دعوى أن خلفاء بني أمية كانوا وراء وضع الأحاديث
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن معاوية – رضي الله عنه – صحابي جليل صحت الأخبار في فضله, وما اتهم به من سبه لعلي رضي الله عنه، أو حث أصحابه على ذلك باطل لا يقوى في ميزان النقد الحديثي, والصحيح أن معاوية أمر بإقصاء أصحاب علي لا اضطهاد حديثهم كما زعموا.
2) إن زيادة الأمويين درجة في المنبر, وتقديمهم خطبة العيد على الصلاة, وخطبتهم الجمعة جلوسا – لا يعد ذلك دليلا على وضعهم للأحاديث؛ لأنهم لم يستدلوا بأحاديث تؤيد فعلهم, وإنما اعترفوا بأن ذلك مخالف للسنة ولكنه لضرورة.
3) إن صلة الزهري بالأمويين صلة الناصح للخليفة أو الأمير, وهذا ما يبرر وجوده في حاشيتهم, أما حديث «لا تشد الرحال» فقد روته كل كتب السنة من طريق الزهري وغيره, فهو في أعلى درجات التواتر، أما قوله: “أكرهونا على كتابة أحاديث”، ففيه تحريف متعمد، والصواب أنه يقصد تدوين الأحاديث لا وضعها على النبي صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. فضل معاوية رضي الله عنه, وبطلان ما نسب إليه من سب لعلي وأصحابه سندا ومتنا:
إن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – صحابي جليل, وأحد كتبة الوحي للنبي – صلى الله عليه وسلم – وخال المؤمنين وأميرهم, ملك الإسلام الأول, ومن الذين وعدهم الله الحسنى في قوله عز وجل: )لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)( (الحديد), وقد أسلم – رضي الله عنه – وقت عمرة القضاء[1].
وكان معاوية – رضي الله عنه – من العالمين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أوتر بركعة واحدة, فأخبر ابن عباس بذلك فقال: “أصاب – أي بني – ليس أحد منا أعلم من معاوية, هي واحدة أو خمس أو سبع إلى أكثر من ذلك الوتر ما شاء”[2].
ولعلمه الكبير بالسنة فقد روى عنه كثير من الصحابة والتابعين, فمن الصحابة: ابن عباس, وجرير بن عبد الله, وأبو سعيد, والنعمان بن بشير رضي الله عنهم, ومن التابعين: سعيد بن المسيب, وأبو صالح السمان, وعروة بن الزبير, وهمام بن منبه, ومحمد بن سيرين, وغيرهم كثير, كما حدث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أخته أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم[3]. ودعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب»[4].
هذا هو معاوية بن أبي سفيان الذي يطعنون فيه ويتهمونه بوضع الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم، مستدلين على ذلك برواية مكذوبة وخبر مقلوب, يقولون فيه: إن معاوية – رضي الله عنه – أوصى المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قائلا: “لا تهمل في أن تسب عليا, وأن تطلب الرحمة لعثمان, وأن تسب أصحاب علي، وأن تضطهد من أحاديثهم, وعلى الضد من هذا أن تمدح أصحاب عثمان، وأن تقربهم وتسمع إليهم”.
انظر إلى هذا الدليل “معاوية يقول لأحد أتباعه أو أمرائه: اضطهد أصحاب علي, وقرب إليك أصحاب عثمان, فأي شيء في هذا يدل – إذا فرضنا صحة ذلك – على وضع الأحاديث؟ وأين نجد قول معاوية للمغيرة؛ لا تهمل في أن تضع الأحاديث على علي, وأن تضع الأحاديث في عثمان”؟
إن أصل العبارة كما رواها الطبري: “لا تحجم عن شتم علي وذريته, والترحم على عثمان والاستغفار له, والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم, وترك الاستماع منهم, وإطراء شيعة عثمان, والإدناء إليهم والاستماع منهم”[5].
فانظر كيف حرف المشككون – على فرض صحة هذه الرواية – لفظ “والإقصاء لهم” إلى لفظ “وتضطهد من أحاديثهم”، فإن كلمة “أحاديث” لا وجود لها في النص الأصلي[6].
بطلان هذه الرواية:
إن هذه الرواية التي أوردها الطبري في تاريخه “لا تحجم عن شتم علي وذريته…” باطلة سندا ومتنا؛ فأما السند فإنها جاءت من طريق هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن مجالد بن سعيد، والصقعب بن زهير، وفضيل بن خديج، والحسن بن عقبة المراني.
فأما أبو مخنف فهو لوط بن يحيي الكوفي، روى عن صقعب بن زهير، ومجالد بن سعيد، وجابر الجعفي، قال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس بثقة[7]، وقال الدارقطني: إخباري ضعيف[8]، وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم[9].
ومجالد بن سعيد ضعيف عند الجمهور، قال ابن معين وغيره: لا يحتج به، وقال الدارقطني: ضعيف[10].
وفضيل بن خديج قال عنه أبو حاتم: مجهول، روى عنه رجل متروك الحديث[11].
