دعوى أن قوله عز وجل: (لا تنفذون إلا بسلطان) يفيد عدم قدرة الإنسان على غزو الفضاء
وجها إبطال الشبهة:
1) يستحيل على الإنسان اختراق الأرض من أقطارها؛ لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز، أما النفاذ من أقطار السماوات فهو أعظم استحالة؛ ذاك أن قوانين العلم إنما تقودنا إلى ضرورة أن يمضي رائد الفضاء آلاف السنين الضوئية قبل أن ينفذ من قطر من أقطار مجرتنا؛ ومن ثم جاء القرآن متحدِّيًا لكل من الجن والإنس تحديًا صريحًا بعجزهم عن النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض؛ لضخامة أبعادهما، ولقصر عمر المخلوقات وحتمية فنائها.
2) إذا كانت الآية تنفي النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض؛ فإنها لا تنفي إمكانية غزو الفضاء في حدود استطاعة الإنسان بسلطان من الله وتوفيقه، وقد دلت آيات عدة من القرآن على هذا.
التفصيل:
أولا-استحالة النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض:
1) الحقائق العلمية:
- بالنسبة للنفاذ من أقطار الأرض:
تؤكد المعارف الحديثة على استحالة النفاذ من أقطار الأرض؛ لأن أقطار الأرض تتراوحبين 12756 كم بالنسبة إلى متوسط قطرها الاستوائي، و12713 كم بالنسبة إلى متوسط قطرها القطبي؛ وذلك لأن الأرض ليست تامة الاستدارة؛ لانبعاجها قليلاً عند خط الاستواء، وتفلطحها قليلاً عند القطبين.
ويستحيل على الإنسان اختراق الأرض من أقطارها؛ لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز، الأمر الذي لا تطيقه القدرة البشرية، ولا التقنيات المتقدمة التي حققها إنسان هذا العصر، فعلى الرغم من التطور المذهل في تقنيات حفر الآبار العميقة التي طورها الإنسان؛ بحثًا عن النفط والغاز الطبيعي، فإن هذه الأجهزة العملاقة لم تستطع حتى اليوم تجاوز عمق 13 كيلو مترًا من الغلاف الصخري للأرض، وهذا يمثل0,10% تقريبًا من طول نصف قطر الأرض الاستوائي أو القطبي، وعند هذا العمق تعجز أدوات الحفر عن الاستمرار في عملها؛ لتزايد الضغط والارتفاع الكبير في درجات الحرارة، إلى درجة قد تؤدي إلى صهر تلك الأدوات، فمن الثابت علميًّا أن درجة الحرارة تزداد باستمرار من سطح الأرض في اتجاه مركزها حتى تصل إلى ما يقرب من درجة حرارة سطح الشمس المقدرة بستة آلاف درجة مطلقة حسب بعض التقديرات، ومن هنا كان عجز الإنسان عن الوصول إلى تلك المناطق فائقة الحرارة والضغط.
رسم تخطيطي للكرة الأرضية يوضح نطق الأرض الداخلية
- بالنسبة للنفاذ من أقطار السماوات:
تبلغ أبعاد الجزء المدرك من السماء الدنيا من الضخامة ما لا يمكن أن تطويه قدرات المخلوقين من الإنس والجن، وهذا الأمر يشعر كلا منهما بضآلته أمام أبعاد الكون، وبعجزه التام عن مجرد التفكير في الهروب منه، أو النفاذ إلى المجهول من بعده!
فمجرتنا (درب التبانة) يقدر قطرها الأكبر بمئة ألف سنة ضوئية على أقل تقدير (100,000 × 9,5 مليون مليون كيلو متر تقريبًا)، ويقدر قطرها الأصغر بعشرة آلاف سنة ضوئية على أقل تقدير كذلك (10,000 × 9,5 مليون مليون كيلو متر تقريبًا)؛ ومعنى ذلك: أن الإنسان لكي يتمكن من الخروج من مجرتنا، عبر قطرها الأصغر يحتاج إلى وسيلة تحركه بسرعة الضوء ليستخدمها في حركة مستمرة لمدة تصل إلى عشرة آلاف سنة من سنيننا، وبطاقة انفلات خيالية؛ لتخرجه من نطاق جاذبية الأجرام التي يمر بها من مكونات تلك المجرة، وهذه كلها من المستحيلات بالنسبة للإنسان الذي لا يتجاوز عمره في المتوسط خمسين سنة، ولم تتجاوز حركته في السماء ثانية ضوئية واحدة وربع الثانية فقط، وهي المسافة بين الأرض والقمر، على الرغم من التقدم التقني المذهل الذي حققه في صناعة أجهزة ريادة السماء، وعلى الرغم من أن حركة أي جسم مادي بسرعة الضوء تحوله إلى طاقة يستحيل استرجاعه منها بشكله الأول.
