دعوى تعارض الاجتهاد مع تمام التشريع وكماله
وجوه إبطال الشبهة:
1) الاجتهاد لغة: بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده، ويصل إلى نهايته، وشرعا: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني.[1] ودليل مشروعيته وارد في الكتاب والسنة والإجماع[2].
2) لا اجتهاد في أصول الدين؛[3] لاشتمال القرآن على كل الأصول العامة التي لا بد منها لصلاح البشر، ولا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة، فلا يكون إلا في الأحكام الفرعية،[4] وبشرط عدم خروجها عن إطار الأصول المنبثقة عنها.
3) الاجتهاد لا يترك لكل مجترئ، بل لا بد من توفر شروط محددة في المجتهد تؤهله للقيام بهذه المهمة.
4) الاجتهاد يعتبر من ضرورات الدين، وهو حياة التشريع، فلا بقاء لشرع ما لم يظل الاجتهاد فيه حيا مرنا، ذا فعالية وحركة.
التفصيل:
أولا. معنى الاجتهاد لغة وشرعا، ودليل مشروعيته من الكتاب والسنة والإجماع:
الاجتهاد في اللغة: هو بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته. وفي الشرع: “هو بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني”, فلا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلوات الخمس.
وحكم الاجتهاد: هو فرض كفاية؛[5] إذ لا بد للمسلمين من استخراج الأحكام لما يجد من الأمور[6].
مشروعية الاجتهاد من الكتاب، والسنة، والإجماع:
يبين لنا مشروعية الاجتهاد وأدلته د. وهبة الزحيلي, فيذكر أن الإسلام قد دعا إلى إنعاش العلم والمعرفة والاجتهاد، ونبذ التقليد الأعمى، وذم المقلدين الذين يحاكون الأجداد والآباء من دون محاكمة ولا عقل، ففي القرآن الكريم يقول عز وجل: )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة).
وفي مقابل ذم هؤلاء المقلدين نجد مدح المبدعين والمفكرين في آيات كثيرة فيها أدلة واضحة على أن الاجتهاد أصل من أصول الشريعة، إما بطريق الإشارة أو بطريق التصريح، يقول عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله( (النساء: 105)، فهو إقرار للاجتهاد بطريق القياس، ويقول عز وجل: )إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3)( (الرعد)، ويقول عز وجل: )إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد).
أما السنة النبوية؛ ففيها أكثر من تصريح بجواز الاجتهاد؛ منها:
ما استدل به الإمام الشافعي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»[7].
أما أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلماء المسلمين من بعدهم، فقد أقروا الاجتهاد، واتبعوه طريقا فيما لم يعثروا فيه على نص قرآني أو سنة، فقد بايعوا أبا بكر – رضي الله عنه – بالقياس – وهو نوع من الاجتهاد – قال عمر رضي الله عنه: رضيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لديننا، فكيف لا نرضاه لدنيانا؟[8] فقاسوا الخلافة[9] على إمامة الصلاة[10].
ومن هنا يتبين لنا أن كل مصادر الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة وإجماع، قد أقرت الاجتهاد وحثت على إعمال الفكر في الأمور التي لا يوجد فيها نص قطعي.
“إن القرآن الكريم مشتمل على كل الأصول العامة التي لا بد منها لصلاح البشر في معاشه ومعاده، ومن هذه الأصول ما أرشد إليه الكتاب الكريم والسنة المطهرة من إلحاق الشبيه بشبيهه، والتوجه بالأعمال إلى تحقيق المصالح التي جرت عادة[11] الشارع بالمحافظة عليها “[12].
ثانيا. لا اجتهاد في أصول الدين؛ لاشتمال القرآن على الأصول العامة اللازمة لصلاح البشر:
فالاجتهاد قاصر على الأمور الفرعية، وما كان لبشر أن يقول: إن ميدانه إنما هو ميدان مفتوح بغير حدود “إن موضوع الاجتهاد، وما يعمل فيه المجتهد: هو هذه المسائل وتلك الوقائع التي ترددت في أحكامها بين طرفين، وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي، ولا إلى طرف الإثبات”[13].
