دعوى إنكار حديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد
وجها إبطال الشبهة:
1) إن أحاديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم -باليمين مع الشاهد أحاديث صحيحة ثابتة بإجماع علماء الحديث؛ فقد رويت عن أكثر من عشرين صحابيا، وجمهور العلماء على جواز القضاء بشاهد ويمين، وهذا عمل الصحابة جميعا.
2) الزيادة في النص ليست نسخا، وإنما تقرير له، وإضافة عليه، فالحكم بالشاهد مع اليمين – والذي جاء في الحديث – إنما هو زيادة في الحكم على ما جاء في القرآن، وهذا من بيان السنة للقرآن، وليس نسخا لحكم الآية كما يدعون.
التفصيل:
أولا. حديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- بيمين وشاهد حديث صحيح عليه العمل:
إن حديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- بيمين وشاهد حديث صحيح دون أدنى شك، والقول بعدم صحته قول مردود؛ لأنه يفتقد الدليل، فهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، قال: “حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا: حدثنا زيد (وهو ابن حباب). حدثني سيف بن سليمان. أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد»[1].
ووروده في صحيح مسلم يعني صحته؛ فقد أجمعت الأمة على صحة كل ما في صحيحي البخاري ومسلم، ولم يكتف الإمام النووي بذلك، بل أكد في شرحه على الصحيح صحة هذا الحديث، فقال: “قال الحفاظ: أصح أحاديث الباب حديث ابن عباس، وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في إسناده، قال: ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته”[2].
وقد روى أبو داود هذا الحديث بلفظه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – [3]، وروى أيضا عن أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري، قال: أخبرنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد»[4].
وقال الشافعي عن هذا الحديث: «هو حديث ثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يرد أحد من أهل العلم مثله، لو لم يكن معه غيره، مع أن معه غيره مما يشده»[5].
وقال الإمام ابن القيم في شرحه سنن أبي داود: “قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة «أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قضى بشاهد ويمين»؟ فقالا: هو صحيح… والمقصود أن هذا الأصل – قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد – قد رواه عن النبي – صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وسرق، وعمارة بن حزم، وجماعة من الصحابة، وعمرو بن شعيب مرسلا ومتصلا، والمنقطع أصح، وأبو سعيد الخدري وسهل بن سعد.
فحديث ابن عباس: رواه مسلم، وحديث أبي هريرة: حسن؛ صححه أبو حاتم الرازي، وحديث جابر: حسن وله علة، وهي الإرسال، قاله أبو حاتم الرازي، وحديث زيد بن ثابت: صححه أبو زرعة وأبو حاتم، رواه سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قضى بشاهد ويمين»، وحديث سعد بن عبادة: رواه الترمذي والشافعي وأحمد، وحديث سرق: رواه ابن ماجه وتفرد به، وله علة هي رواية ابن البيلمان عنه، وحديث الزبيب: حسن، رواه عنه شعيب بن عبد الله بن الزبيب العنبري حدثني أبي قال: سمعت جدي الزبيب، وشعيب: ذكره ابن حبان في الثقات، وحديث عمرو بن شعيب، رواه مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد» منقطعا وهو الصحيح، وحديث أبي سعيد: رواه الطبراني في معجمه الصغير بإسناد ضعيف، وحديث سهل بن سعد: رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وهو ضعيف عن أبي حازم عن سهل: فالعمدة على الأحاديث الثابتة، وبقيتها شواهد لا تضر”[6] بل هي تؤكد الصحة.
هذه هي الطرق المختلفة لحديث: قضى النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد، وهي كما رأينا منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما به علة غير قادحة، وبمجموعها يتأكد لكل ذي عقل صحة الحديث، ويرد القول بضعفه، لا سيما وأنه لا دليل على الطعن.
عمل علماء المسلمين بهذا الحكم:
اتفق جمهور علماء المسلمين على جواز القضاء بشاهد ويمين، واجتمعت فتواهم على ذلك وقضوا به، قال شمس الحق العظيم آبادي: “قال جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار يقضى بشاهد ويمين المدعي في الأموال، وما يقصد به الأموال، وبه قال أبو بكر الصديق، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد، وفقهاء المدينة، وسائر علماء الحجاز، ومعظم علماء الأمصار رضي الله عنهم، وحجتهم أنه جاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة”[7].
