دعوى تعارض أحاديث نفي دخول الجنة بالعمل مع القرآن الكريم
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- إن حديث: «لن ينجو أحد منكم بعمله» صحيح وفي أعلى درجات الصحة، حيث قد ورد في الصحيحين، كما أنه لا يتناقض – كغيره من أحاديث هذا الباب – مع ما نص عليه القرآن الكريم بأن دخول الجنة يكون بالأعمال كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)( (النحل)؛ لأن الباء المقتضية للدخول غير الباء التي تنفي معها الدخول، فالتي في – القرآن الكريم – هي باء السببية الدالة على أن الأعمال سبب للدخول، أما التي نفي بها الدخول – في الحديث الشريف – فهي باء المعاوضة والمقابلة، فليس العمل مقابلة الجنة، والعمل الذي هو سبب دخول الجنة يدخل تحت رحمة الله وفضله، فهو – سبحانه وتعالى – الذي وفق الإنسان للعمل وقبله منه، فهو لم يدخل بمجرد العمل، بل دخل بسببه، فهو إذن من رحمة الله وفضله.
-
التفصيل:
إن الأحاديث التي تنفي دخول الجنة بالعمل في أعلى درجات الصحة، كما أنها لا تتعارض مع آيات القرآن الكريم، فالمنفي في الأحاديث هو كون العمل عوضا وثمنا لدخول الجنة، والمثبت في الآيات هو كون العمل سببا لدخول الجنة:
لقد تعددت طرق هذا الحديث مما يؤكد صحته سندا وهي على هذا النحو:
o روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة»[1].
o وروى البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة»[2].
o وروى الإمام مسلم – رحمه الله – عن جابر قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله»[3].
وهذه الأحاديث ليست أخبار آحاد، بل هي متواترة عند أهل العلم والبحث التام عن طريق الحديث. فقد رويت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من بضعة عشر طريقا: عن عائشة، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وشريك بن طارق، وأسامة بن شريك، وأسد بن كرز، وأنس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم. فحديث أبي هريرة وحديث عائشة متفق عليهما، وحديث جابر عند مسلم، وبقيتها في “مجمع الزوائد” من مسانيد الأئمة الحفاظ، وثق الهيثمي رجال أربعة منها وبقيتهم رجال التواتر”[4] وهي بمجملها – أي هذه الأحاديث بكل رواياتها وطرقها – تنص على عدم دخول الجنة بالأعمال.
أما القرآن فإنه ينص على دخول الجنة بالأعمال كما في قوله عز وجل: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)( (النحل). فكيف الجمع بين الحديث والآية؟ ومن أخذ بالآية ومن أخذ بالحديث؟.
- طائفتان ضلتا في فهم تلك النصوص وهما الجبرية والقدرية:
أما الجبرية: فقد أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه، وأن الأعمال ليس لها ارتباط بالجزاء ألبتة، وأن دخولها راجع إلى محض المشيئة، واستدلوا بما تقدم من الأحاديث التي فيها نفي دخول الجنة بالأعمال.
وهذا باطل، إذ إن الآيات الدالة على أن دخول الجنة يكون بالأعمال ترد عليهم، قال سبحانه وتعالى: )هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90)( (النمل)، وقوله سبحانه وتعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الإسراء: ١٥)، وقوله عز وجل: )لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25)( (سبأ).
وهكذا فإن من عذبه الله من المشركين فقد عذبه بعمله، وكذلك من أثابه الله من الموحدين، فقد أثابه وأدخله الجنة بعمله [5].
أما القدرية: فقد ذهبت إلى أن الجنة عوض عن العمل وثمن له، وهو باطل – أيضا – ظاهر في البطلان، والأحاديث المتقدمة في نفي دخول الجنة بمجرد الأعمال ترد عليهم.
وبين الله تعالى في عدة آيات من كتابه أن الأنبياء عليهم السلام إنما يدخلون الجنة برحمة الله. فإذا كان هذا حال الأنبياء، فكيف بغيرهم؟!
قال تعالى حكاية عن آدم وحواء – عليهما السلام: )وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)( (الأعراف)، وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: )وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)( (هود).
