دعوى اعتماد الأئمة على آرائهم أكثر من اعتمادهم على السنة
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن القول بأن الأئمة لم يحتكموا إلى السنة قول عار من الصحة، بل إن الأمر بخلاف ذلك تماما؛ إذ السنة هي المصدر الثاني – بعد القرآن – من مصادر الفتوى والحكم لدى جميع الأئمة، ما دامت صحيحة ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد كانت أصول مذاهبهم لا تخرج عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الترتيب – فيما يتعلق بالأدلة النقلية – فلا إعمال للعقل عندهم إلا فيما انعدم فيه النص قرآنا وسنة.
2) لقد حرص أبو حنيفة منذ حداثة سنه على سماع الحديث؛ إذ ارتحل في طلبه، فأخذ عن علماء الأمصار من المحدثين والرواة، وحصل ثروة حديثية مهمة كانت زاده في استنباط الأحكام، وقد جمعها تلامذته في مسند بلغت عدتها خمسمائة حديث.
3) إن بيئة العراق الموبوءة بأهل البدع من الفرق الذين يستحلون الوضع على النبي – صلى الله عليه وسلم – لنصرة مذهبهم كانت سببا في تشدد أبي حنيفة في قبول الأحاديث، لا سيما وأن السنة النبوية الصحيحة لم تجمع في الدواوين إلا بعد وفاة أبي حنيفة بخمسين سنة أو تزيد – فاستغل أعداؤه – من السياسيين والحساد والحاقدين – هذا التشدد ليصموه برد السنة وإحلال الرأي محلها.
4) لم يكن إنكار أبي حنيفة لحكم القاضي ابن أبي ليلى على المرأة القاذفة ردا وإنكارا للسنة وإعمالا للعقل – كما يدعون – ولكنه بين موطن الخطأ في الاستدلال بنص ليس في موضعه.
التفصيل:
أولا. احتكام الأئمة إلى السنة كان قبل إعمال العقل، وأصول مذاهبهم جميعا هي على الترتيب: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس:
إن أئمة المسلمين جميعا بلا استثناء كانوا يرون الأخذ بالسنة، والرجوع إلى حكمها، يستوي في ذلك المنتمي منهم إلى مدرسة الرأي والمنتمي منهم إلى مدرسة الحديث، فهؤلاء الفقهاء كانوا لا يعملون عقولهم في أي مسألة إلا إذا لم يجدوا لها حكما في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – فالأصل الأول عندهم في استنباط الأحكام هو القرآن الكريم، ثم السنة النبوية، ثم إجماع الأمة، فإن لم تتوفر لهم بغيتهم في هذه الثلاثة لجئوا إلى القياس وإعمال العقل للإجابة عما يعرض عليهم من أسئلة وقضايا، وهي لا تخرج على النقل إذ عليه يتم القياس.
والإمام أبو حنيفة المتوفى عام (150 هـ) هو أول الأئمة الأربعة، وقد كثر الكلام حول إعماله للرأي في الاستدلال، وتركه الأخذ بالسنة، لكن الحقيقة أنه ما ترك السنة، وأعمل العقل لمجرد إعمال العقل، وإنما كان يعمله فيما لم يرد فيه نص صحيح.
وقد كثر اجتهاده في مثل هذه المسائل التي لم يرد فيها نص، فقد جاء رجل إلى سفيان فقال: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قد سمعته يقول: «آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه؛ آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم, ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم الشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وابن المسيب، وعدد رجالا، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا»[1].
فهو لا يجتهد إلا بعد الرجوع إلى كتاب الله، ثم سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ثم أقوال صحابته الكرام، فكيف يزعمون أنه كان يعتمد على عقله ولا يأخذ بالسنة، وهو القائل مثل هذا القول؟! هذا هو شأن الإمام أبي حنيفة – رضي الله عنه – مع السنة النبوية.
أما الإمام مالك المتوفي عام (179 هـ) فكان لا يخالف سنة صحيحة أبدا، وكان لا يجتهد رأيه عند وجود الحديث، ويروى أن رجلا جاء إلى الإمام مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت؟! فقال مالك: )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)( (النور) [2]. فلم يرض الإمام مالك أن يحيد عن حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى رأيه مع مطالبة الرجل بذلك، وحذره من مخالفة أمر النبي حتى لا تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم.
أما الإمام الشافعي – رضي الله عنه – المتوفى عام (204 هـ) فكان لا يروي حديثا صحيحا إلا ويأخذ به، فقد جاء عن الربيع أنه قال: روى الشافعي يوما حديثا، فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: “متى ما رويت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثا صحيحا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب”[3].
ويأمر أتباعه وتلامذته أن يدعوا قوله إذا ما وجدوا في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يخالفه, فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعوا ما قلت[4].