ويقول الإمام القرطبي مؤكدا العمل باليمين مع الشاهد: “قال علماؤنا: ثم العجب، مع شهرة الأحاديث وصحتها بدعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز وكتب به إلى عماله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد، وربيعة.
ولذلك قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم! هذا إغفال شديد ونظر غير سديد. وروى الأئمة عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قضى باليمين مع الشاهد. قال عمرو بن دينار: في الأموال خاصة؛ رواه سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال أبو عمرو: هذا أصح إسناد لهذا الحديث، وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات، وقال النسائي: هذا إسناد جيد، سيف ثقة، وقيس ثقة.
وقد خرج مسلم حديث ابن عباس هذا… ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد؛ بل جاء عنهم القول به، وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة”[8].
وقد “ذكر ابن الجوزي في التحقيق عددا من رواته فزاد على عشرين صحابيا، وأصح طرقه حديث ابن عباس ثم حديث أبي هريرة”[9]، فقد ورد جواز الحكم بالشاهد ومعه يمينه عن واحد وعشرين صحابيا وهم: زبيب بن ثعلبة، وعمر بن الخطاب، والمغيرة بن شعبة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو سعيد الخدري، وبلال بن الحارث، ومسلمة بن قيس، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن سعد، وتميم الداري، وأم سلمة، وأنس، وسرق بن أسد، وابن عباس، وجابر، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وسعد بن عبادة، وعمارة بن حزم. ذكرهم الشوكاني هكذا، وأبي بن كعب ذكره الشافعي، كما عمل به أيضا أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان، ومن غير الصحابة: عمر بن عبد العزيز، وشريح، والشعبي، وفقهاء المدينة، ومالك والشافعي[10].
فكيف يعقل بعد هذا أن يضعف الحديث، أو يطعن في رجاله، وقد ثبت أن أصح طرقه حديث ابن عباس، وهو حديث شهد له العلماء بأنه لا مطعن فيه، وقد عمل به واحد وعشرون صحابيا.
ثم إنهم يدعون أنه حديث غير مشهور، ويا للعجب!! فكيف يعمل بالحديث ويقضى به منذ عهد النبي – صلى الله عليه وسلم- في سائر البلدان، ثم يدعون أنه غير مشهور، وأن الحكم به بدعة؟ هذا ما لا يقول به عاقل، فضلا عن باحث مدقق.
ثانيا. إن زيادة الحكم بالشاهد واليمين ليست نسخا للحكم بشاهدين؛ لأن الزيادة في الشيء تقرير له، لا رفع لعمله:
إن المدعين الذين قالوا برد حديث اليمين مع الشاهد؛ إنما ردوه لأن الحديث جاء بزيادة حكم لم يرد في نص القرآن الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان( (البقرة: ٢٨٢)، والنبي – صلى الله عليه وسلم- زاد في هذا الحديث حكما آخر، وهو القضاء باليمين مع الشاهد، وهذا لم يرد في الآية، ويعتبرون هذه الزيادة نسخا للآية إن صحت، وهذا دليل على عدم صحة الحديث.
والحقيقة أن القول بأن الزيادة في النص نسخ له قول غير صحيح؛ “لأن النسخ: الرفع والإزالة، والزيادة في الشيء تقرير له، لا رفع لحكمه، والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين، ولا يرفعه؛ ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه، ولم تكن نسخا، فكذلك إذا انفصلت عنه؛ ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء، ولهذا قال تعالى: )أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى( (البقرة: ٢٨٢)[11].
فدل ذلك على أن هذه الزيادة التي وردت في الحديث لا تعني نسخ الحكم الذي في الآية، وإنما هو تقرير للآية، وزيادة تفصل وتبين ما أجمل فيها.
ونؤكد كلامنا هذا بسؤال يوضح إكمال الحديث للآية، وهو: لو لم يكن هناك رجلان ولا رجل وامرأتان، وإنما المدعي شاهد واحد – وهو ما سماه الشافعي «البينة الناقصة» – فماذا يكون الحكم؟ هنا بينت السنة الحكم الذي ليس في القرآن عنه بيان، والبيان هو وظيفة السنة.