فهذا السند فيه من فيه من الضعفاء والمتروكين، ومدار الخبر على أبي مخنف هذا الشيعي الكذاب، فكيف نأخذ مثل هذه الروايات للطعن على هؤلاء الأصحاب.
فإذا علمت هذا فاعلم أن متن هذه القصة واه أيضا؛ لأنه يخالف ما علم من احترام معاوية لعلي، وإجلاله إياه، وأن المانع من ذلك عدة أمور:
الأول: أنه كان معظما له، معترفا له بالفضل والسبق إلى الإسلام، دلنا على ذلك قول ابن كثير: “قد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع عليا أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني”[12]، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: “لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم”[13].
فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية عليا، بل ويحمل الناس على سبه، وهو يعتقد فيه هذا.
الثاني: لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية – رضي الله عنه – تعرضه لعلي – رضي الله عنه – بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته؟!
الثالث: أن معاوية – رضي الله عنه – انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سب علي؟ إذ الحكمة تقتضي عدم ذلك.
الرابع: أنه بعد استقلال معاوية بالخلافة كان بينه وبين أبناء علي – رضي الله عنهم – من الألفة والتقارب ما سطرته كتب السيرة والتاريخ؛ ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف، ودخل الحسن على معاوية فقال له: “مرحبا وأهلا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف”[14].
فهذا واقع يشهد ويقطع بكذب هذه الرواية، كما يقطع بكذب هذه الدعوى التي يدعي أصحابها أن معاوية – رضي الله عنه – حمل الناس على سب علي رضي الله عنه.
ثانيا. إذا كان الأمويون قد زادوا درجة في المنبر، وقدموا خطبة العيد على الصلاة، وكانوا يخطبون الجمعة جلوسا, فإنهم لم يضعوا أحاديث تؤيد ما فعلوه:
- درجات المنبر:
جاء في الصحيح أن مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مسقوفا على جذوع من نخل، وكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار[15]، وذكر ابن سعد أن المنبر كان سنة سبع، وأن ابن النجار جزم أنه كان سنة ثمان، كما ذكر آراء في أنه كان درجتين أو ثلاث، يجلس الرسول على الثالثة ويضع رجله على الثانية، فلما ولي أبو بكر كان يجلس على الثانية ويضع رجله على الدرجة السفلى، وجاء عمر فجلس على الأولى، ووضع رجله على الأرض، ولما جاء عثمان فعل ذلك ست سنوات ثم علا إلى موضع النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما ولي معاوية جعل للمنبر ست درجات زيادة على الثلاثة[16]، ولما قدم المهدي الخليفة العباسي إلى المدينة استشار الإمام مالكا أن يعيده إلى ما كان عليه أيام الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلم يوافق، وكان ذلك سنة 160هـ. واحترق المسجد سنة 654هـ واشتركت مصر في تعميره. وفي عهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري كملت عمارة المسجد، ومن بعده الناصر قلاوون، وأرسل الظاهر منبرا عدد درجاته تسع[17]، كما أرسل من بعده منابر أخرى[18].
كما بنى أهل المدينة منبرا من الآجر والنورة بسبب حريق بالمسجد حتى سنة 688هـ فبنى الأشرف قايتباي منبرا من الرخام، وتوالى التغيير على مدى الأزمان، ولم يعد للمنبر النبوي ذي الدرجات الثلاث أثر، واستمر الناس يخطبون على المنابر الجديدة، ولم ينكر عليهم أحد.
إن أصل اتخاذ المنبر كان لظهور الخطيب أمام الناس، وكلما ارتفع أمكن أن يسمع صوته بوضوح، وظهرت في مصر وغيرها منابر عالية في مساجد واسعة يجتمع فيها الآلاف الذين لا يكاد البعيد منهم عن المنبر يسمع من يتحدث، وكان يخطب عليها كبار الشيوخ والعلماء، ومنبر مسجد الأزهر نفسه له درجات كثيرة، وما سمعنا مثل الصيحة في السنوات الأخيرة التي ترمي المنابر العالية بأنها بدعة، وبالتالي ضلالة، مع أنه لم يرد نهي عنها، وليست من العبادات التي يتقرب بها إلى الله[19].
وإذا كان رفع المنابر لإبلاغ الصوت هو الوسيلة الوحيدة في الماضي فإن مكبرات الصوت أغنت عن ذلك، وليس أثر المنبر في السامعين، وفي تبليغ الدعوة مرتبطا بعدد درجاته بقدر ارتباطه بصحة المعلومات والحكمة في إيصالها للسامعين.
يقول د. السباعي: “وها هم الملوك والرؤساء يجددون المساجد ويزيدون فيها وينقصون، ويتخذون من الحيطة لأنفسهم عند الذهاب إلى الصلاة ما يدفع عنهم خطرا متوهما أو متوقعا، فلماذا لا يعتبر عمل هؤلاء تزيدا في الدين، وانحرافا عنه؟!
