دعوى الاكتفاء بما كان عليه الآباء والأسلاف من معتقدات وعبادة ولا حاجة لمعتقدات أو شعائر جديدة
وجها إبطال الشبهة:
1) التقليد على إطلاقه مذموم، فما بالنا إذا كان تقليدا في الجهل والسفه والضلال!، فلا شك أن يكون أشد ذما.
2) القرآن الكريم دائم الدعوة إلى النظر والتأمل والتعقل في المقارنة بين دعوة الرسل وما فيها من الصدق والحق، وما كان عليه الآباء من ضلال وعي.
التفصيل:
أولا. التقليد مذموم، ويكون أشد ذما في تقليد الجهل والسفه والضلال:
هذه شبهة واهية تعلق بها هؤلاء المشركون عندما أمروا باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وعدم اتباع أولياء من دونه، فقالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك والعقائد والمذاهب، وحسبنا ما تقلدناه من ساداتنا وكبرائنا وشيوخ علمائنا )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا( (لقمان: 21).
وقد رد الله عليهم مقولتهم هذه وأبان عن فساد مذهبهم بقوله )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة)، وقوله أيضا: )أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)( (المائدة) والمعنى: أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يفهمون شيئا ولا يعقلون شيئا من عقائد الدين ولا يهتدون إليه فكيف يتبعونهم والحال هذه، لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.
وكأن القرآن بذلك أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب ولا يعقل الحجج والدلائل، ولو كان لهؤلاء المقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية لتنفيرهم من التقليد الأعمى للآباء والكبراء، فإنهم في كل ملة، وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألفوه مما وجدوا آباءهم عليه، كما حكى القرآن عن قوم إبراهيم في عبادتهم للأصنام من دون الله: )قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)( (الزخرف)، وكقول قوم موسى لما جاءهم الحق: )فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36)( (القصص)، ومثل ذلك قول قوم نوح لما أمرهم بعبادة الله وحده: )ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24)( (المؤمنون(.
وحسبك بهذا القول شناعة، إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس، وإن كبر عقله وحسن سيره، فما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، وما من مهتد إلا ويحتمل أن يضل في بعض سيره، فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله إلى اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل، على أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجب أن ينفره عن التقليد قوله سبحانه وتعالى: )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة)، فإن هذا حجة عقلية لا تنقض.
ولذلك وجدنا القرآن يسفه أحلامهم ويضلل آباءهم حينما ذكروا أنه لا حجة لهم سوى صنيع آبائهم، فقال لهم كما قال إبراهيم – عليه السلام – لقومه مقيما الحجة عليهم: )لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)( (الأنبياء).
أي أن الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، ولهذا قال – عز وجل – أيضا: )أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21)( (لقمان).
وهذه الحجة الباطلة شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين قد استووا فيه كما استووا في مثاره وهو النظر القاصر المخطئ، قال عز وجل: )وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)( (الزخرف)، كأنهم قد أوصى بعضهم بعضا بهذه المقولة، كما قال الله في موضع آخر: )أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53)( (الذاريات) أي: بل قد اشتركوا في سببه الباعث عليه وهو الطغيان.
ثانيا. دعوة القرآن لأهل الشرك أن يمعنوا النظر فيما يعتقد آباؤهم وما جاء به النبي عليه السلام:
من ردود القرآن عليهم أيضا أن دعاهم إلى النظر والتعقل فيما اتبعوا فيه آباءهم، لعل ما دعاهم إليه الرسول أهدى منهم، إذ كان عليهم أن يقارنوا بين ما جاءهم به الرسول وبين ما تلقوه من آبائهم، فإن شأن العاقل أن يميز ما يلقى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق، وشأن المقلد أن يغتر بأحوال من سبقوه فلا يتأمل في مصادفة أحوالهم للحق، وفي ذلك يقول الحق – سبحانه وتعالى – لنبيه صلى الله عليه وسلم: )قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)( (الزخرف).
وهذا فيه من نقض حجتهم الواهية ما فيه؟ إذ لو كانوا عقلاء حقا لأقاموا الموازنة بين الأمرين، لكنهم لعنادهم وضلالهم وضعف حجتهم ثبتوا على دين آبائهم لا ينفكون عنه، وإن كان ما جاء به الرسول أرشد وأهدى، وما ذاك إلا بسبب التقليد المذموم.
ولذا يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب بما فيه من التعجب والتأنيب )أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)( (المائدة)، وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون أن لو كان يعلمون شيئا لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم أو ما شرعوه لأنفسهم. ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله، إلا وهو لا يعلم شيئا ولا يهتدي!
وليقل عن نفسه أو ليقل عن غيره ما يشاء: إنه يعلم وإنه يهتدي فالله سبحانه أصدق، وواقع الأمر يشهد أنه لا يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول! فوق أنه مفتر كفور[1]!
الخلاصة:
- الإسلام رسالة التحرر الفكري، والانطلاق الشعوري لا تقر التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازا بالإثم والهوى. فلا بد من سند، ولابد من حجة، ولابد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.
- دعا الإسلام هؤلاء المقلدين إلى النظر والعبرة فيما جاء النبي به – صلى الله عليه وسلم – وما يقولونه عن الآباء، فإن شأن العاقل أن يميز بين الغث والسمين – إن كان يريد الصواب – وسوف يجدون أن ما يدعونه باطل لا أساس له.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 170، المائدة/ 104، الزخرف/ 22، 23، الأنبياء/ 53، المؤمنون/ 24، سبأ/ 43، لقمان/ 21، القصص/ 36).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 170، المائدة/ 104، الأنبياء/ 54، 56، لقمان/ 21، الزخرف/ 23، 24).
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص991.