دعوى أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يستحلون القتال في الأشهر الحرم
وجوه إبطال الشبهة:
1) الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام إثم أعظم وأكبر – عند الله – من القتال في الأشهر الحرم، والنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون معه أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرام
2) المسلمون لم يبدءوا العدوان، وإنما ردوا عدوان المعتدين، وما حدث من قتال فهو خطأ في التأويل أو التقدير.
3) ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، وعلى فرض أنه لم ينسخ فإن القتال لرد العدوان واجب حتى ولو كان في الأشهر الحرم.
التفصيل:
أولا. الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام أعظم إثما من القتال في الأشهر الحرم:
تلك مقولة ظالمة يطلقها المشركون كي يعموا على الناس ما ارتكبوه من كبائر وموبقات، حين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وكفروا بالله عز وجل، وأخرجوا النبي – صلى الله عليه وسلم – من البلد الحرام، وقد رد الله عليهم مقولتهم هذه مبينا عظم ما ارتكبوه، فقال سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة:217).
والسائلون هنا هم المؤمنون، ويحتمل أن يكونوا من المشركين، وأيا ما كان السائل فإن الجواب قد جاء حاسما، فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إن القتال في الشهر الحرام إثمه كبير وذنبه عظيم، ولكن يا معشر قريش الذين نعيتم علينا القتال في الأشهر الحرم، كيف تستعظمون علينا أننا قاتلنا في الشهر الحرام، وما فعلتموه أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام واضطهادكم المسلمين وفتنتهم عن دينهم حيث تقتلون من يسلم، وتؤذونه في نفسه وأهله وماله وتمنعونه من الهجرة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وما فعلتموه من الكفر بالله عز وجل، وما فعلتموه من إخراج النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين من المهاجرين من البلد الحرام، والمسجد الحرام، كما قال سبحانه وتعالى: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله( (الحج: 40)، كل واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبتموها هي أعظم إثما وأكبر جرما وأقبح ذنبا عند الله – عز وجل – من القتال في الشهر الحرام، فكيف بها وقد اجتمعت؟!
جاء في “التحرير والتنوير”: وقوله: )وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: 217) إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر، أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتية بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرم لأجل حجها الأشهر الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحرياء بالتحميق والمذمة؛ لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن علي – رضي الله عنهما -: “عجبا لكم يا أهل العراق! تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض”؟! ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا
جهارا ولـم تغضب لقتل ابن خازم
والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثما عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام[1].
وسبب نزول هذه الآية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد بعث رهطا في سرية عليهم عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الأشهر الحرم، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى، وقتل في أول ليلة من رجب، فأنزل الله الآية يعير أهل مكة، مبينا أن القتال في الشهر الحرام لا يحل، وما صنعه هؤلاء المشركون أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفروا بالله – عز وجل – وصدوا محمدا وأصحابه عن المسجد الحرام، وأخرجوا أهله منه، وفتنوا المؤمنين وعذبوهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: )والفتنة أشد من القتل( (البقرة: 191)، وكان المشركون يفتنون المؤمنين عن دينهم بإلقاء الشبهات والإيذاء والتعذيب، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأبيه وأمه، وكما فعلوا ببلال وصهيب وخباب بن الأرت وغيرهم، وهذا ما كان المشركون يعاملون به المؤمنين في حال ضعفهم، ولما هاجروا وكثروا صاروا يقصدونهم بالقتال في مهجرهم لأجل الدين؛ ولذا قال – سبحانه وتعالى – في الآية السابقة: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة:217).
وهذا خطاب من الله للمؤمنين يعلمهم فيه أن أولئك المشركين لا هم لهم إلا منع الإسلام من الأرض، وإذا فترك قتالهم هو الذي يبيد الحق وأهله، وانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحتف بها غيرها من الآثام والموبقات، فكيف وقد قارنها الصد عن سبيل الله والكفر به، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، والاعتداء بالقتال والاستمرار عليه[2]؟!
إذا فالشبهة السابقة التي أثارها المشركون مردودة عليهم؛ فإن المسلمين جميعا وعلى رأسهم إمامهم ورسولهم محمد – صلى الله عليه وسلم – هم أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم وعدم القتال فيها، واعتبار القتال فيها حدثا كبيرا وإثما عظيما.
