دعوى تعارض الأحاديث في حكم صلاة المنفرد خلف الصف
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- إن الأحاديث الواردة في مسألة حكم صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة ثابتة، ولا تعارض بينها؛ إذ الراجح أن صلاته باطلة لا تصح إلا لعذر تمام الصف، وحديثا علي بن شيبان ووابصة بن معبد صريحان في بطلان صلاته بغير عذر، أما حديثا أبي بكرة وابن عباس رضي الله عنهم، فالأول منهما محمول على من فعل ذلك لعذر خشية الفوت لو انضم إلى الصف، والنهي فيه «لا تعد»؛ أي: إلى الإسراع؛ لأنه مناف للوقار والسكينة، أما حديث ابن عباس فما هو إلا انفراد جزئي لا تبطل به الصلاة باتفاق العلماء.
-
التفصيل:
إن الخبرين إذا صحا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يمكن توهم التعارض بينهما ألبتة؛ فلكل منهما حكمته ووجهته.
فأول ما يجب أن نعتقده أن الوحي لا يتناقض، ولهذا فلا يمكن أن يوجد حديثان صحيحان أو حديث صحيح وآية متعارضين من كل وجه تعارضا واضحا أو متناقضين تناقضا بينا؛ لأنهما وحي، والوحي لا يتعارض، وإنما هو توهم بالنسبة للناظر[1].
فقبل عن مسألة التعارض بين الأحاديث في مسألة ما، يتحتم علينا الوقوف على حكم الأحاديث الواردة في هذه المسألة؛ فإن كانت هناك أحاديث ضعيفة مردودة، فلا تعارض ويبقى العمل بالحديث الصحيح.
أما الأحاديث الأربعة المذكورة في شأن صلاة المنفرد خلف الصف، فهي أحاديث صحيحة ولا مطعن فيها.
- فحديث علي بن شيبان – رضي الله عنهما – حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في سننه قال: «خرجنا حتى قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلا فردا يصلي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حين انصرف قال: استقبل صلاتك؛ لا صلاة للذي خلف الصف»[2].
وقد روى هذا الحديث غير ابن ماجه ابن حبان[3]، وابن خزيمة[4] في صحيحهما، وأحمد في مسنده[5]، بأسانيد صحيحة قوية.
- وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه:«أن رجلا صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعيد الصلاة»[6].
فهو حديث صحيح أيضا، وقد أخرجه الترمذي في سننه بسند صحيح، ورواه غير الترمذي من أصحاب السنن أبو داود[7]، وابن ماجه[8]، ورواه أيضا أحمد في مسنده[9]، وكلها بأسانيد صحيحة.
- أما حديث أبي بكرة فقد أخرجه البخاري في صحيحه: «أنه انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: زادك الله حرصا، ولا تعد»[10].
فورود الحديث عند البخاري يؤكد صحته، فضلا عن رواية الإمامين أبي داود والنسائي له في سننيهما، ورواية الإمام أحمد له في مسنده وغيرهم، وكلها بأسانيد صحيحة قوية أيضا.
- وكذلك حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، قال: «أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني حذاءه…»[11].
وبعد؛ فقد تأكد لكل مدع أن تلك الأحاديث صحيحة ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مجال لتوهم تعارضها فضلا عن القول بذلك، فإن بدا أن ظاهرها التعارض فقد جمع الفقهاء بينها خير جمع، وذهبوا في ذلك إلى ثلاثة أقوال، كل بحسب ما ذهب إليه في مسألة حكم صلاة المنفرد خلف الصف على النحو التالي:
القول الأول: أن صلاة المنفرد خلف الصف مجزئة، ولكنها ناقصة، سواء كان الصف تاما أو غير تام، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، فذهبوا إلى أن صلاته صحيحة لعذر أو لغير عذر، حتى ولو كان في الصف سعة، وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الصلاة صحيحة مع الكراهة[12].
قال النووي في “المجموع “: “في مذاهب العلماء في صلاة المنفرد خلف الصف: قد ذكرنا أنها صحيحة عندنا مع الكراهة، حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري، ومالك، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، وحكاه أصحابنا أيضا عن زيد بن ثابت الصحابي، والثوري، وابن المبارك، وداود…”[13].
وحجتهم في ذلك حديث أبي بكرة: «أنه انتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: زادك الله حرصا، ولا تعد»، وكذلك حديث ابن عباس قال: «أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني وجعلني حذاءه».
