دعوى اشتمال القرآن على آيات تمدح “الغرانيق”
وجوه إبطال الشبهة:
1) سياق الآيات في سورة النجم فيه ذم وتسفيه لعبادة الأصنام، مما لا يستقيم معه المدح، أما الآيات التي يدعونها فلا أساس لها من الصحة، ولا سند لها من القرآن.
2) إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كسائر البشر يمنيه الشيطان، ولكن الله – عز وجل – يعصمه منه، كما أن الآية مناط الاستدلال من قبيل تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا.
3) لقد جاءت رسالة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – من أجل التوحيد الخالص ونبذ عبادة الأصنام، وأمانته وإخلاصه في أداء هذه الرسالة يبطلان هذه الدعوى وغيرها.
التفصيل:
أولا. بعض آيات السورة ذم صريح للمشركين وتسفيه لعبادتهم:
سورة النجم سورة مكية نزلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل الهجرة، والسورة بدأت بالقسم بالنجم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما ضل وما غوى، وما نطق عن هوى، بل ما جاء به وحي من الله – عز وجل – علمه إياه – صلى الله عليه وسلم – والآيات في السورة حملت ذما على المشركين والأصنام، وما كان يفعله هؤلاء المشركون.
ثم كان ختام السورة بأن بينت أن الإنسان مسئول عن عمله، فلا تزر وزارة وزر أخرى، وكل إنسان عليه سعيه، فغير معقول أن تمدح آلهة المشركين في معرض هذه الآيات، وبخاصة وأن الآيتين المزعومتين لا تتشابهان بحال مع سائر آيات القرآن الكريم، لا من حيث المعنى، ولا المبنى، ولا السياق.
ولذلك فإن هذا الزعم باطل من وجهين:
الأول: وجه السند، حيث إنها لم تثبت مطلقا، فلم ترد إلا في بعض كتب التاريخ والتفسير، ولم يخرجها من رجال الحديث أحد كما يقرر البيهقي، وحتى ابن إسحاق نفسه الذي نسبت إليه، فإنه قد أنكرها وقال: إنها من وضع الزنادقة، والروايات التي نقلها المؤرخون والمفسرون في شأنها مختلفة ومتناقضة، والروايات إذا تناقضت تساقطت، ولم تعد لها قيمة في البحوث الجادة والنصوص الموثقة([1]).
والثاني: وجه العقل؛ حيث إنها تناقض معنى ومبنى وسياق ومضمون السورة والقرآن والرسالة المحمدية في أساسها.
إن سورة النجم من بدايتها حتى نهايتها تلفظ هذه القصة وترفضها، فإن الذي يقرأ هذه السورة يرى أنها تنعي على المشركين شركهم، وتفند أفكارهم وحججهم، وتكذبهم تكذيبا قاطعا فيما يقولونه في آلهتهم عند ادعائهم أنها بنات الله تقول لهم: )ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)( (النجم) أي جائرة، وإن آلهتكم التي تتحدثون عنها ليست إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إنكم تهيمون في ظنونكم بعدما جاءكم الهدى من ربكم على لسان نبيكم المرسل إليكم، وتقر الآيات التي بعد هاتين الآيتين النعي على المشركين، وبيان حقيقة آلهتهم المزعومة، فيقول الله عز وجل: )ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23) أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)( (النجم).
أيعد هذا الكلام مدحا للات والعزى ومناة؟ وهل يتفق هذا وما ألقاه الشيطان – كما يدعون – على لسان محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو قوله: “تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى”؟ وأين كان الحضور من قريش حتى يسجدوا لسجود محمد – صلى الله عليه وسلم – لأنهم سمعوا منه ما يرضيهم في آلهتهم؟ أليسوا يفهمون ما يقرع آذانهم من مدح أو ذم؟ أليسوا هم الذين ألحوا عليه أن يعبد آلهتهم شهرا، ويعبدوا إلهه شهرا، فجاء الرد يقطع آمالهم، ويدحض رجاءهم: )قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عابدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5) لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)([2])؟
وإذا كان الأمر كما يدعون، فكيف يصدق العقل – أي عقل – أن ينطق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذه الكلمات ” تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى” ومن حوله جمهرة من أصحابه، وقد طرق هذا الكلام أسماعهم، ثم لا يضجون بالسؤال والاستيضاح، بل لا يوجد فيهم من يعلق عليه متعجبا أو مستنكرا أو راويا؟!