وهذا ما أكده د. وهبة الزحيلي؛ إذ يقول: حدد الغزالي المجتهد فيه بأنه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، [14] فخرج به ما لا مجال للاجتهاد فيه، مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع,كوجوب الصلوات الخمس والزكوات ونحوها، فالأحكام الشرعية بالنسبة للاجتهاد نوعان:
- ما لا يجوز الاجتهاد فيه.
- ما يجوز الاجتهاد فيه.
أما ما لا يجوز الاجتهاد فيه: فهو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والبداهة، أو التي ثبتت بدليل قطعي الثبوت،[15] قطعي الدلالة، مثل تحريم جرائم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر والقتل وعقوباتها المقدرة لها، مما هو معروف بآيات القرآن الكريم وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – القولية أو العملية، ومثلها أيضا كل العقوبات أو الكفارات[16] المقدرة، فإنه لا مجال للاجتهاد فيها، ففي قوله عز وجل: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: 2)، لا يتأتى الاجتهاد في عدد الجلدات، وقوله عز وجل: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (النور: 56)، لا مجال للاجتهاد في المقصود بالصلاة أو الزكاة، بعد أن بينت السنة الفعلية[17] المراد منهما، وكذلك أحاديث الزكاة المتواترة،[18] لا مجال للاجتهاد فيها.
وأما التي يجوز الاجتهاد فيها: فهي الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع.
فإذا كان النص ظني الثبوت كان مجال الاجتهاد فيه: البحث في سنده، وطريق وصوله إلينا، ودرجة رواته من العدالة[19] والضبط،[20] وفي ذلك يختلف تقدير المجتهدين للدليل، فبعضهم يأخذ به لاطمئنانه إلى ثبوته، وبعضهم يرفض الأخذ به لعدم الاطمئنان إلى روايته، مما يؤدي إلى اختلاف المجتهدين في كثير من أحكام الفقه العملية.
وإذا كان النص ظني الدلالة، كان الاجتهاد فيه: البحث في معرفة المعنى من النص، وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عاما، وقد يكون مطلقا، وربما يرد بصيغة الأمر أو النهي، وقد يرشد الدليل إلى المعنى بطريق العبارة أو الإشارة أو غيرها، وهذا كله مجال الاجتهاد، فربما يكون العام[21] باقيا على عمومه، وربما يكون مخصصا[22] ببعض مدلوله، والمطلق[23] قد يجري على إطلاقه وقد يقيد، والأمر وإن كان في الأصل للوجوب[24] فربما يراد به الندب[25] أو الإباحة، [26] والنهي وإن كان حقيقة في التحريم، فأحيانا يصرف إلى الكراهة… وهكذا.
والقواعد اللغوية ومقاصد الشريعة هما اللتان يلجأ إليهما لترجيح وجهة على ما عداها، مما يؤدي إلى اختلاف وجهة نظر المجتهدين، واختلاف الأحكام العملية تبعا لها.
- وإذا كانت الحادثة لا نص فيها ولا إجماع، فمجال الاجتهاد فيها هو البحث عن حكمها بأدلة عقلية, كالقياس[27] أو الاستحسان[28] أو المصالح المرسلة[29] أو العرف[30] أو الاستصحاب،[31] ونحوها من الأدلة المختلف فيها، وهذا باب واسع للاختلاف بين الفقهاء.
- والاجتهاد يقتصر على فهم النص واستنباط الحكم الإلهي منه، وليس لابتداع ما ليس في الدين، لذلك تقول القاعدة الفقهية المعروفة: “لا اجتهاد مع النص، ولكن الاجتهاد في النص”، وكما يقول سماحة الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية السورية، ورئيس مجلس الإفتاء الأعلى: “التجديد لا يمكن أن يعني بحال تغيير نصوص القرآن أو السنة، بل يعني تغيير الفهم لبعض النصوص التي تحتمل ذلك بما يناسب الحال المعاصر للمسلمين.
وملخص القول: إن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلا، أو ما فيه نص غير قطعي، ولا يجري الاجتهاد في القطعيات وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين؛ إذ لا مساغ للاجتهاد في مورد النص، إلا في فهم النص.