وكذا حديث أنس رضي الله عنه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا»[14].
وقد حملوا حديث وابصة بالإعادة على الاستحباب جمعا بين الأدلة، أما حديث«لا صلاة للذي خلف الصف»، فقالوا: أي: لا صلاة كاملة، كقوله صلى الله عليه وسلم«لا صلاة بحضرة الطعام…». الحديث[15].
ويستدلون على صحة تأويلهم لحديث الإعادة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- انتظر أبا بكرة حتى فرغ، ولو كانت باطلة لـما أقره على الاستمرار فيها، واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه أيضا بأن هذا المصلي صلى مع الجماعة، وفعل ما أمر به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به»[16]، وقد ائتم بإمامه؛ فكبر حين كبر… إلخ.
كما أن ابن عباس – رضي الله عنهما – لما أداره الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه انفرد بجزء يسير، والمفسد للصلاة يستوي فيه الكثير والقليل كالحدث، فلو كان الانفراد مبطلا لبطلت صلاة ابن عباس[17].
القول الثاني: أن صلاة المنفرد لا تصح، وعليه الإعادة، وهذا مذهب الإمام أحمد[18]، ورجحه من المعاصرين ابن باز – رحمه الله.
وقال ابن قدامة – رحمه الله – في “المغني”: من صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة، وجملته أن من صلى وحده ركعة كاملة لم تصح صلاته”[19].
واستدلوا بظاهر حديث علي بن شيبان: «… لا صلاة للذي خلف الصف»، وحديث وابصة الذي أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعادة.
قال ابن باز: “حكم الصلاة خلف الصف منفردا البطلان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «… لا صلاة لمنفرد خلف الصف»، ولأنه ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر من يصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة، ولم يسأله: هل وجد فرجة أم لا، فدل ذلك على أنه لا فرق بين من وجد فرجة في الصف ومن لم يجد؛ سدا لذريعة التساهل في الصلاة خلف الصف منفردا”[20].
وقال في موضع آخر: “بل عليه أن يلتمس فرجة حتى يدخل فيها، فإن لم يجد صف عن يمين الإمام إن أمكن ذلك، وإلا وجب عليه الانتظار حتى يأتي من يصف معه، ولو خاف أن تفوته الصلاة، فإن انقضت الصلاة ولم يأته أحد صلى وحده”[21].
أما حديث أبي بكرة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهاه فقال: «لا تعد»، والنهي يقتضي الفساد، وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه، وللجهل تأثير في العفو.
وقالوا في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما: أن ما فعله قبل الركوع لا يؤثر؛ فإن الإمام يـحرم قبل المأمومين، ولا يضر انفراده بما قبل إحرامهم[22].
القول الثالث: أن صلاة المنفرد صحيحة إن كان له عذر، وإن لم يكن له عذر لم تصح صلاته، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وصوبه ابن عثيمين.
وهذا القول هو القول الوسط، وهو الراجح، يقول ابن عثيمين: القول الوسط هو الراجح، وأنه إذا كان لعذر صحت الصلاة؛ لأن نفي الصحة لا يكون إلا بفعل محرم أو ترك واجب، فهو دال على وجوب المصافة، والقاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقوله عز وجل: )فاتقوا الله ما استطعتم( (التغابن: ١٦)، وقوله عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦)، فإذا جاء المصلي ووجد الصف قد تم فإنه لا مكان له في الصف.
وحينئذ يكون انفراده لعذر؛ فتصح صلاته، وهذا القول وسط، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، وهو الصواب”[23].
قال ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “إنه منهي عن الصلاة خلف الصف وحده، فلو لم يجد من يصافه، ولم يجد أحدا يصلي معه، صلى وحده خلف الصف ولم يدع الجماعة، كما أن المرأة إذا لم تجد امرأة تصافها فإنها تقف وحدها خلف الصف باتفاق الأئمة، وهو إنما أمر بالمصافة مع الإمكان، لا عند العجر عن المصافة”[24].
وقال في موضع آخر: “يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد المأموم لحاجة، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردا، فهذا قياس قول أحمد وغيره؛ لأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها، فسقط بالعجز كما يسقط غيره فيها، وفي متن الصلاة[25].
ويستدلون على ذلك بحديثي علي بن شيبان ووابصة بن معبد السابقين.
