وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حال سلفنا الصالح من تحمل المشاق الكثيرة والسفر والترحال الطويل في طلب الحديث؛ من أجل التأكد من صحة نسبته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – والحكم عليه – وإن كان حديثا واحدا – ينفي ما ادعاه مثيرو هذه الشبهة من اتكائهم على التخيلات فيما نقلوه لنا من أحاديث.
2) إن ثمة شواهد لا حصر لها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ما كان عليه أهل الحديث من إنصاف وإحقاق للحق وإبطال للباطل، وتنفي نفيا قاطعا ما ادعي من اعتمادهم على الأهواء والتخيلات، ومن هذه الشواهد: عدم ردهم خبر من خالفهم في العقيدة من الفرق الضالة إذا توافرت فيه شروط الصحة، وعدم محاباتهم أحدا – ولو كان أبا أو ابنا – في الجرح والتعديل.
3) لقد وضع علماء الحديث منهجا متميزا للتحقق من صحة الأحاديث، وصحة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد امتاز هذا المنهج بأقصى أنواع الدقة، من خلال فحص سند الحديث ومتنه والحكم عليه، فأين إذن الاعتماد على الأهواء؟!
4) لقد تفردت الأمة الإسلامية عن سائر الأمم بإنشاء (علم الجرح والتعديل) وتقعيده والتفنن فيه، وقد دفعها إلى إبداعه الرغبة في الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تقف فائدة هذا العلم العظيم عند هذا الجانب – وما أعظمه! – فحسب، ولكنه مكن السلف والخلف من كشف العلل في كل منقول، سواء أكان شعرا أم نثرا أم تاريخا شخصيا أم تاريخا سياسيا، فإذا كان هذا ديدنهم فيما سوى الكلام النبوي الشريف، فما بالنا بتنقيحهم وغربلتهم ما ينسب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – من أقوال؟!
التفصيل:
أولا. ما لاقاه الأئمة من معاناة في طلب الحديث الصحيح من الأمصار المختلفة:
لقد حرص السلف على صحة ما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحملوا في سبيل ذلك المشاق الكثيرة، والسفر والترحال الطويل ولو في طلب حديث واحد، وكانوا يؤمنون بأنهم بذلك إنما يجاهدون في سبيل الله.
فلقد كانوا مؤمنين إيمانا عميقا ثابتا بأن في عنقهم واجبا دينيا هو أن يخلصوا سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كل زيف، ومن كل دخيل عليها مما ليس منها، ولقد كانوا يعدون بالآلاف، ويمتازون – كما يقول أبو الحسن الندوي – بعلو نشاطهم، وقوة احتمالهم وخبرهم، وقوة ذاكرتهم وحفظهم، وقد تدفق سيلهم من بلاد العجم، وقد ملكت قلوبهم وعقولهم الرغبة الشديدة في جمع الحديث، وشغفوا به شغفا حال بينهم وبين الشهوات والأهواء، فطاروا في الآفاق، ونقبوا في البلاد بحثا عن الروايات المختلفة السليمة والأسانيد الصحيحة.
وقد كان لهؤلاء الأئمة في ذلك هيام وغرام لم يعرفا عن أمة من الأمم في التاريخ كله، يدل على ذلك ما يروى عن المحدثين من التجول في البلاد، والسفر في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؛ طلبا للحديث الصحيح([1]).
وهكذا فإن التاريخ لم يعرف أمة رحلت في طلب العلم مثل الأمة الإسلامية، وبخاصة علماء الحديث فيها، فقد ضربوا أروع الأمثال في قطع الفيافي الواسعة على ظهور الإبل، أو مشيا على الأقدام، بغية استماع حديث ممن يحفظه أو من أعلى مصدر حي له، وقد تجلى ذلك لنا منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا جابر بن عبد الله رحل إلى عبد الله بن أنيس في الشام، واستغرق سفره شهرا ليستمع منه حديثا واحدا لم يكن قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر، فلما لقيه قال: حدثنا ما سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ستر المسلم، لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك، فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائدا إلى المدينة وما حل رحله([2]).
وهذا ابن مسعود – رضي الله عنه – يقول: “لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته”([3]).