وذلك يدل على أن الجمع بين الآية والحديث أولى من أن يكون هناك نسخ بينهما، فحديث القضاء بالشاهد واليمين لا يعمل به إلا عند توافر الشاهدين – أي: الرجلين – أو رجل وامرأتين اللذين نصت عليهما الآية الكريمة، فعند عدم وجود ما اشترطته الآية الكريمة يعمل بالحديث الشريف، ويقضى بالشاهد واليمين، فأين النسخ بين الآية والحديث طالما أنه يمكن الجمع بينهما؟! فكل من الآية والحديث يعالج حالة معينة في القضاء، فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- في قضائه بالشاهد واليمين يشرع ما ييسر به على أمته؛ حتى لا يعسر عليهم شئون دنياهم، وأمور حياتهم، وهو منهج ديننا الحنيف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»[12].
“ومذهب الحجازيين أن الزيادة في السنة على نصوص القرآن لا تكون نسخا، وإنما هي زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به. وقال الإسماعيلي: الحاجة إلى تذكير إحداهما الأخرى، إنما هو فيما إذا شهدتا، فإن لم تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب، ببيان السنة الثابتة، واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء، فلذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها، مضافة إلى الشاهد الواحد.
قال: ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين – لأنه ليس في القرآن – للزم إسقاط الشاهد والمرأتين؛ لأنهما ليستا في السنة، لأنه – صلى الله عليه وسلم- قال: «شاهداك أو يمينه»[13]، وفي سنن أبي داود أن الحكم بالشاهد واليمين خاص بالحقوق، والخاص لا يتعدى به محله، ولا يقاس عليه غيره، ولكن قال الصنعاني: الحق أنه لا يخرج من الحكم بالشاهد واليمين إلا الحد والقصاص؛ للإجماع أنهما لا يثبتان بذلك. كما أن التنصيص على شيء (رجلان وإلا رجل وامرأتان) لا يلزم منه نفي ما عداه من رجل ويمينه عند فقد ما نص عليه، أو رجل وقرينة، أو قرينة قوية مع اليمين حين لا يكون هناك شهود ألبتة، وما إلى ذلك مما ليس في النص، وقد جاءت السنة بالنص على الرجل ويمينه، كما جاءت بما يفيد الحكم بالقرائن على ما قرره ابن القيم في (إعلام الموقعين)[14].
“واليمين وإن كان حاصلها تأكيد الدعوى، لكن يعظم شأنها؛ فإنها إشهاد لله – سبحانه وتعالى- أن الحقيقة كما يقول، ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريا على الله أنه يعلم صدقه، فلما كانت بهذه المثابة العظيمة هابها المؤمن بإيمانه وعظمة شأن الله تعالى عنده أن يحلف به كاذبا، وهابها الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله تعالى لما حلف يمينا فاجرة، فلما كان لليمين هذا الشأن صلحت للهجوم على الحكم كشهادة الشاهد، وقد اعتبرت الأيمان فقط في اللعان في القسامة في مقام الشهود”[15].
قال الإمام أبو حامد الغزالي – موضحا رأيه في قولهم بالنسخ: “فإن قيل: فقوله تعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان( (البقرة: ٢٨٢) توجب إيقاف الحكم على شهادة شاهدين، فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم، فهو نسخ – قلنا: ليس كذلك، فإن الآية لا تقضي إلا كون الشاهدين حجة، وجواز الحكم بقولهما. أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية، بل هو كالحكم بالإقرار، وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود حجة أخرى.
وقولهم: ظاهر الآية أن لا حجة سواه، فليس هذا ظاهر منطوقه، ولا حجة عندهم في المفهوم، ولو كان، فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ، وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته، وورد خبر الشاهد واليمين بعده، ولكن كل ذلك غير مسلم”[16].
“ومعلوم أن الحكم حين ينزل قبل استقرار العموم يكون بيانا لا نسخا ولا رفعا، وعلى أن مفهوم الآية – هو عدم قبول شهادة رجل ويمينه – لا يقدم على المنطوق وهو: «قضى باليمين مع الشاهد» وتقديم المنطوق على المفهوم هو ما عليه أكثر أهل الأصول”[17].
وأما عن مخالفة أحاديث اليمين مع الشاهد مع قوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه»[18] فإنه لا تعارض بين الحديثين، يقول الإمام الخطابي: “وليس هذا بمخالف لقوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه»؛ لأنه في اليمين إذا كانت مجردة، وهذه يمين مقرونة ببينة، وكل واحدة منهما غير الأخرى، فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما»[19].