فهؤلاء الفقهاء قد أكدوا جميعا على أنه لا يؤخذ برأيهم إلا إذا لم يكن هناك نص صحيح في السنة على ذلك، فهم يعتمدون القياس والرأي أصلا رابعا بعد القرآن والسنة وقول الصحابة أو الإجماع، ولا يتصور أن يكون هناك مذهب فقهي أو إمام مجتهد يتعمد في فقهه ترك حديث صحيح الثبوت، صريح الدلالة على الحكم لا معارض له، والمراد: صحته عنده هو، وصراحة الدلالة على الحكم عنده هو لا عند غيره”[5].
وقد عني شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته اللطيفة “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” بالدفاع عن أئمة الفقه أمام بعض المشككين أو المضللين الذين اتهموهم بمخالفة الحديث وترك السنة، فقال: “وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة – المقبولين عند الأمة قبولا عاما – يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل”[6]. فهذه شهادة عظيمة منه رحمه الله تبرئ ساحة الأئمة المتبوعين، وما ذلك إلا لأنه يعلم من أحوالهم وأمورهم أنهم” متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”[7].
والمقصود أن السلف جميعهم – بما فيهم الأئمة الأربعة – على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به، لافتيا ولا قضاء، وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا نكير على من خالفه[8].
وقد يقول قائل: وبم نفسر مخالفة قول إمام من الأئمة لحديث صحيح؟ فيقول ابن تيمية رحمه الله: “ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه”.
وأجمل رحمه الله هذه الأعذار في ثلاثة وهي:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ[9].
ومن ثم يظهر أن دعواهم بعدم إعمال الأئمة للسنة – بعد أن أوردنا أقوالهم الصريحة في وجوب الأخذ بها – دعوى ساقطة لا أساس لها صحيحا تقوم عليه.
ثانيا. عناية الإمام أبي حنيفة بسماع الحديث ورحلته في طلبه:
لقد ابتدأ أبو حنيفة طلب العلم وهو في حداثة الشباب، وارتحل لتحصيله، فجاب الآفاق، وجال في البلدان، وأخذ عن كبار العلماء فأخذ في الكوفة مسقط رأسه عن حماد بن أبي سليمان، وعامر الشعبي، وروى عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس في مكة، وعن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر في المدينة، وغيرهم كثير.
ويلحظ أن جل مشايخه الذين ذكرهم المزي في تهذيبه من علماء الحديث؛ إذ كان من أوائل العلوم التي حصلها، وقد نص الذهبي على ذلك قائلا: “عني بطلب الآثار وارتحل في ذلك”[10]، وأوضح أن طلبه الحديث كان في حداثة سنه حين قال: ” إن أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة “[11].
ويبين كلام الذهبي أن أبا حنيفة أكثر من الرواية من جهة أنه حصل حديثا كثيرا إلا أنه لم يحدث إلا بما يحفظ كما قال يحيى بن معين[12].
وعن سعيد بن سالم البصري قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، قلت: نعم، قال: فمن أي الأصناف أنت، قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا بذنب، قال: فقال لي عطاء: عرفت فالزم”[13].
وقد عد الإمام أبو حنيفة من الثقات، فقال محمد بن سعد العوف: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظه[14].
وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبوحنيفة ثقة في الحديث، وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن يحيى بن معين: “كان أبو حنيفة لا بأس به”[15].
وقال مرة: كان أبوحنيفة عندنا من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا”[16].
وقال محدث الديار المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحي: كان أبوحنيفة من كبار حفاظ الحديث وأعيانهم، ولولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه[17].
ومما روي عن اعتنائه بالحديث ما قاله أبو يحيى الحماني قال: سمعت أباحنيفة يقول: رأيت رؤيا أفزعتني، رأيت كأني أنبش قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – فأتيت البصرة، فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين، فسأله فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم”[18].
ولما كان أبو حنيفة كثير الحديث مهتما بجمع الصحيح منه قام تلامذته بجمعه في مسند ضم أكثر من خمسمائة حديث[19]، ووجود هذا المسند يدحض أدلة القائلين بأن أبا حنيفة كان مقلا في رواية الأحاديث، وأنه لم يصح عنده إلا سبعة عشر حديثا، أو أن مذهبه قائم على الرأي، وينقلون ذلك عن ابن خلدون في مقدمته، ولو رجعنا إلى ما كتبه ابن خلدون لوجدناه يذكر ذلك بصيغة التمريض، ولا يتبناه، وإنما يشكك في هذا الرأي، قال ابن خلدون في فصل “علوم الحديث”:
“واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه البضاعة والإقلال، فأبو حنيفة رحمه الله قيل: إنه إنما بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها، ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى – في مسنده خمسون ألف حديث، ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك”[20].
فابن خلدون لم يقر الرأي القائل بأن أبا حنيفة بلغت روايته من الأحاديث سبعة عشر حديثا فقط – كما ظن هؤلاء المشككون – وإنما يشكك فيه، لذلك بدأه بكلمة “قيل”، وهي صيغة من صيغ التمريض تفيد الشك أكثر من إفادتها اليقين والإخبار.
