبا، بقدر ما صار ربع النحو منه جديبا:
وكان حالهما في الحكم واحدة
لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم[27]
وعليه فلا ضير إذن من الاحتجاج بأحاديث الراوي غير العربي، طالما أنه أجاد وأتقن العربية وقواعدها، وطبق عليه منهج المحدثين في النقد، وطريقتهم في التعديل والتجريح، وتدقيقهم في التحري في معرفة حقيقة الراوي وطوية نفسه.
الخلاصة:
- إن المتصفح لكتب اللغة قاطبة ليرى بكل جلاء كثرة الأحاديث المنشورة المستشهد بها, فمن اللغويين الذين استشهدوا بالحديث في مسائل اللغة: أبو عمرو بن العلاء, والخليل, والكسائي, والفراء, والأصمعي, وغيرهم كثير, أما من قل استشهاده بالحديث منهم – وهم بعض المتقدمين من النحاة – فلا يعني عدم استشهاده به عدم صحة الاستشهاد به, وإنما يعني عدم توفر كتب الحديث في ذلك الحين, كما يعني عدم درايتهم بعلم الحديث الذي يحتاج تحصيله إلى فراغ, وطول زمان.
- لم يكن لرواية الحديث بالمعنى أي ضرر يذكر على الصحة اللغوية للحديث؛ لأنها كانت في أضيق الحدود, وفي أحاديث قليلة جدا, وكان يتم بتبديل كلمة مكان كلمة دون أن تخدش المعنى؛ إذ إن هذا التبديل – رغم ندرته – قد قام به رجال يحتج بأقوالهم في العربية؛ لأن الرواية بالمعنى كانت في عصر الفصحاء من الصحابة والتابعين.
- إن ما زعمه هؤلاء من وقوع اللحن في بعض الأحاديث بسبب عجمة بعض الرواة لا يعد حجة يمنع من أجلها الاحتجاج بالحديث الصحيح؛ لأن هذا اللحن إن وقع لم يكن فاحشا يغير المعنى كما أن اللحن لم يكن مقتصرا على السنة النبوية فحسب, بل كان موجودا في كل موارد اللغة التي اعتمد عليها النحاة من شعر ونثر.
- دعوى أن بعض رواة الحديث أعاجم تنطبق على رواة الشعر والنثر فإن فيهم الكثير من الأعاجم, ولم يقل أحد أنه لا يحتج بهم, فما بالنا إذا علمنا أن هؤلاء الرواة – من الأعاجم – للأحاديث قد أتقنوا وأجادوا العربية وقواعدها, هذا فضلا عن المناهج القويمة التي اتبعوها في قبول المرويات ونقد الأحاديث بخلاف رواة الشعر الذين لم تكن لديهم مثل هذه المناهج في رواياتهم للشعر والأدب.
(*) دفاع عن الحديث النبوي, د. أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2000م. أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1999م. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث, محمد جمال الدين القاسمي، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م.
[1]. الحديث النبوي في النحو العربي, د. محمود فجال, مكتبة أضواء السلف, الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، ص101 بتصرف.
[2]. الحديث النبوي في النحو العربي, د. محمود فجال, مكتبة أضواء السلف, الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، ص109.
[3]. علوم الحديث ومصطلحه “عرض ودراسة”، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط17، 1988م، ص332بتصرف.
[4]. الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث, محمد حمزة، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2005م، ص268 بتصرف.
[5]. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة, السيوطي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1964م، (1/ 134).
[6]. علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط17، 1988م، ص326 بتصرف.
[7]. ولعل هذا الأمر جعل سيبويه يستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من غير نسبته إليه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك مثلا ما ذكره في كتابه (الكتاب): “وأما قولهم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه، هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. فهارس كتاب سيبويه, د. محمد عبد الخالق، ص762 نقلا عن: السنة النبوية في كتاب أعداء الإسلام مناقشاتها والرد عليها, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 389) بتصرف, والحديث أخرجه البخاري في صحيحه (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز, باب: ما قيل في أولاد المشركين, (3/ 290)، رقم (1385). ومسلم في صحيحه (بشرح النووي)، كتاب: القدر, باب: كل مولود يولد على الفطرة، (9/ 3772)، رقم (6631).
[8]. الحديث النبوي في النحو العربي, د. محمود فجال, مكتبة أضواء السلف, الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، ص106 بتصرف.
[9]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م ص139 بتصرف.
[10]. أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة, د. عبد العظيم المطعني, مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1999م، ص24 بتصرف.
[11]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 376).
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، (7/ 5)، رقم (3651). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، (9/ 3659)، رقم (6354).
[13]. أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1999م، ص22, 23 بتصرف.
[14]. علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط17، 1988م، ص329.
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت، (3/ 270)، رقم (1367).
[16]. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت، (1/ 86).
[17]. الحديث النبوي في النحو العربي, د. محمود فجال, مكتبة أضواء السلف, الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، ص111, 112 بتصرف.
[18]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 386, 387).
[19]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 387) بتصرف.
[20]. السنة النبوية وعلومها, د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص147.
[21]. السنة النبوية وعلومها, د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص197.
[22]. السنة النبوية وعلومها, د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص271.
[23]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: الأهوال، (4/ 631)، رقم (8749). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقالا: على شرط الشيخين، ومسلم في صحيحه (بشرح النووي) بلفظ “إن قعر جهنم لسبعون خريفا”، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (2/ 678)، رقم (474).
[24]. شاد: الشادي هو الذي أخذ طرفا من العلم.
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 244)، رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).
[26]. قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، القاسمي، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص173.
[27]. نظرة في النحو، مقال في مجلة المجمع العلمي بدمشق، ص325: 327، نقلا عن: الحديث النبوي في النحو العربي, د. محمود فجال, مكتبة أضواء السلف, الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، ص124.