دعوى أن بعض الصحابة كانوا ينظرون إلى النساء وهم في الصلاة
وجها إبطال الشبهة:
1) الآية التي استدل بها الطاعنون على ثبوت دعواهم لا علاقة لها بصفوف المصلين، وإنما تدل على علم الله المحيط بكل شيء بما كان وما هو كائن وما سيكون، وهذا هو رأي المفسرين في الآية الكريمة.
2) الحديث الذي استدل به الطاعنون على ثبوت دعواهم حديث فيه نظر، وعلى فرض صحته، فالتأويل أن أولئك المستأخرين كانوا من المنافقين أو ممن دخلوا الإسلام حديثا، ولـما يتهذبوا بآدابه بعد، وعلى فرض أنهم لم يكونوا كذلك؛ فالجواب أن المعصية لا تنفي العدالة؛ لأن العدالة لا تعني العصمة من الذنوب – خاصة إذا كانت من الصغائر ولم يصروا عليها – وإنما تعني نفي الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد عصمهم الله – بفضله ومنه – في هذا الباب، فلم يعرف عن أحدهم أنه كذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا هو رأي الذين صححوا الحديث، وعلى كلا الرأيين لا يوجد مأخذ يطعن به في عدالة الصحابة.
التفصيل:
أولا. الأقوال الواردة في الآية عند المفسرين:
قال الطبري: اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)( (الحجر)، ثم ذكر عدة أقوال وهي:
الأول: ولقد علمنا من مضى من الأمم فتقدم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حي، ومن لم يخلق بعد ممن سيخلق.
الثاني: عني بالمستقدمين: الذين قد هلكوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يهلكوا.
الثالث: ولقد علمنا المستقدمين في أول الخلق، والمستأخرين في آخرهم.
الرابع: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الخامس: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير، والمستأخرين عنه.
السادس: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء… ثم قال: وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد؛ لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله سبحانه وتعالى: )وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون (23)( (الحجر)، وما بعده، وهو قوله: )وإن ربك هو يحشرهم( (الحجر: ٢٥) على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه ولا جاء بعد[1].
وقد ذكر ابن العربي الأقوال السابقة عند القرطبي، ثم عقب بقوله: “وكل هذا معلوم لله – عز وجل – فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وبما لا يكون لو كان كيف يكون”[2].
وقال الإمام محمد جمال الدين القاسمي في تأويل قوله سبحانه وتعالى: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)(؛ أي: من تقدم ولادة وموتا، ومن تأخر من الأولين والآخرين، أو من خرج من أصلاب الرجال، ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان كمال علمه، بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه، بعد الاحتجاج على كمال قدرته، وفي تكرير قوله: )ولقد علمنا( من كمال التأكيد ما لا يخفى”[3].
وقال ابن عاشور في قوله تعالى: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)( لما ذكر الإحياء والإماتة، وكان الإحياء يذكر بالأحياء، وكانت الإماتة تذكر بالأموات الماضين، تخلص من الاستدلال بالإحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله، وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا، وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي.
والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب، ولكن قولهم: استقدم بمعنى تقدم – على خلاق القياس؛ لأن فعله رباعي، وقد تقدم عند قوله تعالى: )لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)( (الأعراف).
ثم قال: وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس، ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية. وهو خبر واه لا يلاقي انتظام هذه الآيات، ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة[4].
وكان ابن عاشور قد ذكر في صدر تفسيره لسورة الحجر أن السورة مكية كلها، قال: وحكي الاتفاق عليه. ثم حكى عن السيوطي في الإتقان أنه قال: “ينبغي استثناء – أي من مكية آيات سورة الحجر – قوله تعالى: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)(، لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها، وأنها في صفوف الصلاة”.
وذكر ابن عاشور قول الترمذي – بعد أن روى الحديث من رواية جعفر بن سليمان، ولم يذكر ابن عباس “وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح”. قال ابن عاشور: وهذا توهين لطريق نوح. ثم ذكر قول ابن كثير: “وهذا الحديث فيه نكارة شديدة” والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر”، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع[5].
وقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن الربيع بن أنس، أنه قال: حرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الصف الأول في الصلاة، فازدحم الناس عليه، وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد، فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)( [6].
قال أبو السعود: وقيل: رغب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء… وذكر الحديث. ثم قال: والأول؛ أي: مزاحمة الناس على الصف الأول – هو المناسب لما سبق وما لحق من قوله تعالى: )وإن ربك هو يحشرهم( (الحجر: ٢٥)، أي: للجزاء، وتوسيط ضمير العظمة “ربك” للدلالة على أنه هو القادر على حشرهم والمتولي له لاغيره؛ لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم[7].
وانطلاقا مما سبق، يتضح أن علماء التفسير قد اختلفوا في المراد من قوله تعالى: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)( (الحجر)، وذكروا فيها أقوالا كثيرة، وقد ذكروا في سبب نزولها ثلاثة أقوال، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا يصلح حصر الآية في تفسير واحد، ولا يصلح أن نجزم بأن الآية نزلت في شأن المتقدمين في الصفوف والمتأخرين فيها لأجل النساء، يضاف إلى ما سبق أن معظم أقوال المفسرين وردت بتضعيف التفسير القائل بأن هذه الآية نزلت في شأن صفوف الرجال وما كان منهم من تقدم بعضهم وتأخر بعضهم الآخر لأجل النساء، وكذلك منهم من ضعف أن يكون هذا هو سبب النزول، ورجح الرأي الآخر، وذلك لأسباب، منها أن العلماء قد اتفقوا على مكية جميع آيات سورة الحجر، وهذه في شأن صفوف الصلاة، فتكون في المدينة، وهذا يخالف الإجماع، كما أن سياق الآيات يستبعد هذا التفسير، وقال البغوي في التفسير: قال ابن عطية: ما تقدم وما تأخر من الآيات يضعف هذه التأويلات؛ لأنها تذهب اتصال المعنى[8].
وكذا ذكره الطبري حين قال: وأولى الأقوال عندي من ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد؛ لدلالة ما قبله من الكلام وما بعده.
وكذلك ذكره ابن كثير وأنكر الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، وعده غريبا وقال: إن فيه نكارة شديدة، بل وذكر أن محمد بن كعب أنكر أن يكون تفسيرها على صفوف الرجال، ولم يتعرض القاسمي والشيخ سيد قطب لهذا المعنى ولم يذكراه، وأما صاحب التحرير والتنوير فقد أنكر أن يكون هذا هو سبب النزول مستدلا على ذلك بمكية الآية وبالسياق الذي جاءت به، كما استدل على ذلك بأن استقدم واستأخر بمعنى تقدم وتأخر مخالف للقياس، ثم أيد كلام ابن كثير والترمذي في توهين رواية نوح بن قيس، وأنها مقطوعة لا يعتمد عليها.
وبهذه الآراء التي ترجع الآية في معناها العام إلى إحاطة علم الله بكل شيء، يتضح أن حصر سبب نزول الآية في هذا السبب الذي ذكره المدعون لا يصح مطلقا، ولا يجوز الجزم به.
ثانيا. الحديث فيه كلام وإن صح فله تأويل:
إن الحديث الذي استدل به الطاعنون على ثبوت دعواهم قد رواه الإمام أحمد في مسنده[9]، والإمام الترمذي في سننه[10]، من طريق نوح بن قيس عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول؛ لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر تحت إبطيه، فأنزل الله في شأنها: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)(».
وهذا الحديث قد تكلم فيه العلماء؛ فقال الإمام الترمذي عن رواية جعفر بن سليمان المقطوعة: وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح بن قيس، وهذا توهين لرواية أبي الجوزاء عن ابن عباس المتصلة. وما دامت الرواية مقطوعة، فإنه لا يعتمد عليها، ولا يحتج بها، لاسيما في أمر يطعن به في أخلاق خيرة الخلق بعد الأنبياء.
