دعوى تعارض أحاديث صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم- على من مات وعليه دين
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- لقد كان فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا تعارض بين الحديثين، حيث إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» ناسخ لحديث ترك الصلاة على من مات وعليه دين.
-
التفصيل:
إنما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ناسخ لحديث جابر -رضي الله عنه- وليس في هذا – بحمد الله تعالى – تناقض؛ لأن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين، إذا لم يترك وفاء لدينه، كان في صدر الإسلام، قبل أن يفتح الفتوح، ويأتيه المال، وأراد ألا يستخف الناس بالدين، ولا يأخذوا ما لا يقدرون على قضائه، فلما أفاء الله – عز وجل – عليه، وفتح له الفتوح، وأتته الأموال، جعل للفقراء والذرية نصيبا في الفيء، وقضى منه دين المسلم[1].
قال العلماء: “إنما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، والتساهل في الاستدانة”[2].
ثم يزيد الإمام ابن حجر – رحمه الله – الأمر وضوحا إذ يقول في شرحه لصحيح البخاري: “يقول العلماء كأن الذي فعله – صلى الله عليه وسلم – من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة أو جائزة؟ في هذا وجهان، قال النووي: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان دينا غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع… ثم يضيف ابن حجر قائلا: وفي صلاته – صلى الله عليه وسلم – على من عليه دين بعد أن فتح الله عليه الفتوح إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح، وقيل بل كان يقضيه من خالص نفسه”[3].
ومعنى هذا الحديث: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته، من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم[4].
ولا تعارض بين حديث جابر -رضي الله عنه- الذي قال فيه:«توفي رجل فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، ثم أتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملها أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أحق الغريم وبرئ منهما الميت، فقال: نعم، فصلى عليه»[5].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»[6]؛ لأن الحكم في حديث جابر -رضي الله عنه- كان في بداية الإسلام، ثم نسخ بحديث أبي هريرة بعد أن فتح الله على المسلمين وأتتهم الخيرات، فتحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- دين من مات مدينا من المسلمين.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؛ يعني: في كل شيء؛ لأني الخليفة الأكبر الممد لكل موجود، فحكمي عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم وهذا قاله لما نزلت الآية، فمن توفي، بالبناء للمجهول؛ أي: مات من المؤمنين فترك عليه دينا فعلي قضاؤه، مما يفيء الله به من غنيمة وصدقة، وهذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين[7].
وعلى هذا فإن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه» والصلاة عليه أيضا، وعليه فلا تعارض.
قال القاضي عياض: تأول ترك الصلاة بأنه تداينه في غير مباح، وقيل فيمن تداين عالما أن ذمته لا تفي بدينه، وقيل هذا كان في بدء الإسلام، ثم نسخ حين فتحت الفتوحات وصار لكل من المسلمين حق في بيت المال وفرض لهم فيه سهم الغارمين ويدل عليه الحديث، وقيل فعله تأديبا للمدينين ليقلوا من الدين ويجتهدوا في خلاص ما تداينوا خوف أن تذهب أموال الناس[8].
قال ابن بطال: قوله: «من ترك دينا فعلي» ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله: “فعلي قضاؤه”؛ أي: مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات[9].
كما يقول الحافظ المنذري: قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يصلي على المدين ثم نسخ ذلك[10].
فقد نسخ الرسول – صلى الله عليه وسلم – الحكم لما فتح عليه – صلى الله عليه وسلم – واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات، فظاهر قوله:«فعلي قضاؤه» أن يجب عليه القضاء، وهل هو من خالص ماله أو من مال مصالح محتمل[11].
قال ابن بطال: “وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه[12]، وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث: «قيل يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال وعلى كل إمام بعدي»[13].
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه، أنه قد ذهب جمهور العلماء إلى أن ترك الصلاة على المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك دينا فعلي قضاؤه»، كما نقله ابن حجر في الفتح عن ابن بطال، وذكره ابن قدامة في المغني، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: “قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يصلي على المدين، ثم نسخ ذلك”.
والراجح – والله أعلم – أن الحكم منسوخ، وأن ترك الصلاة عليهم [المتوفين المدينين] كان في بادئ الأمر زجرا لهم وتأديبا لخطر الدين، فلما فتح الله على عباده المسلمين تركه الرسول صلى الله عليه وسلم [14].
وقد ورد ما يدل على أن من مات من المسلمين مدينا فدينه على من إليه ولاية المسلمين بقضائه عنه من بيت مالهم، وهناك أحاديث تدل على ذلك، وفي معنى ذلك عدة أحاديث ثبتت عنه – صلى الله عليه وسلم – قالها بعد أن امتنع عن الصلاة على المدين، فلما فتح الله عليه البلاد وكثرت الأموال صلى على من مات مدينا وقضى عنه، وذلك مشعر بأن من مات مدينا استحق أن يقضي عنه دينه من بيت مال المسلمين[15].
الخلاصة:
- ليس هناك تعارض أو تناقض بين حديث جابر -رضي الله عنه- الذي فيه ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على الميت المدين حتى يقضي دينه أو يتحمله غيره عنه وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي فيه يتحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين عن المدين ويصلي عليه، إذ ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين في صدر الإسلام قبل أن يفتح الفتوح، وأراد ألا يستخف الناس بالدين، ولا يأخذون ما لا يقدرون على قضائه؛ فلما أفاء الله – عز وجل – عليه، وفتح له الفتوح، وأتته الأموال، جعل للفقراء الذرية، نصيبا في الفيء، وقضى منه دين المسلم.
- قال غير واحد من العلماء: إن ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، والتساهل في الاستدانة، لكي يحرضهم هذا على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
- إن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم «فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه» وصلاته عليه إذا فلا تعارض بين أحاديث صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على من مات وعليه دين.
- قال ابن بطال: قوله: «من ترك دينا فعلي» ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وعلى هذا – أي: على حكم النسخ – أجمع العلماء، وذكر ذلك ابن قدامة في المغني والمنذري في الترغيب والترهيب.
- ومما يدل على ما ذهبنا إليه من النسخ ويؤكده قوله – صلى الله عليه وسلم – حينما سئل: «يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال: وعلى كل إمام بعدي»؛ فدل ذلك كله على أن الحديث منسوخ، مما يبطل القول بالتعارض من أساسه.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م.
[1]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص177
[2]. الناسخ والمنسوخ من الحديث، أبو حفص عمر بن شاهين، تحقيق: د. محمد إبراهيم الحفناوي، دار الوفاء، مصر، ط2، 1428هـ/ 2007م، هامش ص314.
[3]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558) بتصرف.
[4]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2514).
[5]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه، رقم (14576). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده حسن.
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الكفالة، باب: الدين، (4/ 557)، رقم (2298). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، (6/ 2513)، رقم (4080).
[7]. التيسير بشرح الجامع الصغير، الإمام المناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط 3، 1408 هـ/ 1988م، ص766.
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، هامش (6/ 2514).
[9]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558).
[10]. صحيح الترغيب والترهيب، الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط5، (2/ 168).
[11] . سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، محمد بن إسماعيل الصنعاني، (5/ 204).
[12] . فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558).
[13]. سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (5/ 204).
[14]. فتاوى الشبكة الإسلامية، الصلاة على الميت، (2/ 2084).
[15]. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ، (4/ 112).