دعوى إحراق النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما دون من الأحاديث
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا وجه للاستدلال بحديثي أبي هريرة؛ إذ إن استنكار النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابة حديثه كان في بادئ الأمر لعلة ألا تختلط السنة بالقرآن فيختلط الأمر على الناس، وألا يضاهى القرآن بشيء حتى ولو كانت السنة، هذا فضلا عن ضعف الحديث الثاني والنزاع حول صحة الأول.
2) ما روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أنه أحرق أحاديث كانت عنده لا يصح سنده؛ لأن في إسناده راو مجهول، وعلى فرض صحته فلماذا لم يتخذ إجراء شرعيا ضد رواة الأحاديث وكاتبيها وهو الخليفة آنذاك؟!
3) ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من إحراقه لكتب دونت فيها أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يصح؛ لانقطاعه؛ إذ لم يثبت سماع القاسم بن محمد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
التفصيل:
أولا. حديثا أبي هريرة كانا في بادئ الأمر لعلة ألا تختلط السنة بالقرآن:
الحديث الأول: إن الحديث الأول الذي يستدل به هؤلاء المدعون رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: «كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي – صلى الله عليه وسلم – فخرج علينا، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا: ما نسمع، فقال: اكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله، أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله أو خلصوه، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار، قلنا: أي رسول الله أنتحدث عنك؟ قال: نعم تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، فقلنا: يا رسول الله أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: نعم، تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه»[1].
وهذا رغم أن كثيرا من العلماء حكم على هذا الحديث بالضعف؛ إذ إنه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، إلا أن الشيخ شعيب الأرنؤوط قد صححه في تعليقه على مسند الإمام أحمد، ومع صحة الحديث فإنه لا ينهض دليلا على أن النهي عن كتابة الحديث أو حرق بعض ما كتب كان مطلقا ودائما؛ إذ إن ذلك كان في بداية الأمر ولما يزل الوحي قرآنا وسنة ولما يزل الناس يدخلون في دين الله أفواجا، ولم يرسخ الإيمان في قلوب الوافدين الجدد، وقد يختلط عليهم الأمر فلا يفرقون بين ما هو من القرآن وما هو من السنة في تلك الصحف المتناثرة من الجلود والرقاع وسعف النخيل والعظام والحجارة، فلم تكن هناك إمكانية عمل دواوين جامعة حتى تجمع فيها السنة وحدها بعيدا عن القرآن حتى لا يختلطا، بل لم يكن القرآن نفسه قد جمع بعد في مصحف واحد، وهنا نعلم خطورة الأمر الذي جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ينهى عن الكتابة أو يحرق المكتوب إن صح ذلك حتى لا يحدث التحريف الناشئ عن اختلاط القرآن بالسنة كما حدث في الأمم السابقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «امحضوا كتاب الله أوخلصوه»، ثم أمر بحفظ حديثه والتحديث به وحذر من الكذب عليه، ولو كان المقصود هو محو السنن لما أمر بالتحديث عنه، وملعوم أن التحديث لا يكون إلا لما هو محفوظ ولا يحفظ الحديث إلا بمدارسته ومراجعته وتطبيقه علميا وهذا ما كان.
والذي يدل على أن النهي عن كتابة الحديث النبوي كان مؤقتا في بداية الأمر وليس مطلقا ودائما – فضلا عن العلل المذكورة في الحديث السابق – إذنه – صلى الله عليه وسلم – لبعض أصحابه في الكتابة كعبد الله بن عمرو وغيره، وأمره – صلى الله عليه وسلم – للذي شكا إليه سوء الحفظ أن يستعين بالخط، بل إن الأمر بالكتابة بعد ذلك صار عاما لقوله صلى الله عليه وسلم: «قيدوا العلم بالكتاب»[2].
والأحاديث في بيان الرخصة من النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابة العلم كثيرة حتى أفرد لها البخاري في كتاب العلم بابا خاصا بها سماه: باب كتابة العلم، وخصص له الخطيب كتابا سماه: تقييد العلم، وأفرد كثير من العلماء أبوابا لذلك مما يدل على أن استحباب كتابة العلم أمر مستفيض مشهور وأن النهي كان في بداية الأمر للعلل التي صاحبت ذلك النهي.