وقد تحدث علماء الجرح والتعديل في رجال هذا الحديث: فعمرو بن مالك النكري، قال عنه ابن عدي في الكامل: منكر الحديث عن الثقات ويسرق الحديث[11].
وقالوا عن أبي الجوزاء – أوس بن عبد الله الربعي: لم يصح له سماع عن أحد من الصحابة، إنما فقط رآهم، ومن ثم فروايته المتصلة إلى ابن عباس لا تصح. وقالوا عنه: حدث عنه عمرو بن مالك النكري قدر عشرة أحاديث غير محفوظة[12].
كما أنه لا تصح رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس؛ لأنه ثبت أنه لم يرو عن أحد من الصحابة، وأما رواياته المقطوعة، فإنها – إن صحت – فلا تعتبر ولا تصلح للاحتجاج بها ولا يعتمد عليها. كما يضعف هذه الرواية التفسير الوارد عن ابن عباس نفسه لهذه الآية؛ إذ فسرها بقوله: كل من هلك من لدن آدم – عليه السلام – ومن هو حي، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وقد ضعف هذا الحديث شعيب الأرنؤوط عند تعليقه عليه في المسند، فقال: “إسناده ضعيف، ومتنه منكر، عمرو بن مالك النكري لا يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، ذكره في “الثقات”، وقال: يخطئ ويغرب، وقال الحافظ في “التقريب”: صدوق له أوهام… وقال ابن كثير: حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة، ثم رجح أن يكون من كلام أبي الجوزاء”[13].
تأويل الحديث عند من صححه:
وعليه فإن الحديث المتقدم والذي هو مناط استدلال المدعين ورد فيه كلام، إلا أنه قد صححه بعض العلماء وتأولوه[14]؛ لأن الصحابة ينزهون عما ذكر فيه، قال أبو بكر ابن العربي: “وهذا الحديث إن صح فلا بد من تأويله؛ فإن الصحابة ينزهون عن فعل ما ذكر فيه، فيأول بأن ذلك كان من المنافقين، أو مجموعة من الأعراب الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم. وأما ابن عباس فإنه كان صغيرا إن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فقد كان في طفولته”[15].
وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله – عز وجل – عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال – جل ثناؤه – لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حي منكم، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرها، وأحصينا جميع ذلك، ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلا بأعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء، ولكل من تعدى حد الله، وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدم في الصفوف لسبب النساء، وسارع إلى محبة الله ورضوانه أنه في أفعاله كلها[16].
قال الشيخ الألباني: “ما المانع أن يكون أولئك الناس المستأخرون من المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؟! بل وما المانع أن يكونوا من الذين دخلوا في الإسلام حديثا، ولما يتهذبوا بتهذيب الإسلام، ولا تأدبوا بأدبه”[17]؟
إن مما عرف من واقع حياة الصحابة وأخلاقهم لينفي أن يأتي أحد منهم بمعصية أثناء ممارسته للعبادة، سواء صح الحديث أم لم يصح – كما بينا – فهم – رضي الله عنهم – قوم أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة (المقصود رياضة القلوب) أغراض النفوس الردية فمحقوها؛ لذا قال – سبحانه وتعالى – فيهم: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه( (الأنعام: ٥٢). فقد أخلصوا الأعمال من الأكدار نفلا، واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى، وحضوا أنفسهم لطلب الحظ الأحظ حضا، وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضا[18].