هذا، ويؤكد ابن خلدون في المقدمة أيضا أن أبا حنيفة إذا كان قليل الرواية من الحديث، فإن ذلك يرجع إلى شدة تثبته في الرواية والتحمل، وليس تركا للحديث متعمدا، فيقول: “والإمام أبو حنيفة، إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلت من أجلها روايته، فقل حديثه؛ وأما أنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه، واعتباره ردا وقبولا، وأما غيره من المحدثين، وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط، وكثر حديثهم، والكل عن اجتهاد، وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم، وروى الطحاوي فأكثر، وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين؛ لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما قد أجمعت عليها الأمة، وشروط الطحاوي غير متفق عليها، كالرواية عن المستور الحال وغيره”[21].
ويرى ابن خلدون أن قلة الأحاديث عند الأئمة ليست لقلة بضاعتهم فيه، أو زهدا فيه وإعراضا عنه، وإنما بسبب العلل والمطاعن التي وجدوها في طرق الحديث في وقتهم، ولم تكن الأحاديث قد نقحت وهذبت بعد كما حدث في عهد البخاري ومسلم مثلا.
وإذا أردنا أن نثبت أن أبا حنيفة كان كثير الرواية في الأحاديث، فإننا نجد الكوثري يقول في كتابه “تأنيب الخطيب”: “ما عند أبي حنيفة من أحاديث الأحكام المروية في المسانيد من غير تكرار للمتن، ولا سرد للطرق عن حديث واحد، مقدار عظيم، لا يستقله من يعلم مقدار ما عند مالك والشافعي من أحاديث الأحكام, مع ملاحظة ما لم يأخذا به من مرويات أنفسهما”[22].
وقال الحسن بن زياد: “كان أبو حنيفة يروي أربعة آلاف حديث: ألفين لحماد شيخه، وألفين لسائر المشيخة”[23].
وهذا هو المعقول والموافق لطبائع الأمور، فكيف يكون إماما من كبار أئمة المسلمين، صاحب مذهب من أوسع المذاهب الفقهية فروعا واستنباطا، ويدين بمذهبه عشرات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا تزيد ثروته في الحديث على بضعة عشر حديثا؟!
وقد قام الدكتور مصطفى السباعي بدراسة جيدة عند حديثه عن أبي حنيفة ذكر فيها عددا من الأدلة على معرفة أبي حنيفة الواسعة بالحديث، واعتماده في فقهه عليه، فقال: إن أبا حنيفة إمام مجتهد بإجماع الموافقين والمخالفين، ومن شرائط الاجتهاد أن يحيط المجتهد بأحاديث الأحكام، وهي آلاف، وعلى أقل تقدير بضع مئات، فكيف جاز لأبي حنيفة أن يجتهد وهو لم يستكمل أهم شروط الاجتهاد؟ وكيف اعتبر الأئمة اجتهاده، وعنوا بفقهه ونقلوه في الآفاق، وهو قائم على غير أساس؟
ومن يطالع مذهب الإمام يجده قد وافق الأحاديث الصحيحة في مئات من المسائل, وقد ألف صاحب “تاج العروس” السيد مرتضى الزبيدي رحمه الله كتابا جمع فيه الأحاديث من مسانيد الإمام أبي حنيفة, والتي وافق في روايتها أصحاب الكتب الستة سماه: “عقد الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة”، فكيف يوافق اجتهاد الإمام مئات الأحاديث الصحيحة، وليس عنده إلا بضعة عشر حديثا؟
ومما يثبت كثرة الأحاديث التي اعتمد عليها أبو حنيفة أن ابن أبي شيبة أفرد في مصنفه الكبير بابا لما خالف فيه أبو حنيفة ما صح من الأحاديث، فبلغت مائة وخمس وعشرين مسألة، فلو سلمنا لابن أبي شيبة في ذلك، وعلمنا أن مسائل أبي حنيفة التي وردت عنه ثلاث وثمانون ألف مسألة على أقل تقدير، فإن عدد المسائل التي أقر فيها ابن أبي شيبة بأن أبا حنيفة لم يخالف فيها السنة – عدد ضخم جدا, ولا بد أن تكون كل مسألة من هذه المسائل قد ورد فيها حديث اعتمد عليه أبو حنيفة، فكيف نقول إذن إن أبا حنيفة لا تزيد ثروته في الحديث على بضعة عشر حديثا؟
وأبو حنيفة أيضا ممن تذكر آراؤه في مصطلح الحديث. فكيف يكون قليل الحديث، ثم يعتبر عند علماء ذلك الفن من الأئمة الذين تدون آراؤهم في قواعد الحديث ورجاله.
فقد تكلم الإمام في بعض قضايا علم الجرح والتعديل ونقلت آراؤه في ذلك، ومن هذه الآراء ما يأتي:
ذكر الحافظ السخاوي أن أبا حنيفة اشترط الذكورة في راوي الحديث واستثنى من ذلك أخبار عائشة وأم سلمة والمشاهد من النساء، ثم ذكر السخاوي أن من شروط العدالة في الراوي عند أبي حنيفة أن يكون هذا الراوي فقيها عالما إن خالف القياس[24].
