دعوى اليهود أنه يكفيهم الإيمان بما أنزل عليهم، ولا يضرهم الكفر بغيره
وجوه إبطال الشبهة:
1) ادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم هو باللسان فقط؛ لأنهم يخالفون ما تأمر به كتبهم.
2) كتمان أهل الكتاب الحق وكفرهم بما أنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – هو حسد لغيرهم وجحود ونكران لما تنطق به كتبهم.
3) إنكار قتلهم الأنبياء مع حرمة ذلك في التوراة التي يدعون اتباعها.
التفصيل:
أولا. كذب اليهود ومخالفتهم لكتبهم:
يعتذر بعض اليهود في عصر التنزيل عن عدم الإيمان بما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – بأن ما عندهم من التوراة يكفيهم، وكذلك أمثالهم من أهل الكتاب، وهم لا يقرون إلا بذلك، ويقولون: )نؤمن بما أنزل علينا( (البقرة: ٩١).
ولقد كان حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام، وإبائهم الدخول فيه أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم، فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم، ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق الذي لا يخضع لأهوائهم.
وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى عليه السلام، وقد آتاه الله الكتاب. ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى، يقفو بعضهم بعضا، وكان آخرهم عيسى بن مريم، وقد آتاه الله المعجزات البينات، وأيده بروح القدس جبريل – عليه السلام – فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم؛ والذي لا يملكون هم إنكاره، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به: )أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)( (البقرة).
ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلبة ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته. المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت – غير المصدر الإنساني المتقلب – مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة. وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى[1]!
وقد رد الله عليهم حجتهم هذه مصرحا بحقيقة أمرهم، وهي أنهم يدعون هذا الإيمان بألسنتهم )ويكفرون بما وراءه( (البقرة: ٩١) من مدلول ولازم لا ينفك عنه؛ كالبشارة برسول من بني إخوتهم؛ أي: ولد إسماعيل عليه السلام، وكون ما تثبت به نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – بمساواته لما تثبت به نبوة موسى – عليه السلام – يسلتزم وجوب اتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – كما اتبع موسى عليه السلام؛ لأن المدلول يتبع دليله في كل زمن وفي كل موضوع، فهم يكفرون بما وراء المنزل عليهم، وهو الحق الثابت في نفسه بالدليل حال كونه مصدقا لما معهم، فهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل، فالحجة قائمة عليهم.
ثانيا. كتمان اليهود للحق حسدا وجحودا:
يبين القرآن الكريم أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالحق الذي نزل على الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – حسدا من عند أنفسهم، إذ هم يعلمون أن ما أنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الحق الذي يجدونه في التوراة والإنجيل، قال سبحانه وتعالى: )الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)( (البقرة).
وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( (الأعراف: ١٥٧)، فهم ليسوا صادقين في قولهم السابق؛ لأن الله – عز وجل – أخذ عليهم فيما أنزل عليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة، وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم.
)وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)( (البقرة). قالوا: إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيسا لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين من دعوتهم إلى هذا الدين؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول، ويقول الله ردا على قولتهم: )بل لعنهم الله بكفرهم(؛ أي: طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم، فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى، )فقليلا ما يؤمنون (88)(؛ أي: قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم، أو أن هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم.. وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع.
وقد كان كفرهم قبيحا؛ لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه.. واستفتحوا به على الكافرين، أي ارتقبوا أن ينصروا به على من سواهم، وقد جاءهم بكتاب مصدق لما معهم: )ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به( (البقرة: ٨٩).
وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته.. ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر: )فلعنة الله على الكافرين (89)( (البقرة).
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها: )بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)( (البقرة(.
)بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا(، لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما يكثر أو يقل. أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع. وإن بدا تمثيلا وتصويرا لقد خسروا أنفسهم في الدنيا، فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز، ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين. وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر هو وحده الذي كسبوه وأخذوه!
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وكان هذا بغيا منهم وظلما، فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم[2].