وهذه الوقائع وغيرها كثير تبين أن سبب رحلة هؤلاء الصحابة كانت لسماع حديث لم يسمعه الصحابي من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو للتثبت من حديث يحفظه الصحابي وليس في بلده من يحفظه، فيشد الرحال إلى من يحفظه ولو كان السفر إليه يستغرق شهرا أو أكثر.
وهكذا كان حال الصحابة – رضي الله عنهم – مع السنة، وبعد الصحابة سار تلاميذهم من التابعين سيرتهم، ونهجوا نهجهم في الرحلة لطلب الحديث، وربما زادوا عليهم.
فهذا سعيد بن المسيب أحد كبار التابعين يقول: “إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد” ([4])، وعن بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: “إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد؛ لأسمعه”([5]).
وعن أبي العالية الرياحي قال: “كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن بالبصرة، فما نرضى حتى نركب إلى المدينة، فنسمعها من أفواههم” ([6]). ولهذا فقد برز في جيل التابعين عامل جديد يحفز طلاب الحديث إلى الرحلة، وذلك هو طلب الإسناد العالي فهو أخصر طرق الحديث المتصلة([7]).
وعلى النحو السابق سار الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعون من بعدهم، فداوموا على الرحلة في طلب الحديث الشريف، وإن كلفتهم هذه الرحلة المشاق والصعاب.
ولم تقف الرحلة في طلب الحديث عند التابعين، ولكنها تعدتهم إلى تابعيهم، ومن تبع هؤلاء بإحسان؛ فقد روي أن البخاري صاحب الصحيح قد بدأ رحلته العلمية وهو لا يزال في الرابعة عشرة من عمره، وقد زار البلدان الإسلامية ما بين بخاري ومصر، وسمع من شيوخها.
وروي عن أبي حاتم الرازي قوله: ” أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة ماشيا، ثم إلى طرسوس، ولى عشرون سنة”([8]).
ومن المحدثين – أيضا – من سافر إلى قارة إفريقيا وآسيا وأوروبا في طلب الحديث، وكان كثير من المحدثين يخرج من الأندلس أقصى الغرب في العالم المتمدن المعروف يومئذ، ويبلغ أقصاه في الشرق إلى خراسان أو بالعكس([9]).
وللخطيب البغدادي كتاب جليل القدر وهو “الرحلة في طلب الحديث” ذكر فيه رحلات هؤلاء الرواة في طلب الحديث، وهو – كما قال محقق الكتاب: “برهان عظيم وآية كبرى في إثبات ما بلغه علماؤنا العظام من علو الهمة وسمو القصد، وشرف الغاية والوسيلة”([10]).
يتأكد ذلك عندما نعلم أن الخطيب قد خصص كتابه هذا في الرحلة في طلب الحديث الواحد فقط، لا لطلب الحديث جملة([11])، وهذا الكتاب خير دليل وأسطع برهان على حرص علماء الحديث ورواته على التحقق من صحة الحديث قبل الشروع في قبوله.
وعلى ذلك فإننا نجد بالبحث والمطالعة لتاريخ المحدثين والرواة وسيرهم أنهم لشدة حرصهم على التأكد من صحة نسبة ما يروون إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – كانوا يتحملون الصعاب والأهوال الكثيرة في سفرهم ورحلاتهم، وكان ذلك من وجهة نظرهم كالخروج والجهاد في سبيل الله، فهل أمثال هؤلاء يتهمون بنقلهم الأحاديث دون تمحيصها؟!
ثانيا. إنصاف أهل الحديث:
إن ثمة شواهد كثيرة تؤكد إنصاف أئمة الحديث، وتنفي نفيا قاطعا ما ادعي من اعتمادهم على التخيلات والأهواء، ومن هذه الشواهد:
- عدم ردهم خبر من خالفهم في العقيدة من الفرق الضالة، إذا توافرت فيه شروط الصحة:
فمن شدة إنصافهم – رحمهم الله – أنهم كانوا لا يردون خبر من خالفهم في العقيدة من الفرق الضالة، كالشيعة والقدرية والخوارج وغيرهم، فقد كانوا يقبلون حديثهم إذا توافرت فيه شروط الصحة، ولا يجعلون هذه البدعة سببا لرد حديثهم.