قال الخطيب البغدادي: “فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ؛ لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى عنها، وصار مهيمنا عليها، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام؛ لقلة الفقهاء في ذلك الوقت والمميزين بين الوحي القرآني وغير القرآني، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين فلم يؤمن أن يلحقوا من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن”[3].
والحديث الثاني: رواه أيضا الخطيب البغدادي في تقييد العلم من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: “بلغ رسول الله أن ناسا قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم؟! إنما أنا بشر, من كان عنده منها شيء فليأت به؛ فجمعناها فأخرجت، فقلنا: يا رسول الله، نتحدث عنك؟ قال: تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار”[4].
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا كما سبق أن قلنا: “ضعيف”، ضعفه كبار علماء الحديث، فمن أقوالهم فيه ما يأتي:
يقول ابن أبي حاتم (ت: 327): عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مولى ابن عمر بن الخطاب روى عن أبيه، وأبي حازم وصفوان بن سليم، وروى عنه ابن وهب، ومرحوم ابن عبد العزيز العطار، وأصبغ بن الفرج، وابن أبي مريم، وعبد العزيز الأويسي، ويحيى بن صالح الوحاظي.
ثم ذكر أقوال العلماء فيه فقال: قال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بشيء، وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: ضعيف. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ليس حديثه بشيء، ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم: “ليس بقوي الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا، وقال: سئل أبو زرعة عنه فقال: ضعيف الحديث ضعفه علي بن المديني جدا”[5].
وذكره ابن حبان (ت: 354) في المجروحين، وقال: “كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك”[6].
وقد قال الذهبي: “قال البخاري: عبد الرحمن ضعفه علي – أي ابن المديني – جدا، وقال النسائي: ضعيف، ثم أورد حديثه في جمع ما كتب من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وإحراقه ثم عقب عليه وقال: هذا حديث منكر”[7].
وقال ابن حجر: “عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم, ضعيف, من الثامنة”[8].
مما سبق يتضح أن هذا الحديث ضعيف؛ لضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ولم يصحح أحد من المعاصرين هذا الحديث مما يدل على اتفاقهم على ضعفه؛ وعليه فلا مجال للاحتجاج به؛ لأنه لا تصح نسبته إلى أبي هريرة – رضي الله عنه – فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما ثبت بالسنة الصحيحة الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو خلاف ذلك؛ إذ “تجاهل المستشرقون ومن قلدهم من المسلمين أن كتابة الحديث النبوي بدأت في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكن بطريقة فردية”[9].
فقد روى الحاكم: أن عبد الله بن عمرو، حدثهم أنه قال: «يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: نعم, قلت: في الرضا والسخط؟ قال: نعم، فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقا»[10].
إن هذا لهو أكبر دليل على كتابة الصحابة للحديث بعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وبأمره أحيانا؛ فقد أمر أصحابه أن يكتبوا لأبي شاه خطبته – صلى الله عليه وسلم – عندما طلب منه أبو شاه ذلك[11].
كما ثبت أن بعض الصحابة كانت لهم صحف يدونون فيها بعض ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص التي كان يسميها بالصادقة[12].
وكان عند سعد بن عبادة الأنصاري كتاب فيه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الإمام البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده في عصر النبي صلى الله عليه وسلم[13].
وهناك الكثير من الأدلة نكتفي منها بما أوردناه، ليعلم الجاهل ويتنبه الغافل إلى أن كتابة سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد أهم وسائل الحفاظ عليها.
وإن ثبوت كتابة الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في عهد النبوة بعلمه، وإذنه يقطع الطريق على الخائضين في السنة والحاقدين عليها على حد سواء.
أما أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في النهي عن كتابة الأحاديث فلم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري، وهو محمول على عدم جمع القرآن والحديث في صحيفة واحدة، أو أن ذلك كان في بداية الإسلام؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر من كتب عنه سوى القرآن أن يمحوه أو يحرقه، وهذا يدل على أن الكاتبين كانوا يكتبون القرآن ثم شرع النبي – صلى الله عليه وسلم – يحدثهم، فخشي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يختلط القرآن بالحديث، فأمر الكاتبين أن يمحوا ما كتبوا من الحديث حتى لا تختلط صحائفه بصحائف القرآن.