ونلاحظ أن كل واحد من الفريقين – القدرية والجبرية – قد تمسك بنوع من النصوص، وأغفل النوع الآخر.
والحق الذي لا مرية فيه، هو القول بمدلول النصوص كلها، وعدم طرح شيء منها؛ لأنها كلها حق وصدق، والحق لا يتعارض، بل يصدق بعضه بعضا، فيحمل كل نوع من النصوص على وجه لا يخالف النوع الآخر.
وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة كما سيأتي:
قال ابن تيمية رادا على الطائفتين السابقتين: “وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس: فريق آمنوا بالقدر، وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة، وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم. وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال.
فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه كما قال في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»[6].
فالملك أو السلطان إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم، فيطالبون بجزاء ذلك. والله تعالى غني عن العالمين. فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساءوا فلها. لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، قال سبحانه وتعالى: )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)( (فصلت)”[7].
كما قال ابن القيم ردا على الجبرية والقدرية – أيضا -: “وكل من الطائفتين معه حق وباطل، فأصاب الجبرية في نفي المعاوضة، وأخطأوا في نفي السببية، وأصاب القدرية في إثبات السببية، وأخطأوا في إثبات المعاوضة، فإذا ضممت أحد نفيي الجبرية إلى أحد إثباتي القدرية، ونفيت باطلهما كنت أسعد بالحق منهما” [8].
الاعتماد على القدر إذن دون الأخذ بالأسباب الشرعية والأعمال الصالحة مرفوض. كما أن جعل الأعمال سببا في دخول الجنة غير مقبول أيضا؛ فيجب الجمع بينهما!
- لقد جمع بين الأحاديث والآيات كثير من أهل العلم[9] وأخذوا بها جميعا:
لا تعارض بين الأحاديث والآيات التي تنص على أن دخول الجنة بالأعمال؛ لأن توارد النفي الذي في الحديث، والإثبات الذي في الآية ليس على محل واحد، وعلى هذا القول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم، ولكنهم اختلفوا في كيفية الجمع، وذلك على أقوال كالتالي:
القول الأول: أن المنفي في الحديث: «لن ينجو أحد منكم بعمله»، هو كون العمل عوضا وثمنا كافيا للنجاة ودخول الجنة، إذ لا بد من عفو الله وفضله ورحمته، فالذي نفاه النبي – صلى الله عليه وسلم – باء المقابلة والعوض، وكون دخول الجنة بمجرد الأعمال، وأما المثبت في الآية: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)( (النحل) فهو باء السببية، أي: بسبب أعمالكم، فالأعمال سبب لدخول الجنة.
وإلى هذا القول ذهب جمع من أهل العلم كالنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن أبي العز، والعراقي، وابن الوزير اليماني، والمقريزي وغيرهم.
قال ابن القيم: «الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نفي معها الدخول، فالمقتضية هي باء السببية، الدالة على أن الأعمال سبب للدخول، مقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والباء التي نفي بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم: اشتريت هذا بهذا.
فأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا تغمد الله – سبحانه وتعالى – لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عمل العبد – وإن تناهى – موجبا بمجرده لدخول الجنة، ولا عوضا عنها، فإن أعماله – وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه – فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تعادلها، بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له، ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله[10].
قال الإمام النووي – رحمه الله: “وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته، وأما الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فلا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال، أي: بسببها، وهي من الرحمة” [11].
القول الثاني: إن أصل دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله، وعلى هذا يحمل الحديث، وأما التفاوت في المنازل والدرجات في الجنة فيكون بالأعمال، وعلى هذا تحمل الآية، وإلى هذا ذهب ابن بطال وغيره.
قال ابن بطال: “فإن قال قائل: فإن قوله صلى الله عليه وسلم:«لن يدخل أحدكم عمله الجنة» يعارض قوله تعالى: )وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72)( (الزخرف) قيل: ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر في الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله.
وأخبر الله تعالى في الآية أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها. فلا تعارض بين شيء من ذلك.
