دعوى اشتمال أحاديث نبوية على ألفاظ نهى القرآن عن استعمالها
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- إن حديث «كلكم راع» صحيح في أعلى درجات الصحة، ومادة “رعي” لا تحط من أقدار الناس؛ لأنها بمعنى المحافظة والمراقبة، كما قال علماء اللغة، وبهذا المعنى استخدمها القرآن في غير موضع، وإنما نهى الله – عز وجل – المؤمنين أن يقولوا: “راعنا”؛ لأنها كلمة كانت تجري مجرى السخرية، فاغتنمها اليهود لسب النبي – صلى الله عليه وسلم – فأمروا أن يخاطبوه بالتعزير والتوقير، ولم يناههم الله عن استخدام المعنى الصحيح لها.
-
التفصيل:
إن حديث «كلكم راع» حديث صحيح في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»[1].
فالحديث كما هو واضح روي في أصح كتب السنة؛ الصحيحين وغيرهما أيضا، وهو بذلك مجمع على صحته من قبل الأمة؛ لإجماعها على صحة كل ما في الصحيحين، فلا مجال للطعن في مثل هذا الحديث.
وأما القول بأن مادة “رعي” المذكورة في الحديث تحط من أقدار الناس، فهو قول باطل تماما؛ لأن هذه الكلمة في أصل وضعها اللغوي ليست خاصة بالبهائم؛ فإن مادة “رعي” عند علماء اللغة بمعنى: الحفظ والمراقبة.
قال ابن منظور: “رعي، الرعي: مصدر رعى الكلأ ونحوه، والراعي يرعى الماشية؛ أي: يحوطها ويحفظها، وراعي الماشية: حافظها. والراعي: الوالي، والرعية: العامة، ورعى الأمير رعيته رعاية، ورعاه رعيا ورعاية: حفظه، وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم، وهم رعيته. وقد استرعاه إياهم: استحفظه، واسترعيته الشيء فرعاه، وفي المثل: من استرعى الذئب فقد ظلم؛ أي: من ائتمن خائنا فقد وضع الأمانة في غير موضعها. ورعى النجوم رعيا وراعاها: راقبها وانتظر مغيبها، قالت الخنساء:
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها
وتارة أتغشى فضل أطماري
وراعى أمره: حفظه وترقبه، والمراعاة: المناظرة والمراقبة”[2].
فمادة “رعي” استخدامها ليس قاصرا على رعي البهائم كما ظن الواهمون، فقد جاء استخدامها مع الإنسان أيضا بمعنى المراقبة والحفظ.
لقد استخدم القرآن الكريم مادة “رعي” أكثر من مرة، قال الله تعالى في وصف المؤمنين الفائزين: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)( (المؤمنون)، ثم ذكرها – سبحانه وتعالى – أيضا في وصف المصلين، فقال: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32)( (المعارج).
ولقد استخدمت الكلمة في الآيتين بنفس المعنى الذي في الحديث، استخدمت بمعنى الاهتمام والمحافظة على الأمانات والعهد، واستخدمت في المحافظة على الفضائل، وبالتالي فهي ليست كلمة محرمة، ولا يوجد فيها استشكال لغوي كما يدعي هؤلاء.
وجاءت كلمة “راع” أيضا في وصف أهل الكتاب، ينعي الله عليهم أنهم ابتدعوا رهبانية، لكنهم لم يعطوها حقها من الرعاية. يقول عز وجل: )وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها (27)( (الحديد). وهكذا استعمل القرآن الكريم مادة “رعي” في أكثر من موضع، استعملها بمعنى الحفظ والرعاية بدقائق الأشياء، ومحاسن الخصال[3].
والقرآن الكريم لم ينه عن استخدام مادة “رعي”، أو كلمة “راع” كما توهم بعض الناس، وإنما نهى المسلمين أن يقولوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “راعنا”، وذلك في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104)( (البقرة).
قال ابن كثير: “نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص – عليهم لعائن الله – فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: )من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)( (النساء).
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ (وعليكم)، «وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا»([4])، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا…
قال أبو صخر: وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يقال ذلك له”[5].
وقال ابن جرير: “والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: راعنا؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه – صلى الله عليه وسلم – نظير الذي ذكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: العنب والحبلة» [6]، وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضا: «ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي.. وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي»[7]. وما أشبه ذلك”[8].
يقول الإمام الرازي عن سبب نهي الله تعالى عباده عن قول هذه الكلمة: “إن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله: )راعنا( لاشتمالها على نوع مفسدة، ثم ذكروا فيه وجوها:
أحدها: كان المسلمون يقولون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا تلا عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة، وهي “راعينا”، ومعناها: اسمع لا سمعت، فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا افترضوه وخاطبوا به النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله: )انظرنا(، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في سورة النساء: )ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين(، وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية.
وثانيها: قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها.
وثالثها: أن اليهود كانوا يقولون: راعينا، أي: أنت راعي غنمنا، فنهاهم الله عنها.
