دعوى أن نظام العقوبات في الإسلام لا يواكب مستحدثات الجريمة العصرية
وجوه إبطال الشبهة:
1) الجريمة في النظام العقابي الإسلامي نوعان:
-
-
- جرائم معينة عقوبتها محددة، هي الجرائم التي تستوجب حدا من الحدود التي قررتها الشريعة الإسلامية، ويدخل فيها جرائم القصاص والدية.
- جرائم غير معينة عقوبتها غير محددة وهذه الجرائم هي التي ليس فيها حد معين، وإنما تترك لاجتهاد القاضي وفق معايير معينة.
-
2) التعزير وسيلة عقابية مرنة، تعالج كل جرائم النوع الثاني بجميع مستحدثاتها.
3) هناك اجتهادات عديدة لضبط مستجدات الجريمة بضوابط نظام العقوبات الإسلامي.
التفصيل:
أولا. أنواع الجرائم في النظام العقابي الإسلامي:
هناك جرائم معينة لها عقوبات محددة وهي المعروفة بجرائم الحدود والقصاص والدية، وجرائم غير محدودة تدخل فيها المستجدات في ميدان الجريمة، وليس لها حد عقابي محدد معروف كسابقتها، وإنما يخضع تقدير عقوبتها للقاضي، أو ولي الأمر فيما يسمى بنظام التعزير.
وعن أنواع الجريمة وتقسيماتها في التشريع الإسلامي، يقول عبد القادر عودة: “تتفق الجرائم جميعا في أنها فعل محرم معاقب عليه، ولكنها تتنوع وتختلف إذا نظرنا إليها من غير هذه الوجهة، وعلى هذا يمكننا أن نقسم الجرائم أقساما متنوعة، تختلف باختلاف وجهة النظر إليها.
تنقسم الجرائم بحسب جسامة العقوبة المقررة عليها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جرائم الحدود:
وهي الجرائم المعاقب عليها بحد، والحد: هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى، ومعنى العقوبة المقدرة أنها محددة معينة، فليس لها حد أدنى ولا حد أعلى، ومعنى أنها حق لله، أنها لا تقبل الإسقاط، لا من الأفراد، ولا من الجماعة.
وجرائم الحدود معينة ومحدودة العدد، وهي سبع جرائم: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردة، البغي. ويسميها الفقهاء “الحدود”، دون إضافة لفظ جرائم إليها، وعقوباتها تسمى الحدود أيضا، ولكنها تميز بالجريمة التي فرضت عليها، فيقال: حد السرقة، وحد الشرب، ويقصد من ذلك: عقوبة السرقة، وعقوبة الشرب.
القسم الثاني: جرائم القصاص والدية:
وهي الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو دية، وكل من القصاص والدية عقوبة مقدرة حقا للأفراد، ومعنى أنها مقدرة أنها ذات حد واحد، فليس لها حد أعلى وحد أدنى تتراوح بينهما، ومعنى أنها حق للأفراد أن للمجني عليه أن يعفو عنها إذا شاء، فإذا عفا أسقط العفو العقوبة المعفو عنها.
وجرائم القصاص والدية خمس: القتل العمد، القتل شبة العمد، القتل الخطأ، الجناية على ما دون النفس عمدا، الجناية على ما دون النفس خطأ.
ومعنى الجناية على ما دون النفس، الاعتداء الذي لا يؤدي للموت كالجرح والضرب، ويتكلم الفقهاء عن هذا القسم عادة تحت عنوان الجنايات، متأثرين في ذلك بما تعارفوا عليه من إطلاق لفظ الجناية على هذه الأفعال…
القسم الثالث: جرائم التعازير:
وهي الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة أو أكثر من عقوبات التعزير ومعنى التعزير: التأديب، وقد جرت الشريعة على عدم تحديد عقوبة كل جريمة تعزيرية، واكتفت بتقرير مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم، تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة أو العقوبات المناسبة في كل جريمة، بما يلائم ظروف الجريمة وظروف المجرم؛ فالعقوبات في جرائم التعزير غير مقدرة.
