دعوى تسمية أبي هريرة – رضي الله عنه – بشيخ المضيرة
وجها إبطال الشبهة:
1) إن هذه الرواية لم تصح نقلا ولا توافق عقلا؛ فالثابت أن عليا – رضي الله عنه – كان بالعراق، ومعاوية – رضي الله عنه – بالشام، وأبا هريرة – رضي الله عنه – كان مقيما بالحجاز لم يغادره بعد عزله عن إمارة البحرين في عهد عمر – رضي الله عنه – فكيف يأكل مع معاوية في الشام، ويصلي خلف علي بالعراق، وهو مقيم أصلا بالحجاز؟!.
2) إذا افترضنا جدلا صحة هذه الرواية فإن حب أبي هريرة للمضيرة لا يطعن في عدالته، وما المانع شرعا أو عقلا أن يحب الإنسان لونا معينا من أنواع الطعام؟!
التفصيل:
أولا. رواية موضوعة يكذبها التاريخ والواقع:
إن المتأمل في أحداث التاريخ يجدها تكذب تلك الرواية التي يعتمد عليها المفترون؛ إذ كيف تصح هذه الرواية في العقول، وعليـ رضي الله عنه – كان في العراق، ومعاوية – رضي الله عنه – كان بالشام، وأبو هريرة – رضي الله عنه – كان بالحجاز؟! إذ الثابت أنه بعد أن تولى إمارة البحرين في عهد عمر – رضي الله عنه – لم يفارق الحجاز، فقد “استعمله عمر على البحرين، ثم عزله، ثم أراده على العمل فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته”[2].
فكيف يأكل أبو هريرة المضيرة مع معاوية في الشام، ثم يقوم ليصلي خلف علي في العراق، اللهم إلا إذا كان أصحاب هذه الشبهة يرون أن أبا هريرة أعطي بساط سليمان، أو كانت تطوى له الأرض طيا، أو أنه كان يركب البراق فيحمله إلى الشام ليأكل مع معاوية، فإذا حانت الصلاة حمله إلى العراق ليصلي وراء علي، ثم بعد ذلك يحمله إلى الحجاز حيث مكانه واستقراره!!! وهذا ما لا يعقل. يضاف إلى ذلك أن هذه الرواية لم ترد في أي كتاب من كتب السنة.
ولعلنا نتساءل: هل يؤخذ العلم من الحكايات، لاسيما في موضوع فيه اتهام وتجريح كهذا؟! ولمن؟! لصحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم [3].
وإن قيل إن هذه الرواية وردت في كتب الأدب والتاريخ، قلنا: “إن من شأن كتب الأدب والتاريخ قتل الوقت وشغل الفراغ والتفكه والتندر، وكان الأليق بها الإهمال في معرض البحث العلمي، أما أن يؤخذ منها معلومات وأخبار لكي توضع في كتاب في تاريخ السنة؟ ويعتمد عليها في تجريح رجل من أهل العلم، فضلا عن كونه صحابيا جليلا زكاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – والرعيل الأول من خيار المسلمين، فهذا ما لم نعهده في أسلوب البحث في القديم ولا الحديث”[4].
لقد خفي على هؤلاء ما قرره الأئمة المحدثون من “أن المرويات لا يعتمد في الوثوق بها وقبولها على كتب الأدب والتاريخ؛ إذ إن فيها زيفا كثيرا وغثا غير قليل، وأن الحديث لا يؤخذ إلا من كتب الأئمة الثقات، الذين يرجع إليهم في معرفة الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود، ومن قواعدهم التي وضعوها: من روى حديثا فعليه أن يبرز سنده أو ينسبه إلى من خرجه، وإلا فليس له أن ينسبه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا بصيغة تفيد التضعيف كقيل وروي ويذكر ونحوها، وليس له أن ينسبه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بصيغة الجزم إلا إذا تحقق من صحته، أما وقد اعتمد هؤلاء في كثير مما نقلوا على كتاب “الشعر والشعراء”، وكتاب “ثمار القلوب في المضاف والمنسوب”، و “مقامات بديع الزمان الهمذاني”، و “المثل السائر”، و”شرح نهج البلاغة”، و”حياة الحيوان للدميري”، و “نهاية الأرب” ونحوها، مما لا تقوم به حجة في علم السنة وتاريخها فلا يلتفت إلى كلامهم إلا على سبيل توضيح تهافته.
ولسنا بهذا نقصد الازدراء بهذه الكتب ولا بأصحابها، ولكن نود أن نقول: إن كثيرين من العلماء ثقات في فنونهم، ولكن لا يعتمد عليهم في رواية الحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه؛ لأنهم ليسوا من رجاله وصيارفته، وإذا كان ابن إسحاق وهو إمام أهل المغازي قد ضعفه بعض المحدثين في رواية الحديث – على ما بين التأليف في الحديث والسير في القديم من سبب وثيق – فما بالك بغيره من أهل الأدب واللغة والمباحث العامة؟” [5].