إن المنبر غير على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حياته، فبعد أن كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقف بجانب جذع النخل، اتخذ منبرا من ثلاث درجات، حيث تزايد الناس في المسجد، واحتاج الأمر إلى مكان عال ليسمع البعيد كما يسمع القريب، فما الذي يمنع من زيادة الدرجات على هذا إذا اتسع المسجد أكثر من ذلك؟ وزاد الناس فيه عما كانوا عليه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا شيء يمنع من هذا لا دينا ولا شرعا ولا تقى ولا ورعا، هذا هو ما فعله معاوية حين زاد درجات المنبر”[20].
وعليه فلا غرو أن يزيد معاوية – رضي الله عنه – درجة في درجات المنبر النبوي, وقد كان كثير من الصحابة شهود هذا الفعل، ولم ينكر عليه أحدهم, وهم من هم في تقواهم وورعهم وجرأتهم في الحق.
ثم ليست ثمة علاقة بين زيادة معاوية درجة في المنبر وبين الوضع في الحديث النبوي, فكيف يتخذ زيادته هذه دليلا على اتهامه بالوضع؟ هل استدل معاوية – رضي الله عنه – بحديث وضعه يؤيده فيما فعله؟ لم يثبت أنه فعل ذلك أو استدل بحديث, أو أباح الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الجلوس في الخطبة الثانية:
أما الجلوس في الخطبة الثانية في الجمعة فهو تغيير في شكل العبادة حقا, ولكن فعله معاوية من غير تعمد, بل اضطر له حين كثر شحمه ولحمه, فلم يعد يستطيع الوقوف كثيرا, قال الشعبي: “أول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه، وذلك حين كبر وكثر شحمه وعظم بطنه”[21]، وقد لقي من إنكار العلماء يومئذ ما يثبت أن علماءنا لم يكونوا يجاملون في حق أو يتساهلون في إنكار منكر يعتقدونه, ومع ذلك لم يحتج معاوية بحديث, ولم يدع في ذلك سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- براءة رجاء بن حيوة من وضع الأحاديث:
وأما ادعاؤهم أن رجاء بن حيوة روى لهم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء كانوا يخطبون جلوسا, فهذا كذب على رجاء، وافتراء على إمام ثقة من أئمة المسلمين, ويستحيل أن يقول رجاء هذا في عصر لا يزال فيه كثير من الصحابة يدافعون عن سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – دفاع المستميت, ولم نجد لنسبة هذا الحديث إلى رجاء أثرا في أي كتاب من كتب السنة المعتمدة, ورجاء بن حيوة كان عند أئمة الحديث ثقة حافظ, قال الذهبي: “قال ابن سعد: كان رجلا فاضلا ثقة كثير العلم, وقال ابن عون: لم أر مثل رجاء بالشام, ولا مثل ابن سيرين بالعراق, ولا مثل القاسم بالحجاز, قال الذهبي: قلت: هو الذي أشار على سليمان باستخلاف عمر بن عبد العزيز”[22].
وإذا كان جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب…»[23], فليس فيه رد على حديث وضع بالفعل بل يحتمل أن يكون ردا لما قد يطرأ في أذهانهم من جواز ذلك, فقطع لهم بأنه مخالف لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قطعا[24].
- تقديم خطبة العيد على الصلاة:
وأما تقديم الخطبة على الصلاة في العيد, فإن الذي فعل ذلك هو مروان بن الحكم, واعتذر عن ذلك بأنه فعل ذلك مضطرا؛ لأن الناس لم يعودوا يستمعون إلى خطبهم بعد انتهاء الصلاة, ولم يرد أنه احتج لذلك بحديث, أو أنه دفع بعض أتباعه إلى وضع حديث يؤيد ذلك, ومع هذا فقد أنكر عليه الصحابة والتابعون ذلك.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – «أنه أنكر على مروان والي المدينة من قبل معاوية تقديم الخطبة على صلاة العيد, فقال أبو سعيد: “فقلت له: غيرتم والله, فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم, فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم, فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة»[25]. هذا هو ما حدث من أمر تقديم مروان خطبة العيد على الصلاة, فأين استدلال مروان بالحديث؟ وأين استدلال معاوية على الخطبة جالسا وزيادة درجات المنبر بالحديث[26]؟
ومن هنا يتبين لنا أن هذه الحوادث التي استدل بها هؤلاء المدعون لم تكن سببا في وضع أحاديث تؤيدها, مما يثبت أن الأمويين لم يكونوا وراء وضع هذه الأحاديث كما زعموا.
ثالثا. إن صلة الزهري بالأمويين صلة الناصح الأمين للخليفة والأمير:
يزعم هؤلاء المشككون أن صلة ابن شهاب الزهري بالأمويين هي التي مكنت لهم أن يستغلوه في وضع الأحاديث الموافقة لأهوائهم. ولا ندري كيف تكون الصلة بين رجل كالزهري صادق ثبت حجة, وبين خلفاء بني أمية علامة على استغلالهم له, وقديما كان العلماء يتصلون بالخلفاء والملوك, دون أن يمس هذا أمانتهم في شيء, وعالم مثل الزهري, إذا اتصل بهؤلاء الخلفاء أو اتصلوا به, لا سبيل له إلى أن يؤثر ذلك في دينه وأمانته وورعه, والمستفيد منهم على كل حال هم المسلمون الذين يغدو شيخهم ويروح من حلقات العلم إلى مجالس العلماء يروي حديثا, أو يبث فكرة, أو يبين حكما، أو يؤدب لهم ولدا، أو يذكرهم بما للأمة عليهم من حقوق، وما لله عليهم من واجبات.