ثانيا. التعزير وسيلة عقابية مرنة:
وجرائم التعزير غير محددة، كما هو الحال في جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، وليس في الإمكان تحديدها، وقد نصت الشريعة على بعضها، وهو ما يعتبر جريمة في كل وقت، كالربا، وخيانة الأمانة، والسب، والرشوة. وترك لأولي الأمر النص على بعضها الآخر، وهو القسم الأكبر من جرائم التعازير، ولكن الشريعة لم تترك لأولي الأمر الحرية في النص على هذه الجرائم، بل أوجبت أن يكون التحريم بحسب ما تقتضيه حال الجماعة، وتنظيمها، والدفاع عن صالحها، ونظامها العام، وألا يكون مخالفا لنصوص الشريعة ومبادئها العامة.
وقد قصدت الشريعة من إعطاء أولي الأمر حق التشريع في هذه الحدود، تمكينهم من تنظيم الجماعة، وتوجيهها الوجهات الصحيحة، وتمكينهم من المحافظة على صوالح الجماعة والدفاع عنها، ومعالجة الظروف الطارئة.
والفرق بين الجريمة التي نصت عليها الشريعة، والعمل الذي يحرمه أولو الأمر: أن ما نصت عليه الشريعة محرم دائما؛ فلا يصح أن يعتبر فعلا مباحا، أما ما يحرمه ولي الأمر اليوم فيجوز أن يباح غدا، إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة[1].
بهذه المساحة الواسعة في تحديد جرائم التعزير، وتقدير عقوباتها المنوطة بولي الأمر، تتحقق مرونة التشريع العقابي الإسلامي، ويمكنه استيعاب كل ما يستجد في مجال الجريمة بمختلف أشكالها وتنوع طبيعتها، وعلى هذا فلا يصح وصم هذا النظام العقابي الإسلامي، بالتقهقر عن مجاراة تطورات الجريمة العصرية المتسارعة، وضبط وتكييف قواعد العقوبات حيالها.
ثالثا. اجتهادات ضبط مستحدثات الجريمة بضوابط الشرع:
نظرا للمرونة الهائلة في مجال العقوبات التعزيرية، واتساع هذا المجال اتساعا مكن التشريع العقابي الإسلامي من مواكبة كل جديد في ميدان الإجرام، فإن هذا المجال مثل ساحة خصبة للاجتهاد، وكذا مصدر فخر للتشريع الإسلامي، ولقابليته للتجدد والمتابعة، وفي هذا السياق يقول د. محمد بلتاجي – رحمه الله – عن جرائم التعزير: وهي كل جناية على إحدى الكليات الخمس لم تتضمنها المجموعتان السابقتان، والشريعة – كما سبق – تفوض للقاضي أمر العقاب فيها، غير محكوم إلا بمراعاة مبدأ الملاءمة بين الجناية والعقوبة التي يقدرها، مع اعتبار حال الجاني، وكافة الظروف التي أحاطت بجنايته في كل قضية تعرض عليه، كذلك ينبغي على القاضي أن يضع في اعتباره – عند النظر في قضايا التعزير – مقاصد الشريعة الإسلامية، ومقرراتها العامة في التجريم وفلسفة العقوبات.
وتشمل دائرة التعزير آلاف الجنايات والمخالفات في كافة مجالات الحياة:
- الاقتصادية: مثل التعامل بالربا، والرشوة، والاحتكار، وأكل المال بالباطل، والغش، والاتجار في المواد الضارة أو المحرمة، أو تزييف النقود، والاستيلاء على المال العام، والتربح غير المشروع من الوظائف العامة..إلخ.
- الأخلاقية: مثل إشاعة الفاحشة في المجتمع، وتزيين الفساد الخلقي، ومعاكسة النساء، والقيادة عليهم – من القود -، والقواد: القائم على تيسير وتنظيم سبل الفاحشة وترويجها، وإفساد النشء خلقيا.. إلخ.
