دعوى اضطراب أحاديث الضيافة
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- لا اضطراب في أحاديث الضيافة ولا تعارض بينها، فقد جمع العلماء بينها بأن الضيافة من مستحبات الإسلام ومكارم الأخلاق، وأما أحاديث الوجوب فتحمل على الاستحباب، كقوله صلى الله عليه وسلم: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»، أي: متأكد الاستحباب، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فلا سبيل إلى القول بالنسخ دون دليل.
-
التفصيل:
إن الأحاديث الثلاثة التي طعن فيها المشتبهون أحاديث صحيحة ثابتة لا مطعن فيها ولا شبهة؛ فالحديث الأول رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه- أنه قال: «قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم»[3].
والحديث الثاني رواه ابن ماجه في سننه، قال: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن الشعبي عن المقدام أبي كريمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة الضيف واجبة، فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه، فإن شاء اقتضى وإن شاء ترك»[4].
وأما الحديث الثالث فقد رواه البخاري في صحيحه أيضا قال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه»[5].
ومن هذا يتبين أن الأحاديث الثلاثة صحيحة سندا دون أدنى شك في ذلك، وإذا صح الحديث فلا يمكن أن يتعارض مع غيره إن صح أبدا.
وهذه الأحاديث ليس بينها أي تعارض، وإن توهم ذلك فهو مردود عليه – إن شاء الله – إذ إن الضيافة سنة ليست واجبة والأمر بالوجوب فيها يحمل على الاستحباب.
يقول الإمام النووي: “والضيافة من آداب الإسلام وخلق النبيين…
وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: “جائزته يوم وليلة” والجائزة: العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار، وقوله صلى الله عليه وسلم: “فليكرم وليحسن” يدل على هذا أيضا إذ ليس يستعمل مثله في الواجب مع أنه مضموم إلى الإكرام للجار والإحسان إليه، وذلك غير واجب، وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام، إذ كانت المواساة واجبة”[6].
يقول ابن حجر بعد ذكره الحديث الأول: قال الجمهور: الضيافة سنة مؤكدة، وأجابوا عن حديث الباب – أي: الحديث الذي ظاهره الوجوب – بأجوبة:
أحدها: حمله على المضطرين، ثم اختلفوا هل يلزم المضطر العوض أم لا؟ وأشار الترمذي إلى أنه محمول على من طلب الشراء محتاجا فامتنع صاحب الطعام فله أن يأخذه منه كرها. قال وروي نحو ذلك في بعض الحديث مفسرا.
ثانيها: أن ذلك كان أول الإسلام وكانت المواساة واجبة، فلما فتحت الفتوح نسخ ذلك، ويدل على نسخه قوله في حديث أبي شريح عند مسلم في حق الضيف وجائزته يوم وليلة، والجائزة تفضل لا واجبة. وهذا ضعيف لاحتمال أن يراد بالتفضل تمام اليوم والليلة لا أصل الضيافة، وفي حديث أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: «أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه»[7]، وهو محمول على ما إذا لم يظفر منه بشيء.
ثالثها: أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات من جهة الإمام، فكان على المبعوث إليهم إنزالهم في مقابلة عملهم الذي يتولونه لأنه لا قيام لهم إلا بذلك حكاه الخطابي، قال: وكان هذا في ذلك الزمان إذ لم يكن للمسلمين بيت مال، فأما اليوم فأرزاق العمال من بيت المال، قال: وإلى نحو هذا ذهب أبو يوسف في الضيافة على أهل نجران خاصة، قال: ويدل له قوله “إنك بعثتنا”. وتعقب بأن في رواية الترمذي «إنا نمر بقوم».
رابعها: أنه خاص بأهل الذمة، وقد شرط عمر حين ضرب الجزية على نصارى الشام ضيافة من نزل بهم، وتعقب بأنه تخصيص يحتاج إلى دليل خاص، ولا حجة لذلك فيما صنعه عمر لأنه متأخر عن زمان سؤال عقبة، أشار إلى ذلك النووي.
خامسها: تأويل المأخوذ، فحكى المازري عن الشيخ أبي الحسن من المالكية: أن المراد أن لكم أن تأخذوا من أعراضهم بألسنتكم وتذكروا للناس عيبهم. وتعقبه المازري بأن الأخذ من العرض وذكر العيب ندب في الشرع إلى تركه لا إلى فعله. وأقوى الأجوبة الأول، واستدل به على مسألة الظفر وبها قال الشافعي، فجزم بجواز الأخذ فيما إذا لم يمكن تحصيل الحق بالقاضي؛ كأن يكون غريمه منكرا ولا بينة له عند وجود الجنس، فيجوز عنده أخذه إن ظفر به وأخذ غيره بقدره إن لم يجده ويجتهد في التقويم ولا يحيف، فإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي فالأصح عند أكثر الشافعية الجواز أيضا[8].