وقال أيضا: “فلما كان عند آخر عصر التابعين وهو حدود الخمسين ومائة تكلم في التوثيق والتضعيف طائفة من الأئمة، فقال أبو حنيفة: “ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي”[25].
وقد سئل الإمام أبو حنيفة عن الأخذ عن الثوري فقال لمن سأله: اكتب عنه فإنه ثقة، ماخلا أحاديث أبي إسحق عن الحريث وحديث جابر الجعفي”[26].
“روى الخطيب البغدادي في الكفاية بسنده إلى القاضي أبي يوسف – صاحب أبي حنيفة – قال: قال أبو حنيفة: “لأن أقرأ على المحدث أحب إلي من أن يقرأ علي”[27].
وإن أخذ العلماء بأقواله في الحديث لدليل على رسوخ قدمه في علومه، وتبحره فيه.
هذا وإن تلامذته جمعوا أحاديثه في كتب ومسانيد بلغت بضعة عشر مسندا، وجمع أكثر هذه المسانيد قاضي القضاة أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي في كتاب ضخم سماه “جامع المسانيد” وهو كتاب مطبوع يقع في 800 صفحة[28].
فهل يعقل بعد هذه الأدلة أن نقول إن أبا حنيفة كان قليل البضاعة من الحديث، وأنه كان يعمل عقله في المسائل ولا يعتمد على الحديث؟!
ثالثا. فساد بيئة العراق جعلت أبا حنيفة يتشدد في قبول المرويات:
لقد عجت بيئة العراق – من قبل الإسلام ومن بعده – بالملل والنحل؛ إذ كانت موطنا لمدن أو لمدائن وحضارات قديمة، فقد استوطنها السريان قبل الإسلام وأنشأوا فيها مدارس لهم، وكانت مجالا خصبا لفلسفة اليونان وحكمة الفرس. وكان العراق بعد الإسلام مزيجا من أجناس مختلفة، وآراء متضاربة في السياسة وأصول العقائد، فعلى أرضه كانت الشيعة، وفي باديته الخوارج، ثم المعتزلة، وكان فيه – في عصر أبي حنيفة – تابعون مجتهدون التقى بهم، ومن قبلهم كان فيه عبد الله بن مسعود الذي بعثه عمر إليهم ليعلمهم الفقه، ويهديهم للسبيل الأقوم، ثم كان فيه إمام الهدى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولقد فتحت عين أبي حنيفة فرأى علم العراق، فأخذ يجادل مع المجادلين، ونازل بعض أصحاب النحل بما توحي به السليقة المستقيمة، وكان ذلك في بواكير شبابه، أو في آخر صباه[29].
هذه هي البيئة التي نشأ فيها أبو حنيفة، كانت صالحة لظهور فرق مختلفة كالشيعة والخوارج وغيرهما، وكل فرقة من هذه الفرق عمدت إلى وضع أحاديث على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تستدل به لرأيها، وتؤيد به مبادئها، وقد عرف العراق بدار الضرب أي التي تضرب فيه الأحاديث كما تضرب النقود، وتنشر بين الناس على أنها أحاديث صحيحة، مما جعل أبا حنيفة، وهو الذي يسكن العراق يتشدد في قبول الأحاديث لا ردها.
وقد وضع أبو حنيفة شروطا دقيقة في قبول الأخبار حمله عليها فشو الكذب في الحديث في عهده – كما أسلفنا – فأراد أن يحتاط لدين الله – عز وجل – فتشدد في قبول الأخبار، واشترط شروطا منها:
ألا يعارض خبر الآحاد الأصول المجتمعة عنده بعد استقراء موارد الشرع، وألا يعارض عمومات الكتاب وظواهره، وألا يخالف السنة المشهورة، وألا يعارض خبرا مثله، وألا يعمل الراوي بخلاف حديثه، وألا يكون الخبر منفردا بزيادة، وألا يكون فيما تعم به البلوى، وألا يسبق طعن أحد من السلف فيه، وأن يأخذ بالأخف فيما ورد في الحدود والعقوبات، وأن يستمر حفظ الراوي لمرويه دون خلل أو نسيان، وألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين، وألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه[30].
وإذا تبين لنا هذا، عرفنا أن ما يتهم به أبو حنيفة من تركه بعض السنة وأخذه بالرأي كان عن اجتهاد ولا حرج عليه، وقد فعله أئمة قبله وأئمة بعده، تحرزا من أن ينسب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما لم يصدر عنه، لا سيما وأن السنة في عهده لم تكن صنفت في المصنفات، ولا دونت في الدواوين الجامعة ولا الجوامع الصحيحة.