جاء في العقد الفريد: “دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال له: ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبدا رعيته كتب له الحسنات، ولم يكتب له السيئات. قال الزهري: باطل يا أمير المؤمنين. أنبي خليفة أكرم عند الله أم خليفة غير نبي؟ قال: بل نبي خليفة، قال: فإن الله – عز وجل – يقول لنبيه داود عليه السلام: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)( (ص), فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة,فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال الوليد: إن الناس ليغووننا عن ديننا”[27].
فانظر إلى مدى ما تنتجه هذه الصلة من فائدة للأمة بين رجل كالزهري وبين خليفة كالوليد؟ ثم انظر هل ترى موقف الزهري موقف عالم يخضع لتأثير البيت المالك ولا يخرج عن هواهم، ويستجيب إلى رغباتهم في وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم هو موقف العالم الناصح؟ ينصح لدين الله والمسلمين ويذب عن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكاذيب الوضاعين؟ ويدفع عن خليفة المسلمين وقوعه تحت تأثير الرواة الكذابين, فلا يستمر في ظلم ولا يتمادى في باطل.
يروى أن هشام بن عبد الملك سأل سليمان بن يسار عن تفسير قوله عز وجل: )والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)( (النور), فقال هشام: “من الذي تولى كبره فيه؟ قال سليمان: هو عبد الله بن أبي بن سلول، فقال هشام: كذبت. إنما هو علي بن أبي طالب ـ ويظهر أن هشاما لم يكن جادا فيما يقول، ولكنه يريد أن يختبر شدتهم في الحق – فقال سليمان بن يسار: أمير المؤمنين أعلم بما يقول, ثم وصل ابن شهاب, فقال له هشام: من الذي تولى كبره منهم؟ فقال الزهري: هو عبد الله بن أبي بن سلول, فقال له هشام: كذبت، إنما هو علي بن أبي طالب، قال الزهري وقد امتلأ غضبا: أنا أكذب؟ لا أبا لك! فوالله، لو ناداني مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت… حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره منهم هو عبد الله بن أبي”[28].
ذلك ما أثبته ابن عساكر في تاريخه منذ ثمانية قرون نقلا عن الشافعي[29]، وهو إمام من أئمة الصدق والحق من قبل أن يظهر إلى عالم الوجود من يرمي الزهري بالكذب ويتهمه في دينه لاتصاله بالخلفاء! ألا ترى في هذه الحادثة ما يدلك على مبلغ أمانة الزهري, وعلى أن الصلة بينه وبين الخلفاء كانت أدنى وأضعف من أن تتصل إلى دينه وأمانته؟ رجل يقول لخليفة المسلمين: لا أبا لك! وهي كلمة لا يقولها رجل عادي لآخر مثله يحترمه دليل على أن صلته بالخليفة ليست صلة ضعيف بقوي, ولا مخدوع بخادع, بل صلة واثق بدينه, معتز بعلمه يغضب إن كذب, ويثور إذا حرفت حقيقة من حقائق التاريخ المتصل بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورجل يزأر في وجه الخليفة زئير الأسد؛ لأنه كذبه في تفسير آية من كتاب الله خلاف ما يعلم أهل العلم من قبله, هل من المعقول أن يستخذي[30] لأقوال الخليفة, فيضع له أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا أصل لها! ألا ترى إلى قول الزهري: “أنا أكذب, لا أبا لك! فوالله، لو ناداني مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت”، إن الزهري كان من ذلك الطراز الممتاز في تاريخ الإنسانية الذين رباهم محمد – صلى الله عليه وسلم – وأخرجهم للدنيا آيات باهرات في صدق اللهجة, وسمو النفس, والترفع عن الكذب أبدا.