يقول محب الدين الخطيب: إن النهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن، فلما كثر عدد المسلمين، وعرفوا القرآن معرفة رافعة للجهالة، وميزوه من الحديث – زال الخوف عنهم، فنسخ الحكم الذي كان مرتبا عليه، وصار الأمر إلى جواز، كما أن النهي لأجل ألا ينشغل المسلمون بالحديث عن القرآن، فأراد أن يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم وعلى الألواح والصحف والعظام توكيدا لحفظه، وترك الحديث للممارسة العملية؛ لأنهم كانوا يطبقونه.
وإلى جانب هذا سمح لمن لا يختلط عليه القرآن بالسنة أن يدون السنة كعبد الله بن عمرو، وأباح لمن يصعب عليه الحفظ أن يستعين بيده حتى إذا حفظ المسلمون قرآنهم، وميزوه عن الحديث جاء نسخ النهي بالإباحة عامة[14].
يقول د. عبد الموجود محمد عبد اللطيف: “إن النهي عن كتابة السنة لم يكن مقصودا به الصحابة كلهم, وإنما كان المقصود به طائفة معينة ممن كان يكتب القرآن والسنة معا في صحيفة واحدة؛ لشدة خطر هذا الأمر وقوة الالتباس فيه بين المكتوب قرآنا كان ذلك أوسنة، وسواء كان في وقت نزول القرآن أو في غيره، فإن العبرة بالنهي هو صيانة القرآن عن خلطه بالسنة دون تمييز بينهما”[15].
وبهذا يتبين أن هذين الحديثين على فرض صحتهما لا تقوم بهما حجة؛ لأن ذلك كان في بداية الإسلام خشية أن يختلط القرآن بالسنة، فلما تمكن الناس من ذلك، وأمن اللبس جاء الإذن بالكتابة، وهو ثابت صحيح مستفيض مشهور وعليه العمل بالإجماع.
ثانيا. ما روي عن أبي بكر – رضي الله عنه – من إحراق الأحاديث لا يصح؛ لأن في إسناده راو مجهول:
لقد ذكر الذهبي رحمه الله خبر إحراق أبي بكر – رضي الله عنه – للأحاديث الشريفة لكنه لم يتركه هكذا، وإنما علق عليه قائلا: “وهذا لا يصح والله أعلم”[16].
والذهبي إمام لا يشق له غبار في علوم الحديث ونقده, وعبارته هذه ذات دلالة قاطعة على شكه في صحة هذه الرواية التي نحن بصددها[17].
على أن الذهبي ليس وحده الذي حكم بعدم صحة الخبر، وإنما رده أيضا الحافظ ابن كثير حيث قال: “هذا غريب من هذا الوجه جدا، وعلي بن صالح – أحد رجال الإسناد – لا يعرف”. وهكذا يتضح أن الخبر غير صحيح، وفي إسناده راو مجهول، مما جعل الخبر في دائرة الرد، لا في دائرة القبول[18].
لقد أراد المستشرقون وأذنابهم – من إيراد هذا الخبر – زعزعة ثقة المسلمين في الأحاديث الموجودة بين أيديهم، فيقصدون أنه ما دام أبو بكر مع صحبته وقرب عهده بالرسول – صلى الله عليه وسلم – قد تشكك إلى هذا الحد في بطلان الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم, فما بال الأمة في عصر العولمة تحتفظ بهذه الأحاديث؟! أليس لهم في صنيع أبي بكر أسوة حسنة؟ أم أن الأمة الآن أدرى بالسنة وأعلم من أبي بكر رفيق النبي – صلى الله عليه وسلم – في الغار وصاحبه الذي ما كان يمر يوم دون أن يراه أو يسمعه؟!
إن هذا الخبر على فرض صحته ليس فيه دليل على ما أرادوه منه؛ فأبو بكر – رضي الله عنه – تردد في صدق الذي أملى عليه مجموعة الأحاديث, فسارع – احتياطا – إلى إعدامها بالحرق، حتى لا ينشر بين الناس أحاديث لم يتثبت كل التثبت من صدق صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنه لم يحرقها لعدم الثقة في رواة الأحاديث كلهم كما يروج الآن منكرو السنة، وإنما حرقها لتردده في صدق راو واحد، هو الذي أملى عليه تلك الأحاديث.