ففي ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي يورد الإمام ابن حجر قول ابن حبان: “كان جعفر من الثقات في الروايات، غير أنه ينتحل الميل إلى أهل البيت، ولم يكن بداعية إلى مذهبه، وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف في أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها، الاحتجاج بخبره جائز”([12]).
وقد أورد الإمام الذهبي في ترجمته لعمران بن حطان قول أبي داود – رحمه الله -: “ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج”([13]).
وفي ترجمة أبان بن تغلب الكوفي في “الميزان” قال الذهبي: “شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته”([14]).
وعليه فقد خرج أصحاب الصحيح أحاديث قوم من المبتدعة؛ لثقتهم وحفظهم، وتركوا حديث قوم من أهل السنة نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان.
فقد روى البخاري عن ثور بن يزيد وحسان بن عطية وقد رميا بالقدر، وروى عن حريز بن عثمان وقد رمي بالنصب؛ وذلك لثقتهم وحفظهم، وترك البخاري الرواية عن حماد بن سلمة مع إمامته في السنة؛ لتغيره في آخر عمره، وهذا يدل على إنصاف المحدثين مع مخالفيهم في العقيدة، وعدم اتباعهم الأهواء فيما يخص الحديث النبوي.
- عدم محاباتهم أحدا في الجرح والتعديل:
ومن الشواهد الدالة كذلك على شدة إنصاف أهل الحديث وتحريهم الدقة، وبعدهم عن الأهواء والتخيلات فيما ينقلون – أنهم كانوا لا يحابون أحدا في الجرح والتعديل، حتى وإن كان من أقرب الناس إليهم، فمنهم من جرح أباه، ومنهم من جرح ابنه، ومنهم من جرح شيخه، وهذا كله من تمام إنصافهم – رحمهم الله؛ فقد ذكر الإمام الذهبي في ترجمة عبد الله بن جعفر المديني والد علي بن المديني تجريح ابنه له، فقال: “وقال ابن المديني: أبي ضعيف”([15]).
وهذا الإمام أبو داود جرح ابنه، فذكر الذهبي في “السير” عنه أنه قال: “ابني عبد الله كذاب”([16]).
وهذا الإمام الذهبي – رحمه الله – بلغ من تمام الإنصاف، وشدة التحري مبلغا عظيما، حتى إنه تكلم في ابنه أبي هريرة، فقال: “إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه، حتى نسيه”([17]).
- رجوعهم إلى الحق إذا قالوا قولا واتضح لهم أنه خلاف الحق:
فمن الإنصاف أيضا: أنهم كانوا إذا قالوا قولا واتضح لهم أن الحق خلافه، رجعوا إلى الحق وبينوا ذلك، وهذا من إنصافهم وورعهم – رحمهم الله – ومن ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم عن الوليد بن مزيد، قال: سمعت أبي وعقبة بن علقمة يذكران قالا: “ما رأينا أحدا أسرع رجوعا إلى الحق إذا سمعه من الأوزاعي”([18]).
وهذا الحافظ ابن حجر: ذهب إلى أقوال في كتبه ثم لما تبين له الحق رجع عنها، منها قوله في الفتح: “ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله – صلى الله عليه وسلم – بها – أي بزينب بنت جحش – رضي الله عنها – فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك، وقد كنت أمليت في أوائل كتاب ” الوضوء” أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب، وهو سهو، والصواب بعد نزول الحجاب، فليصلح هناك”([19]).
وقد جمع الشيخ مشهور حسن سلمان ما تراجع عنه الحافظ في “الفتح” في جزء لطيف سماه: “تراجعات ابن حجر العسقلاني في فتح الباري”([20]).
ثالثا. منهج العلماء في التحقق من صحة الحديث:
لقد وضع سلفنا الصالح منهجا متميزا للتحقق من صحة نسبة الحديث إلى النبيصلى الله عليه وسلم.