ثم ماذا يبتغي الزهري من مسايرته لأهواء الأمويين؟ أهو يبتغي المال؟ لقد اعترف معنا هؤلاء بأن الزهري لم يكن من طراز أولئك الرجال الذين يستعبدهم المال؛ إذ نقل لنا عن عمرو بن دينار قوله في الزهري: “ما رأيت الدينار والدرهم عند أحد أهون منه عند الزهري, كأنهما بمنزلة البعر”[31]، أم هو يبتغي الجاه؟ إن المغرضين يعترفون معنا بأن الزهري كان ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية, فأي جاه يطلب بعد هذا؟ وإذا لم يكن الزهري طالب جاه ولا مال, وهو في دينه وجرأته ما رأيت, فهل يبلغ به الحمق والغباوة أن يبيع دينه للأمويين, ويخسر سمعته بين المسلمين بوضع أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهم وهو لا يطمع في جاه ولا مال ولا منصب؟ ثم إنهم يصورون لنا عصر بني أمية عصر ظلم وجور, وأن الأتقياء من علماء المدينة كانوا يحاربونهم ويزورون (يبتعدون) عنهم, ونحن نعلم أن الزهري نشأ بالمدينة وأخذ عن شيوخها, جلس إلى سعيد بن المسيب حتى مات سعيد, وأخذ عن مالك في كل مرة يأتي بها إلى المدينة، وظل يتردد بين المدينة والشام – كما قال الزهري – خمسا وثلاثين سنة, فلماذا لم يبغضه علماؤها؟ لماذا لم يكذبوه لو صح أنه كذب للأمويين؟ لماذا لم يتبرأ منه شيخه سعيد وهو الذي لا يبالي بعبد الملك في سطوته وجبروته؟ ما الذي دعاهم إلى السكوت عنه؟ أهو الخوف؟ لم يكونوا يعرفون خوفا في نقد الرجال, من الخليفة إلى أقل رجل في المجتمع, وهب أنهم خافوه, فلماذا لم ينتقده العلماء في دولة بني العباس؟ لماذا لم يهاجمه أنصار بني العباس, كما هاجموا خلفاء بني أمية وأمراءهم وأعوانهم؟ لماذا سكت عنه علماء الجرح والتعديل: مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وابن أبي حاتم وأضرابهم ممن كانوا لا يخافون في الله لومة لائم؟ فكيف إذا كان النقد لرجل من أكبر رجال الدولة الأموية وأعظمهم شهرة؟ أليس في سكوت علماء أهل المدينة وشيوخهم، وفي مقدمتهم شيخه سعيد, ثم في أخذهم عنه وأخذ العلماء عنه من كل فج, وفي توثيق علماء الجرح والتعديل له في العصر العباسي – رغما عن صلته بالخلفاء الأمويين – أكبر دليل على أن الرجل كان فوق متناول الشبه, وأرفع من أن تعلق به ألسنة السوء, وأكرم من أن يوصف بكذب, أو وضع, أو ممالأة لأهل الظلم والباطل؟
هذه هي مكانة الزهري وطبيعة صلته بأمراء بني أمية, والآن نشرع في تفنيد أدلتهم الواهية التي استدلوا بها على وضع الزهري للأحاديث تلبية لرغبة الأمويين:
- قبة الصخرة وحديث “لا تشد الرحال”:
يزعم هؤلاء أن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة ليحول بين أهل الشام والعراق وبين الحج إلى الكعبة – وذلك أثناء لجوء عبد الله بن الزبير إلى الكعبة واعتصامه بها – وأنه أراد أن يلبس عمله ثوبا دينيا، فوضع له صديقه الزهري حديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى»[32]، فهذا لعمري عجب من أعاجيب الافتراء والتحريف والتلاعب بحقائق التاريخ.
- إن المؤرخين الثقات لم يختلفوا على أن الذي بنا القبة(قبة الصخرة)هو الوليد بن عبد الملك، وهكذا ذكر ابن عساكر والطبري وابن الأثير وابن خلدون، وابن كثير وغيرهم، ولم نجدهم ذكروا ولو رواية واحدة تنسب بناءها إلى عبد الملك، ولا شك أن بناءها – كما يزعم هؤلاء – لتكون مثابة الكعبة يحج الناس إليها بدلا من الكعبة، حادث من أكبر الحوادث وأهمها في تاريخ الإسلام والمسلمين، فلا يعقل أن يمر عليه هؤلاء المؤرخون مر الكرام، وقد جرت عادتهم أن يدونوا ما هو أقل من ذلك خطرا أو أهمية، كتدوينهم وفاة العلماء وتولى القضاء وغير ذلك، فلو كان عبد الملك هو الذي بناها لذكروها، ولكنا نراهم ذكروا بناءها في تاريخ الوليد, وهؤلاء مؤرخون أثبات في كتابة التاريخ، نعم جاء في كتاب الحيوان للدميري نقلا عن ابن خلكان: أن عبد الملك هو الذي بني القبة وعبارته هكذا: “بناها عبد الملك وكان الناس يقفون عندها يوم عرفة”، ومع ما في نسبة بنائها لعبد الملك من ضعف، ومن مخالفته لما ذكره أئمة التاريخ، فإن هذا النص لا غبار عليه، وليس فيه ما يدل على أنه بناها ليفعل الناس ذلك، بل ظاهره أنهم كانوا يفعلون من تلقاء أنفسهم، وليس فيه ذكر الحج عند القبة بدلا من الكعبة, بل فيه الوقوف عندها يوم عرفة، وهذه العادة كانت شائعة في كثير من أمصار الإسلام وقد نص الفقهاء على كراهتها، وفرق كبير بين الحج إليها بدلا من الكعبة، وبين الوقوف عندها تشبها بوقوف الحج بعرفة، ليشارك من لم يستطع الحج الحجاج من الأجر والثواب، ولم يكن ذلك مقصورا على قبة الصخرة، بل كان كل مصر إسلامي يخرج أهله يوم عرفة إلى ظاهر البلد فيقفون كما يقف الحجاج.