أما حديث أبي بكرة فليس فيه أنه صلى منفردا خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده، ثم يجيء آخر فيصافه في القيام، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة[26].
وقال الشوكاني بشأن حديث أبي بكرة: “يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر من خشية الفوت لو انضم إلى الصف”[27].
وقد جزم الشيخ الألباني – رحمه الله – بأن النهي في حديث أبي بكرة “لا تعد” لا يشمل الاعتداد بالركعة، ولا الركوع دون الصف؛ وإنما هو خاص بالإسراع لمنافاته للسكينة والوقار، كما جاء صريحا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا»[28].
وبهذا فسره الإمام الشافعي – رحمه الله – فقال: “قوله «لا تعد»: يشبه قوله: «لا تأتوا الصلاة تسعون»[29].
وقال ابن عثيمين – رحمه الله – في حديث ابن عباس الذي استدل به أصحاب القول الأول على صحة صلاة المنفرد: وأما استدلالهم بأن ابن عباس انفرد حين أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسه وأقامه عن يمينه، فهذا انفراد جزئي، ونحن لا نقول ببطلان الصلاة إذا انفرد الإنسان بمثل هذه الصورة؛ أي: لو أن شخصا جاء وكبر خلف الصف وهو يعرف أن خلفه رجلا أو رجلين سيأتيان معه، فلا بأس به ما دامت الركعة لم تفته، وصلاته صحيحة، (قال بهذا الإمام أحمد وأصحابه)، وهذه اللحظة التي حصل فيها الانفراد لا يقال فيها: إن هذا الرجل صلى منفردا خلف الصف أو خلف الإمام؛ إذا فالاستدلال بحديث ابن عباس ضعيف.
وبشأن استدلال أصحاب القول الأول على صحة صلاة المنفرد بأنه فعل ما أمر به من المتابعة، يقول ابن عثيمين – رحمه الله: فهذا صحيح، لكن هناك واجبات أخرى غير المتابعة، وهي المصافة؛ فإن المصافة واجبة، فإذا ترك واجب المصافة بطلت صلاته.
وأما قولهم بأن حديث: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف»نفي للكمال، فقد رده ابن عثيمين – ر حمه الله؛ لأن النفي إذا وقع فله ثلاث مراتب: المرتبة الأولى والثانية: أن يكون نفيا للوجود الحسي، فإن لم يمكن فهو نفي للوجود الشرعي؛ أي: نفي للصحة، فالحديث الذي معنا لا يمكن أن يكون نفيا للوجود الحسي؛ لأن من الممكن أن يصلي الإنسان خلف الصف منفردا فيكون نفيا للصحة، والصحة هي الوجود الشرعي؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع نفي الصحة، فهاتان مرتبتان.
المرتبة الثالثة: إذا لم يمكن نفي الصحة؛ بأن يوجد دليل على صحة المنفي، فهو نفي للكمال، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[30]؛ لأن من لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه لا يكون كافرا، لكن ينتفى عنه كمال الإيمان فقط.
وأما عن تنظيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة الطعام» ففيه نظر؛ لأن العلة بنفي الصلاة بحضرة طعام هي تشويش الذهن، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع بكاء الصبي أوجز في الصلاة؛ لئلا تفتتن أمه، وأمه سوف تبقى في صلاتها، لكن يشوش عليها بكاء ولدها، وأيضا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- «أن الشيطان يأتي إلى المصلي فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا – لما لم يكن يذكر – حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى»[31]، وهذا لا شك أنه يوجب غفلة القلب، فيدل هذا الحديث والذي قبله على أن مجرد التشويش وانشغال القلب لا يبطل الصلاة، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة الطعام» غير موجب لبطلان الصلاة؛ فبطل التنظير[32].
وأما عن قول الحنابلة – أصحاب القول الثاني – ببطلان صلاة المنفرد خلف الصف ولو بعذر مطلقا، فإن على أساسه يحتاج المنفرد خلف الصف إلى أن يصحح صلاته؛ لأنه مأمور أن يتعاطى الأسباب لتصحيح الصلاة[33]، وقد ذكر ابن عثيمين أن المصلي في هذه الحالة ليس أمامه إلا ثلاث طرق، وهي مردودة:
الأولى: أن يجذب شخصا من الصف ليكون معه، وهذا خطأ؛ لأن فيه أربعة محاذير:
- سبب لانقطاع الصف وفتح فرجة فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «… ومن قطع صفا قطعه الله»[34].