وهذا الأصل جار في القوانين الوضعية، فمتى كان القانون صريحا لا اجتهاد فيه، ولو كان مغايرا لروح العدل، والقضاة مكلفون بتنفيذ أحكامه حسبما وردت؛ لأن تفسيره يرجع إلى المشرع، ولا مساغ للاجتهاد في موضع النص[32].
وبهذا البيان يتضح أنه عندما يقتضي الحال يكون الاجتهاد واجبا، وتقوم الحاجة إليه بانعدام النص، أو بتعدد وجوهه وإشكالات الفهم فيه، أو بتعدد النصوص وتعارضها في الظاهر، مع كون ذلك في زمان عامر بالعلم والفهم الصحيح في الدين، أو على الأقل يوجد فيه من يعلم ويفهم فهما صالحا، وفي مكان يوجد فيه من اتصف بهذه الصفة.
وأما إذا لم يقتض الحال شيئا من ذلك فلم تتوفر الدواعي والأسباب، أو أن الحال مقتض، غير أن الأهلية والاقتدار لم يتحققا – وهما بمثابة النور أو البصر الذي يرى به هذا الباب المفتوح الذي يدخل من خلاله – فإذا لم يتوفر للقاصد رؤية الباب المفتوح، ففتحه وإغلاقه في حق هذا سيان[33].
ثالثا. الشروط الواجب توافرها في المجتهد:
يقول الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
ويمكن تحليل هذا بتوضيح الشروط الواجب توافرها فيمن يريد بلوغ درجة الاجتهاد:
- أن يعرف معاني آيات الأحكام المذكورة في القرآن الكريم لغة وشرعا، وأن يعلم مواضعها ليرجع لها في وقت الحاجة.
- أن يعرف أحاديث الأحكام (لغة وشريعة), ويكون متمكنا من الرجوع إليها عند الاستنباط.
- معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، حتى لا يعتمد على المنسوخ المتروك مع وجود الناسخ، فيؤديه اجتهاده إلى ما هو باطل.
- أن يكون متمكنا من معرفة مسائل الإجماع ومواقعه؛ حتى لا يفتي بخلافه.
- أن يعرف وجوه القياس وشرائطه المعتبرة، وعلل الأحكام وطرق استنباطها من النصوص، ومصالح الناس وأصول الشرع الكلية.
- أن يعلم علوم اللغة العربية من لغة ونحو وصرف ومعان وبيان وأساليب؛ لأن الكتاب والسنة عربيان، فلا يمكن استنباط الأحكام منهما إلا بفهم لغة العرب إفرادا وتركيبا، أو معرفة معاني اللغة وخواص تراكيبها.
- أن يكون عالما بعلم أصول الفقه؛ لأنه عماد الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه.
- أن يدرك مقاصد الشريعة العامة في استنباط الأحكام؛ لأن فهم النصوص وتطبيقها على الوقائع متوقف على معرفة هذه المقاصد[34].
وعلى هذا فإن الاجتهاد ليس متروكا لكل من يطلبه، كما أنه ليس يدا تعبث في الشريعة الغراء، ومن ثم فليس هناك تعارض بين تمام أصول الدين التي تنبثق عنها فروع مختلفة باختلاف الزمان والمكان، وبين جواز الاجتهاد.
وبهذا يتضح أن الاجتهاد ليس مباحا لكل شخص، وإنما هو علم له أصوله، من حاد عنها رد عليه اجتهاده.
رابعا. للاجتهاد في الإسلام أهمية قصوى؛ فلا بقاء لشرع ما لم يظل الاجتهاد فيه حيا مرنا:
يقول الشيخ محمد الغزالي: “الاجتهاد التشريعي، خصوصا فيما يمس المعاملات الداخلية والخارجية، ضرورة دينية واجتماعية”[35].
وإلا فماذا يفعل المسلمون فيما يستجد من قضايا لم تكن موجودة من قبل، وقد حكم بها التطور التكنولوجي الذي وسم به هذا العصر، مثل: أطفال الأنابيب، والاستنساخ،[36] واستئجار الأرحام، وبنوك اللبن، إلى غير ذلك من الفقه المعاصر الذي لم يتناوله أجدادنا، وما كان لهم أن يفعلوا؟!