إن نص الحادثة كما ساقها هؤلاء بين البطلان؛ لأن بناء شيء ليحج الناس إليه كفر صريح، فكيف يقدم عبد الملك عليه، وهو الذي كان يلقب بحمامة المسجد لكثرة عبادته؟على أن خصومه طعنوا فيه بأشياء كثيرة ولم نجدهم اتهموه بالكفر، ولا شنعوا عليه ببناء القبة، ولو كان الأمر ثابتا لاتخذوه أكبر دليل على الغض منه والطعن عليه.
- إن الزهري قد ولد سنة إحدى وخمسين أو ثمان، ومقتل عبد الله بن الزبير كان سنة ثلاث وسبعين، فيكون عمر الزهري حينذاك على الرواية الأولى اثنين وعشرين عاما، وعلى الثانية خمسة عشر, فهل من المعقول أن يكون الزهري في تلك السن ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتلقى منه بالقبول حديثا موضوعا يدعوها فيه للحج إلى القبة بدلا من الكعبة؟
- إن نصوص التاريخ قاطعة بأن الزهري في عهد الزبير لم يكن يعرف عبد الملك ولا رآه بعد، فالذهبي يذكر لنا أن الزهري وفد لأول مرة على عبد الملك في حدود سنة ثمانين, وابن عساكر روى أن ذلك كان سنة اثنين وثمانين, فمعرفة الزهري لعبد الملك لأول مرة إنما كانت بعد قتل ابن الزبير ببضع سنوات, وكان يومئذ شابا بحيث امتحنه عبد الملك، ثم نصحه أن يطلب العلم من دور الأنصار، فكيف يصح الزعم أن الزهري أجاب رغبة صديقه عبد الملك فوضع له حديث بيت المقدس ليحج الناس إلى القبة في عهد ابن الزبير[33]؟
- أما عن الحديث نفسه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» فقد روته كتب السنة كلها من طرق مختلفة، فقد أخرجه البخاري من طريق أبي سعيد الخدري من غير طريق الزهري، ورواه مسلم من ثلاث طرق: إحداها من طريق الزهري، والثانية من طريق جرير بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد، والثالثة عن أبي سليمان الأغر عن أبي هريرة. فالزهري لم ينفرد برواية هذا الحديث ليتهمه المغرضون بوضعه كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم[34].
- إن هذا الحديث رواه الزهري عن شيخه سعيد بن المسيب، ومن المعلوم أن سعيدا ما كان ليسكت عن الزهري لو أنه وضع هذا الحديث على لسانه إرضاء لأهواء الأمويين, وهو الذي أوذي من قبلهم وضرب، وقد توفي سعيد سنة (93هـ)؛ أي بعد مقتل ابن الزبير بعشرين سنة، فكيف سكت سعيد عن هذا كل هذه المدة, وقد كان جبلا شامخا من جبال القوة في الحق لا يبالي في الله لومة لائم؟
- لو فرضنا أن الزهري وضع هذا الحديث إرضاء لعبد الملك، فلم لم يصرح فيه بفضيلة قبة الصخرة، وقد أراد عبد الملك أن يحج الناس إليها؟ كل ما في هذا الحديث وما صححوه من أحاديث بيت المقدس تبين فضل الصلاة فيه، وفضل زيارته غير مقيدة بوقت معين، وهذا شيء أثبته القرآن جملة، فأين هذا مما يريده عبد الملك من الحج إلى القبة بدلا من الكعبة في أيام الحج.
- إن حديث «لا تشد الرحال» الذي خرج في الصحيح لا يرتبط بما ورد في فضائل بيت المقدس والصخرة أو غيرها من أحاديث مكذوبة ليس للزهري رواية فيها, وقد نقدها العلماء جميعا، حتى قالوا: كل حديث في الصخرة فهو كذب، وقالوا: لم يصح في فضل بيت المقدس إلا ثلاثة أحاديث منها: حديث «لا تشد الرحال»[35].