ومجموعتنا الشمسية تقع من مجرتنا على بعد نحو ثلاثين ألفًا من السنين الضوئية من مركزها، وعشرين ألفًا من السنين الضوئية من أقرب أطرافها، فإذا حاول الإنسان الخروج من أقرب الأقطار إلى الأرض فإنه يحتاج إلى عشرين ألف سنة وهو يتحرك بسرعة الضوء لكي يخرج من أقطار مجرتنا، وهل يطيق الإنسان ذلك؟ أو هل يمكن أن يحيا إنسان لمثل تلك المدد المتطاولة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يتحرك بسرعة الضوء؟ كل هذه حواجز تحول دون إمكان ذلك بالنسبة للإنسان، وما ينطبق عليه ينطبق على عالم الجان الغيبي بالنسبة لنا، بالقياس على أنه من خلق الله الذي وصفه بالعجز عن ذلك.
رسم للمجموعة الشمسية يبين مدار كل كوكب في
دورته حول الشمس
ومجرتنا جزء من مجموعة من المجرات تعرف باسم: المجموعة المحلية، يقدر قطرها بنحو ثلاثة ملايين وربع المليون من السنين الضوئية (3,261,500 سنة ضوئية)، وهذه بدورها تشكل جزءًا من حشد مجري يقدر قطره بأكثر من ستة ملايين ونصف المليون من السنين الضوئية (6,523,000 سنة ضوئية)، وهذا الحشد المجري يكون جزءًا من الحشد المجري الأعظم، ويقدر قطره الأكبر بمئة مليون من السنين الضوئية وسمكه بعشرة ملايين من السنين الضوئية.
وتبدو الحشود المجرية العظمى على هيئة كروية تدرس في شرائح مقطعية تقدر أبعادها في حدود 150 × 100 × 15 سنة ضوئية، والفلكيون يسمون أكبر تلك الشرائح مجازًا باسم: “الحائط العظيم”، وهذا الحائط يزيد طوله على مئتين وخمسين مليونًا من السنين الضوئية. وقد تم أخيرًا اكتشاف نحو مئة من الحشود المجرية العظمى تكون تجمعًا أعظم على هيئة قرص يبلغ قطره الأكبر بليونين من السنين الضوئية([1]).
يقول د. منصور محمد حسب النبي: نحن نعيش حاليًّا عصر الفضاء، ولقد وصل الإنسان إلى القمر عام 1969م، وهو الآن في طريقه إلى المريخ؛ بحثًا عن الحياة على سطحه، ولكن هل هناك رحلات بشرية تغادر المجموعة الشمسية في المستقبل؛ بحثًا عن الحياة في أرجاء الكون؟ والجواب على هذا يتضح من عرضنا للمسافات الشاسعة بين النجوم والسرعات المتاحة تكنولوجيًّا لسفن الفضاء، فمن المعروف أن سرعة سفن فويجر لا تزيد على30 كم/ ث، وهي سرعة كسيحة تساوي 1/ 10000 بالنسبة إلى سرعة الضوء؛ ولذلك لن تصل هذه السفن إلى أقرب كوكب تابع لأقرب نجم (ألفا قنطورس) إلا بعد نحو40 ألف سنة في الوقت الذي يقطع فيه الضوء هذه المسافة في 4,3 سنة ذهابًا فقط. وبهذا؛ فإن هذه السفن المتاحة حاليًّا لا تصلح لحمل ركاب خارج مجموعتنا الشمسية؛ لأن حياتهم ستنتهي -مهما طالت أعمارهم- في السنوات الأولى لرحلة الفضاء.
وليس من المتوقع حاليًّا أن تزيد سرعة السفن النووية (مثل نموذج دايدالوس) على عُشْر سرعة الضوء لتصل إلى ألفا قنطورس بعد 43 عامًا، وهي مدة تقل إلى حد ما عن متوسط عمر الإنسان، ولكن مثل هذه السفن لن تجدي في السفر للنجوم الأبعد عنّا.