وأما ما حدث من إغلاق باب الاجتهاد في فترة زمنية سابقة، فمرجعه إلى أن الدولة الإسلامية انقسمت في القرن الرابع الهجري إلى دويلات وممالك، مما أضعف الأمة الإسلامية، فكان من جراء الانقسام ضعف الاستقلال الفكري، وجمود النشاط العلمي، ووقوع العلماء في حمأة التعصب المذهبي، وفقدان الثقة بالنفس، وعكوف العلماء على تدوين المذاهب واختصار الكتب.
وخاف بعض العلماء من ضعف الوازع الديني الذي قد يؤدي إلى هدم صرح الفقه الذي بناه الأئمة السابقون، فتنادوا بالتزام المذاهب المتقدمة ودعوا إلى سد باب الاجتهاد منعا من ولوج أناس فيه ليسوا أهلا للاجتهاد والاستنباط.
وهذا من باب السياسة الشرعية التي تعالج شأنا خاصا، أو أمرا مؤقتا، أو فوضى اجتهادية قائمة بسبب ادعاء غير الأكفاء الاجتهاد، فإذا زال الموجب لما سبق، وجب العودة إلى أصل الحكم، وهو فتح باب الاجتهاد, إذ لا دليل أصلا على سد باب الاجتهاد، وإنما هي دعوى فارغة وحجة واهنة، أوهن من بيت العنكبوت؛ لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث[37].
إن تحديد الإنتاج الفكري – فيما يتعلق بالتشريع – من الأخطاء الجسام التي لا مبرر لها، بعد أن استمر أكثر من ثلاثة قرون مفتوحا، أنتج خلالها الفكر الإسلامي في الفقه وأصوله ثروة خالدة أمدت التشريع الإسلامي والفقه بأسباب البقاء والخلود.
لهذا, فإن باب الاجتهاد في الإسلام مفتوح لكل ذي بصيرة، حتى لا يحرم إنسان من التدبر والنظر وحرية الفكر وإعمال مواهبه، ولا يقال: إن طريق الاجتهاد موصد، فيحتاج إلى فتح ودعوة للتحرر؛ إذ لا يسلم بإقفال هذا الباب من الأصل.
والاجتهاد لا يعني فقط إحداث آراء جديدة لوقائع جديدة، وإنما مجاله أيضا النظر في الأدلة ذاتها، دون التقيد بمذهب أحد.
وقد أورد الإمام السيوطي – في كتابه “الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض” – نصوص العلماء في جميع المذاهب المتفقة على القول بفرضية الاجتهاد وذم التقليد، فقد نهى أئمة المذاهب عن تقليدهم، وطالبوا بضرورة التفكر والنظر، كما تابعهم العلماء في ذلك، يقول أبو محمد البغوي في التهذيب: “العلم ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية”, فذكر فرض العين، ثم قال: وفرض الكفاية هو أن يتعلم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى، والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين.
وحكم الشهرستاني في كتاب “الملل والنحل” بعصيان أهل العصر بأسرهم إذا قصروا في القيام بهذا الفرض، وأقام على فرضيته دليلا عقليا قطعيا لا شبهة فيه، فقال: “وبالجملة نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد,ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص,ولا يتصور ذلك أيضا,والنصوص إذا كانت متناهية, والوقائع غير متناهية,وما لا ينتهي لا يضبطه ما يتناهى, علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”[38].
أهمية الاجتهاد في عصرنا الحالي:
أما إذا نظرنا إلى عصرنا الحالي، فسنجد أن الاجتهاد واجب وضرورة حتمية؛ إذ إنه حياة التشريع، فلا بقاء لشرع ما لم يظل الفقه والاجتهاد فيه حيا مرنا ذا فعالية وحركة، فالاجتهاد واجب لا سيما في عصرنا هذا, عصر التغيرات السريعة، وتعقد المعاملات، وتجدد الحوادث والمشكلات، فهناك الكثير من القضايا التي تستدعي حلولا شرعية سليمة، ولا ملجأ لحلها في غير الاجتهاد؛ لأنه نقطة الارتكاز التي يقوم عليها الحكم بصلاح شريعة الإسلام لكل زمان ومكان.