- قصة إبراهيم بن الوليد الأموي:
قال المغرضون: إن إبراهيم الأموي جاء إلى الزهري بصحيفة، وطلب منه أن يأذن له بنشر أحاديث فيها على أنه سمعها منه، فأجازه الزهري من غير تردد, وقال له: من يستطيع أن يجيزك بها؟ وهكذا استطاع الأموي أن يروي ما كتب في الصحيفة على أنها مروية عن الزهري، وهنا أخطاء ومغالطات نوضحها فيما يأتي:
- إن ابن عساكر صرح بسماع إبراهيم عن الزهري, فيكون إبراهيم قد عرض على شيخه صحيفة سمعها منه، وهذا يسمى في اصطلاح المحدثين “عرض المناولة”، قال الشيخ ابن الصلاح في مقدمته: “القسم الرابع من أقسام تحمل الحديث “المناولة”، فإن كان معها إجازة مثل أن يناول الشيخ الطالب كتابا من سماعه ويقول: ارو هذا عني، أو يأتيه الطالب بكتاب قد سمعه من الشيخ فيتأمله الشيخ, ثم يقول له: ارو عني هذا, ويسمى هذا “عرض المناولة”، وقد قال الحاكم: إن هذا سماع عند كثير من المتقدمين, وحكوه عن مالك والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد ومجاهد وسفيان إلخ”[36]. وقال أيوب: كنا نعرض العلم على الزهري، وقال عبيد الله بن عمر: أتيت الزهري بكتاب فتأمله, ثم قال: أجيزك به، ومثله أخبر كثير من تلاميذ الزهري إذ كانوا يعرضون عليه أحاديثه التي سمعوها منه فيتأملها ويجيزهم بها، وما صنع إبراهيم بن الوليد – إن صحت الرواية – إنما هو من هذا القبيل حتما، يؤكده تصريحه بالعرض كما في رواية ابن عساكر، والعرض – كما رأيت – إعطاء الشيخ الكتاب ليتأمله، ثم يجيزه، أما أن يكون إبراهيم دون أحاديث من عنده، ثم طلب من الزهري أن يسمح له بروايتها عنه ووافق الزهري على ذلك, فهذا مما يستحيل صدوره عن رجل كالزهري ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية، وما ذاع صيته إلا بأمانته وصدقه وضبطه.
- إن قول الزهري: “من يستطيع أن يجيزك بها” أصله كما نقله ابن عساكر: ومن يجيزك بها غيري؟ وليس في هذا شيء, فغير الزهري لا يستطيع أن يجيز تلاميذ الزهري كإبراهيم، بأحاديث لم يسمعوها إلا من شيخهم على أنه كان أعلم أهل زمانه بالسنة, وقد نقلنا قول غير واحد من أئمة الحديث أنه لولاه لضاعت أشياء كثيرة من السنة، واعترف مسلم له بأنه يروي تسعين حديثا لا يرويها غيره، فيكون معنى قوله لإبراهيم ومن يعلم بهذه الأحاديث غيري حتى يجيزك بها؟ وليس معناه أنه لا يجرؤ أحد من المسلمين أن يبيح له وضع الأحاديث غيري.
- إن إبراهيم هذا لم ترو له كتب السنة عندنا شيئا، ولم تذكره كتب الجرح والتعديل، لا في الثقات ولا في الضعفاء المتروكين, فأين هذه الأحاديث التي نشرها على الناس بإذن من الزهري؟ وأين موضعها من كتب السنة؟ ومن رواها عنه؟ وكيف اختفت هذه الصحيفة فلم يبق لها مكان في كتب التاريخ؟
قول الزهري: “أكرهونا على كتابة الحديث”:
لقد زعم بعضهم أن الزهري اعترف اعترافا خطيرا في قوله الذي رواه عنه معمر: “إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث”، وأن ذلك يفهم منه استعداد الزهري لأن يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمة الإسلامية.
فقد قدمنا لك – أيها القارئ العزيز – عند الحديث عن صدق الزهري وجرأته؛ أنه أبعد الناس عن الرضوخ لأهواء الحاكمين، وذكرنا لك من الوقائع التاريخية بينه وبين خلفاء بني أمية ما تجزم معه بأنه ليس ذلك الرجل المستعد لأن يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند المسلمين.
أما هذا النص الذي جاءوا به ففيه تحريف متعمد يقلب المعنى رأسا على عقب, وأصله كما عند ابن عساكر وابن سعد: أن الزهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس – ويظهر أنه كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يتكلوا على الكتب – فلما طلب منه هشام وأصر عليه أن يملي على ولده ليمتحن حفظه، وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: “يا أيها الناس، إنا كنا منعناكم أمرا قد بذلناه الآن لهؤلاء، وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث، فتعالوا حتى أحدثكم بها”[37]، فحدثهم بالأربعمائة حديث. هذا هو النص التاريخي لقول الزهري، وقد رواه الدارمي بلفظ آخر وهو: «كنا نكره كتابة العلم – أي كتابته – حتى أكرهنا عليه السلطان، فكرهنا أن نمنعه أحدا»[38].
فانظر كم الفرق بين أن يكون قول الزهري كما روى المغرضون: “أكرهونا على كتابة أحاديث”، وبين أن يكون قوله كما رواه المؤرخون: “أكرهونا على كتابة الأحاديث”، أو كما رواه الدارمي: “على كتابة العلم”، ثم انظر إلى هذه الأمانة العلمية حذف “أل” من الأحاديث فقلبت الفضيلة رذيلة. حيث كان النص الأصلي يدل على أمانة الزهري وإخلاصه في نشر العلم، فلم يرض أن يبذل للأمراء ما منعه من عامة الناس إلا أن يبذله للناس جميعا، فإذا أمانة هؤلاء تجعلهم ينسبون للزهري أنه وضع للأمراء أحاديث أكرهوه عليها، فأين هذا من ذاك[39]؟
الخلاصة:
- إن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – أحد الصحابة الأجلاء, خال المؤمنين وأميرهم, وقد صحت الأخبار في فضله ومكانته.