إن أخلاق صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت مثالا يحتذى، ومنهاجا ينتهج، ونبراسا يسترشد به، فأخلاقهم متأسية بأخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي «كان خلقه القرآن»[19]، وما دام القرآن الكريم قد أمر بغض البصر والخشوع في الصلاة، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتمثل ذلك، فلقد كان صحابته – رضي الله عنهم – كذلك، ولقد حكى القرآن الكريم عنهم ذلك، فقال عز من قائل: )تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود( (الفتح: ٢٩). قال الشيخ سيد قطب رحمه الله: فالتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم؛ ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة، وهي الحالة الأصلية لهم في حقيقة نفوسهم، فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم، حتى كأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا. ثم تحدث السياق عن بواطنهم، وأعماق سرائرهم )يبتغون فضلا من الله ورضوانا(، فهذه صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة، فكل ما يشغل بالهم، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم – هو فضل الله ورضوانه، ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به[20].
وإذا كان لكل رسول حواريون وأتباع، فإن حواري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم صحابته كانوا صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل، وأخلاقهم تسمو على كل خلق، ومن ثم قال ابن مسعود: «إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – فوجد قلب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه»[21]، وحاشا لله أن يجعل أصحاب أفضل رسله – صلى الله عليه وسلم – بهذه الأخلاق التي يدعيها أعداء الإسلام! ويكفي أن الله – سبحانه وتعالى – قد رضي عنهم، )رضي الله عنهم ورضوا عنه( (البينة: ٨).
ومما تجدر الإشارة إليه هاهنا بيان الفرق بين العدالة والعصمة كما أوضحنا ذلك آنفا، وأن الذنب لو وقع من أحد الصحابة فلا يمثل قدحا في عدالتهم، فليس معنى عدالة الصحابة أنهم معصومون من المعاصي، أو من السهو، أو من الغلط، فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم.
وتتحقق العدالة في الراوي إذا اتصف بصفات خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من أسباب الفسق وخوارم المروءة. وعليه فإن العصمة ليست شرطا من شروط العدالة، وليس المقصود بالعدل أن يكون بريئا من كل ذنب، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين والتحري في فعل الطاعات وترك المنكرات[22].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “لو كان العدل من لا ذنب له، لم نجد عدلا، ولو كان كل مذنب عدلا لم نجد مجروحا، ولكن العدل من اجتنب الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه”[23]. فالعدالة لا تعني العصمة، وإنما المقصود بعدالة الصحابة نفي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم[24].
وهذا – ولله الحمد – ما لم يحدث؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه”.
فالمقصود أن الله – عز وجل – وفاء بما تكفل به من حفظ دينه وشريعته هيأ من الأسباب ما حفظهم به، وبتوفيقه – عز وجل – من أن يتعمد أحد منهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم[25].
ولا يسعنا بعد ما ذكرنا إلا أن نقرر أن المجتمع الذي لا يقع أفراده في أي خطأ هو مجتمع لا وجود له في دنيا البشر، ولذا كان القرآن الكريم ينزل بالتربية والتقويم، والإرشاد إلى الحق والصواب، وفيما نحن بصدده إذا اعتبرنا أن ما ذكر في الحديث وقع منهم في بادئ الأمر، فإن آخر ما جاء في ذلك وصف القرآن للصحابة بقوله تعالى: )تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا( (الفتح: ٢٩).
الخلاصة:
- تعددت أقوال علماء التفسير في المراد بهذه الآية: )ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24)(، مما يدل على أن حصر الآية في مراد واحد أمر بعيد.
- تباينت آراء العلماء قديما وحديثا بشأن حديث ابن عباس المروي في سبب نزول هذه الآية، فمنهم من ضعفه وبذلك يسقط الاشتباه، وتكون الآية دالة على علم الله الواسع المحيط بكل شيء، وهذا هو رأي الجمهور من المفسرين والمحدثين والعلماء.
- من العلماء من صحح الحديث وأوله بأن المستأخرين كانوا من المنافقين، أو ممن دخلوا الإسلام حديثا ولما يتهذبوا بآدابه بعد؛ لأن الصحابة ينزهون عما ذكر فيه، وواقعهم يدل على ذلك.
- وعلى كلا الرأيين لا طعن في عدالة الصحابة، بل إن أخلاقهم تعد نبراسا هاديا، ومنهاجا قويما ينفي أن يكون ما في الرواية قد ورد في شأنهم؛ وقد وصفهم الله في القرآن بقوله: )تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا( (الفتح: ٢٩).