ولقد كان لهذا الإمام خصوم سياسيون هم الأمويون والعباسيون؛ إذ كانت له مواقف حازمة معهم من كثرة نقده لهم، وبخاصة مع بعض الأمراء الأمويين، وقد رفض الإمام أبو حنيفة منصب القضاء حين عرضوه عليه، واعتذر أنه لا يصلح له، كما كان يرفض هداياهم، ويتعفف عن أخذها.
هذا وإن الخصوم استغلوا هذا التشدد من قبل الإمام أبي حنيفة في قبول المرويات ليذيعوا شائعة أن الإمام يرد الأحاديث ويعمل الرأي، وقد تعاور عليه الخصوم طيلة حياته، فقد عاش أكثر من ثلاثين سنة في ظل الدولة الأموية، وثماني عشرة سنة في ظل الدولة العباسية، وضيق عليه الأمويون الخناق، ففر من دمشق عاصمة دولتهم إلى مكة المكرمة، ثم عاد إلى بغداد لما آل الأمر إلى بني العباس، ولكن تمسكه بالحق والانتصار له أنشأ بينه وبين أمراء الدولة العباسية خصومة جديدة, إلى درجة أن منعوه من الفتوى ودرس العلم، وزجوا به في السجن في أخريات حياته، ولم يجد خصوم أبي حنيفة من السياسيين عيبا يلمزون به سمعته سوى أن يفتروا عليه فرية إعراضه عن السنة، وإحلال الرأي محلها، ودأبوا في العمل على نشر هذا الافتراء بين الناس حتى لا يلتف الناس حوله[31].
وتنضاف إلى الخصومة السياسية خصومة أقرانه من العلماء؛ ذلك أن التنافس من طباع بني الإنسان، فإن صدور بعض هؤلاء العلماء – خاصة العلماء الذين جذبهم بريق السلطة – تضيق بمن يمتاز عليهم بفهم، أو يزيد عنهم في شهرة، أو يوضع له القبول عند الناس أكثر منهم، وتلك طبيعة قل أن يخلو منها إنسان إلا من رفع الله نفسه عن الصغار، وملأ قلبه بالحكمة وأورثه هدي النبيين وطمأنينة الصديقين فقد بلغ الأمر ببعضهم أن بدأ ينشر بين الناس أن أبا حنيفة يترك السنة ويعمل العقل، غيرة من شهرته بين الناس، وحبهم له، وكثرة علمه.
وقد عقد ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” فصلا خاصا لتنافس العلماء وما ينتجه ذلك من أقوال بعضهم في بعض، ذكر في أوله قول ابن عباس: “استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض[32].
وكان القضاة أيضا شديدي الغيرة منه، وليس أدل على ذلك من القاضي عبد الرحمن بن أبي ليلى، قاضي الكوفة في عصره الذي خطأه أبو حنيفة في حكم المرأة التي قذفت رجلا، فهذا جعله يتحدث عن أبي حنيفة بما لا يصح في المجالس، حتى لقد قال أبو حنيفة عنه: “إن ابن أبي ليلى ليستحل مني ما لا أستحل من بهيمة”[33].
وكان من أثر هذه العوامل أن تناقل الناس عنه أشياء غير صحيحة، منها: ما لا ظل له من الحق، ومنها ما لم يفهمه الناس على حقيقته من طرائق أبي حنيفة في الاجتهاد[34]، وكل هذا ساعد على نشر هذه الافتراءات التي دارت حول أبي حنيفة من إعمال للعقل، وترك الاعتماد على السنة.
ثم إن توسع أبي حنيفة كان بسبب كثرة النوازل والحوادث المستجدة التي لم تكن في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – نظرا لما عرفته بيئة العراق من الأمم المختلفة والأجناس المتشعبة.
كما أن أبا حنيفة ابتلي بتلامذة وطلاب علم عنوا بافتراض النوازل الفقهية والحوادث التي لم تقع رغبة منهم في الإفادة من علم الرجل ونظره الثاقب في المسائل واستنباط الأحكام.
وبناء على أسئلة التلاميذ الافتراضية عرفت مدرسة أبي حنيفة بمدرسة الرأي، أي الذين يفترضون الوقائع بقولهم: “أرأيت لو حصل كذا؟ أرأيت لو كان كذا “، وهذا لا يعني أنه كان لا يعتمد على الأحاديث أثناء النظر في هذه المسائل الافتراضية، على عكس ما يزعمه الزاعمون.
ولـما اتهم أبو حنيفة باعتماده على الرأي وترك السنة في عهده، لم يترك هذا الكلام يشيع بين الناس ويسكت عنه، وإنما دافع عن نفسه دفاعا شديدا، ورد على ادعاءات خصومه ردودا مفحمة سجلتها الرواية الأمينة، بكل إخلاص وصدق، فقد قال الإمام – رحمه الله: “كذب والله وافترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس – يعني الرأي – على النص – يعني الحديث – وهل يحتاج بعد النص إلى قياس؟!”[35].
