دعوى أن خيرية إبليس على آدم في الخلق تمنعه من السجود له
وجها إبطال الشبهة:
1) مقولة إبليس عذر أقبح من ذنب، ومنشؤها الحسد والاستكبار، وجوابه ملئ بالجهل والغباوة، لأنه لا يمكن لأحد أن يعترض على الله، فلله الحجة البالغة.
2) قياس إبليس قياس فاسد، ولا نسلم بأن النار خير من الطين، بل العكس هو الصحيح.
التفصيل:
أولا. عذر أقبح من ذنب:
مقولة إبليس – لعنه الله – هي من العذر الذي هو أقبح وأكبر من الذنب، فقد امتنع من الطاعة؛ لأنه يرى نفسه فاضلا وآدم مفضولا، فكأنه قال: أنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له، والفاضل لا يؤمر بالسجود للمفضول؟!
ثم ذكر إبليس – لعنه الله – حجته في الاستنكاف عن السجود لآدم، وهي أنه خير منه لأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلق منه آدم وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله – عز وجل – خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس الملعون قياسا فاسدا في مقابلة النص: )فقعوا له ساجدين (72)( (ص)، فأخطأ، فقبحه الله في قياسه الفاسد.
وجواب إبليس السابق يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح، وما أوقعه في ذلك – لعنه الله – إلا حسده وكبره؛ فإنهما يعميان البصائر، ويتمثل ذلك فيما يلي:
- الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه، ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله – عز وجل – فيما لا يوافق هواه، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء، وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه، مكتفيا قبل ذلك بأن الله – عز وجل – يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه، وحكم شرعه، وفوائد أمره ونهيه، )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك)، فهو سبحانه لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله.
- الاحتجاج على ربه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه، بل يعلم أن لله الحجة البالغة: )قل فلله الحجة البالغة( (الأنعام: 149).
- جعل امتثال أمر الرب – عز وجل – مشروطا باستحسان العبد له، وموافقته لرأيه وهواه، وهو رفض لطاعة الرب، وترفع عن مرتبة العبد، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند، وهو في حكم الدين كفر، وفي العقل حماقة وجهل، فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرءوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم وآراءهم، لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط، وينكسر الجيش ويهلك، وتنحل الشركة وتفلس، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس، وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده؟! ولذا قال الحسن: قاس إبليس، وهو أول من قاس، يعني قوله: )خير منه( (الأعراف: ١٢(.
ثانيا. استدلال فاسد:
إن استدلال إبليس على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين استدلال فاسد من عدة وجوه:
- أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء، وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة يرجح أنها متحولة عن أصل واحد كما يعلم من فن الكيمياء.
- أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس، فالمسك من الدم، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم، وكذلك قد يكون الخسيس أصله نفيس؛ مثل الأقذار التي تبقى من مادة الطعام الذي يشتهى ويحب.
- أن الملائكة خلقوا من النور، وإبليس خلق من مارج من النار، قال عز وجل: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن( (الكهف: 50)، وقال أيضا: )وخلق الجان من مارج من نار (15)( (الرحمن)، والمارج من النار هو اللهب المختلط بالدخان، فما فوقه دخان، وما تحته لهب صاف، فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب، ولا شك في أن النور خير من النار، والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان، وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله عز وجل، فكان أولى به أن يسجد هو، بل كان أولى بأن يقال له: أولى لك فأولى.
- إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه، فلا نسلم أن النار خير من الطين.
فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة، وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها، ثم إن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة، ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله عز وجل، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
- أن اللعين غفل عن التشريف العظيم والتكريم الذي خص الله به آدم من خلقه بيده، والنفخ فيه من روحه، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له.
فهذه كلها أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له، فكان بدء الذنوب الكبر، قال عز وجل: )فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)( (البقرة)، وقال الله له: )فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها( (الأعراف: 13) [1]. فكان جزاؤه اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78)( (ص).
الخلاصة:
- امتناع إبليس عن السجود لآدم – عليه السلام – لأنه يرى نفسه فاضلا وآدم مفضولا، وقاس ذلك على أصل الخلق لكليهما، وهو قياس فاسد، لأنه يرى مادة خلقه خيرا من مادة خلق آدم، وغاب عنه تشريف الله تعالى لآدم حين خلقه بيديه، وأمر الملائكة بالسجود له تشريفا وتعظيما.
- الحسد والاستكبار هما اللذان دفعا إبليس أن يرد على المولى – عز وجل – بأنه خير من آدم، ولا يصح السجود له، وفي هذا الرد من الجهل والغباوة الكثير، فضلا عن الاعتراض على أمر المولى – عز وجل – وتوهم أن الطاعة لله لا تكون إلا فيما يوافق الهوى.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (الأعراف/ 12، الحجر/ 33، ص/ 76، الإسراء/ 61، 62).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الأعراف/ 13، الحجر/ 34، ص/ 75، البقرة/ 34).
[1]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج8، ص330: 332.