وأبو بكر – مع هذا – لم يتهم من روى له تلك الأحاديث بالكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متعمدا؛ لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول بشهادة القرآن نفسه، وإنما هناك أسباب أخرى، مثل: النسيان، وعدم الضبط، والسهو والغفلة، وهي كلها أسباب تحمل الصحابة ذوي الورع و التقوى من أمثال أبي بكر على دقة التحري، وترك ما يريب إلى ما لا يريب[19].
ثالثا. ما روي عن عمر – رضي الله عنه – من إحراق كتب فيها أحاديث لا يصح؛ لانقطاعه؛ لعدم سماع القاسم بن محمد من عمر:
إن الخبر الذي استدلوا به هنا من إحراق عمر بن الخطاب لكتب دونت فيها أحاديث للنبي – صلى الله عليه وسلم – أخرجه الخطيب بإسناده عن القاسم بن محمد: “أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها الناس، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. قال: فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار، ثم قال: مثناة[20] كمثناة أهل الكتاب”[21]؟!
وواضح من هذا الخبر أن عمر لم يقدح في كتابة السنة، وإنما مدح الكتب التي في أيدي الناس، وقال: “أحبها إلى الله أعدلها وأقومها”. وأنه يبين المنهج السوي في الكتابة، وأنه يجب أن تحقق الكتب وتقوم.
ويريد عمر بن الخطاب في هذا الخبر أن يكون الاهتمام الأكبر بالقرآن الكريم، فأراد أن ينبههم إلى عدم الاشتغال عن القرآن بشيء آخر، فإنه لا تجوز روايته بالمعنى، وإنما لا بد أن يحفظ لفظه، ويقرأ كما أنزله الله؛ ولذا يقول: «مثناة كمثناة أهل الكتاب»؟! وفي رواية أخرى: «إني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله عز وجل»[22].
إنه يريد ألا يصرف الناس صارف عن القرآن الكريم، فهو المتعبد بلفظه، وهو الكتاب المهيمن. وهذا الخبر لا يفيد أن عمر أحرق الكتب خوف المدسوس فيها كما يدعي هؤلاء، وإنما أراد عمر أن يوفر الاهتمام كله للقرآن الكريم، وإلا فعمر ممن كتب كغيره من الناس، وكان يستجيز كتابة السنة.
فقد وجد في قائم سيفه صحيفة، فيها كثير من أمور السنة النبوية، وكتابه في تنظيم شئون الدولة شائع ذائع.
ومن جهة أخرى فإن الخبر الذي ذكره هؤلاء خبر لا يحتج به، جاءوا به ولم يبينوا لنا ما فيه من علة، فكان الواجب أن يقولوا: إنه من رواية القاسم عن عمر، والقاسم بن محمد بينه وبين عمر سنوات، فلقد ولد القاسم بعد وفاة عمر بثلاث عشرة سنة، وعليه فالإسناد منقطع، والانقطاع فيه ظاهر، وهو مما يضعفه، ويبعده عن دائرة الاحتجاج.
وهكذا يتضح لنا أن ما ادعاه هؤلاء – من أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أحرقا ما وصل إلى أيديهما من أحاديث رسول الله خشية التقولات والاختلافات – تجن على الحقيقة؛ فما أحرق أبو بكر، وإنما خبر إحراق الكتب غير صحيح, وما أحرق عمر، وإنما خبر إحراقه الكتب لا يصلح للاحتجاج به[23].
ويرى د. عبد المهدي عبد القادر أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهاهم عن كتابة شيء من غير القرآن مع القرآن، وطلب ممن كتب أي كلمة في صحيفة القرآن من غيره أن يمحوها، والأمر كله دائر على المحافظة على نصوص القرآن الكريم من أن يدخل فيها ما ليس منها، أما كتابة السنة منفردة فإنه – صلى الله عليه وسلم – قد أجاز لهم أن يكتبوا، ومع الكتابة كلفهم بحفظها، فتوافر لنصوص الوحي من كتاب وسنة الحفظ في الصدور، والحفظ في السطور[24].
ولقد بين الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (ت: 360) وجه امتناع الصحابة والتابعين عن كتابة الحديث، وتحديد معنى نهي الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنها فقال: “إنما كره الكتاب من كره في الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد، ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله، ويرغب عن حفظه والعمل به، فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أشفى وأولى، والدليل على وجوبه أقوى، وحديث أبي سعيد: “حرصنا أن يأذن لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في الكتاب فأبى”، فأحسب أنه كان محفوظا في أول الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن”[25].
