دعوى اختلاف القرآن المكي عن المدني
وجوه إبطال الشبهة:
1) دعوى أن البيئة المكية ساذجة جاهلة لا ترقى إلى ما وراء الحس، دعوى لا يقوم عليها دليل؛ حيث يكذبها الواقع، والتاريخ الصحيح، فقد كان أهل مكة أذكى عقولا من غيرهم، وفيما قصه القرآن عنهم من مجادلات وخصومات، وما اشتمل عليه القسم المكي خصوصا من إيجاز وبراهين ما ينقض هذا الاتهام.
2) ليس المراد من ضرب هذه الأمثلة الحسية ذكر النعم فقط، وإنما غايات أخرى بعيدة.
3) إن ما ادعوه من لين الأسلوب المدني وقسوة المكي في القرآن لا يستند إلى دليل، فمعلوم أن الشدة واللين موجودان في مكي القرآن ومدنيه على حد سواء؛ بل إن وجود تشريع القتال في القسم المدني فقط ينفي هذا الادعاء.
التفصيل:
أولا. مخاطبة أهل مكة بالحسيات تثبت لهم التفوق والذكاء:
هناك خصائص تميز بها القسم المكي نود أن نعرضها – قبل – على أعداء الإسلام، حتى يكون الرد وافيا شافيا؛ فالبلاغة مراعاة الكلام لمقتضى الحال، وهذا ما نزل به القرآن الكريم، فقد راعى أحوال المخاطبين، ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
- أنه حمل حملة شعواء على الشرك والوثنية، وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة، ودخل عليهم من كل باب، وآتاهم كل دليل وحاكمهم إلى الحس، وضرب لهم أبلغ الأمثال، لبيان أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تخلق – مجتمعة – أقل نوع من الذباب قال سبحانه وتعالى: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج:٧٣).
ولما عاندوا واحتجوا بما كان عليه آباؤهم، نعى عليهم أن يمتهنوا كرامة الإنسان أمام هذه الحجارة الصماء، وسفه عقولهم، و عقولهم آبائهم، وذم جمودهم وتقليدهم الأعمى للآباء والأجداد )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة).
- أنه فتح عيونهم على ما في أنفسهم من شواهد الحق، وعلى ما في الكون من أعلام الرشد، ونوع لهم الأدلة وتفنن في الأساليب، وقادهم إلى الأوليات والمشاهدات، بحيث يقودهم من وراء ذلك إلى الاعتراف بتوحيد الله في ألوهيته وربوبيته، والإيمان بالبعث والجزاء والوحي والنبوة.
- أنه تحدث عن عاداتهم القبيحة: كالقتل، وسفك الدماء، ووأد البنات واستباحة الأعراض، وأكل مال اليتيم، فلفت أنظارهم إلى ما في ذلك من أخطار، وما زال بهم حتى طهرهم منها.
- أنه شرح لهم أصول الأخلاق، وحقوق الاجتماع، بحيث كره إليهم الكفر، والفسوق، والعصيان، وفوضى الجهل، وجفاء الطبع، وأحقاد القلب، وحبب إليهم الإيمان والطاعة، والنظام، والعلم، والمحبة، والرحمة، والإخلاص، واحترام الغير، وبر الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلوب، وحفظ الألسنة.. وما إلى ذلك.
- أنه قص عليهم من أنباء الرسل وأممهم السابقة ما فيه أبلغ المواعظ، وعرفهم أن انتصار الإيمان على الكفر سنة الله في خلقه مهما طالت الأيام وامتد الزمان.
- أنه سلك مع أهل مكة سبيل الإيجاز في خطابه، حتى جاءت السور المكية قصيرة الآيات، قليلا عدد الآيات فيها؛ لأنهم كانوا أهل الفصاحة وصناعتهم الكلام، فيناسبهم الإيجاز دون الإسهاب([1]).
إن دعوى أن البيئة المكية ساذجة جاهلة لا ترقى إلى ما وراء الحس، دعوى لا يقوم عليها دليل؛ حيث يكذبها الواقع، والتاريخ الصحيح؛ فقد كان أهل مكة أوفى ذوقا، وأرهف شعورا، وأذكى عقولا، وفيما قصه القرآن عنهم من مجادلات وخصومات، وما اشتمل عليه القسم المكي بخاصة من إيجاز وبراهين ما ينقض هذا الاتهام، وكيف يفهم هذه البراهين من لا يسمو نظره عن المحسوسات، والتاريخ الصحيح أعدل حاكم وخير شاهد على امتياز قريش عن سائر القبائل في عهد نزول القرآن.