وبهذا يرجح ابن حجر أن الضيافة تكون واجبة إن كان الضيف مضطرا إليها، أما غير ذلك فهي سنة من متأكدات الإسلام ومستحباته.
وكذلك ذهب الخطابي وغيره فتأولوها على المضطر[9] وتأول الجمهور هذه الأحاديث على الاستحباب ومكارم الأخلاق.
يمكن الجمع بين الأحاديث ومن ثم عدم الذهاب إلى النسخ من خلال ما يأتي:
- أنه يمكن حمل النصوص على الندب والاستحباب دون أن يكون فيها منسوخ؛ فالأمر في حديث عقبة: «فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم»، وكذلك صيغ الأحاديث التي بعده إنما هي في بيان القيمة الكبرى لهذا الأمر المندوب، فهي من أساليب الترغيب والترهيب لما ليس فيه تحديد واضح من الشارع من الأمور التي تركها الله لأريحية الناس يتنافسون فيها إلى الخيرات، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»[10]، أي: متأكد الاستحباب.
- إن الاستدلال بقوله: «فما وراء ذلك فهو صدقة» ليس نقيضه الفرضية حتما، فهناك الفرض والواجب والسنة المؤكدة، ثم الندب والاستحباب.
- دعوى أن التصريح بالوجوب في حديث «الضيافة حق واجب» دليل على الوجوب الاصطلاحي تحميل للغة ما لا تحتمله فـ “الواجب” لفظ يحتمل كل المطلوبات المؤكدة على سبيل السنة المؤكدة أو الفريضة الواجبة، وتخصيصها بالأمر الذي قد يكون فيه مضادة دون دليل ترجيح للمرجوح. فالضيف الثقيل الغني قد ينزل على مكلوم فيؤذيه، ويزيد مصيبته ويحرجه، أفمن العدل أن نقول لهذا الثقيل: لك حق القرى حتى في مواقف يحرج فيها المضيف دون الضيف؟ أم أن يفهم الثقلاء أن هذا الأمر متروك للمضيف؟ إن رأى تقديم القرى ففعل ذلك كان له أجر، وإلا في مواقف أخر – فإنه لا يوجب عليه قرى الثقلاء.
- أما دعوى الوجوب بالعقوبة في قوله: «وإن نصره حق كل مسلم»، فليس معناها اللزوم للوجوب المفروض، فآداب اللياقة سنة وعرف اجتماعي مخالفته بالنسبة للآخرين حقوق يجب تقييمها واعتبارها عند المشاحة والعتاب، فإلقاء السلام سنة. وأنت حين تمر بي دون أن تسلم علي فإن من حقي العتاب، وعلى المسلمين أن ينصروني كذلك.
- إن تشديد الرسول – صلى الله عليه وسلم- في طلب إكرام الضيف لا يعني أنه من قبيل الفرائض المحدودة، فقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه من باب المكارم المحمودة وسماه جائزة، والجائزة يعطيها المجيز (المتكرم) تفضلا كجائزة الملك للشعراء والنابهين وهلم جرا.. وليس هذا إلزاما للملك، وإن كان من باب الفضائل أن يعطي ويكافئ حسبة وتكريما. واستعمالها في الواجب غير معروف[11].
- دعوى أن إكرام الضيف من فروع الإيمان، وفروع الإيمان مأمور بها، وما تعلق بذلك وهو إكرام الضيف إذن واجب – برهان فيه مغالطة فليس كل فروع الإيمان على الوجوب أو على درجة واحدة، كما في الحديث: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[12].
وإذا كنا قد أبطلنا كل الأدلة التي قد يزعم بعض الناس أنها توهم وجوب الضيافة ومن ثم التعارض مع الأحاديث التي تقول بسنيتها، فإن الإمام الطحاوي قد أحسن الجواب عن هذا التعارض المتوهم، فقال: إن قال قائل: كيف تقبلون الأحاديث التي تقول بأن الضيافة ليست بواجبة وأنتم تروون عنه أحاديث تقول بالوجوب؟
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله – عز وجل- أن كل ضيف من هذين الضيفين قد يحتمل أن يكون غير الضيف الآخر منهما، ويكون ما في حديث المقداد على ضيف قد يستطيع أن يتعوض من الضيافة غيرها بابتياع ما يغنيه عنها بما معه مما يستطيع أن يصرفه في ثمنه، أو يسأل إن كان لا شيء معه حتى يصل بمسألته إلى ذلك، وإن كان الأحسن بمن نزل به أن يكفيه ذلك، وأن يمتثل في أمره ما قد أمره به رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من إكرامه، ويكون ما في حديثي أبي هريرة والمقدام على المارين بقوم في بادية لا يجدون من ضيافتهم إياهم بدلا، ولا يجدون ما يبتاعونه مما يغنيهم عن ذلك[13].