- موجب للتشويش على المجذوب.
- فيه جناية على المجذوب بنقله من المكان الفاضل، إلى المكان المفضول.
- فيه جناية على كل الصف؛ لأن جميع الصف سوف يتحرك؛ لانفتاح الفرجة من أجل سدها.
الثانية: أن يصلي إلى جنب الإمام، وفي ذلك ثلاثة محاذير:
- تخطي الرقاب، فإذا قدرنا أن المسجد فيه عشرة صفوف، فجاء إنسان في آخر صف ولم يجد مكانا، وقلنا له: اذهب إلى جنب الإمام، فسوف يتخطى عشرة صفوف، والنبي – صلى الله عليه وسلم- لما رأى رجلا يتخطى الرقاب قال له: «اجلس؛ فقد آذيت وآنيت»[35].
- إذا وقف إلى جنب الإمام خالف السنة في انفراد الإمام في مكانه؛ لأن الإمام موضعه التقدم على المأموم، فإن شاركه أحد في هذا الموضع زالت الخصوصية.
- أننا إذا قلنا له: تقدم إلى جنب الإمام، ثم جاء آخر قلنا له: تقدم إلى جنب الإمام، ثم ثان، وثالث حتى يكون عند الإمام صف كامل – لكان ذلك محذورا؛ لكن لو وقف هذا خلف الصف لكان الداخل الثاني يصف إلى جنبه، فيكونان صفا بلا محذور.
الثالثة: يجب عليه الانتظار حتى يأتي معه أحد، وإلا يصلي وحده منفردا، وفيه محذوران:
- أنه ربما ينتظر فتفوته الركعة، وربما تكون هذه الركعة هي الأخيرة، فتفوته صلاة الجماعة.
- أنه إذا بقي وفاتته الجماعة فإنه قد حرم الجماعة في المكان وفي العمل، وإذا دخل مع الإمام وصلى وحده منفردا خلف الصف، فإننا نقول على أقل تقدير: حرم المكان فقط، أما العمل فقد أدرك الجماعة، فأيهما خير أن نحرمه الجماعة في العمل والمكان، أم في المكان فقط؟!
وتأسيسا على ما سبق، يقول ابن عثيمين: “الغالب في أقوال العلماء، إذا تدبرتها أن القول الوسط يكون هو الصواب؛ لأن القول الوسط تجده أخذ بأدلة هؤلاء، وأدلة هؤلاء، فجمع بين الأدلة”[36]، والقاعدة الأصولية تقول: الجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
وعليه، فلا تعارض ألبتة بين الأحاديث في حكم صلاة المنفرد خلف الصف؛ وذلك لأن حديثي علي بن شيبان، ووابصة بن معبد قد صرحا ببطلان صلاة المنفرد خلف الصف؛ وهذا هو الأصل، إلا أن يكون هناك عذر إتمام الصف؛ فينتفي البطلان، وتكون الصلاة صحيحة؛ لأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار؛ لقوله عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦)، وقد رجح هذا المحققون من أهل العلم، أمثال: ابن تيمية والسعدي، وأما عن حديث أبي بكرة فالمعنى محمول فيه على من فعل ذلك لعذر؛ خشية الفوت لو انضم إلى الصف، فهو من باب الحرص على متابعة الإمام؛ لذا نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراع بقوله «لا تعد»، وأما عن حديث ابن عباس، فالانفراد فيه جزئي، وجمهور العلماء متفقون على عدم بطلان مثل هذا، ومن ثم، فأين التعارض إذا[37]؟!
الخلاصة:
- إن الأحاديث الأربعة المذكورة الواردة في مسألة حكم صلاة المنفرد خلف الصف أحاديث صحيحة الأسانيد مستقيمة المتون.