- الصحية: مثل جنايات الأطباء والموكول إليهم أمر علاج الناس صحيا، وإلقاء القاذورات في الطريق، والإسهام في إفساد مصادر المياه وتلويثها، وعرض الأطعمة الفاسدة للبيع، واستيرادها من الخارج، وتصنيعها في الداخل، وصناعة الأدوية المغشوشة، وتزييف تواريخ صلاحيتها… إلخ.
- الأسرية: مثل إهمال ولي أمر الأسرة الإنفاق عليها أو علاج أفرادها، أو الإهمال في تربية الأبناء وتعليمهم، أو العمل على إفسادهم.. إلخ.
- المرورية: مثل قيادة مركبة غير صالحة، أو تعرض الناس في الطريق إلى الحوادث، ومخالفة التراخيص المأذون بها في السرعة، أو غيرها مما يعرض الناس للخطر.. إلخ.
- القضائية: مثل جور القاضي ومخالفته للقانون عمدا، وشهادة الزور، وإخفاء المحامين والموظفين القضائيين للوثائق التي تعين على الحكم بالعدل..إلخ.
وغير ذلك كثير مما يشمل كافة مجالات الحياة بإطلاق، وسلطة ولي الأمر في التحريم هنا سلطة مطلقة، غير محكومة إلا بمقاصد الشريعة العامة في تحقيق العدل والمصلحة، كما قال سبحانه وتعالى: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( (الحديد: ٢٥)؛ فكل ما يقوم على القسط وهو العدل، وتتحقق به مصالح الناس، فهو في سلطة ولي الأمر.
بل إن مجال الجنايات في القسمين السابقين يدخل – أيضا – في مجال التعزير حينما تقوم الشبهة المطلقة للحد مع توفر ركن المخالفة؛ فيسقط الحد لكن يجب التعزير، كمن سب آخر أو شتمه بما لا يوجب حد القذف، لكنه يخضع للتعزير، وكمن ضبط في ريبة مع امرأة أجنبية، لكن لم يثبت عليهما الزنا بطريق الثبوت الشرعي، وكمن سرق ما لايجب فيه القطع؛ فيسقط الحد ويخضع الفاعل للتعزير.
كذلك حين يسقط القصاص – لعدم توفر شروطه الشرعية – مع ثبوت التعدي والجناية، كالحالات التي يتعذر فيها القصاص فيما دون النفس؛ فإن هذه الجناية تخضع للتعزير.
فالتعزير – إذن – هو المجال المتجدد المرن للتجريم في المجتمع الإسلامي، وهو – فيما يبدو – جانب من عظمة الشريعة الإسلامية، التي تجمع في كل مجال بين الثابت والمتطور؛ ففي مجال السياسة والحكم مثلا توجب الشورى، وهذا هو الثابت الذي لا يقبل التغيير، لكنها تترك تفصيلات – كيف تتحقق هذه الشورى في كل مجتمع – لاجتهاد المجتهدين وأولي الأمر؛ حيث قبلت الشريعة ثلاثة نماذج في اختيار الحاكم في أقل من خمس وعشرين سنة، وفي مجال الاقتصاد توجب العدل، وتحرم الربا والغش وأكل المال بالباطل والاحتكار والغرر والمقامرة – وهذا هو الثابت الذي لا يقبل التغيير – ثم تدع أمر التطبيق التفصيلي، والإطار العام للمجتهدين وأولي الأمر في كل مجتمع.
وهكذا في كل مجال تجمع الشريعة بين الثابت الذي يمثل أصول الإسلام التي لا ينبغي مخالفتها أو الجدل فيها، كما يقول الإمام الشافعي – وبين المتغير وبذلك تتيح للتطور والتغيير – وهما سنة كونية – مجالهما الذي يشرع الاجتهاد له، بحسب شروطه وقواعده المقررة في الإسلام[2].