ثانيا. المسلمون لم يبدءوا العدوان:
ماذا يفعل المسلمون إذا ما بادرهم المشركون بالقتال والعدوان على الأنفس والأموال والأعراض، والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام وإخراجهم منه، وهم أهله وأولى به من غيرهم؟!
إنه لا بد من رد العدوان وحماية الأموال، والأعراض، والأنفس، ومنع المتجبرين من الفساد في الأرض والظلم، وحماية بيوت العبادة وإرساء القيم النبيلة، التي تحمي العدل والحق، وهذه الحقوق لا تقل حرمة عند الله من حرمة الأشهر الحرم التي أبيح فيها القتال لمن ظلم من المسلمين ومن فتنوا في دينهم وأخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا، وفي حديث جابر بسند صحيح «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزي»[3].
وفي ذلك الموقف يقول عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – وهو الذي عايشه وعاناه -:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
ويعلق صاحب “الظلال” على هذا الحادث قائلا: إن المسلمين لم يبدءوا القتال، ولم يبدءوا العدوان، إنما هم المشركون، هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله، ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمنا، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل، وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام، ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات الذين يتخذون منها ستارا حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة.
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل، وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي، وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.
إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية – كما هي – بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد. يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة: لا تجدي على واقع الحياة شيئا!
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون لا يقيمون للمقدسات وزنا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة. يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام! ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!
فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا؛ لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه. يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال، ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة، ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة!
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني )إلا من ظلم( (النساء: ١٤٨) فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول؛ لأنه حق؛ ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلى مستوى الأشرار البغاة. ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة، إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار.
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله.
هذا هو الإسلام.. صريحا واضحا قويا دامغا، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور. وهذا هو القرآن يقف بالمسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله[4].
ثالثا. حكم القتال في الأشهر الحرم:
هذا، وقد اختلف أهل العلم في مسألة نسخ النهي عن القتال في الأشهر الحرم، وجمهور أهل العلم على أن النهي منسوخ، ورأوا جواز القتال في الأشهر الحرم، وبعض أهل العلم قال: إنه محكم لم ينسخ، وقال هذا الفريق: إن القتال على قسمين: قتال ابتداء، وهذا لا يجوز في الأشهر الحرم، وقتال الدفع، وهذا جائز، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على جوازه في الأشهر الحرم وفي غيرها.
ذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن “والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم – عليه السلام – فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدته.
وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك، فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة؛ ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال سبحانه وتعالى: )جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام( (المائدة: 97).
وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ، فأما تخصيصه فبقوله سبحانه وتعالى: )واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة).
وأما نسخه فبقوله سبحانه وتعالى: )براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)( (التوبة)، فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول( (التوبة: 13).
ثم إن الله تعالى أجلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس؛ لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج المشركون للحج فقال لهم: )فسيحوا في الأرض أربعة أشهر(، فآخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة، ثم قال: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم( أي: تلك الأشهر الأربعة )فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(، فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق، ولذلك قاتل النبي – صلى الله عليه وسلم – ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح.
وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.
فإن قلت: إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، فما معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»[5]، فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر، قلت: إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها، والقتال الظلم محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك، وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم؛ لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة؛ إذ العمرة أكثرها في رجب، ولذلك قال: )قتال فيه كبير( (البقرة: 217)، واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي – صلى الله عليه وسلم – الحج على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة، وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلا للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم[6].
الخلاصة:
- الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام وإخراج المسلمين من ديارهم وفتنتهم عن دينهم بالأذى والقتل من قبل المشركين إثم أعظم وأكبر عند الله من القتال في الأشهر الحرم.
- المسلمون لم يبدءوا العدوان، وإنما ردوا عدوان المعتدين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون معه أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم، وما حدث من قتال فهو خطأ في التأويل على أن هذا ضمن سلسلة رد العدوان بين المسلمين والمشركين أو خطأ في التقدير على أن اليوم آخر أيام جمادى.
- جمهور أهل العلم على أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وبعضهم قال: إنه محكم ولم ينسخ، ولكن اتفق الجميع على وجوب القتال لرد العدوان في الأشهر الحرم أو في غيرها.
(*) الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 217).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص328، 329.
[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج2، ص317، 318.
[3]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثيرن من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (14623)، والطحاوي في مشكل الآثار (11/ 31) برقم (4261)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[4]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص226، 227.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1625)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص (3180)، واللفظ له.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص326: 328.