دعوى أن المسيح وأمه إلهان مع الله عز وجل
وجوه إبطال الشبهة:
1) زعم النصارى أن الله ثالث ثلاثة هو دعوى باطلة بلا دليل.
2) المسيح – عليه السلام – بشر رسول كسائر الرسل، ولا يملك ضرا ولا نفعا لأحد.
3) إقرار المسيح – عليه السلام – بالعبودية لله في مهده ويوم القيامة.
التفصيل:
أولا. زعم النصارى أن الله ثالث ثلاثة زعم باطل:
أخبر الله – عز وجل – عن فريق من النصارى قالوا كفرا بربهم وشركا: الله ثالث ثلاثة، وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية، حيث كانوا يقولون: الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبا والدا غير مولود، وابنا مولودا غير والد، وزوجا متتبعة بينهما، وبذلك أرادوا أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، ويؤكد ذلك قول الله – عز وجل – للمسيح عليه السلام: )أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله( (المائدة: 116).
فقولهم )ثالث ثلاثة( (المائدة: ٧٣) أي: أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة، وعلى هذا التقدير، ففي الآية إضمار حيث حذف ذكر الآلهة؛ لأن ذلك معلوم من مذاهبهم. قال الواحدي: ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة، إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة، فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم، لقوله سبحانه وتعالى: )ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم( (المجادلة: 7).
فهذا هو الطريق الأول لتفسير قول النصارى: )ثالث ثلاثة(؛ أي: الله وعيسى ومريم، والطريق الثاني أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالآب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الآب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.
وهذا في الحقيقة معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى هذه.
وقد رد الله على هؤلاء مكذبا لافتراءاتهم فيما ادعوه من ذلك فقال: )وما من إله إلا إله واحد( (المائدة: 73)، أي ما لكم معبود أيها الناس إلا معبود واحد وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود بل هو خالق كل شيء، وخالق كل والد ومولود، ثم قال الله – عز وجل – متوعدا لهم ومتهددا: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)( (المائدة).
ثم يحتج الله لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – على فرق النصارى في قولهم في المسيح، بأنه ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة من النصارى في المسيح، فالمسيح ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهن، وذلك من صفة البشر، لا من صفة خالق البشر، وإنما هو رسول لله كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه من الآيات والعبر حجة له على صدقه وعلى أنه رسول من عند الله إلى من أرسله إليه من خلقه كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات، وأما أمه فصديقة صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها، كما قال الله – عز وجل – في صفتها: )وصدقت بكلمات ربها وكتبه( (التحريم: 12)، أو المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية، فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقا، قال سبحانه وتعالى: )فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين( (النساء: 69).
وهذا الوصف هو أعلى مقاماتها، قال الله سبحانه وتعالى: )ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة( (المائدة: 75)، ثم يذكر الله – سبحانه وتعالى – أن عيسى ومريم كانا يأكلان الطعام، فهما في حاجة إلى الغذاء من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، ومن احتاج إلى الغذاء احتاج إلى إخراجه، قال سبحانه وتعالى: )كانا يأكلان الطعام( (المائدة: 75)، والمقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى، وبيان ذلك من وجوه هي:
- أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها.
- أنهما كانا محتاجين؛ لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة أي إلى ما يغذوهما، وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب، والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون عيسى ومريم إلهين وهما محتاجان!
- قول بعضهم: إن قوله سبحانه وتعالى: )كانا يأكلان الطعام( كناية عن الحدث؛ لأن من أكل الطعام فإنه لا بد وأن يحدث.
- أن الإله هو القادر على الخلق والإيجاد، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين.
وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل؛ لذا قال – عز وجل – بعد ذلك: )انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)( (المائدة (فإنهم بعد هذا البيان الواضح والبرهان الساطع أين يذهبون وبأي قول يتمسكون، فأنى يصرفون عن الحق، فدل هذا على أنهم مصروفون عن تأمل الحق إلى الباطل والكذب والجهل؛ إذ العاقل لا يختار لنفسه ذلك.
