دعوى اضطراب القرآن الكريم في مجيء الجمع الدال على القلة في موضع جمع الكثرة
وجوه إبطال الشبهة:
الجمع في اللغة قسمان: جمع سلامة – تصحيح – وجمع تكسير، وجموع التكسير نوعان: جمع قلة، وجمع كثرة، وقد أجمع النحويون على أن جموع القلة ما كان للأعداد من ثلاثة إلى عشرة. وصيغ جموع القلة تأتي على أوزان مختلفة هي: أفعل، وأفعال، وأفعلة، وفعلة. وقد يأتي الجمع السالم حاملا دلالتها.
وقد زعم بعض أصحاب الشبهات أن في القرآن الكريم تناقضا واضطرابا؛ حيث يظنون أنه قد استخدم جمعا يدل على القلة في موضع جمع الكثرة؛ كما في قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر(، ويزعمون أن في ذلك اضطرابا، والصواب في زعمهم أن يقال: “سبع سنابل خضر”؛ ليوافق الجمع عدده.
وهذا الزعم مردود من وجوه:
1) أن الآية مستقيمة وموافقة لقواعد اللغة العربية؛ لأن الأعداد من (3 – 10) يعبر عنها بجمع القلة، وقد ذكر النحاة أن هذه الأعداد تشارك أبنية القلة في الدلالة على جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم.
2) أنه لما عطف قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر( على )سبع بقرات( وجاوره، حسن فيه الجمع بالألف والتاء.
3) إذا كان القصد من كلامهم أن كلمة “سنبلة” لا تجمع بالألف والتاء فهم مخطئون خطأ شنيعا؛ لأن النحاة مجمعون على أن ما ينتهي بالتاء يجوز أن يجمع جمعا سالما.
التفصيل:
أولا. الآية مستقيمة، وموافقة لقواعد اللغة العربية؛ لأن الأعداد من (3 ـ10) يعبر عنها بجمع القلة، وقد ذكر النحاة أنه يشارك أبنية القلة في الدلالة جمعا التصحيح للمذكر والمؤنث. قال تعالى: )وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات( (يوسف: ٤٣) [1].
وقد وردت الكلمتان “بقرات” و “سنبلات” في الآية جمع مؤنث سالما، وهو من الجموع التي تنصرف إلى القلة في الغالب، ونقول “في الغالب”؛ لأنه قد يأتي من الأسماء المؤنثة، وغيرها ما لا يجمع إلا بالألف والتاء، فلا يمكن في هذه الحالة أن ينصرف إلى القلة إلا بقرينة، كالعدد وغيره، فإذا قلنا: حمامات، فهي جمع كثرة إلا إذا قلنا: سبع حمامات.
من ثم فإن كلمة “سنابل” جمع كثرة، ولا يعبر به عند جمهور النحاة عن الأعداد من (3 – 10) الدالة على القلة، إلا بقرينة كالعدد وغيره.
قال شهاب الدين: اعلم أن جمعي السلامة لا يميز بهم عدد، إلا في موضعين:
أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمع سواه، نحو “سبع سماوات”، و “تسع آيات”؛ لأن هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة.
والثاني: أن يعدل إليه لمجاورة غيره، كقوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر(، (يوسف: 43)، عدل من “سنابل” إلى “سنبلات”؛ لأجل مجاورته “سبع بقرات”؛ ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميز بجمع التكسير دون جمع السلامة[2].
ثانيا. لمـا عطف قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر( على )سبع بقرات( وجاوره، حسن فيه جمعه بالألف والتاء، وهو ما ألمح إليه الشهاب آنفا، وتفصيله الآتي:
أنه لو لم يعطف ولم يجاور لقال “سبع سنابل”، ولذلك إذا عري عن المجاور جاء على “مفاعل” في الأكثر والأولى، وإن كان يجمع بالألف والتاء جوازا؛ مثال ذلك قوله تعالى: )سبع طرائق( (المؤمنون: ١٧)، و )سبع ليال( (الحاقة: ٧)، فلم يقل “طريقات” ولا “ليلات”، وإن كان جائزا في جمعه أن يكون جمع سلامة، فتقول: “مسكينون” و “مسكينين”، وقد آثروا ما لا يماثل “مفاعل” من جموع الكثرة على جمع التصحيح إن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته، كقوله تعالى: )ثماني حجج( (القصص: ٢٧)، وإن كان جائزا فيه أن يجمع بالألف والتاء؛ لأن مفرده “حجة”، فتقول: “حجات”.