تتعدد أنواع عقوبات التعزير وتتنوع، ولولي الأمر أن يختار منها في كل حالة ما يراه مناسبا محققا لأغراض التعزير، وهذه العقوبات قد تنصب على البدن، وقد تكون مقيدة للحريات، وقد تصيب المال، وقد تكون غير هذا كله، فمن أمثلة العقوبات البدنية: التعزير بالقتل، وبالجلد، وبالحبس، وبالنفي (التغريب)، وهناك أنواع أخرى من العقوبات؛ كالتوبيخ أو الهجر، كقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر – رضي الله عنه – عندما سب رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية»[3]. وبالهجر كهجر المرأة الناشز.
ومن المجالات التي يواكب بها النظام العقابي في الإسلام مستجدات الجريمة، عبر عقوبات التعزير، مجال الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، وعنها يقول مؤلفو الموسوعة الفقهية: “توجد جرائم مضرة بالمصلحة العامة ليست فيها عقوبات مقدرة، وفيها التعزير، ومن هذه الجرائم: التجسس للعدو على المسلمين، فهو منهي عنه لقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)( (الحجرات)، وقوله: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة( (الممتحنة: ١)، ولما كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدرة ففيها التعزير” وقد فصل هؤلاء القول في حكم التجسس، بما يعطي حالاته الراهنة في عصرنا، فقالوا: “التجسس تعتريه أحكام ثلاثة: الحرمة، والوجوب، والإباحة”.
فالتجسس على المسلمين في الأصل حرام منهي عنه، لقوله سبحانه وتعالى: )ولا تجسسوا(؛ لأن فيه تتبع عورات المسلمين ومعايبهم، والاستكشاف عما ستروه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه، وهو في بيته»[4]. ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعث الجواسيس؛ لتعرف أخبار جيش الكفار من عدد وعتاد… وما إلى ذلك.
أما عن التجسس على المسلمين في الحرب، ففيه أن: الجاسوس على المسلمين إما أن يكون مسلما ذميا، أو من أهل الحرب، وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرشيد فيما يتعلق بالحكم فيهم، فقال: وسألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس، يوجدون وهم من أهل الذمة، ممن يؤدي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة، وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة.
مما تقدم يتبين أن الجاسوس الحربي – أي المحارب للمسلمين – مباح الدم يقتل على أي حال عند الجميع، أما الذمي والمستأمن، فقال أبو يوسف وبعض المالكية والحنابلة: يقتل، وللشافعية أقوال أصحها: أنه لا ينتقض عهد الذمي بالدلالة على عورات المسلمين، لأنه لا يخل بمقصود العقد، وأما الجاسوس المسلم فإنه يعزر ولا يقتل عند أبي يوسف، ومحمد، وبعض المالكية، والمشهور عند الشافعية وعند الحنابلة أنه يقتل، وهكذا نرى أن عقوبات التعزير قد اتسعت لتغطي كل صفوف التجسس، مثل:
- الرشوة: “وهي جريمة محرمة بالقرآن؛ لقوله سبحانه وتعالى: )سماعون للكذب أكالون للسحت( (المائدة: ٤٢)، وهي في اليهود، وكانوا يأكلون السحت من الرشوة، وهي كذلك محرمة بالسنة لحديث: «لعن رسول الله الراشي والمرتشي»[5]. ولما كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدرة ففيها التعزير.
- تقليد المسكوكات الزيوف والمزورة: تقليد المسكوكات التي في التداول والإعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة فيها التعزير؛ ففي “عدة أرباب الفتوى” في رجل يعمل السكة المصنوعة ريالا وذهبا وروبية، وفي رجل ينشر هذه المسكوكات الزائفة ويروجها: أنهما يعزران.
- التزوير: في هذه الجريمة التعزير، فقد جاء أن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال فأخذ مالا، فضربه عمر – رضي الله عنه – مائة جلدة، وحبسه، ثم ضربه مائة أخرى، ثم ثالثة، ثم نفاه. ومن موجبات التعزير: كتابة الخطوط والصكوك بالتزوير.
- البيع بأكثر من السعر الجبري: قد تدعو الحال لتسعير الحاجيات، فإن كان ذلك؛ فالبيع بأكثر من السعر المحدد فيه التعزير ومن ذلك: الامتناع عن البيع؛ ففيه الأمر بالواجب والعقاب على ترك الواجب، ومن ذلك: احتكار الحاجات للتحكم في السعر لحديث: «من احتكر فهو خاطئ»[6].