ثانيا. المسيح بشر رسول كسائر الرسل ولا يملك ضرا ولا نفعا لأحد:
ومن ردود القرآن عليهم أيضا ما أنكره على هؤلاء النصارى الزاعمين أن المسيح ربهم، والمسيح لا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم إن أحله الله بهم، ولا يملك لهم نفعا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم، فكيف يكون ربا وإلها من كانت هذه صفته، بل الله هو المعبود الذي يملك ضركم ونفعكم، قال سبحانه وتعالى: )قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا( (المائدة: 76).
وهذا دليل على فساد قول النصارى من عدة وجوه هي:
- أن اليهود كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الإضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلها.
- أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه، ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه، ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها.
- إن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، ويكون كل ما سواه محتاجا إليه، فلو كان عيسى – عليه السلام – كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله – عز وجل – لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله، ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظبا على الطاعات والعبادات، علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره.
ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد، وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله – عز وجل – عن إبراهيم – عليه السلام – حيث قال لأبيه: )لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)( (مريم).
ثالثا. إقرار المسيح بالعبودية في مهده ويوم القيامة:
ومن ردود القرآن القاطعة أيضا على هؤلاء النصارى ما يخاطب به الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم – عليهما السلام – يوم القيامة قائلا له بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فيقول – سبحانه وتعالى – له: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله( (المائدة: ١١٦)، وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع لهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة، وفي هذا الموقف يقر عيسى – عليه السلام – على رءوس الأشهاد بالعبودية لله، وأنه أمرهم بعبادته عز وجل، وينزه الله – عز وجل – أن يكون معه إله، فيقول: )سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة).
ومن ردود القرآن أيضا ما حكاه القرآن على لسان عيسى – عليه السلام – حين تكلم في المهد، فكان أول شيء تكلم به ونطق به لسانه أن نزه جناب ربه عز وجل، وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه، قال سبحانه وتعالى: )فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)( (مريم) إلى أن قال: )وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36)( (مريم). وهكذا نطق المسيح بأنه عبد الله، ولم يقل: إني أنا الله ولا ابن الله.
الخلاصة:
- تجاوز أهل الكتاب الحد وغالوا في شأن عيسى عليه السلام، أما اليهود فقد أنكروا رسالته واتهموا أمه مريم بما هي منه برئية، وأما النصارى فقد رفعوا عيسى – عليه السلام – إلى مرتبة فوق مرتبة البشرية، واعتبره بعضهم إلها، واعتبره بعض آخر منهم ابنا لله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
- فصل الله – عز وجل – في القرآن القول في شأن عيسى عليه السلام، فقال: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: ١٧١)، فهو رسول أرسله – سبحانه وتعالى – لهداية الناس إلى الحق، وقد خلقه الله بكلمة )كن( (آل عمران: 47) ألقاها إلى مريم من غير واسطة أب ولا نطفة، ونفخ جبريل – عليه السلام – في مريم، فكان عيسى بإذن الله بشرا سويا.
- تعلق النصارى بكون عيسى – عليه السلام – كلمة الله دليل على ألوهيته، تعلق باطل، فما كانت الكلمة من الله إلها يعبد، وإنما سمي بذلك، لأنه نشأ بكلمة من الله وروح من الله مرسل بها جبريل عليه السلام.
- يقر عيسى – عليه السلام – بأنه عبد الله ورسوله آتاه الكتاب وجعله من الأنبياء وذلك في الدنيا، أما في الآخرة فسوف يقر كما حكى القرآن أنه – عليه السلام – ما قال لبني إسرائيل إلا ما أوحى الله له، وهو عبادة الله وحده لا شريك، وهو ربي وربكم وما زلت أدعوهم إلى ذلك حتى توفيتني، وذلك على رءوس الأشهاد.
(*) الآيتان اللتان وردت فيهما الشبهة: (المائدة/ 73، النساء/ 171).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (المائدة/ 73، النساء/ 171، 172، المائدة/ 116: 118).