وليس من المتوقع أن تزيد سرعة سفن الفضاء إلى أكثر من نصف سرعة الضوء مهما تقدمت التكنولوجيا لنصل بها إلى أقرب نجم (قنطورس) في 2,15سنة، وهذه مدة معقولة، ولكن إذا أطلقت مثل هذه السفن لتحملنا إلى نجم يبعد عنا مئة سنة ضوئية -مثلاً-؛ فإننا لن نصل إلى كوكبه إلا بعد 200 سنة ذهابًا علاوة على 200 سنة أخرى للعودة، وعندئذٍ يكون كل ركاب السفينة قد فقدوا الحياة؛ لأن متوسط العمر60 – 70 سنة، ولن يكون لتمدد الزمن عند هذه السرعة أي تأثير، ولا مفر من الاقتصار على رحلات للنجوم المحيطة بنا فقط([2]).
2) التطابق بين ما أثبته العلم وما جاءت به الآية الكريمة:
قال الله تعالى: )يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)((الرحمن)؛ ففي الآية الكريمة قطع باستحالة النفاذ من أقطار السماوات والأرض من غير تقدير الخالق عز وجل وعنايته ورعايته، فكما أثبتنا سلفًا أن النفاذ من أقطار الأرض إنما يعني اختراق قشرتها اليابسة التي يبلغ سمكها 60كم، والانطلاق عبر باطنها الملتهب الذي تربو درجة حرارته على 5000 درجة سنتجراد، وهذا يعني انبثاق مواد الباطن المنصهرة على هيئة بركان ثائر يرسل شواظ النار والنحاس. أما النفاذ من أقطار السماوات فهو أشد هولاً وأعظم استحالة ـ خاصة إذا كان من غير سلطان من الله سبحانه وتعالى؛ إذ يستلزم غالبًا عبور نجم كالشمس أو أكبر منها يرسل إلى الفضاء أكداسًا من شواظ النار والنحاس.
ومن ثم؛ فإن ما يدعيه الطاعن من أن الآية تقرر استحالة صعود الإنسان إلى السماء غير صحيح؛ ذاك أن الآية إنما تقرر استحالة النفاذ من أقطار السماوات والأرض بغير سلطان من الله، أما بالنسبة إلى صعود الإنسان إلى السماء فليس في الآية ما ينفي ذلك؛ بل العكس هو الصحيح، وهذه النقطة سيتم معالجتها –تفصيلاً- في الوجه الثاني.
- من الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
نفَذ: يقال في العربية: نفذ السهم في الرمية نفوذًا ونفاذًا، ونفذ الـمِثْقَب في الخشب، إذا خرِق إلى الجهة الأخرى، ونفذ فلان في الأمر ينفُذ نفاذًا، وأنفذه نفاذًا، ونفَّذه تنفيذًا، وفي الحديث الشريف: «أنفذوا جيش أسامة»؛ والأمر النافذ؛ أي: المطاع، والمنفذ هو الممر النافذ، قال تعالى: )إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)((الرحمن)؛ بمعنى: أن تخرقوا السماوات والأرض من جهة أقطارها إلى الجهة الأخرى([3]).
أقطار: قطر كل شكل وكل جسم هو: الخط الواصل من أحد أطرافه إلى الطرف المقابل مرورًا بمركزه، قال تعالى: )إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض((الرحمن:33)، وقال:)ولو دخلت عليهم من أقطارها( (الأحزاب: 14)، ويقال في اللغة: قطرته، بمعنى: ألقيته على قطره، وتقطَّر؛ أي: وقع على قطره ومنه: قطَر المطر؛ أي: سقط في خطوط مستقيمة باتجاه مركز الأرض([4]).
- من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى: )يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)((الرحمن)،قال ابن كثير: أي: لا تستطيعون هربًا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم… (إلا بسلطان)؛ أي: إلا بأمر الله… ولهذا قال تعالى:)يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35)((الرحمن)([5]).
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم: “يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين فاخرجوا، لا تستطيعون الخروج إلا بقوة وقهر، ولن يكون لكم ذلك، فبأي نعمة من نعم ربكما تجحدان؟! يصب عليكما لهب من نار ونحاس مذاب، فلا تقدران على رفع هذا العذاب”([6]).