ثالثا. قتل اليهود للأنبياء:
ونظرا لعنادهم ومكابرتهم لم يبق إلا إلزامهم بالحجة بما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل عليهم؛ ليعلم أنهم يتبعون أهواءهم ويحكمون شهواتهم، ولذلك قال – سبحانه وتعالى – مفحما إياهم: )قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)( (البقرة)؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بين أيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟
فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك؟ فليس في التوراة الأمر بقتلهم، والخطاب هنا لمن حضر محمدا – صلى الله عليه وسلم – والمراد أسلافهم، وإنما عوتب بنو إسرائيل الموجودون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أقروا قتل الأنبياء وتولوا أولئك الذين قتلوهم، ولم يستنكروا أفعالهم، قال الله سبحانه وتعالى: )ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)( (المائدة)، ومعلوم أيضا أن هؤلاء الموجودين من اليهود على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد حاولوا قتله، فهؤلاء المخاطبون لما تولوا أسلافهم كانوا بمنزلتهم؛ لأنهم رضوا فعلهم فنسب إليهم.
وهذا الخطاب توبيخ لهم وتقريع وتعيير من الله عز وجل؛ إذ كيف يقتلون أنبياء الله، وقد حرم الله عليهم في الكتاب الذي أنزل عليهم قتلهم، بل أمرهم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، فما كان منهم إلا أن قتلوهم عنادا واستكبارا على رسل الله.
يقول صاحب “الظلال”: “والقرآن يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم )وهو الحق مصدقا لما معهم( (البقرة: ٩١)، ومالهم وللحق؟ ومالهم أن يكون مصدقا لما معهم ما داموا لم يستأثروا هم به؟! إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعبدون لعصبيتهم. لا، بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به..
ويلقن الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يجيبهم بهذه الحقيقة، كشفا لمواقفهم وفضحا لدعواهم: )قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)(، لم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذين جاءوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به؟
لا، بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى عليه السلام: )ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)( (البقرة). فهل اتخاذكم العجل من بعد ما جاءكم موسى – عليه السلام – بالبينات، وفي حياة موسى – عليه السلام – نفسه، كان من وحي الإيمان؟ وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة، بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة، وكان هناك التمرد والمعصية: )وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا( (البقرة: ٩٣).
والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين – وإلى الناس جميعا – فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح: )بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)( (البقرة)”[3].
ويقول صاحب “التحرير والتنوير”: قوله: )وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)( (البقرة) فصله عما قبله؛ لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد الرد عليهم في معذرتهم هذه؛ لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم، وأن قولهم )نؤمن بما أنزل علينا( كذب؛ إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها، ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم؛ لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل للأنبياء.. والإتيان بالمضارع في قوله )تقتلون( مع أن القتل قد مضى؛ لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: )من قبل(.
وقوله سبحانه وتعالى: )ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)( (البقرة)، عطف على قوله: )فلم تقتلون أنبياء الله( (البقرة: ٩١)، والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله )قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل( كما بينا ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى – عليه السلام – الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به، فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا، فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم، فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى – عليه السلام – بالقتل، ولماذا قابلوا دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد[4].
الخلاصة:
دعوى اليهود أن إيمانهم بما في كتبهم يكفيهم ولا يحتاجون إلى الإيمان بأي كتب أخرى دعوى باطلة ردها القرآن من الوجوه الآتية:
- ادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم ادعاء كاذب؛ لأنهم يخالفون ما تأمرهم به هذه الكتب.
- دعواهم تلك ناشئة عن حسد وحقد على غيرهم أن يؤتيهم الله من فضله ما يشاء.
- أنهم يكتمون الحق الذي بشرت به كتبهم من الرسالة الخاتمة ونبي آخر الزمان.
- إنكار قتلهم الأنبياء مع حرمة ذلك في التوراة التي يدعون اتباعها.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 91).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 91، البقرة/ 146، الأعراف/ 157، الأنعام/ 20).
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص80، 81.
[2]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص89، 90.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ص91.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص608، 609 بتصرف.