ولكي تكون على بينة من ذلك – أيها القارئ – نذكر لك قصة؛ ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: )إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم( (الأنبياء: 98)([2]). قال ابن الزبعري: والله لو وجدت محمدا لخصمته، قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له: إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله تعالى: )إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101)( (الأنبياء).
وتأمل كلمة “خصمون” في قوله سبحانه وتعالى: )بل هم قوم خصمون (58)( (الزخرف). وهل يجيد الجدل الجاهل الساذج؟! فهل يعقل أن من يلقي هذه التهم ولو كانت باطلة لا يسمو تفكيره إلى المعقولات؟!
فقد أقسم الله – سبحانه وتعالى – في القرآن المكي بالمعقولات أيضا، إلى جانب المحسوسات، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )يس (1) والقرآن الحكيم (2)( (يس)، وأقسم بالملائكة في قوله: )والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2)( (النازعات)، وأقسم بالنفس الناطقة: )ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)( (الشمس)، وأقسم بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم: )لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)( (الحجر)، وقال أيضا: )فوربك لنسألنهم أجمعين (92)( (الحجر)، وقال أيضا: )فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون (40)( (المعارج)، وأقسم بما لا يقع تحت الحس والمشاهدة، فقال: )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39)( (الحاقة)، وأقسم بالزمن: )والعصر (1)( (العصر)([3]).
وبذلك يتبين لنا أن مخاطبة القرآن الكريم أهل مكة ما كانت في الأشياء المحسوسة فقط، بل أثار عقولهم بالأشياء المعنوية التي تعتمد على العقل، وسوف نوضح أن القسم بالحسيات أيضا كان لأغراض بلاغية، ومعان بعيدة غاية في الكمال والإحكام، وليس مجرد الذكر فحسب، فكل موضع في القرآن، بل كل حرف في مكانه، وإذا ما نقل فهو الخلل بعينه فسبحان من أبدع.
فقد قضى قانون الحكمة الإلهي بأن يسلك معهم سبيل التدرج في التربية، فقدم العقائد والأخلاق والعادات على ضروب العبادات والمعاملات الدقيقة، ولا شك أنه قدم الأهم ثم تلاها بالمهم. أبعد هذا يزال هناك شك في نضج العقلية العربية في مكة آنذاك؟
ثانيا. الغاية من ذكر الأمثلة الحسية:
إن القسم بالأمور الحسية في القرآن كالضحى والليل، ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون، إنما منشؤه رعاية مقتضى الحال فيما سيق القسم لأجله، وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم، وهي عقيدة الشرك، ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة، وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شئون الله وخلق الله، وبلفت أنظارهم إلى طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم، ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده، ما دام هو الخالق وحده؛ لأنه لا يستحق العبادة فعلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل).
إن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة، وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة والبيان؛ ذلك أن القسم بها إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها، حتى صح أن تكون مقسما بها، وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب؛ لأنها غير مشروحة، ولا مفسرة في القرآن الكريم، فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه، ولنشرح لك بعض الأسرار، ومنها.
- أقسم الله – عز وجل – بالضحى والليل في قوله: )والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)( (الضحى)، وسبب نزول هذه الآيات أن النبي – صلى الله عليه وسلم – انقطع عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن، فرماه أعداؤه بأن ربه قد قلاه، أي تركه وأبغضه، فنزلت هذه الآيات موضحة أن سطوع الوحي على قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنزلة الضحى تقوى به الحياة، والفترة التي لم ينزل بها الوحي إنما هي كمثل الليل إذا سجى، لتستريح فيه القوى، وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل، فالمعروف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ارتجف بادئ الأمر؛ إذ كان الوحي أمرا لم يعهده، فكانت هذه الفترة تثبيتا له، فالقسم هنا بالليل والضحى ليس من قبيل ذكر المحسوسات للتذكير بالنعم فقط، وإنما لحكمة ضرب الأمثال لعلهم يتذكرون، فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم، لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار، والنوم والاستجمام بالليل، يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد – صلى الله عليه وسلم – من هدأة الوحي للمعنى السالف الذكر.