أما القول: إن الشريعة قد تمت فهو دعوة للقعود إلى الكسل والرضا بما آل إليه فقه الإسلام من تخلف عن مسايرة ركب الحضارة، وهذا لا يرضي الله ورسوله ولا يقبله مسلم حريص على دين الله، وتطبيق أحكامه في الأنام[39].
الخلاصة:
- الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته. والاجتهاد في الشرع: هو بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي؛ فلا اجتهاد مع نص قطعي كوجوب الصلوات.
- وحكم الاجتهاد هو فرض كفاية على المسلمين، فلا بد لهم من استخراج الأحكام لما يستجد من أمور، وقد أقرت كل مصادر الشريعة – من كتاب وسنة وإجماع – الاجتهاد وحثت عليه، وذمت التقليد والاتباع.
- الأصل في الإسلام هو جواز الاجتهاد لمن توافرت فيه شروط المجتهد، والاجتهاد ضرورة حتمية في عصرنا الحالي؛ لأنه نقطة الارتكاز التي يقوم عليها صلاح الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.
- للمجتهدين شروط يجب توافرها؛ كالعلم بالقرآن والسنة، والناسخ والمنسوخ، وأصول الفقه، وعلوم اللغة العربية، وإدراك مقاصد الشريعة… إلخ، فلا يترك الاجتهاد لكل من هب ودب.
- الاجتهاد ضرورة ملحة من ضرورات العصر الحديث، بل كل العصور السابقة، وذلك للأسباب الآتية:
o أن الاجتهاد مقر به في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
o أن الدين اشتمل على الأصول، ولم ينص على حكم كل الفروع.
o أن هناك الكثير من الأحداث التي تستجد في الأزمنة المختلفة، والبيئات المختلفة، وتحتاج إلى استنباط أحكام جديدة لها.
o أن الدعوة إلى عدم الاجتهاد دعوة إلى التجمد والتخلف، والتراجع للوراء، وهي بهذا تقتل حياة الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان.
(*) أصول التشريع الإسلامي، الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب الدراسات العليا بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة خاصة.
[1]. الظني: خلاف القطعي، وهو ما دل على معنى ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معنى غيره.
[2]. الإجماع: هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حكم شرعي في واقعة.
[3]. أصول الدين: هي العلوم التي تتعلق بعلوم العقيدة وعلم الكلام.
[4]. الأحكام الفرعية: هي الأحكام الجزئية، فالإيجاب حكم كلي يندرج تحته إيجاب الشهود في الزواج، وهو حكم جزئي وفرعي من الحكم الكلي.
[5]. فرض الكفاية: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعضهم فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[6]. انظر: الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، دار الصفوة، القاهرة، ط4، 1414هـ/ 1993م، ج1، ص316.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6919)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (4584).
[8]. ذكره الشافعي في مسنده، كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة (399).
[9]. الخلافة: تعني ـ في الإسلام ـ منصبا سياسيا يجمع صاحبه بين السلطتين الزمنية والروحية، ولكن وظيفته الدينية لا تتعدى المحافظة على شرع الله، ومن حقه قيادة الدولة الإسلامية ورسم سياستها وتنفيذها على المستويين الداخلي والخارجي.
[10]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2,ص1039، 1040 بتصرف.
[11]. العادة: كل ما تعود الإنسان فعله حتى صار يفعل من غير جهد، والحالة تتكرر على نهج واحد، والعادة هي العرف العملي، وكذلك جاءت القاعدة الفقهية “العادة محكمة”، ويشترط في العادة المعتبرة ألا تكون مغايرة لما عليه أهل الدين.
[12]. أصول التشريع الإسلامي, الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة خاصة، ص 71.
[13]. الاجتهاد في الإسلام: تحرير وتنوير، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص45.