فعلى هذا الذي تقرر، إذا كان للاسم جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسير، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة، فإن كان للكثرة، فإما أن يكون من باب “مفاعل”، أو من غير باب “مفاعل”، فإن كان من باب “مفاعل” أوثر على جمع التصحيح، فنقول: “جاءني ثلاثة أحامد”، “وثلاث زيانب”، ويجوز التصحيح على القلة، فتقول: “جاءنى ثلاثة أحمدين”، و “ثلاثة زينبات”، وإن لم يكن من باب “مفاعل”، فإما أن يكثر فيه غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلا، مثال ذلك: “جاءني ثلاثة زيود”، و “ثلاثة هنود”، و “عندي ثلاثة أفلس”، ولا يجوز: “ثلاثة زيدين”، ولا “ثلاثة هندات”، ولا “ثلاثة فلوس”، إلا قليلا، مثال ذلك: “ثلاث سعادات”، و “ثلاث شسوع”، ويجوز على القلة: “ثلاث سعائد”، و “ثلاثة أشسع”، فإذا تقرر هذا فقوله: )سبع ليال(؛ جاء على هذه الصيغة لأجل المجاورة كما تقدم.
وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: )سبع ليالى(، إنما جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعا متناهيا، وأن قوله: )وسبع سنبلات(، إنما جاء لأجل مشاكلة: )سبع بقرات( ومجاورته، فجاءت “سنبلات” منتهية بالألف والتاء لمجاورتها وعطفها على بقرات[3].
وقيل: لما كان الكلام في قوله: )سبع سنابل(، في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة. أما في سورة يوسف فقد ذكرت في سياق الكلام عن سني الجدب، فناسبها التقليل فجمعت جمع قلة.
ثالثا. أما إذا كان القصد من كلامهم أن كلمة “سنبلة” لا تجمع بالألف والتاء فهم مخطئون؛ لأن النحاة والصرفيين قد نصوا على أن ما ينتهى بالتاء يجوز أن يجمع جمعا مؤنثا سالما، سواء أكان علما مؤنثا؛ مثل: فاطمة، وكريمة، أم مذكرا؛ مثل: طلحة، أم لم يكن علما أصلا؛ مثل: بقرة، وثمرة، وسنبلة، فجمعها على التوالي: بقرات، وثمرات، وسنبلات ومن ثم فالجمع “سنبلات” ليس جمعا خطأ ليعترضوا عليه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
- التعريف في”الملك” للعهد؛ أي: ملك مصر، وسماه القرآن هنا “ملكا”، ولم يسمه “فرعون”؛ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة[4]، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها الهكسوس، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، فالتعبير عنه بـ “الملك” في القرآن، دون التعبير “بفرعون”، مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى – عليه السلام – بلقب “فرعون”، هو من دقائق إعجاز القرآن الغيبي، وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك في زمن يوسف عليه السلام “بفرعون”، وما هو “بفرعون”؛ لأن أمته ما كانت تتكلم القبطية، وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف – عليه السلام – في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.
- وقوله: “سمان” جمع “سمينة” و “سمين”، مثل كرام، وهو وصف لـ “بقرات”، و “عجاف” جمع “عجفاء”، والقياس في جمع “عجفاء”: “عجف”، لكنه صيغ هنا بوزن “فعال” لأجل المزاوجة لمقارنه وهو “سمان”، كما قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوبة
والقياس: “أبواب”، ولكنه حمله على “أخبية”[5]، وكذلك جاء بـ “عجاف”، وحسنه هنا مناسبته لـ “سمان”.
- في قوله: )إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)( (يوسف) أي: تعبرونها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى الخيالي؛ كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفة إلى أخرى[6].
يقول الطاهر ابن عاشور: “وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به، وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم، ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم، وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردى فيها ضوابط، وقواعد لتعبير الرؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف )إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)( (يوسف) في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال الملك أهل ملئه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظن بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا، والاهتمام بهذه الرؤى يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر، وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف – عليه السلام – كانت من روح العصر وجوه على ما نعهد في معجزات الأنبياء”[7].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الإستراباذي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص188.
[2]. تفسير اللباب، ابن عادل الحنبلي، تحقيق: محمد سعد رمضان، محمد متولي الدسوقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، عند تفسير الآية.
[3]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[4]. الفراعنة: ملوك مصر القبط، جمع فرعون.
[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص280.
[6]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج12، ص317 بتصرف.
[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص281.