وجاء في تعليق هامشي ما يأتي: “ثبت حتى الآن ضخامة المجهودات والطاقات المطلوبة للنفاذ من نطاق جاذبية الأرض، وحيث اقتضى النجاح الجزئي في ريادة الفضاء -لمدة محدودة جدًّا بالنسبة لعظم الكون- بذل الكثير من الجهود العلمية الضخمة في شتى الميادين الهندسية والرياضية والفنية والجيولوجية؛ فضلاً عن التكاليف الخيالية المادية التي أنفقت في ذلك وما زالت تنفق، ويدل ذلك دلالة قاطعة على أن النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض التي تبلغ ملايين السنين الضوئية لإنس أو جن مستحيل”([7]).
- استحالة النفاذ من أقطار السماوات و الأرض:
في الآيات التي نحن بصدد الحديث عنها، يتحدَّى القرآن الكريم كلاًّ من الجن والإنس تحديًا صريحًا بعجزهم عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض، وهو تحدٍّ يظهر ضآلة قدراتهما مجتمعين أمام طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الكون؛ لضخامة أبعاد السماوات والأرض، ولقصر عمر المخلوقات، وحتمية فنائها.
إن الخلق كلهم لو أرادوا أن ينفذوا من الأرض وطبقاتها السبع لانصهروا قبل أن يصلوا إلى اللب الخارجي من شدة حرارته وعمق قراره، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى مخاطبًا الإنسان: )ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37)( (الإسراء).
وكذلك؛ فإن الجزء المدرك من السماء الدنيا يزيد قطره على العشرين بليون سنة ضوئية، وهي حقائق تجعل الإنسان بكل إنجازاته العلمية يتضاءل تضاؤلاً شديدًا أمام أبعاد الكون المذهلة، وكذلك الجان، وإمكانات كل منهما أقل من مجرد التفكير في إمكانية الهروب من ملك الله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
ومع أن الجن عالم غيبي بالنسبة لنا، إلا أن ما ينطبق على الإنس من عجز تام عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض ينطبق عليهم أيضًا. والآيات الكريمة قد جاءت في مقام التشبيه بأن كلا من الجن والإنس لا يستطيع الهروب من قدر الله، أو الفرار من قضائه، بالهروب إلى خارج الكون عبر أقطار السماوات والأرض، حيث لا يدري أحد ماذا بعد ذلك، إلا أن العلوم المكتسبة قد أثبتت بالفعل عجز الإنسان الكامل عن إمكانية تحقيق جزء من ذلك، والقرآن الكريم يؤكد لنا اعتراف الجن بعجزهم الكامل عن ذلك أيضًا، كما جاء في قول الحق عز وجل على لسان الجن: )وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12)((الجن)،وذلك بعد أن قالوا: )وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8)( (الجن)([8]).
3) وجه الإعجاز:
في قوله تعالى:)يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)((الرحمن)،قطع باستحالة النفاذ من أقطار السماوات والأرض؛ فالخروج -على سبيل المثال- من مجموعتنا الشمسية من أجل الوصول إلى أقرب مجموعات الشموس إلينا في مجرتنا يتطلب ضرورة السفر عبر الفضاء مسافة تزيد على أربع سنوات ضوئية، ويفيض الفضاء الكوني الخارجي بألوان من الأشعة الكونية التي تقتل الخلايا الحية، وهي بمثابة النار التي لا دخان لها، والتي يعبر عنها القرآن بكلمة “نحاس” في قوله تعالى: )يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس((الرحمن: ٣٥).
وفي اختيار لفظ “أقطار” إعجاز علمي؛ إذ يدل على حقيقة مؤداها: أن مسالك الفضاء الكوني متعرجة، وأن سائر ما يسبح فيه إنما ينطلق في مسارات منحنية.
ثانيا-إشارة القرآن إلى غزو الإنسان الفضاء:
يقول الطاعن: إن القرآن الكريم أخطأ حينما نفى في قوله: )يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33)((الرحمن)، استحالة غزو الإنسان الفضاء؛ ذاك أن الواقع يكذب ذلك؛ فقد صعد الإنسان إلى القمر، وهو الآن في طريقه إلى المريخ. وليس من شك في أن هذا القول عارٍ من الصحة؛ وذلك لما يأتي:
- من ناحية أولى: الآية فيها إشارة واضحة إلى تلمُّس الخروج من أقطار السماوات والأرض، والمعنى: أنكم سوف تنفذون في حدود مدى استطاعتكم بسلطان من الله وتوفيقه، وعندئذٍ يجب عليكما -يا معشر الجن والإنس- شكر الله وحمده على نعمه وآلائه. ومن ثم؛ فالآية لا تنفي النفاذ المحدود من أقطار السماوات والأرض، ولكنها تنفي القدرة على النفاذ المطلق.