[14]. قطعي الدلالة: هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا، ولا مجال لفهم معنى غيره منه.
[15]. قطعي الثبوت: الجزم والقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل، وكل نصوص القرآن الكريم قطعية الثبوت؛ أي: جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن نصوص السنة منها ما هو قطعي الثبوت، ومنها ما هو ظني الثبوت؛ فالأحاديث المتواترة قطعية الثبوت.
[16]. الكفارات: جمع كفارة، وهي مأخوذة من الكفر وهو الستر؛ لأنها تغطي الذنب وتستره، وسميت بذلك لأنها تكفر الذنوب وتسترها مثل: كفارة الأيمان والظهار والقتل الخطأ، وقد بينها الله تعالى في كتابه وأمر بها عباده.
[17]. السنة الفعلية: كل ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبين أنه فعله فهو سنة عملية، سواء في السفر أم في الحضر، في السلم أم في الحرب، في السر أم في العلانية، من أمور التشريع أم من غيرها؛ كما ورد عن كيفية أكله وشربه، ولبسه ونومه، ومشيه وكلامه، ووضوئه وصلاته.
[18]. الأحاديث المتواترة: هي ما رواها في كل عصر جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب؛ لكثرتهم وتباعد أماكنهم، مما تناوله أبصار الناس وأسماعهم.
[19]. العدالة: صفة لصاحبها، فإذا كانت في الرواة فهي أن يكون الراوي مسلما بالغا عاقلا غير فاسق وغير مخروم المروءة، واشتراط العدالة في الراوي يستدعي صدق الراوي وعدم غفلته، وعدم تساهله عند التحمل والأداء، وكون الإنسان عدلا لا يرتكب الكبائر وينأى عن الصغائر.
[20]. الضبط: صفة من صفات رواي الحديث تجعله حافظا لما يرويه إن كان يرويه من حفظه، وحافظا وضابطا لكتابه إن كان يروي من كتابه.
[21]. العام: هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها.
[22]. الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص؛ مثل: محمد، أو واحد بالنوع؛ مثل: رجل، أو على أفراد متعددة محصورة؛ مثل: ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد ولا تدل على استغراق جميع الأفراد.
[23]. المطلق: هو اللفظ الخاص المطلق من أي قيد؛ أي هو ما دل على فرد غير مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري، ورجل، وطائر، على عكس المقيد: وهو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض.
[24]. الواجب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما؛ بأن اقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله.
[25]. الندب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا غير حتم؛ كأن يرد الطلب من الشارع بصيغة “يسن كذا” أو “يندب كذا”، والمندوب أنواع؛ مندوب مطلوب فعله على وجه التأكيد، ومندوب مشروع فعله، ومندوب زائد يعد من الكماليات للمكلف، ويرجع إليه في مظانه من كتب أصول الفقه.
[26]. الإباحة: هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه، فلم يطلب الشارع أن يفعل المكلف هذا الفعل، ولم يطلب أن يكف عنه.
[27]. القياس: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.
[28]. الاستحسان: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم جزئي استثنائي؛ لدليل انقدح من عقله رجح لديه هذا العدول.
[29]. المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت “مطلقة”، أو “مرسلة”؛ لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء.
[30]. العرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى “العادة”.
[31]. الاستصحاب: هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره.
[32]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2, ص 1052: 1054. دور الاجتهاد في الفكر الإسلامي، أحمد كفتارو، ضمن بحوث المؤتمر العاشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وزارة الأوقاف، القاهرة، 1420هـ/ 1990م، ص87 بتصرف يسير.
[33]. الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية، الخواص الشيخ العقاد، دار الجيل، بيروت، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص 91.
[34]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2, ص 1043: 1049 بتصرف.
[35]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص 212.
[36]. الاستنساخ: استنسخ الشيء: طلب نسخه، وهي عمليات تقوم على استنتاخ الحيوان أو أجزائه.
[37]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص 1085 بتصرف يسير.
[38]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ص1086، 1087 بتصرف يسير.
[39]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م ، ص1087، 1088 بتصرف.