إن نطق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بين أصحابه بهذا الكلام، من شأنه ألا يروى إلا متواترا؛ إذ هو من النوع الذي إذا وقع شاع، وإذا شاع تناقله جميع السامعين، فهو كالخبر الذي ذكره جميع الذين رووا هذا الذي قيل: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نطق به؟ بل أين صحابي واحد سمع من رسول الله هذا الذي قالوا: إنه نطق به؟ وقد جاءت هذه القصة من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهي – عند علماء الحديث – سلسلة الكذب بالإجماع!
ثم لنتجاهل إنكار العقل لهذا الافتراض، ولنفترض أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد نطق بتلك الكلمات ليجامل بها المشركين – كما قيل -، إن من الثابت المعلوم للجميع أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يستمر في مجاملتهم، بل عاد عنها فيما قالوا، وأكد أن الشيطان ألقى بهذه الكلمات على لسانه، فأين ردة الفعل لديهم؟ وأين هجومهم عليه باتهامهم له بالمرواغة والتقلب؟ وهلا راحوا يستدلون على تهافت رأيه بكلامه؟ بل هلا دعموا عقائدهم الشركية وأيدوها بكلامه الذي أثنى فيه على آلهتهم.
إن هذا الافتراض يستلزم هذه النتائج بدون أدنى ريب، بل بحكم البداهة لكل عاقل، فأين هذه النتائج؟
أما الذي حدث فعلا، فهو ما ذكره البخاري في صحيحه، بسنده من حديث عبد الله بن عباس قال: “سجد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنجم، أي لما وصل في تلاوته لها إلى آخر آية منها، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس”.
وقد جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة )والنجم( (النجم:1)، فسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف»([3]).
وليس في هذا الذي ذكره من كلام ابن عباس أو كلام ابن مسعود أي ذكر للغرانيق وثناء رسول الله عليها([4]).
ثانيا. الرسول بشر لكنه معصوم من كيد الشيطان:
الرسول – صلى الله عليه وسلم – كبشر يمنيه الشيطان كما قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)( (الحج)، ولقد احتج بعض مثيري هذا الزعم بهذه الآية، وهو احتجاج باطل وتأويل خاطئ لمعنى لطيف؛ لأن معنى الآية بعيد كل البعد عن هذا الأمر.
فهي – أولا – تتحدث عن الرسل والأنبياء الذين كانوا قد بعثوا قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – في قوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول( (الحج: ٥٢)، وهي – ثانيا – لا تخبر عن قول كان يلقيه الشيطان على ألسنة الرسل والأنبياء، أو على ألسنة بعضهم في بعض الحالات، وإنما تخبر عن تمنيات ربما جالت في خواطرهم، والتمني هو حديث النفس، أي خواطر الشخص مع نفسه، ومعنى الآية: ما كان شأن الرسل والأنبياء من قبلك إذا حدث أحدهم نفسه أن لو جارى قومه وجاملهم في بعض ما يحبون أملا في استجلابهم عن الباطل الذي يتقلبون فيه إلى الحق الذي يدعوهم إليه، ولكن الله – عز وجل – يقطع وسواس الشيطان إلى نفوسهم، ويلغي الأمنية التي جالت في خواطرهم، ويحميهم من عواقب الخواطر التائهة ودسيسة الشياطين.
فالرسل بوصفهم بشرا يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من أحكام البشرية، حاشا الوقوع في محرم، ولما كانت خواطر النفس خارجة عن نطاق التكليف لا توصف بحرمة ولا بحل، فقد كانت جائزة عليهم، وكانوا كغيرهم من البشر معرضين لها، وربما جعلها الشيطان في نفوسهم لينقلوها من حديث الخاطر إلى صعيد التنفيذ، ولكن العناية الإلهية لا بد أن تدركهم هنا فتحميهم من عواقب تلك الخواطر، وتنسخها من أذهانهم
فما علاقة المعنى الذي تتضمنه هذه الآية التي تتحدث عن الرسل والأنبياء الذين خلوا قبل رسول الله، بأكذوبة مفادها أن الشيطان ألقى على لسان محمد – صلى الله عليه وسلم – وليس في خاطره – ثناء على أصنام المشركين وإقرارا لما يعتقدونه من أنها ستكون شفيعا عند الله؟! وبأي وجه من وجوه العربية، حقيقتها أو مجازها، تكون هذه الآية دليلا على ذلك ([5])؟!