- وعلى صحة الحديث، وأن الناظرين إلى النساء لم يكونوا من المنافقين، فهذا لا يقدح في العدالة إن وقع من بعض الصحابة؛ لأن الصحابة ليسوا معصومين من الخطأ والمعاصي والسهو أو الغلط، فالعصمة تختلف عن العدالة؛ لأن المقصود بالعدالة نفي الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا – بفضل الله – لم يحدث، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن كان فيهم من كان له ذنوب، لكن هذا الباب – الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم – مما عصمهم الله فيه؛ فالعدالة لا تعني العصمة من الذنوب، وإنما تعني العصمة من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
- الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن المجتمع الذي لا يقع أفراده في أي خطأ لا وجود له على أرض الواقع أو في دنيا البشر، وإن كانت المجتمعات في ذلك درجات، والمجتمع المسلم في عهد الرسول والراشدين هو أطهر مجتمع عرفته البشرية، وإلا لما استطاعوا أن يفتحوا قلوب العالمين!
(*) دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2001م. الرد القويم لما جاء به الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب، الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد، مركز الصف الإلكتروني، القاهرة، ط1، 1417هـ/ 1997م.
[1]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (23/ 93، 94).
[2]. أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (5/ 124).
[3]. محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، (5/ 347).
[4]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (14/ 40).
[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (14/ 6، 7). قال الترمذي: “وهذا أشبه من رواية نوح بن قيس”. وانظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (2/ 549، 550).
[6]. أسباب نزول القرآن، الواحدي، (1/ 99).
[7]. إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود محمد بن محمد مصطفى العمادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، (4/ 71).
[8]. معالم التنزيل، البغوي، دار طيبة، السعودية، ط4، 1417هـ/ 1997م، (4/ 377).
[9]. أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، (4/ 278)، رقم (3784).
[10]. أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة الحجر، (8/ 436)، رقم (3329).
[11]. الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي، تحقيق: يحيى مختار، دار الفكر، بيروت، ط3، 1409هـ/ 1982م، (5/ 150).
[12]. انظر: دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2001م، ص140.
[13]. المسند، أحمد بن حنبل، تحقيق: أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1368هـ/ 1987م، (1/ 305).
[14]. صحح الحديث الشيخ الألباني، وأفاض في الاستدلال على تصححيه ودافع عن ذلك بالرجوع إلى تراجم رواة الحديث والحكم عليهم، ورد على أدلة من قال بتضعيفه، ورد على ابن كثير قوله بنكارة الحديث، بيد أنه تأول أن يكون هؤلاء من المنافقين أو ممن دخلوا الإسلام حديثا، ولم يكونوا قد تهذبوا بتهذيب الإسلام ولا تأدبوا بعد. انظر: السلسلة الصحيحة، الألباني، دار المعارف، الرياض، د. ت، (5/ 608)، حديث رقم (2472).
[15]. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 367).
[16]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (17/ 93، 94) بتصرف
[17]. انظر: السلسلة الصحيحة، الألباني، دار المعارف، الرياض، د. ت، (5/ 608).
[18]. أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، محمود المصري، دار التقوى، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، (1/ 29).
[19]. صحيح مسلم (شرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل، (3/ 1331)، رقم (1708).
[20]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، (6/ 3332، 3333) بتصرف.
[21]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (5/ 211)، حديث رقم (3600). وصححه أحمد شاكر في تعليقه المسند.
[22]. عدالة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني، مكتبة الإيمان، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، بتصرف.
[23]. الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، أبو عبد الله محمد إبراهيم الوزير اليماني، دار المعرفة، بيروت، 1399هـ/ 1979م، ص28.
[24]. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص28.
[25]. الأنوار الكاشفة لما في كتاب ” أضواء على السنة” من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص264 بتصرف.