وقال أيضا”نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلا قسنا حينئذ مسكوتا عنه على منطوق به”[36]، ويقول: “إنا نأخذ أولا بكتاب الله، ثم السنة، ثم بأقضية الصحابة، ونعمل بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قسنا حكما على حكم بجامع العلة بين المسألتين حتى يتضح المعنى”[37].
ويؤكد تمسكه بالحديث وتقديمه على الرأي ما عرف عنه وعن أصحابه من تقديم الحديث الضعيف على القياس في غياب الصحيح، وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا مكابر، يقول ابن القيم في “إعلام الموقعين”: “وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بني مذهبه؛ كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعف… فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين؛ بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا”[38].
وقال أبو حنيفة: “الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أولى من القياس، ولا يحل القياس مع وجوده، قال: والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم – أولى من القياس”[39].
فهل يعقل أن يثبت علماء الأصول جميعا أن أبا حنيفة يقدم الحديث الضعيف أو المرسل على القياس ثم يتهم الآن بتقديم رأيه على الحديث؟!
لقد كان أبو حنيفة على دراية بما يروجه هؤلاء الحاقدون والحاسدون ضده من اتهامه بتقديم الرأي على الحديث، فيؤكد أنهم كذابون ومفترون، ويتساءل في عجب: وهل يحتاج أحد إلى أن يقيس في وجود النص؟ ثم أكد أكثر من مرة أن منهجه في الفقه النظر في كتاب الله – عز وجل – ثم سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ثم أقضية الصحابة، فإن لم يجد مطلبه في شيء من ذلك قاس مسكوتا عنه على منطوق به، وأي شيء يريده هؤلاء المشككون لإغلاق أفواههم بعد تأكيد الإمام أبي حنيفة نفسه على أنه لا مجال للعقل عنده في وجود النص؟!
بل كان يقول: “ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فسمعا وطاعة، وما جاء عن الصحابة – رضي الله عنهم – تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين، فهم رجال ونحن رجال”[40]، وفي رواية أخرى “زاحمناهم” يعني: لنا حق إبداء الرأي في المسألة معهم[41].
فهذا كلام إمام يقدر السنة حق قدرها، ويجعلها أصلا من أصول الاستدلال، وإن ادعى خصومه عليه وأكثروا.
ويزكي هذا ما رواه ابن عبد البر في الانتقاء عن أبي حنيفة قوله: “لعن الله من يخالف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – به أكرمنا الله، وبه استفدنا”[42].
وبناء على ما سبق يظهر بشكل جلي أن الإمام أبا حنيفة بريء مما رمي به وأنه كان من الكبار الذين يجلون السنة كما يجلون القرآن، ويحتفون بها احتفاءهم بالقرآن.
رابعا. إنكار الإمام أبي حنيفة لحكم القاضي ابن أبي ليلى:
أنكر الإمام أبو حنيفة حكم القاضي ابن أبي ليلى في جلده امرأة قاذفة، إذ كانت مجنونة، وقالت لرجل: يا ابن الزانيين، فأقام ابن أبي ليلى عليها الحد في المسجد، وجلدها وهي قائمة، وجلدها مائة وستين جلدة؛ لأنها قذفت أبا الرجل وأمه، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ ابن أبي ليلى في هذه الواقعة في ستة مواضع:
- أقام الحد في المسجد، والحدود لا تقام في المساجد.
- وضربها وهي قائمة، والنساء يضربن في الحدود قاعدات.
- أقام عليها حدين؛ أحدهما للأب والآخر للأم، ولو أن رجلا قذف جماعة فليس عليه إلا حد واحد.
- جمع بين حدين في مجلس واحد، والحدود لا يجمع بينها حتى يجف السابق منها.
- أقام الحد والمقذوف غائب، ولم يحضر المقذوف ولم يرفع الدعوى.
- أقام الحد على مجنونة، والجنون يرفع المسئولية[43].
فكانت هذه الحادثة وأمثالها من المواقف الجادة – التي كانت – سببا في كثرة خصومه كما أسلفنا، وجعلتهم يشيعون أنه يرفض الاستدلال بالحديث النبوي، ويفتي في المسائل التي لم يجد لها دليلا في القرآن برأيه ولا يعمل فيها بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكن أبا حنيفة في هذه المسألة لم يرد السنة كما زعموا، ولم يعتمد على عقله في رد حكم القاضي ابن أبي ليلى، ولكنه رد حكمه بسبب أخطائه التي وقع فيها، فكيف يصح ذلك الحكم بمثل هذه الأخطاء الستة[44]؟
ومعرفة أبي حنيفة لهذه الأخطاء دليل على اعتماده الكبير على الأحاديث النبوية, ودرايته الكبيرة بأحاديث الأحكام التي وردت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذه المسائل التي أنكرها على ابن أبي ليلى.