- ومن ناحية ثانية: ثمة إشارات متعددة في القرآن الكريم إلى صعود الإنسان الفضاء، ومنها:
- قال تعالى في سورة الأنعام: )فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)((الأنعام)، وقد دلت هذه الآية العظيمة على إمكانية صعود الإنسان إلى السماء، والسماء تطلق على كل ما علا وارتفع، وفي هذا الزمان استطاع الإنسان أن يصعد إلى السماء، سواء بالطائرات أو بالبالونات أو بالصواريخ الفضائية، وكذلك صعد إلى أعلى بتسلق قمم الجبال الشاهقة، والقرآن يستمد التشبيه من الكون ويربط الشعور بالحس، وحيث إن حال المشبه هي من الأمور المعنوية التي تثبت في الذهن بتثبيتها بصورة محسوسة، وحيث إن التشبيه لا تكتمل أركانه ولا يكون وجه الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبه إلا بحمل النص على ظاهره من قصد التصعد في السماء على الحقيقة، ومعلوم أن ألفاظ القرآن الكريم في كل المشاهد تتميز بدقة اختيارها ومطابقتها للمعنى؛ لذلك فالألفاظ في هذا المشهد أيضًا تجمع بين دقة الدلالة ووضوح العبارة، وخاصة أنه لا توجد قرينة في النص تصرف دلالة اللفظ عن معناه الظاهر؛ لذلك يثبت أن في الآية الكريمة دلالة واضحة على إمكانية صعود الإنسان إلىأجواء الفضاء، وتعتبر هذه الإشارة إخبارًا عن حقيقة وقعت ونبوءة تحققت في هذاالزمان([9]).
- قال تعالى في سورة الحجر: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)((الحجر)، وفي هذه الآية الكريمة نص صريح على التأثيرات التي يتعرض لها رواد الفضاء، وفيها دلالة على أن في السماء أبوابًا، وأن الصعود إلى الفضاء لا بد أن يكون بشكل متعرج، وليس مستقيمًا، كما دلت الآية –كذلك- على ظلمة الفضاء الكوني.
- قال تعالى في سورة يوسف: )وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105)((يوسف)، فالمرور على الآيات في الأرض يكون بالسير على الأقدام أو ركوب الدواب، ولكن كيف يكون المرور على الآيات في السماء؟ لعل في ذلك إشارة إلى سفن الفضاء والمركبات الفضائية.
- قال تعالى في سورة الانشقاق: )فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19)((الانشقاق)؛ فقد ذكر بعض المفسرين أن في هذا دلالة على صعود الإنسان إلى الفضاء، وأن المقصود بالطبق هو سفن ومركبات الفضاء، أو ما يستخدمه البشر من أدوات من أجل الصعود، وفي الآية دلالة على أن ذلك لم يحدث في زمن نزول الآية، وإنما يكون في المستقبل.
- عندما ذكر الله سبحانه وتعالى عدم إعجاز السابقين له عز وجل -وهم من كانوا منذ آدم وحتى البعثة المحمدية ونزول القرآن- خص إعجازهم بالأرض، أما هذه الأمة فقد ربط إعجازها بالأرض والسماء، انظر في هاتين الآيتين: قوله عز وجل في سورة هود: )أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20)((هود)، وقوله عز وجل في سورة العنكبوت: )وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22)( (العنكبوت)، فقد أشار سبحانه وتعالى إلى السابقين بلفظة “أولئك” وقيد وجودهم في الأرض دون السماء، وأشار إلى عموم المخاطبين الذين تشملهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة “أنتم”، وجعل محلهم في السماء بالإضافة إلى محلهم الاعتباري في الأرض، فنلاحظ زيادة لفظة “ولا في السماء” في الآية الثانية. ولعل في هذا إشارة إلى ارتياد هذه الأمة الفضاء([10]).
(*) نقض النظريات الكونية، محمد بن عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص342- 345.
[2]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص234-236.
[3]. انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص500، 501. لسان العرب، مادة: نفذ.
[4]. انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص407.
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص274.
[6]. المرجع السابق، ص954.
[7]. المنتخب في تفسير القرآن، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط21، 1427هـ/ 2006م، ص954.
[8]. انظر: من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص342: 345. )لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)(،مراد عبد الوهاب الشوابكة، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[9]. ضيق الصدر والتصعُّد في السماء، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[10]. القرآن وصعود الفضاء، مقال منشور بموقع: www.allsc.info.