- كما أقسم الله – سبحانه وتعالى – بالتين والزيتون: )والتين والزيتون (1) وطور سينين (2)( (التين)، ونقل صاحب “مناهل العرفان” عن الشيخ محمد عبده في تفسيره لهذه السورة ما نصه: “وقد يرجح أنهما – أي التين والزيتون – النوعان من الشجر، ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا، بل لما يذكران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر، فالله تعالى يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل، فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين، وعندما بدت له ولزوجته سوأتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين، أما الزيتون فإشارة إلى عهد نوح – عليه السلام – في سفينته عندما أراد سيدنا نوح استطلاع الأمر، هل سكنت المياه أم لا، فأرسل أحد الطيور فرجع بورقة من شجر الزيتون، فاستبشر وسر، وعرف أنه قد أذن بتعمير الأرض ثانية، وهذه من الحوادث الكبرى التي وجب الإشارة إليها.
وطور سينين: إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية، وظهور نور التوحيد في العالم بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وقد استمر الأنبياء بعد موسى – عليه السلام – يدعون أقوامهم للتمسك بتلك الشريعة، وكان آخرهم عيسى – عليه السلام – ثم أصاب القوم من بعده مثل ما أصابهم قبل نزولهما – عليهما السلام – فكان نور الهداية المحمدية، فكان ذكر البلد الأمين، وبذلك ناسب القسم المقسم عليه”([4]).
ثالثا. اشتمال القرآن المكي والمدني كليهما على الشدة واللين، لا السب والشتم:
إن مما روج له أن القرآن المكي تفرد بالعنف، والثابت أن القرآن بقسميه – المكي والمدني – اشتمل على ذلك أحيانا لضرورة رشيدة هي: تربية الأفراد والشعوب وإصلاحهم، والسياسة تقتضي الوعد والوعيد، والشدة واللين، والترغيب والترهيب.
ففي القسم المدني مثلا سورة البقرة وهي مدنية: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة)، وقوله أيضا: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله( (البقرة).
وقال – سبحانه وتعالى – في سورة آل عمران وهي مدنية أيضا: )إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12)( (آل عمران). وفي القرآن المكي ما نفهم منه معنى اللين والصفح، ففي سورة فصلت وهي مكية: )ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)( (فصلت).
وفي قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: )فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36)( (الشورى).
ومن ذلك قوله في سورة الحجر المكية: )ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88)( (الحجر)، ومثله في سورة الزمر المكية: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)( (الزمر).
كما أننا نلاحظ في السور المكية ظاهرة باهرة تسكت كل معاند، وهي أن القسم المكي خلا من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة، كما خلت أيامه في مكة من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل، فقد أمروا بالصبر والعفو والمجاملة برغم ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة.
خلو القرآن الكريم من السب والشتم:
وأما زعمهم اشتمال القرآن الكريم على السباب، فإن قصدوا به البذاءة والفحش، فهم متخرصون مبطلون، فما يليق هذا بكلام أديب محتشم، فضلا عن أن يليق بكلام المولى – عز وجل – يقول الشيخ الزرقاني في الرد على هذه الفرية: “وأما زعمهم أن في القسم المكي سبابا، ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القبح والبذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة، فقال الله سبحانه وتعالى: )ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف).
ونحن بدورنا نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله (المكي والمدني) يكون من هذا اللون القذر الرخيص، وهل يعقل أن القرآن الذي جاء ليعلم الناس أصول الآداب، يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام: )ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)( (الأنعام).
نعم، إن في القرآن كله – لا في القسم المكي وحده – تسفيها لأحلام الذين يصمون آذانهم، ويغمضون أعينهم عن الحق، ويهملون الحجج والبراهين، وهو في ذلك شديد عنيف، بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب، ولم يعدل عن سنن الحق، ولم يصدف عن سبيل الحكمة، بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء، لأنهم يستحقون الشدة، ومن مصلحتهم – هم – ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرجعوا عن باطلهم، وينصتوا إلى صوت الحق والرشد، ويسيروا على هدي الدليل والحجة على حد قول القائل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
فليقس أحيانا على من يرحم
أضف إلى ذلك أن هذا التقريع الحكيم تجده في السور المدنية، كما تجده في السور المكية، وإن كان في المكي أكثر من المدني؛ لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة، صعاب المراس، مسرفين في العناد والإباء، لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل، بل وجهوا إليه الأذى مجاهرة.