وهذه الحادثة تدل على أن الله قد أعطى أبا حنيفة موهبة عجيبة فذة لا مثيل لها، استطاع من خلالها إعمال رأيه واستنباط الأحكام الصحيحة؛ إذ كان قادرا على تقليب وجوه الرأي في كل مسألة لدرجة تذهل وتدهش، فقد أخرج ابن أبي العوام بسنده إلى محمد بن الحسن، أنه قال: “كان أبو حنيفة قد حمل إلى بغداد فاجتمع أصحابه وفيهم أبو يوسف وزفر وأسد بن عمرو، وعامة الفقهاء المتقدمين من أصحابه، فعملوا مسألة أيدوها بالحجاج، وتفننوا في تقديمها، وقالوا: نسأل أبا حنيفة أول ما يقدم، فلما قدم أبو حنيفة كان أول مسألة سئل عنها تلك المسألة، فأجابهم بغير ما عندهم، فصاحوا به من نواحي الحلقة، يا أبا حنيفة، قال: أبحجة أم بغير حجة؟ قالوا: بحجة، قال: هاتوا، فناظرهم وغلبهم بالحجاج حتى ردهم إلى قوله، وأذعنوا أن الخطأ منهم، فقال لهم: أعرفتم الآن؟ قالوا: نعم. قال: فما تقولون فيمن يزعم أن قولكم هو الصواب.. وأن هذا القول خطأ؟ قالوا: لا يكون ذاك، قد صح هذا القول، فناظرهم حتى ردهم عن القول. فقالوا: يا أبا حنيفة ظلمتنا والصواب كان معنا. قال: فما تقولون فيمن يزعم أن هذا القول خطأ، والأول خطأ والصواب قول ثالث؟ فقالوا: هذا لا يكون، قال: فاستمعوا واخترع قولا ثالثا، وناظرهم عليه حتى ردهم إليه فأذعنوا، قالوا: يا أبا حنيفة علمنا، قال: الصواب هو القول الأول الذي أجبتكم به لعلة كذا وكذا، وهذه المسألة لا تخرج من هذه الثلاثة الأنحاء، ولكل منها وجه في الفقه ومذهب، وهذا الصواب فخذوه وارفضوا ما سواه”.
إن من أوتي هذه القدرة العجيبة على تقليب وجوه الرأي في مسألة واحدة، والقدرة على الدفاع عن كل رأي فيها، هو بلا شك من أدق الناس نظرا وأعمقهم استنباطا للنصوص، وأقواهم حجة وبيانا، ولذلك لا يكون الإمام مالك مغاليا حين قال عنه: “هذا رجل لو أراد أن يقيم الدليل على أن هذه السارية من ذهب لاستطاع”[45].
هذا هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله كان إذا أعمل عقله فيما لم يرد فيه نص، قاس المسألة على غيرها بدقة متناهية وعقلية فذة.
وبعد هذا التفنيد لأدلة الزاعمين أن الأئمة اعتمدوا على رأيهم أكثر من اعتمادهم على السنة، يتبين لنا أن الأئمة لم يعتمدوا على عقلهم وتركوا السنة، وإنما اعتمدوا على عقلهم عند خوفهم من عدم صحة الخبر الذي معهم، أو عدم وصول الخبر إليهم أصلا، وربما لعدم وجود نص صريح من السنة على مسألتهم، فدعاهم ذلك إلى إعمال العقل، وما كان أن يعملوه ويتركوا السنة الصحيحة التي بين أيديهم، كما زعم المغرضون كذبا وزورا عليهم.
الخلاصة:
- إن الأئمة المجتهدين جميعا لا يحيدون عن السنة إلى العقل إلا في حالة عدم وجود نص في ذلك، فأصول مذاهبهم جميعا هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد أكد على هذا الإمام مالك والشافعي وأحمد، أما أبو حنيفة الذي كثر الكلام عنه أنه كان يكثر من القياس فإن هذا كان في حالة عدم وجود النص فقط.
- لقد طلب أبو حنيفة الحديث منذ حداثة سنه ورحل في ذلك كثيرا، فأخذه عن كبار العلماء، لذلك عد من حفاظه عند علماء الجرح والتعديل، وأخذ بأقواله في علوم الحديث والجرح والتعديل.
- إن مما يؤكد اهتمام أبي حنيفة بالحديث وعلو منزلته فيه أن تلامذته قد جمعوا أحاديثه في مسند ضم أكثر من خمسمائة حديث، وهذا يدحض القول بأن بضاعته في الحديث لا تتعدى سبعة عشر حديثا، وقد شكك ابن خلدون نفسه في هذا الخبر، وكان أبو حنيفة إماما مجتهدا، وأهم شروط الاجتهاد؛ المعرفة التامة بأحاديث الأحكام، وهي كثيرة، وهذا ما أكده ابن أبي شيبة في مصنفه.
- إذا أعرض أبو حنيفة عن اعتماد بعض الأحاديث، فإنه بذلك يريد التثبت من صحتها، وليس رفضها رفضا مطلقا؛ لأن السنة لم تكن جمعت ودونت وصنفت تصنيفا دقيقا بعد, بل ظهرت فرق إسلامية في عهده وضعت أحاديث تؤيد بها ما تريد، وهذا ما جعله يتشدد في قبول الأخبار.