- لا تعارض بين تلك الأحاديث؛ إذ قد جمع العلماء بينها خير جمع، وذهبوا في ذلك ثلاثة مذاهب، بحسب ما ذهب كل فريق في مسألة حكم صلاة المنفرد خلف الصف:
o فقال فريق بـصحة صلاته مطلقا مع الكراهة، مستدلين على ذلك بحديثي أبي بكرة وابن عباس، وهؤلاء قد جمعوا بين الأحاديث بوجوه، وهذا قول الجمهور.
o وقال فريق آخر ببطلان صلاته مطلقا ولو بعذر، مستدلين على ذلك بحديثي علي بن شيبان ووابصة بن معبد الصريحين في نفي الصحة عنه، بل وأمره بالإعادة، وقد جمعوا بين الأحاديث بوجوه أيضا، وهو قول الحنابلة.
o أما القول الراجح في المسألة فهو: أن صلاته باطلة إلا إذا وجد عذر إتمام الصف، وذلك لأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، والله -عز وجل- يقول: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها(، هذا هو القول الوسط بين القولين السابقين، فإن الغالب في أقوال العلماء إذا تدبرتها أن القول الوسط يكون الصواب؛ لأنه يجمع بين الدليلين أو الأدلة، ولا يهمل أحدها، وقد رجح هذا القول المحققون من أهل العلم، أمثال: ابن تيمية والسعدي.
- وعلى ذلك فلا تعارض ألبتة بين حديثي علي بن شيبان ووابصة بن معبد من جانب، وبين حديثي أبي بكرة وابن عباس من جانب آخر؛ وذلك لأن الأولين صريحان في نفي صحة صلاة المنفرد خلف الصف إلا لعذر تمام الصف، وأما الآخرين؛ فالأول منهما محمول على عذر خشية الفوت لو انضم إلى الصف؛ لذا نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراع بقوله: «لا تعد». أما الثاني فالانفراد فيه انفراد جزئي، وهذا لا تبطل به الصلاة باتفاق العلماء.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. التعارض في الحديث، د. لطفي بن محمد الزغير، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1428هـ/ 2008م، ص24 بتصرف.
[2]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: صلاة الرجل خلف الصف وحده، (1/ 320)، رقم (1003). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1003).
[3]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: فرض متابعة الإمام، (5/ 579)، رقم (2202). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان.
[4]. صحيح: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن الاصطفاف بين السواري، (3/ 30)، رقم (1569). وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل برقم (541).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المدنيين، حديث علي بن شيبان رضي الله عنهما، رقم (16340). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح رجاله ثقات.
[6]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، (2/ 20)، رقم (230). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (231).
[7]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: الرجل يصلي وحده خلف الصف، (2/ 265)، رقم (678). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (682).
[8]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: صلاة الرجل خلف الصف وحده، (1/ 321)، رقم (1004). وصححه الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجه برقم (1004).
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه، رقم (18031). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: إذا ركع دون الصف، (2/ 312)، رقم (783).
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، (5/ 25)، رقم (3061). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[12]. انظر: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفي الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هــ/ 2001م، (4/ 1773).
[13]. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 298).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: صلاة النساء خلف الرجال، (2/ 408)، رقم (871).
[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، (3/ 1125)، رقم (1224).
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، (2/ 203، 204)، رقم (688). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، (3/ 989)، رقم (896).
[17]. الشرح الممتع على زاد المستقنع، محمد بن صالح العثيمين، (4/ 206) بتصرف.
[18]. انظر: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفي الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هــ/ 2001م، (4/ 1773).
[19]. المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (3/ 49) بتصرف.
[20]. مجموع فتاوى عبد العزيز بن باز، أشرف علي جمعه: موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإرشاد، محمد بن سعد الشويعر، (12/ 226).
[21]. مجموع فتاوى عبد العزيز بن باز، أشرف علي جمعه: موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإرشاد، محمد بن سعد الشويعر، (12/ 221).
[22]. انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، القاهرة، 1412هـ/ 1992م، (3/ 50: 52) بتصرف.
[23]. الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، (4/ 209).
[24]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 406، 407).
[25]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 246).
[26]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (23/ 397).
[27]. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الشوكاني، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفي الباز، مكة المكرمة، ط1، 1421هــ/ 2001م، (4/ 1773) بتصرف.
[28]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة، (2/ 453)، رقم (908).
[29]. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، 1405هـ/1985، (1/ 408).
[30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، (1/ 73)، رقم (13).
[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: فضل التأذين، (2/ 101)، رقم (608). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، (3/ 954)، رقم (835).
[32]. الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، (4/ 208، 207) بتصرف.
[33]. شرح زاد المستقنع، الشنقيطي، (316/ 14).
[34]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، (1/ 258)، رقم (662). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (666).
[35]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه، رقم (17710). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[36]. انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، (4/ 209: 2011).
[37]. الشرح الممتع على زاد المستقنع، ابن عثيمين، (4/ 225).