ورابعها: أن قوله: )راعنا( مفاعلة من الرعي بين اثنين، فكان هذا اللفظ موهما للمساواة بين المخاطبين، كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا، فنهاهم الله تعالى عنه، وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول – عليه السلام – في المخاطبة، قال تعالى: )لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا( (النور: ٦٣).
وخامسها: أن قوله: )راعنا( خطاب مع الاستعلاء، كأنه يقول: راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في )انظرنا( إلا سؤال الانتظار، كأنهم قالوا له: توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه.
وسادسها: أن قوله: )راعنا( على وزن عاطنا من المعاطاة، ورامنا من المراماة، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية، وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحمق، فالراعن اسم فاعل من الرعونة، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر. كقولهم: عياذا بك، أي أعوذ عياذا بك، فقولهم: راعنا: أي فعلت رعونة. ويحتمل أنهم أرادوا به: صرت راعنا، أي صرت ذا رعونة، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة.
وسابعها: أن يكون المراد: لا تقولوا قولا راعنا أي: قولا منسوبا إلى الرعونة بمعنى راعن: كتامر ولابن”[9].
وقال ابن سيده: “وعندي أن في لغة اليهود راعونا على هذه الصيغة، يريدون الرعونة أو الأرعن، وقيل إن (راعنا) كلمة كانت تجري مجرى الهزء، فنهي المسلمون أن يلفظوا بها بحضرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن اليهود لعنهم الله كانوا اغتنموها، فكانوا يسبون بها النبي – صلى الله عليه وسلم -، في نفوسهم ويستترون من ذلك بظاهر المراعاة منها، فأمروا أن يخاطبوه بالتعزير والتوقير، وقيل لهم: لا تقولوا راعنا كما يقول بعضكم لبعض، وقولوا: انظرنا”[10].
وعليه فليس في الحديث أي تناقض مع ما في القرآن، فليس في القرآن نهي عن استعمال كلمة «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»؛ ذلك أن المنهي عنه في القرآن إنما هو كلمة “راعنا” إذا قيلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في الحديث فليس فيه ذلك مطلقا، فليس فيه “راعنا” مخاطبا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه استعمال كلمة “راع” وهي كلمة تفيد التعهد والحفظ، وقد استعملها القرآن الكريم في المحافظة على الأمانات والعهود والعبادة [11].
الخلاصة:
- إن حديث «كلكم راع، وكلم مسئول عن رعيته»حديث صحيح في أعلى درجات الصحة؛ لاتفاق الشيخين البخاري ومسلم على صحته.
- إن كلمة “رعي” ليس في ذكرها ما يحط من قدر الإنسان؛ إذ إن استخدامها ليس قاصرا على البهائم فقط، بل إن دلالتها اللغوية كما أقرها علماء اللغة في معناها العام هي: المراقبة والمحافظة.
- لقد استخدم القرآن الكريم مادة “رعي” في أكثر من موضع قال تعالى: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)( (المؤمنون)، قال تعالى: )فما رعوها حق رعايتها( (الحديد: 27)، فقد جاءت في الآيتين بنفس معنى الحديث، وهو المحافظة على العهود والأمانات، وكذلك حفظ دقائق الأشياء ورعايتها.
- إن المسلمين منهيون عن التشبه بالكافرين في أقوالهم وأفعالهم؛ لأن اليهود كانوا يتعمدون التورية في الكلام، قاصدين التنقيص والتورية، ولذلك نهي المسلمون عن قول: “راعنا”؛ لأن اليهود كانوا يورون منه بالرعونة، فهذه الكلمة في لغة اليهود على هذه الصيغة يريدون الرعونة أو الأرعن؛ استهزاء منهم بالرسول – صلى الله عليه وسلم – فكره الله – عز وجل – هذا لنبيه – صلى الله عليه وسلم – فنهى عن قولها بهذا اللفظ.
- لا تناقض بين الحديث والآية؛ إذ المنهي عنه في القرآن هو قول: “راعنا” الذي كان يقصد به اليهود الاستهزاء والسخرية من النبي – صلى الله عليه وسلم – ويستترون بظاهر المراعاة، فأمر المسلمون أن يخاطبوه بالتعزير والتوقير.
(*) السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد العال عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، ط1، 2007م. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: : النكاح، باب: المرأة راعية في بيت زوجها، (9/ 210)، رقم (5200). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، (7/ 2886)، رقم (4643).
[2]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: رعي.
[3]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص111.
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاحشا ولا متفحشا، (10/ 467)، رقم (6030).
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1400هـ/ 1980م، (1/ 148، 149).
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: كراهية تسمية العنب كرما، (8/ 3380)، رقم (5764).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي، (5/ 210)، رقم (2552).
[8]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (2/ 463) بتصرف.
[9]. مفاتيح الغيب، الرازي، (2/ 261، 262).
[10]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: رعن.
[11]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص113 بتصرف.