- ولما تشدد أبو حنيفة في قبول الأخبار واشترط شروطا دقيقة في قبولها، استغل خصومه من السياسيين والعلماء الحاسدين موقفه من السنة، وأشاعوا عنه إعراضه عن السنة وإعماله للعقل، وكان هذا هو سبب اشتهار مدرسته بالرأي، هذا فضلا عن أن نزول النوازل الفقهية المستجدة التي لم يرد فيها نص، وإكثار التلاميذ وأهل العراق من افتراض المسائل الفقهية غير الواقعة – أسهم في تأكيد شبهة أنه رحمه الله كان يعمل العقل والرأي، والواقع أنه كان يعمله فيما ليس فيه نص، وهو رأي لا يخرج عن الشرع، إذ إنه يقيس النازلة التي ليس فيها نص على التي فيها نص، كما أنه يحكم مقاصد الشريعة والنصوص العامة في الإسلام أثناء عملية الاستنباط.
- لقد دافع أبو حنيفة عن نفسه كثيرا فيما أثير حوله، وبين أنه لا يعمل عقله إلا إذا لم يجد نصا في مسألته، وكان رده متعجبا: “وهل يحتاج بعد النص إلى قياس”؟ وأكد على أن كل ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو على العين والرأس.
- عندما أنكر أبو حنيفة حكم القاضي ابن أبي ليلى في جلد أقامه على امرأة قذفت رجلا كان بسبب خطأ القاضي في ستة مواضع، وليس رفضا للسنة وإعمالا للعقل كما زعموا، وهذا دليل على معرفته القوية بأحاديث الأحكام التي من خلالها استطاع الوصول إلى هذه الأخطاء، بل وأعمل حديثا أهمله ابن أبي ليلى وهو حديث رفع القلم عن ثلاث، ومنهم المجنون حتى يفيق، والمرأة كانت مجنونة، لا تؤاخذ بما يصدر عنها.
(*) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. المدخل لدراسة السنة النبوية, د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.
[1]. مفتاح الجنة, السيوطي, الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط3، 1399هـ، ص49، 50.
[2]. حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (6/ 326).
[3]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (10/ 34).
[4]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (10/ 34).
[5]. المدخل لدراسة السنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص52.
[6]. رفع الملام عن الأئمة الأعلام, ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الله الطالبي، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص11.
[7]. رفع الملام عن الأئمة الأعلام, ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الله الطالبي، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص11.
[8]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 77).
[9]. رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الله الطالبي، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص11.
[10]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (6/ 392).
[11]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (6/ 396).
[12]. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1415هـ/ 1994م، (29/ 424).
[13]. تاريخ بغداد، أحمد بن على أبو بكر الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (13/ 331).
[14]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1415هـ/ 1994م، (29/ 424).
[15]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1415هـ/ 1994م، (29/ 424).
[16]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1415هـ/ 1994م، (29/ 424).
[17]. أصول الحديث عند الإمام أبي حنيفة، أحمد يوسف أبو حلبية، ص5.
[18]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (6/ 398).
[19]. الشبهات الثلاثون، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص84.
[20]. مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م، ص444.
[21]. مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م، ص445.
[22]. تأنيب الخطيب، الكوثري، نقلا عن: المدخل لدراسة السنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص49.
[23]. مناقب أبي حنيفة، الموفق المكي، نقلا عن: المدخل لدراسة السنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص49.
[24]. فتح المغيث، السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ، (1/ 293) بتصرف.
[25]. فتح المغيث، السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ، (3/ 351).
[26]. الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التقي الغزي، (1/ 97).
[27]. الكفاية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (2/ 197).
[28]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص372, 373 بتصرف.
[29]. تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت، ص346 بتصرف.
[30]. شرح مسند أبي حنيفة، الملا علي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ص3.
[31]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص82، 83 بتصرف.
[32]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1090، 1091).
[33]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (13/ 387).
[34]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت, ص385، 386.
[35]. شرح مسند أبي حنيفة، الملا علي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ص6.
[36]. شرح مسند أبي حنيفة، الملا علي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ص6.
[37]. النكت في المسائل المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة، أبو إسحاق الشيرازي، تحقيق: إيمان سعد الطويرقي، رسالة ماجستير بقسم الفقه الإسلامي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، 1424هـ/ 1425م، (1/ 73).
[38]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 77).
[39]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (2/ 385).
[40]. [40]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 588).
[41]. العرف الشذي شرح سنن الترمذي، محمد شاه الكشيري، تحقيق: محمود أحمد شاكر، مؤسسة ضحى، ط1، (1/ 207).
[42]. الانتقاء، ابن عبد البر، نقلا عن: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص376.
[43]. انظر: الدر المختار، الحصفكي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 217، 218).
[44]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص81، 82 بتصرف.
[45]. انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي, د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص366, 367 بتصرف.