والشاهد على أن في السور المدنية تنويعا عنيفا أيضا عند المناسبات، قوله – سبحانه وتعالى – في سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: )إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)( (البقرة)، وقوله في سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: )ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)( (البقرة)، إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لهؤلاء الموسوسين الذين ينفثون سمومهم، ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين، هو سلاح النفاق والذبذبة.
وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز، تنقدهم وتنعي جرائمهم وتحمل عليهم حملة شعواء، تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم، مثل قوله سبحانه وتعالى: )ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)( (آل عمران)، ومثل قوله: )بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)( (البقرة).
ومثل قوله – سبحانه وتعالى – في شأن النصارى في سورة آل عمران: )إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56)( (آل عمران)، وقوله فيهم أيضا في هذه السورة: )إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90)( (آل عمران).
أما السور والآيات التي اعتمدت عليها الشبهة، فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم؛ لأن سورة: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)( (المسد) غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته جزاء ما أساءا إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحبه، كما يدل على ذلك سبب نزولها؛ فعن ابن عباس قال: لما نزلت: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، «صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصفا فجعل ينادي: “يا بني فهر، يا بني عدي.. “. لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا، لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي”؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)(»([5]).
وقد أخبرنا ابن عباس – رضي الله عنهما – أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم([6])، وجاء عن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة، فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة، وأن حاله لا ينفعه ولا كسبه، وأنه خاسر هو وامرأته، وأن مصيريهما إلى النار وبئس القرار، ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله، وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأما سورة العصر فكل ما عرضت له أنها جعلت الناس قسمين: قسما غريقا في الخسران، وقسما نجا من هذا الخسران، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة، اقرأ قوله سبحانه وتعالى: )والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)( (العصر). فهل ترى فيها ظلا للسباب والإقذاع؟ ولكن القوم لا يستحيون.
وأما سورة )ألهاكم التكاثر (1)( (التكاثر)، فظاهر ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين، وألهتهم الأموال عن رب الأموال حتى انتهت أعمارهم، وهم على هذه الحال، وغدا يسألون عن هذا النعيم، ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )فصب عليهم ربك سوط عذاب (13)( (الفجر)، فهو حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد؛ ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار، فلا يقعوا فيما وقع فيه أسلافهم؛ لأن سنة الله واحدة في الأمم، وميزان الله عدل قائم في كل جيل )أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43)( (القمر)([7]).
الخلاصة:
- أهل مكة مشهود لهم – على مر التاريخ – بالتفوق والذكاء والفصاحة والبيان، فكان تحدي ربهم – عز وجل – لهم في غاية الإحكام؛ من أجل إعمال العقول والوصول إلى نتيجة مؤداها أنه لا خالق غير الله سبحانه وتعالى.
- إن الأمثلة الحسية التي ذكرها القرآن – خاصة المكي منه – تحمل العديد من المعاني والغايات البعيدة، بهدف العبرة والعظة وليس المراد منها ذكر هذه النعم وفوائدها فقط.
- إن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين، فتارة يشتد وتارة يلين، تبعا لما يقتضيه حالهم – في مكة أو المدينة – بدليل أننا نجد بين آيات السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد، وتسامح وتشديد، وجذب وشد، وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف، فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، والكيد لهم، حتى أخرجوهم من أوطانهم، بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم.
- كان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول، بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع، متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع، حاثا على الصبر والعفو والإحسان.
- الآيات المكية والمدنية جميعها تشتمل على الشدة والعنف، بل إن الإذن بالقتال كان في القسم المدني، فلم يتفرد القسم المكي فقط بالشدة – كما زعموا – ولم يتأثر محمد – صلى الله عليه وسلم – بالبيئة، بل كان الوحي ينزل بما يناسب أحوال المخاطبين.
(*) المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م.
[1]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ج1، ص171، 172 بتصرف.
[2]. الحصب: كل ما ألقيته في النار من حطب وغيره.
[3]. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، 245،244 بتصرف.
[4]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ج1، ص185: 188 بتصرف.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الشعراء (4492)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (529) بلفظ: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صعد الصفا فهتف: “يا صباحاه”.
[6]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، باب ما رد أبو لهب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وامرأته حمالة الحطب، قال: كانت تحمل الشوك فتطرحه (488).
[7]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ص174، 178 بتصرف.