ثالثا. رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – التي بلغها بإخلاص وإيمان – هي الدعوة إلى توحيد الله وترك عبادة غيره:
أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – برسالة التوحيد الخاتمة، ودعا الناس إلى نبذ عبادة الأصنام، وقد صور القرآن الكريم اعتراض المشركين على هذه الدعوة من بدايتها في قوله سبحانه وتعالى: )وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5)( (ص).
ثم إن القرآن يؤكد أن المشركين حاولوا جاهدين أن يجذبوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليهم بأية وسيلة، وأن يحملوه على مجاملتهم والركون إليهم ولو شيئا قليلا، ولكنهم لم يجدوا سبيلا إلى ذلك، ولم يجدوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي التفات إليهم أو مجاملة لهم. قال سبحانه وتعالى: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74)( (الإسراء).
إذن فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أدى أمانته في إبلاغ رسالته على أكمل وجه، وذلك بشهادة القرآن له بأنه لم يلتفت إلى المشركين بأية مجاملة أو ثناء على آلهتهم، فلو حصل شيء مما نفى القرآن حصوله لضج بذلك المشركون، من أجل ذلك قرر جميع علماء التفسير والحديث أنه لم يصح أي دليل على أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نطق بهذه الكلمات المدسوسة أثناء تلاوته لسورة النجم، وكل ماورد مما يدل على ذلك أخبار مرسلة ومقطوعة، ومنكرة من وضع الزنادقة وتلفيقهم.
كما أن العرب لم يعرفوا الغرانيق إلا على أنها طيور مائية بيضاء أو سوداء، ولم ترد على أنها ضمن آلهتهم لا في شعر ولا في نثر، فكيف يلقيها الشيطان على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم – على أنها هي اللات والعزى ومناة ويجعل لها شفاعة عند الله.
إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – قد ناضل وجاهد من أجل التوحيد وتبليغ هذه الرسالة إلى الناس أجمعين، وأخلص لها إخلاصا لم يعرف له مثيل من قبل، اتهمه بعد ذلك أنه تخلى عن رسالته هذه وخالفها، ومدح ما كان ينقضه من عبادة الأصنام والأوثان، كل هذا لمجرد روايات غير ثابتة أصلا، وغير صحيحة سندا، أهذه طريقة حضارية، أم منهج علمي سليم؟ )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف).
الخلاصة:
- إن سورة “النجم” في مجملها ذم للمشركين في أقوالهم واعتقادهم، وتسفيه لأفعالهم وعبادتهم للأصنام، وختمت بأن الإنسان مسئول عن عمله، فغير معقول أن تمدح آلهة المشركين في معرض هذه الآيات.
- إن الرسل والأنبياء ليسوا إلا بشرا من الناس، يجوز عليهم مايجوز على غيرهم من أحكام البشرية، حاشا الوقوع في محرم، ولما كانت خواطر النفس خارجة عن نطاق التكليف، لا توصف بحرمة ولا بحل، فقد كانت جائزة عليهم، ولكن العناية الإلهية لا بد أن تدركهم هنا فتحميهم من عواقب تلك الخواطر، وتنسخها من أذهانهم.
- إن رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – هي التوحيد ونبذ عبادة الأصنام، وقد شهد القرآن له بأداء رسالته بأمانة، ولو حصل شيء يخالف ذلك منه لضج بذلك المشركون وقتها، ولهذا قرر جميع العلماء والمفسرين أنه لم يصح أي دليل على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نطق بهذه الكلمات المدسوسة التي وضعها ولفقها الزنادقة.
- إن العرب لم يعرفوا الغرانيق إلا على أنها طيور مائية بيضاء أو سوداء، فكيف يلقيها الشيطان على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم – على أنها اللات والعزى ومناة؟ ولو افترضنا وجود ما ادعوه من مدح الأصنام، فالعقل حاكم بأن ثمة تعليقا من الصحابة على هذا المدح، بالتفسير والاستيضاح أو بالتساؤل والاستفهام والتعجب، فأين ذلك؟ كما أنه سيقابل بحملة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لتقلبه ومراوغته، فأين هذه النتيجة من المشركين؟
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 2003م. محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م. الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر، ترجمة: سمير عبد الحميد، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م. قرآن أمريكي ملفق: “الفرقان الحق”، د. إبراهيم عوض، زهراء الشرق، القاهرة، 1425هـ/ 2004م.
.[1] الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، مصر، 2003م، ص35 بتصرف.
.[2] الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، مصر، 2003م، ص37.
.[3] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة النجم (4582)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة (1325).
.[4] لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428هـ / 2007م، ص144: 142.
.[5] لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428هـ / 2007م، ص146،145.