وقد امتاز هذا المنهج بأقصى أنواع الدقة والواقعية لتمييز الصحيح والحسن من الضعيف، وهذا المنهج يمر عندهم بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: فحص سند الحديث، وهو بدوره يضم مرحلتين:
1) حصر رواة الحديث وفحص أحوالهم؛ (أي فحص سند الحديث من حيث رواته)، ويتم ذلك بجمع طرقه وحصر رواته، والتحقق من عدالتهم وضبطهم؛ وذلك لأن الخبر المنقول يحتمل الصدق والكذب، فإذا ما تحقق المنقول له من صدق الناقل، وأنه لا يتقول على المنقول عنه، فهذا يؤكد صحة المنقول أو يرجحه، وللتأكد من تلك الصحة، فقد اتبع المحدثون هذه الخطوات:
o حصر رواة الحديث.
o التعرف على أحوال كل راو من رواة الحديث.
o وضع الشروط المناسبة التي تعد مقياسا دقيقا لمن تقبل روايته من هؤلاء الرواة، أهمها أن يكون ثقة؛ أي عدلا ضابطا للحديث.
o تطبيق شروط قبول الرواية واتصال السند ورفعه وسلامته، بما يعرف باسم الجرح والتعديل.
ولأجل ذلك فقد قسم العلماء الرواة إلى طبقات؛ ليسهل الحصول على سلسلة الرواة ومعرفة طبقاتهم، وسهولة التعرف على أحوالهم.
2) فحص طريقة نقل الحديث واتصال السند ورفعه وسلامته من العيوب؛ فلم يكتف علماؤنا بفحص أحوال رواة الحديث، بل فحصوا سنده في ذاته؛ وذلك لكي يتحققوا من طريقة الرواية؛ أي: كيف علم الراوي بالحديث، وهل كان ذلك عن طريق السماع أو القراءة أو الكتابة، أو غير ذلك، وأيضا لكي يتأكدوا من اتصال السند، وكذلك ليتحققوا من أن الحديث ينتهي بقول التابعي أو الصحابي أو منته للنبي صلى الله عليه وسلم، وخلوه كذلك من عيوب الانقطاع والتدليس والقلب والإدراج والاضطراب، وهكذا..
ولذلك كان فحص سند الحديث أساسا من أسس منهج علماء الحديث في التحقق من صحة الرواية، وهذا يتطلب عدة خطوات:
o بيان كيفية رواية الحديث من سماع أو قراءة أو كتابة أو غيرها، وهذا ما يسمى بـ(طرق التحمل).
o التحقق من اتصال رواة الحديث؛ أي اتصال سند الحديث، وبحث العلماء بصدده الحديث المتصل والمسند والمرسل والمنقطع.
o التحقق من رفع الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم، وبحث العلماء فيه الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع.
o التحقق من خلو سند الحديث من العيوب؛ كالقلب والتدليس والاضطراب إلى غير ذلك.
المرحلة الثانية: فحص متن الحديث: فلم يتوقف اهتمام علماء الحديث على نقد السند والتعرف على طريق نقل الحديث – وإن كان السند هو نسب الحديث – ولكن المتن أيضا قد خضع عندهم لمجموعة من القواعد النقدية التي تؤكد سلامته من أي عيب يرد به الحديث؛ لكي يكون قبوله مما يطمئن إليه القلب، وهذه القواعد كلها غايتها الأساسية التثبت من صدور المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قاموا بالآتي:
- فحص متن الحديث لفظا ومعنى، وذلك بما يلي:
o التحقق مما إذا كان المتن قد روي بلفظه أو روي بمعناه.
o التحقق مما إذا كان المتن مختصرا أو روي بتمامه.
- عدم تعارض الحديث مع ما صح من النصوص، وللتأكد من هذا قام العلماء بما يلي:
o التحقق من عدم وجود تعارض بين متن الحديث ونصوص القرآن ومتون الأحاديث الصحيحة الأخرى.
o التحقق من ناسخ الحديث ومنسوخه.
o بحث التعارض بين مختلف الحديث.
- فحص سلامة النصوص من العيوب والوضع، وتم ذلك من خلال ما يلي:
o التحقق من خلو المتن من العيوب، كعيب القلب أو الاضطراب أو الإدراج أو غير ذلك.
o بيان أسباب وضع الحديث وأماراته، وكشف الحديث الموضوع.
المرحلة الثالثة: الحكم للحديث أو عليه؛ وذلك لتمييز الحديث الصحيح والحسن من الضعيف، وفيه بحث العلماء الآتي:
o طرق الحكم للحديث أو عليه، وفيها يجمع علماء الحديث – بعد الخطوات السابقة – كل روايات الحديث للنظر فيها، والاعتبار بما ورد فيها، وبيان ما قد يكون فيها من علة أو شذوذ، وترجيح ما يستحق الترجيح على أسس وقواعد دقيقة.
o تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف([21]).