ومن ثم فالقضاء باليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها، وعلى خالتها مع قول الله تعالى: )وأحل لكم ما وراء ذلكم( (النساء: ٢٤)، وكنهيه عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع مع قوله: )قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)( (الأنعام)، وكالمسح على الخفين، والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما؛ ومثل هذا كثير[20].
ومما سبق يتبين أن حديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين والشاهد حديث صحيح، وأن حكمه هذا قد عمل به الصحابة وعلماء المسلمين، وهذا الحكم زيادة بينت ما جاء في القرآن، وليس نسخا لقوله تعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان( (البقرة: ٢٨٢)؛ لأن الزيادة لا تعني رفع الحكم، وإنما تعني تقريره، ولكل منهما حالة معينة، فإن لم يتواجد رجلان، أو رجل وامرأتان يحكم بالشاهد واليمين.
وبهذا فلا دليل على الطعن في هذا الحديث، ولا يعد نسخا للآية أو تعارضا معها.
الخلاصة:
- إن حديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد حديث صحيح رواه الإمام مسلم وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه، ورواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد روي هذا الحديث عن أكثر من عشرين صحابيا.
- أجمع علماء الحديث على صحة هذا الحديث؛ فقد قال الشافعي: هو حديث ثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يرد أحد من أهل العلم مثله، وقال ابن أبي حاتم: إن أبان وأبا زرعة قالا: هو صحيح، وأكد ذلك الإمام ابن القيم عندما جمع طرقه التي وصلت إلى أحد عشر طريقا، وأكد بها على صحة الحديث.
- أما عن العمل بهذا الحكم فعليه جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، فقد قال به الخلفاء الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد، وفقهاء المدينة، وسائر علماء الحجاز، ومعظم علماء الأمصار، وحجتهم أنها أحاديث كثيرة في هذه المسألة، ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد.
- الزيادة على النص ليست نسخا له كما يزعمون، وإنما هي زيادة حكم وتقرير لما في النص، فحديث قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد هو زيادة حكم على قوله تعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء( (البقرة: ٢٨٢) فالحديث تقرير للشاهدين أو الرجل والمرأتين، وأضاف حكما ثالثا، وهو جواز اليمين مع الشاهد إن كان واحدا، فهو بيان وتفصيل لما جاء في القرآن.
- إن حديث الشاهد مع اليمين لا يعمل به إلا في حال عدم توافر الشاهدين – أي الرجلين – أو رجل وامرأتين اللذين نصت عليهما الآية الكريمة، فعند عدم وجود ما اشترطته الآية الكريمة يعمل بالحديث الشريف، ويقضى بالشاهد واليمين، فلماذا دعوى النسخ إذن؟!
- وأما عن حديث «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» فلا يتعارض مع حديث اليمين مع الشاهد؛ إذ إن البينة على المدعي؛ لأنه في اليمين إذا كانت مجردة، وهذه يمين مقرونة ببينة، وكل واحدة منهما غير الأخرى فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، (6/ 2667)، رقم (4392).
[2]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2668).
[3]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: القضاء، باب: القضاء باليمين والشاهد، (10/ 21)، رقم (3603). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3608).
[4]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: القضاء، باب: القضاء باليمين والشاهد، (10/ 23)، رقم (3605). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3610).
[5]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (10/ 23).
[6]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (10/ 21: 27).
[7]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (10/ 22).
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 392، 393).
[9]. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1421 هـ/ 2001م، (9/ 4194 ـ 4195).
[10]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص 533، 534.
[11]. المغني، ابن قدامة، تحقيق: د. عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، القاهرة، 1413هـ/ 1992م، (14/ 131).
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، (1/ 196)، رقم (69).
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، (5/ 331)، رقم (2669، 2670). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، (2/ 550)، رقم (349).
[14]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص536.
[15]. سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (8/ 108).
[16]. المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1417هـ / 1997م، (1/ 226).
[17]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، (2/ 537).
[18]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في البينة على المدعي، (10/ 476)، رقم (1356). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1341).
[19]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، هامش (10/ 23).
[20]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 393، 394).