- لم يثبت أن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – سب عليا – رضي الله عنه – أو أبناءه, والرواية التي جاء بها الطاعنون لا تقوى في ميزان النقد الحديثي.
- إن زيادة معاوية – رضي الله عنه – درجة في المنبر النبوي, أو خطبته جالسا أو تقديم مروان خطبة العيد على الصلاة, لا يعد دليلا على وضعهم أحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يستدلوا على أفعالهم تلك بأحاديث تسوغ لهم ما فعلوه, فليست ثمة علاقة بين الأمرين.
- إن صلة الزهري بالأمويين صلة الناصح للخليفة أو الأمير, ولم يكن الزهري ألعوبة في أيديهم, وهذا يبرر ذهابه للقصر ووجوده في حاشية السلطان.
- إن ذهاب الزهري للقصر وتحركه في حاشية السلطان ليس دليلا على وضعه للأحاديث, فقديما تردد الصحابة والتابعون على معاوية وغيره من الأمويين ولم يطعن فيهم أحد.
- إن حديث «لا تشد الرحال» ليس من وضع الزهري وإنما رواه البخاري ومسلم من غير طريق الزهري بالإضافة إلى طريق الزهري,فكيف يكون الزهري واضعه؟
- أما مجيء إبراهيم بن الوليد الأموي بصحيفة إلى الزهري, وطلبه منه أن يأذن له بنشر أحاديث فيها على أنه سمعها منه, فإن الحقائق التاريخية تثبت أن إبراهيم قد سمع هذه الصحيفة فعلا من الزهري, وهذا يسمى في اصطلاح المحدثين “عرض المناولة”، وبذلك فلا شبهة فيها.
- وأما دعواهم أن الزهري قال: “إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث” فهذا غير صحيح، وإنما الصحيح قوله: “إن هؤلاء أكرهونا على كتابة الأحاديث”؛ أي: تسجيلها في ديوان, وليس كتابة أحاديث من وضعه هو كما زعموا.
(*) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي, دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م. قصة الهجوم على السنة, د. علي أحمد السالوس, دار السلام, القاهرة, ط1, 1408هـ/ 1987م. حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها, الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية، د. ت.
[1]. سير أعلام النبلاء, الذهبي, تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1423هـ/ 1993م, (3/ 151، 152) بتصرف.
[2]. أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب: الحيض، با ب: الوتر بركعة واحدة ومن أجاز أن يصلي ركعة واحدة، (3/ 26)، رقم (4572).
[3]. انظر: سير أعلام النبلاء, الذهبي, تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1423هـ/ 1993م, (3/ 119).
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث العرباض بن سارية، رقم (17192). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3227).
[5]. تاريخ الأمم والملوك، الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1407هـ، (3/ 218).
[6]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص193.
[7]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (7/ 182).
[8]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1423هـ/ 1993م، (7/ 302).
[9]. ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 420).
[10]. ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 438).
[11]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (7/ 72).
[12]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 614).
[13]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 621).
[14]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، (4/ 615).
[15]. انظر: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، (6/ 696)، رقم (3585).
[16]. ذكر ابن حجر أن المنبر لم يزل على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 463).
[17]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (2/ 463).
[18]. انظر: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، محمد الزرقاني، (1/ 371).
[19]. المنبر النبوي، عطية صقر، موقع موسوعة الفتاوى، مايو 1973م.
[20]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص212.
[21]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الأوائل، باب: أول ما فعل ومن فعله، (7/ 247)، رقم (35735).
[22]. تذكرة الحفاظ، الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (1/ 118).
[23]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، (4/ 1444)، رقم (1963).
[24]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي, دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م, ص213 بتصرف.
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العيدين، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر، (2/ 520)، رقم (956).
[26]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص215 بتصرف.
[27]. العقد الفريد, ابن عبد ربه، دار الاستقامة، القاهرة، 1940م، (1/ 60).
[28]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 502).
[29]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، (55/ 371).
[30]. يستخذي: يخضع.
[31]. تذكرة الحفاظ، الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (1/ 109).
[32]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضل الصلاة، باب: مسجد بيت المقدس، (3/ 84، 85)، رقم (1197). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (5/ 2091)، رقم (3203).
[33]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي, دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م, 200: 204 بتصرف.
[34]. المشتهر من الحديث الموضوع والضعيف والبديل الصحيح, د. عبد المتعال الجبري, مكتبة وهبة, القاهرة, ط1, 1407هـ/ 1987م, ص199.
[35]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص205.
[36]. علوم الحديث، ابن الصلاح، المكتبة العلمية، بيروت، 1401هـ/ 1981م، ص146، 147.
[37]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، (55/ 333). سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1423هـ/ 1993م، (5/ 234).
[38]. أخرجــه الدارمـي في سننــه، المقدمــة، بـاب: التسويــة في العلـم، (1/ 122)، رقم (404). وصححه حسين سليم أسد في تعليقه على سنن الدارمي.
[39]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص204: 207 بتصرف.