من هذا يتبين أن هذا المنهج الذي وضع لدراسة علم الحديث وجمعه لم تر الدنيا جميعها مثله، ولم ينل كلام أي بشر من الدقة والتمحيص ما ناله حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهل في وجود مثل هذا المنهج يمكن للأهواء والتخيلات أن تجد لنفسها مدخلا إليه؟!
رابعا. لماذا أنشأ أهل الحديث علم الجرح والتعديل، طالما أنهم يصدرون في روايتهم للأحاديث وحكمهم على الرواة – عن أهوائهم وتخيلاتهم؟!
في سبيل التأكد من صحة نسبة ما روي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن سلفنا الصالح قد أسسوا ووضعوا ما يعرف بعلم الجرح والتعديل.
وعلم الجرح والتعديل هو علم ميزان الرجال، فيبحث فيه عن حال الراوي في نفسه، وفي مروياته، وشيوخه وتلاميذه، وعدالته وأمانته، وحفظه ونسيانه، وضبطه وتخليطه، وضعفه وقوته، وتحمله وأدائه، وشبابه وشيخوخته، وحضره وسفره، ومناقبه وحسناته، واستنانه وابتداعه، وجروحه ومغامزه، وهناته وخوارم مروءته، وشنائع أخباره ومفترياته، وولادته ووفاته.
أهمية علم الجرح والتعديل وتفرد الأمة الإسلامية به:
وهذا العمل مما تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وتميزت بتأسيسه وإنشائه وتقعيده والتفنن فيه، وقد أداها ودفعها إلى إبداعه الحفاظ على سنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – فكان من أكبر النتائج النافعة التي تولدت عن تلك الحملة الضارة على السنة المطهرة.
وبهذا العلم العظيم والمسار الدقيق الحكيم، تمكن السلف والخلف من كشف العلل في كل علم منقول، حديثا نبويا أو كلاما عاديا أو شعرا أو نثرا أدبيا أو تاريخا شخصيا أو سياسيا… فكان هذا العلم مجهرا صادقا، ونظارة صافية، تعزل للناظر بها الصحيح من القريح، وتميز له الزين من الشين، والصدق من المين، وتزن له المحامد والمثالب بالقسطاس المستقيم.
ولأهمية هذا العلم وعظم موقعه في كشف الصحيح من الجريح قال الإمام علي بن المديني كلمته النفيسة الغالية: “الفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم” ([22]).
قال العلامة الكبير الشيخ شلبي النعماني مقالة نفيسة ومهمة في هذا الموضوع، كما في “الرسالة المحمدية” لسليمان الندوي: “لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها ورواياتهم، كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة أمة قد خلت، ولم يميزوا بين غث ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار، ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم، فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم، ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدونة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السقيم صنفت أكثر الكتب الأوروبية، مما يتعلق بالأمم الخوالي وشئونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها.
أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولا متقنة يتمسكون بها.
فلا تروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل خبرها عن الذي شهدها، ثم تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمن شهدها، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدث عنها إلى زمن وقوعها، والتثبت من أمانة هؤلاء الرواة وفقههم وعدالتهم، وحسن تحملهم للخبر الذي يروونه.
وإذا كانوا على خلاف ذلك وجب تبيينه أيضا، وهذه المهمة من أشق الأمور، ومع ذلك فإن مئات من المحدثين تفرغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحري ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين الأقطار باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة، ينقدون أحوالهم، وإذا اطمأنوا إلى سيرة فريق منهم يسألونهم عما يعرفونه من أحوال الطبقة التي كانت قبلهم([23]).
وهكذا نجد أن أمتنا وسلفنا الصالح قد تميزوا عن غيرهم بذلك العلم ” علم الجرح والتعديل”، والذي لا يدع مجالا للهوى أو التخيلات في نقل الروايات، مثلما يحدث في الأمم الأخرى، من تدخل سافر وتحكم كامل للأهواء والتخيلات والموروثات في نقل رواياتهم وأخبارهم.