وعليه فإن القول بأن أبا هريرة – رضي الله عنه – كان يأكل من مضيرة معاوية – رضي الله عنه – ويصلي خلف علي – رضي الله عنه – قول قد بلغ من الخيال مبلغا، وارتقى بقائله مرتقى صعبا.
إذ هل يصح في العقول أن يتنقل أبو هريرة بين الجماعتين، ويصانع الفئتين ولا ينكشف أمره؟!
أدركونا يا أصحاب العقول صدق القائل:
هذا كلام له خبيء
معناه ليس لنا عقول
إن هذه الحكايات وأمثالها – وما أكثرها في كتب الأدب – لا تصح نقلا ولا توافق عقلا[6]؛ ذاك لأنها انبنت على عكس الحقائق التاريخية المعروفة.
وإيضاحا للأمر نشير إلى أن أبا هريرة – رضي الله عنه – بقي مقيما في المدينة بعد أن عزله عمر عن ولاية البحرين”، ولم يشترك في الفتن التي حدثت بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وبين معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – بل اعتزلها، ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته”[7].
ولعله قد اتضح لدينا الآن فساد هذه الشبهة عقلا ونقلا.
ثانيا. ليس من الممنوع شرعا ولا عقلا أن يحب الإنسان نوعا معينا من أنواع الطعام:
ليس هناك أي عيب على أبي هريرة – رضي الله عنه – لا في دينه، ولا في كرامته، ولا حتى في عدالته حبه للمضيرة – على فرض صحة هذا الخبر – لأن الله عز وجل “لم يحظر في كتابه، ولا في سنة رسوله، ولا في قواعد شريعته أن يحب الإنسان لونا معينا من أطايب الطعام وحلاله، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحب الدباء، ويحب من اللحم ذراع الشاة ويحب الثريد، وهو سيد الرسل وأكرم الزهاد، وأفضل من يقتدى به، ولم يعرف الإسلام رهبانية البطون، كما لم يعرف رهبانية الفروج، فأي طعن في أبي هريرة، وأي حرج يناله في دينه أو كرامته أو عدالته إذا أحب لونا دسما من أنواع الطعام؟
وأيا ما كان فإن تجريح صحابي جليل كأبي هريرة بمجرد أخبار تروى للنكتة والتظرف في مجالس الأدب ليس من شأن أهل العلم والإنصاف”[8].
ومما سبق ذكره يتبين بطلان استدلالهم، ومن ثم بطلان هذا الزعم، بالإضافة إلى أن صحة هذا الاستدلال لا تطعن في عدالة أبي هريرة في شيء؛ إذ إنه طعام أحله الله له.
الخلاصة:
- إن حقائق التاريخ تكذب هذه الرواية التي استند إليها الطاعنون؛ إذ الثابت أن معاوية – رضي الله عنه – كان بالشام، وعليا – رضي الله عنه – كان بالعراق، وأبا هريرة كان بالحجاز، فكيف يأكل مع معاوية في الشام، ويصلي وراء علي بالعراق، وهو مقيم أصلا بالحجاز؟!
- لا يمكن الاعتماد على كتب الأدب والتاريخ في الوثوق بالمرويات وقبولها؛ إذ فيها زيف كثير، ولكن يؤخذ الحديث من كتب الأئمة الثقات الذين يرجع إليهم في معرفة الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود.
- إذا افترضنا جدلا صحة قولهم بأن أبا هريرة كان يحب المضيرة فهذا لا يقدح في عدالته، ولا ينال من دينه وكرامته، ولا يقلل من شأنه؛ إذ إن الله لم يحظر في كتاب ولا في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يحب الإنسان لونا من ألوان الطعام الحلال الطيب.
(*) دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م.
[1]. المضيرة: مريقة تطبخ بلبن وأشياء، وقيل: هي طبيخ يتخذ من اللبن الحامض. قال أبو منصور: المضيرة عند العرب أن تطبخ اللحم باللبن البحت الصريح الذي قد حذى اللسان حتى ينضج اللحم وتخثر المضيرة. ]انظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة: مضر[.
[2]. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي، تحقيق: د. مصطفى عبد الواحد، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1410هـ/ 1990م، (11/ 368).
[3]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص62 بتصرف.
[4]. أبو هريرة الصحابي المفترى عليه، أبو طلحة المصري، مكتبة سلسبيل، القاهرة، 2007م، ص62، 63.
[5]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص171، 172 بتصرف.
[6]. أبو هريرة الصحابي المفترى عليه، أبو طلحة المصري، مكتبة سلسبيل، القاهرة، 2007م، ص62.
[7]. عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني، مكتبة الإيمان، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص72 بتصرف.
[8]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص307 بتصرف.