وبالجمع بين الأحاديث يتبين أنه لا تعارض ولا اضطراب بين أحاديث الضيافة، ومن ثم فلا نسخ لأحاديث الوجوب طالما أنه صح تأويلها على السنية؛ إذ ثبت أن الضيافة إكرام وبر وفضيلة لا فريضة.
الخلاصة:
- إن الأحاديث الواردة في الضيافة متضافرة على الأمر بالضيافة والاهتمام بها وعظيم موقعها، وقد أجمع المسلمون على الضيافة، وأنها من متأكدات الإسلام، ولا يعني هذا اضطرابا بين الأحاديث كما يتوهم بعض المتوهمين، إذ تأول العلماء هذه الأحاديث – المتوهم تعارضها – على الاستحباب، وتأولها الخطابي – رحمه الله – وغيره على المضطر دون غيره.
- الضيافة من آداب الإسلام وخلق النبيين والصالحين، وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: «جائزته يوم وليلة»، والجائزة العطية والمنحة والصلة، وتأولوا أحاديث الوجوب على أنها كانت في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة.
- اتفق الجمهور على أن الضيافة سنة مؤكدة، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها الوجوب على عدة وجوه:
- أنها محمولة على من طلب الشراء محتاجا فامتنع صاحب الطعام، فله أن يأخذ منه كرها.
- أن ذلك كان في بداية الإسلام، وكانت المواساة واجبة.
- أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات من جهة الإمام.
- أن ذلك خاص بأهل الذمة، وقد شرط عمرـ رضي الله عنه- حين ضرب الجزية على نصارى الشام ضيافة من نزل بهم.
- أنها محمولة على الندب والاستحباب، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»، أي: متأكد الاستحباب.
- دعوى أن التصريح بالوجوب دليل على الوجوب الاصطلاحي تحميل للغة مالا تحتمله، فـ “الواجب” لفظ يحتمل كل المطلوبات المؤكدة على السنة أو الفريضة الواجبة، وتخصيصها بالأمر الذي قد يكون فيه مضادة دون دليل – ترجيح للمرجوح.
- إن تشديد الرسول – صلى الله عليه وسلم- في طلب إكرام الضيف إنما هو تشديد ليس من قبيل الفرائض المحددة، وإنما هو من باب المكارم المحمودة لأنها من آداب اللياقة، وهي سنة وعرف اجتماعي، ومخالفته فعل قبيح تنفر منه الطبائع السليمة.
- لقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم- إكرام الضيف جائزة، والجائزة ليست إلزاما، وإن كان من باب الفضائل أن يعطي ويكافئ حسبة وتكريما. واستعمالها في الواجب غير معروف.
- يحتمل أن يكون كل ضيف من هذين الضيفين اللذين ذكرا في الحديث غير الضيف الآخر منهما، فيكون لكل حديث وجه غير وجه الحديث الآخر.
- مما سبق يتبين أن أحاديث وجوب الضيافة يمكن أن تحمل على الندب أو الاستحباب أو غير ذلك، ومن ثم ينتفي القول بالتعارض بينها وبين أحاديث السنة، إذ الجمهور على أنها فضيلة وسنة مؤكدة لا فريضة، وكذلك ينتفي القول بالنسخ لعدم الحاجة إليه ولعدم الدليل عليه.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م. شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م.
[1]. يثوي: يقيم.
[2]. يحرجه: يضيق عليه.
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: حق الضيف، (10/ 548)، رقم (6137).
[4]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الأدب، باب: حق الضيف، (2/ 1212)، رقم (3677). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3677).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: حق الضيف، (10/ 548)، رقم (6135).
[6]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 411) بتصرف.
[7]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (17/ 78)، رقم (8935). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[8]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 129، 130).
[9]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/، (6/ 87).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل، (2/ 401)، رقم (858).
[11]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص448.
[12] . صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها…، (1/394)، رقم (152).
[13]. شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (7/ 249، 250).