قال الخطيب: “إنما اتسع الناس في كتب العلم وعولوا على تدوينه في الصحف، بعد الكراهة لذلك؛ لأن الروايات انتشرت والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات والألفاظ اختلفت فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمن ضعف حفظه في الكتاب وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك”[26].
وبهذا يتضح أن النهي عن كتابة الحديث إنما كان في بداية الإسلام لعلل فصلناها، فلما زالت تلك العلل أبيحت الكتابة؛ إذ لم تكن محرمة في ذاتها سواء صاحب هذا النهي تحريق أم لم يصاحب.
الخلاصة:
- الحديثان اللذان استند إليهما الطاعنون في دعوى حرق النبي – صلى الله عليه وسلم – لما كتب من الأحاديث مدارهما على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أحد رواتهما وقد ضعفه كبار علماء الحديث كأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وليس هذا فحسب, بل إن الحديثين لم يصرحا بإحراق النبي – صلى الله عليه وسلم – للأحاديث أو أمره بذلك، وإنما أمر – صلى الله عليه وسلم – بمحو ما كتب منها مع القرآن.
- إن الخبر الذي روي عن أبي بكر أنه أحرق أحاديث كانت عنده لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه ضعيف، وذلك لأن في إسناده راويا مجهولا، وإذا كان هذا هو رأي أبي بكر، فلماذا لم يتخذ إجراء شرعيا ضد رواة الأحاديث وكاتبيها وهو الخليفة؟
- على فرض صحة الرواية فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يتهم من روى الأحاديث بالكذب على رسول الله متعمدا، وإنما تردد في صدق راو واحد قد يكون هو الذي أملى عليه تلك الأحاديث التي أحرقها.
- إن الخبر الذي استدل به هؤلاء على حرق عمر للأحاديث ضعيف؛ لانقطاع السند فيه، فقد ولد القاسم بن محمد بعد وفاة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بثلاث عشرة سنة، وهذا ما يضعف الخبر، ويخرجه من دائرة الاحتجاج. وعلى فرض صحته, فإنه كان يريد أن يوفر الاهتمام كله للقرآن الكريم, أوأنه خشي من اختلاطه بالسنة.
(*) دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م.
[1]. أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11107).
[2]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 188)، رقم (362). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2026).
[3]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص57.
[4]. أخرجه الخطيب البغدادي في تقييد العلم، كتاب: ذكر الرواية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ص34، 35.
[5]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (5/ 233، 234).
[6]. كتاب المجروحين، ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، سوريا، ط2، 1402ه، (2/ 57).
[7]. ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/ 564، 565).
[8]. تقريب التهذيب, ابن حجر, تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف، دار العاصمة, الرياض, ط1, 1416هـ, ص578.
[9]. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، 1413هـ/ 1992م، ص57.
[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، (11/ 139)، رقم (6930). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[11]. انظر: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 248)، رقم (112).
[12]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص84.
[13]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني،، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 54).
[14]. السنة قبل التدوين، د. عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص306: 308 بتصرف.
[15]. السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم، د. عبد الموجود محمد عبد اللطيف، مكتبة الإيمان, القاهرة، 2007م، ص104.
[16]. تذكرة الحفاظ، الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (1/ 5).
[17]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية: عرض ونقض, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة, ط1، 1420هـ/ 1999م، ص36.
[18]. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م، ص69، 70 بتصرف. وانظر: الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص43، 44.
[19]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية: عرض ونقض، د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص36، 37 بتصرف.
[20]. المثناة: كتاب وضعه أحبار بني إسرائيل بعد موسى ـ عليه السلام ـ فيما بينهم على ما أرادوا.
[21]. أخرجه الخطيب في تقييد العلم، كتاب: وصف العلة في كراهة كتابة الحديث، باب: عمر يعدل عن كتب السند ويحرق الكتب لذلك، ص52، بلفظ: “أمنية كأمنية أهل الكتاب”.
[22]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب: الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي، باب: كتاب العلم، (11/ 257)، رقم (20484).
[23]. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م، ص70: 74 بتصرف.
[24]. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م، ص67 بتصرف.
[25]. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص386.
[26]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص64.