الخلاصة:
- لقد تحمل سلفنا الصالح في سبيل نقل السنة الصحيحة والتأكد من صحة نسبتها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – المشاق الكثيرة والسفر والترحال الطويل والصعوبات البالغة، والتاريخ لم يعرف أمة من الأمم رحلت في طلب العلم وفي توثيقه مثلما فعلت الأمة الإسلامية في طلب السنة النبوية، وتحري الصحيح المنسوب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – منها، وقد تجلى ذلك منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، ثم نهج التابعون نهج الصحابة الكرام، ثم تابعو التابعين، وهكذا.
- لقد كان أهل الحديث منصفين أشد ما يكون الإنصاف في نقل الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شواهد إنصافهم أنهم كانوا لا يردون خبر من خالفهم في العقيدة كالشيعة وغيرهم، متى توافرت فيه شروط الصحة، وكانوا لا يحابون أحدا في الجرح والتعديل، حتى وإن كان من أقرب الناس إليهم، وكانوا إذا قالوا قولا واتضح لهم أن الحق خلافه يرجعون إلى الحق.
- لقد وضع أهل الحديث وأئمته منهجا متميزا دقيقا للتحقق من صحة نسبة الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففحصوا سند الحديث ومتنه، وميزوا بين صحيحه وحسنه وضعيفه.
- إنه إذا صح – جدلا – ما ذهب إليه من أثار هذه الشبهة، من أن أئمة الحديث وأهله اعتمدوا على أهوائهم – فلماذا أنشأوا علم الجرح والتعديل إذن؟! ولماذا عانوا معاناة شديدة في البحث فيه عن حال الراوي من كافة الجوانب؟! فلم يكن هناك داع لذلك، طالما أن الأمر لا يعدو أن يكون احتكاما إلى أهواء ومصالح شخصية؟!
- إذا تقرر أن أمتنا الإسلامية تفردت بهذا العلم إنشاء وتقعيدا من ناحية، وإذا تقرر من ناحية أخرى أن هذا العلم مكن السلف والخلف من كشف العلل في كل منقول، سواء أكان شعرا أم نثرا أم تاريخا..إلخ – إذا تقرر هذا وذاك جاز لنا أن نتوجه إلى مثيري الشبهة بالتساؤل: إذا كان هذا ديدن علمائنا فيما سوى الكلام النبوي الشريف، فما بالكم بتنقيحهم وغربلتهم ما ينسب إليه – صلى الله عليه وسلم – من أقوال وأفعال وتقريرات؟!
(*) المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، مجلة دعوة الحق، تصدرها رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، السنة التاسعة، العدد 104، 1410هـ/1990م.
[1]. انظر: السنة في مكانتها وفي تاريخها، د. عبد الحليم محمود، دار غريب، القاهرة، د. ت، ص72، 73.
[2]. انظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/2007م، (1/389: 392).
[3]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (2/469).
[4]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (1/395).
[5]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (1/399).
[6]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق إبراهيم الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (2/469).
[7]. انظر: المدخل لدراسة السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1425هـ/2004م، ص80، 81.
[8]. تذكرة الحفاظ، الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/567).
[9]. انظر: السنة في مكانتها وفي تاريخها، د. عبد الحليم محمود، دار غريب، القاهرة، د. ت، ص73، 74.
[10]. الرحلة في طلب الحديث، الخطيب البغدادي، تحقيق: نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1395هـ/1975م، ص9 .
[11]. الرحلة في طلب الحديث، الخطيب البغدادي، تحقيق: نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1395هـ/1975م، ص10.
[12]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1404هـ/ 1984م، (2/83).
[13]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (4/214).
[14]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (1/5).
[15]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/401).
[16]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (13/228).
[17]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (1/134).
[18]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ط1، (1/204،203).
[19]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/1987م، (8/318).
[20]. انظر: خصائص أهل الحديث والسنة و بيان منهجهم وفضائلهم والدفاع عنهم، محمد محب الدين أبو زيد، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/2005م، صــ162: 168 بتصرف.
[21]. دفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، علاء الدين رجب، دار الصابوني، القاهرة، ط1، 1428هـ/2007م، ص67: 70 بتصرف.
[22]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (11/48).
[23]. السنة النبوية: حجية وتدوينا، محمد صالح الغرسي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1422هـ/2002م، ص136: 138 بتصرف.