فإن قيل: إن الآية تنص على أن دخول الجنة بالأعمال. فالجواب: أن قوله تعالى: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)( (النحل) هذا كلام مجمل يبينه الحديث. وتقديره: ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون؛ فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث.
قال ابن الجوزي: فالجواب من أربعة أجوبة:
أحدها: أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة.
والثاني: أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحق لمولاه؛ فإن أنعم عليه بالجزاء، فذلك بفضله، كالمكاتب مع المولى.
والثالث: جاء في بعض الأحاديث أن دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله – عز وجل – ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يارب أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك»[12].
والرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، وثوابها لا يبيد أبدا، فالمقام الذي لا ينفد في جزاء ما نفد بفضل الله لا بمقابلة الأعمال[13].
القول الثالث: إن التوفيق للعمل من رحمة الله تعالى، فلولا رحمته لما صلح عمل، ولا صلحت طاعة، وعلى هذا فدخول الجنة بالأعمال لا يكون إلا مع رحمة الله تعالى، فالحديث مفسر للآية، وإلى هذا ذهب القاضي عياض وغيره.
قال رحمه الله: “ولا تعارض بين هذا وبين قوله عز وجل: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)( (النحل) وشبهه من الآيات؛ لأن الحديث يفسر ما أجمل هاهنا، وأن معنى ذلك: مع رحمة الله وبرحمة الله، إذ من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعات، وأنه لم يستحقها بعمله، إذ الكل بفضل من الله تعالى[14].
القول الرابع: هو ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر حيث قال: “ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون( أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية” [15].
وكل هذه الأقوال في مجملها تعني أن للأعمال أسبابا موصلة إلى رضوان الله والجنة، وأن تفاوت العباد في المنازل والدرجات في الجنة يكون بحسب الأعمال، كما أن التوفيق للأعمال الصالحة والهداية لها، ومن ثم دخول الجنة، والتفاوت في منازلها، كل ذلك برحمة الله تعالى وفضله، وأن مجرد الأعمال – بقطع النظر عن رحمة الله – لا توجب دخول الجنة، إذ ليست الجنة عوضا عن الأعمال وثمنا لها [16].
وأحسن ما قيل في الجمع بين حديث: «لا يدخل أحدا الجنة عمله»، وما في معناه، وقوله تعالى: )ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)(، وما في معناها.
هو: أن المنفي في الحديث كون الأعمال بمجردها توجب دخول الجنة، وأما المثبت في الآية، فهو كون الأعمال سببا في دخول الجنة. والفرق بين الأمرين ظاهر، وقد جمع بينهما النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة»[17][18].
قال ابن الوزير: “اعلم أن أهل السنة لا ينكرون أن الجنة تدخل بعمل كما ورد في القرآن، وإنما ينكرون ما ليس في القرآن من كونها تستحق على الله بالعمل استحقاق المبيعات بأثمانها بحيث إنه لا فضل للبائع على المشتري.
فمرجع النزاع في أن الباء التي في قوله تعالى: )بما كنتم تعملون( هل هي باء المعاوضة للشيء بمقدار ثمنه، مثل الثوب بالدرهم، أو هي باء السببية، كقولك: أكرمني الملك بسابق معرفة، أو بكلمة طيبة سمعها مني أو نحو ذلك.
والقرآن إنما نص على العمل لا على أن الباء فيه للثمن المساوي، ولو قال أهل السنة بعدم العمل، لجوزوا الجنة للمشركين فاعرف هذه النكتة.
ومن خلال الجمع بين الآيات والأخبار يظهر عند كل منصف وذي علم، أن العمل مهما كثر أو عظم فهو لا يضاهي الوفاء بنعمة واحدة من الله وشكره – عز وجل – قال تعالى: )وما قدروا الله حق قدره( (الأنعام:٩١)[19].
عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لا يجب عليه شيء؛ فالأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة، وهي من فضله ورحمته عز وجل:
والذي عليه أهل السنة والجماعة أن مجرد الأعمال غير كاف في دخول الجنة، إذ لابد من رحمة الله تعالى، فبدونها لا تجب الجنة لأحد، كما تقدم من الأحاديث.