- الغش في المكاييل والموازين: يقول الله سبحانه وتعالى: )أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182)( (الشعراء). وفي الحديث: «من غشنا فليس منا»[7]. وبناء على ذلك: فالغش في الكيل والوزن معصية، وليس فيها حد مقدر؛ ففيها التعزير.
- المشتبه فيهم: قد يكون التعزير لا لارتكاب فعل معين، ولكن لحالة الجاني الخطرة، وقد قال بعض الفقهاء بتعزير من يتهم بالسرقة ولو لم يرتكب سرقة جديدة، ومن يعرف أو يتهم بارتكاب جرائم ضد النفس، كالقتل والضرب والجرح[8].
إن ما قامت به المملكة العربية السعودية لتقنين أحكام التعزير في الوقت الراهن – تدليلا على مرونة الشريعة واستيعابها لمستحدثات الجريمة – ليعد نموذجا تطبيقيا في هذا الشأن، وهو ما يشير إليه د.بلتاجي بقوله: أما بالنسبة للجرائم التعزيرية: فقد لجأت الدولة – تبعا لمقتضيات التطور – إلى إصدار عدد من الأنظمة التعزيرية بشأن بعض الجرائم المهمة، التي تمثل مساسا خطيرا بمصالح المجتمع الحيوية خارج إطار الحدود والقصاص. وقد حددت هذه الأنظمة الجهات القضائية التي تتولى الفصل في كل جريمة على حدة. وتعتبر هذه الجهات أجهزة شبه قضائية، حيث تشكل وتعمل في إطار إداري قضائي وتتسم بطابع مختلط، يجمع بين هذين الوصفين، بيد أن هذه الأنظمة لم تغط جميع الأفعال التي تستوجب التعزير، ولذا فإن الاختصاص الأصيل للمحاكم الشرعية يظل قائما بالنسبة لغير ما صدر بشأنه أنظمة من أفعال تعزيرية…
وعليه فقد اتسع نطاق التعزير، ليشمل الجرائم الاقتصادية والمالية، وجرائم النشر والصحافة والرأي، وغيرها من الجرائم التي تمثل اعتداء على أوضاع المجتمع المشار إليها أو تهددها بالأخطار.
وفي الإطار المتقدم أصدر ولي الأمر بالمملكة العربية السعودية عدة أنظمة جنائية، أهمها:
نظام مكافحة الرشوة، ومكافحة التزوير، ومكافحة الغش التجاري، ونظام الجمارك، والأوراق المالية، والأوراق التجارية، ومنع الاتجار بالمواد المخدرة والعقوبات الملحقة به، ونظام سلاح الصيد وجلبه واستعماله، ومنع بيع الأسلحة واقتنائها، ونظام المرور، ونظام اتفاقية الجنح والأفعال الأخرى المرتكبة على الطائرات، ونظام محاكمة الوزراء، بالإضافة إلى النصوص الجنائية الأخرى التي وردت في أنظمة غير جنائية، لتبين العقوبات التي توقع عند مخالفة أحكامها، كنظام الإقامة ونظام الجنسية… إلخ.
كذلك أخذت الأنظمة الجنائية الصادرة في المملكة ببعض النظم والاتجاهات الجنائية التقليدية الحديثة والمعاصرة، وأهمها:
نظام العقوبات المتراوحة بين حدين، أعلى وأدنى: ومن ذلك ما ورد في نظام مكافحة الرشوة، بشأن معاقبة المرتشي بالسجن من سنة إلى خمس سنوات، وبالغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين… وما ورد في نظام الجمارك من النص على أن تكون غرامة التهريب الجمركي، ضعف الرسوم الجمركية مضافا إليه قيمة العوائد، وفي حالة العود تضاعف هذه الغرامة، ويجوز إبلاغها في هذه الحالة الأخيرة إلى أربعة أمثالها…
ويوافق الفقه الإسلامي في مجموعه على أن من حق المشرع والقاضي، أن يصلا بالعقوبة التعزيرية إلى حد الإعدام في حالات خاصة، ومن أصول الحنفية أن ما لا قتل فيه عندهم كالجماع في غير القبل، إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله تعزيرا ويسمونه “القتل سياسة”، وكأن حاصله أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تعاظمت بالتكرار، وشرع القتل في جنسها، ومن ذلك أن الإمام يقتل السارق سياسة، إن تكرر هذا الفعل منه….