وقد جاء القرآن مصدقا لمعنى هذه الأحاديث كما في قوله تعالى عن الجنة: )أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21)( (الحديد)، وقوله تعالى: )لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57)( (الدخان).
وليس في كتاب الله أن العمل يدخل الجنة، وإنما فيه أن الله هو الذي يدخل الجنة برحمته وفضله في بعض الآيات، وفي بعضها بالعمل وبتكفير الله تعالى للسيئات، وهي زيادة يجب اعتبارها، قال تعالى: )ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار( (التغابن: ٩)، وقال تعالى: )ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)( (الزمر).
وهذا كثير في كتاب الله تعالى، ولا دليل على أن التكفير واجب بالعمل، بل الأدلة ناهضة بخلافه؛ كقوله تعالى: )ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة( (النحل:٦١)، وقوله تعالى: )ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة( (فاطر: ٤٥).
قال الإمام النووي – رحمة الله: “اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع.
ومذهب أهل السنة أيضا أن الله – عز وجل – لا يجب عليه شيء – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيها ما يشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان عدلا منه، وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك؛ ولكنه أخبر – وخبره صدق – أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين، ويخلدهم في النار عدلا منه[20].
كما أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة أسباب موصلة إلى ثواب الله تعالى وجنته، لكن ذلك لا يتحقق إلا بتوفر الشروط – والتي من أعظمها رحمة الله وانتفاء الموانع.
قال ابن تيمية: “مجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره… وكذلك أمر الآخرة، ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هو سبب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة»[21].
الخلاصة:
- إن الأحاديث التي نفت دخول الجنة بالعمل كلها صحيحة، متواترة ثابتة في الصحاح والمسانيد.
- لقد أخذت الجبرية ببعض النصوص دون بعض، فجعلت دخول الجنة راجعا إلى المشيئة المحضة، وألغت قيمة العمل وأنكرت الأسباب، وهذا باطل، كما أن القدرية جعلت الجنة ثمنا وعوضا عن العمل، وهو باطل أيضا.
- إن النفي الذي جاء في الحديث والإثبات الذي في الآية ليسا على مدار واحد؛ فالمنفي في الحديث كون العمل عوضا وثمنا لدخول الجنة، وهذا حق، أما المثبت في الآية فهو كون العمل سببا لدخول الجنة، والفرق واضح بين المعاوضة أو “العوض والثمن” وبين السببية.
- إن الله – عز وجل – لا يجب عليه شيء، فلو عذب الصالحين، لكان عدلا منه، ولو أدخلهم الجنة، فهو فضل منه سبحانه وتعالى.
- إن الأعمال الصالحة ما هي إلا أسباب موصلة لرضوان الله وجنته، وهي فضل من الله يؤتيه الله من يشاء.
(*) العواصم والقواصم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، ط1، 1429هـ/ 2008م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المرضى، باب: تمني المريض الموت، (10/ 132)، رقم (5673). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، (9/ 3935)، رقم (6983).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، (11/ 300)، رقم (6467). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، (9/ 3936)، رقم (6989).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة القيامة، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله، (9/ 3935) رقم (6988).
[4]. العواصم والقواصم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 197، 198).
[5]. العواصم والقواصم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 203).
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم (9/ 3704)، رقم (6450).
[7]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (8/71).
[8]. مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 92).
[9] . وقد جمع أقوال هؤلاء العلماء الدكتور سليمان الدبيخي في كتابه (أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين).
[10] . مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (1/ 8).
[11] . شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3936، 3937) بتصرف.
[12]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (20/ 158، 159)، رقم (10618). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[13]. كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض، 1418هـ/ 1997م، (1/ 750) بتصرف.
[14] . إكمال العلم، (8/ 353)، نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص385.
[15]. تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (11/ 302).
[16]. انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص379: 393 بتصرف.
[17]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله (9/ 3936)، رقم (6989).
[18] . أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص389 بتصرف.
[19]. العواصم والقواصم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، ط1، 1429هـ/ 2008م، (3/ 203).
[20]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3936).
[21]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، السعودية، ط1، 1427هـ، ص389.