وقد أخذ قانون العقوبات المصري بعقوبات تصل إلى حد الإعدام في حالات منها: من ارتكب عمدا فعلا يؤدي إلى المساس باستقلال البلاد، أو وحدتها، أو سلامة أراضيها، ومن التحق بأي وجه بالقوات المسلحة لدولة في حالة حرب مع مصر، ومن سعى لدى دولة أجنبية، أو تخابر معها، أو مع أي ممن يعملون لمصلحتها للقيام بأعمال عدائية ضد مصر…
إن هناك مسوغا حضاريا يبرر البلوغ بالعقوبة التعزيرية حد الإعدام؛ ذلك أن المجتمعات – وهي بسبيل تطورها – يعرض لها من المصالح المستجدة ما يستوجب الحماية، بحيث يكون الاعتداء على مثل هذه المصالح الجديدة معبرا عن أشكال جديدة من الجريمة، يقرر لها الشارع عقوبة دون تقدير أي عقوبة تعزيرية، فيكون من مهمة ولاة الأمر تقدير عقوبات لهذه الجرائم الجديدة تتناسب مع درجة خطورتها على هذه المصالح.
وهذا يعني أن التعزير يعد صمام أمان تشريعي به يستطيع المجتمع أن يحمي ما يستجد له من مصالح لم يكن بشأن الاعتداء عليها عقوبات مقدرة من قبل.
وهذا – كما سبق – وجه من وجوه مرونة التشريع الإسلامي، وصلاحيته للتطبيق وتحقيق المصالح الفردية والجماعية في كل عصر مع تطور الأوضاع والعلاقات والجرائم[9].
الخلاصة:
- للجريمة في النظام العقابي الإسلامي نوعان:
الأول: جرائم معينة عقوبتها محددة.
الثاني: جرائم غير معينة عقوبتها غير محددة. والتعزير – وعقوباته التقديرية، والمرجع فيها ولي الأمر، هو الوسيلة العقابية الشرعية المرنة، التي تعالج كل جرائم النوع الثاني بجميع مستحدثاتها.
- عبر العقوبات التعزيرية تعددت اجتهادات ضبط مستحدثات الجريمة بضوابط الشرع، واتسع هذا المجال اتساعا مكن التشريع العقابي الإسلامي من مواكبة كل جديد في ميدان الإجرام، واقتراح العقوبة المناسبة له. ومن نماذج هذه الاجتهادات التطبيقية لتقنين أحكام التعزير في الوقت الراهن، ما تم في المملكة العربية السعودية، وبعض ما تضمنته قواعد القانون العقابي المصري.
- ونخلص من هذا إلى أن عقوبات التعزير تعد بابا من أبواب المرونة التشريعية، ومصدرا من مصادر الفخر التشريعي الإسلامي، وصمام أمان تشريعي، فللمشرع الإسلامي أن يحمي مصالح المجتمع المستجدة بعقوبات لم تكن مقدرة من قبل، تناسب خطورة الجرائم الواقعة عليها.
(*) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م.
[1]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص78: 81.
[2]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص59: 61 بتصرف يسير.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4403)، وفي مواضع أخرى.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي برزة الأسلمي (19791)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4882)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزياداته (13944).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6532)، وأبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة (3582)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (3580).
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات (4206).
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي: “من غشنا فليس منا” (294).
[8]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط1، 1408هـ/ 1987م، مادتا: تجسس، وتعزير.
[9]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص65 وما بعدها.