دعوى تعارض السنة النبوية في مسألة تخفيف الصلاة
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد تواترت الأحاديث في حث الأئمة على التخفيف في الصلاة، وأكدت أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا التخفيف، بتخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود وفي الاعتدال عنهما.
2) كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحيانا يطيل القراءة في صلاة المغرب لبيان الجواز، إذا كان ذلك لا يشق على المأمومين؛ وضمنت رغبتهم في ذلك، والدليل على ذلك عدم مواظبته – صلى الله عليه وسلم – على قراءة سور بعينها.
التفصيل:
أولا. موافقة أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم- أقواله في الأمر بتخفيف الصلاة:
إنه مما لا شك فيه أنه يستحب للإمام تخفيف الصلاة، ما لم يؤثر المأمومون الإطالة، وكانوا أيضا محصورين يمكن معرفة رغبتهم جميعا في ذلك.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحث على التخفيف في الصلاة الجماعية؛ مراعاة لأحوال المأمومين وظروفهم، أما في حال الصلاة المنفردة، فليطول ما شاء، إلا أن يدخل وقت الصلاة التالية؛ فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء»[2].
وروي – أيضا – عن أبي مسعود رضي الله عنه: «أن رجلا قال: والله يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان؛ مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة»[3].
وروى الشيخان – أيضا – عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوجز الصلاة ويكملها»[4].
وواضح من تلك الأحاديث استحباب تخفيف الإمام للصلاة؛ حرصا على أحوال من خلفه من المأمومين، أما إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء.
فقد جاء في الفتح: “قوله: (باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)، يريد أن عموم الأمر بالتخفيف مختص بالأئمة، أما المنفرد فلا حجر عليه في ذلك “[5].
وقد أفرد الإمام مسلم لذلك بابا في صحيحه، وعنون له الإمام النووي بقوله: (أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام)، ثم عقب عليه بقوله: معنى أحاديث الباب ظاهر، وهو الأمر للإمام بتخفيف الصلاة، بحيث لا يخل بسنتها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء في الأركان التي تحتمل التطويل، وهي: القيام والركوع والسجود، والتشهد دون الاعتدال، والجلوس بين السجدتين[6]، وقد اجتمعت آراء الفقهاء على استحباب التخفيف للإمام في الصلاة؛ مراعاة لأحوال المأمومين.
أما حديث البراء بن عازب برواية البخاري: «كان ركوع النبي – صلى الله عليه وسلم – وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع – ما خلا القيام والقعود – قريبا من السواء»[7].
وفي لفظ مسلم: «رمقت الصلاة مع محمد – صلى الله عليه وسلم – فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء»[8].
فتلك الروايتان قد حملتا على الخصوصية، وقد جاءت أقوال العلماء تؤكد ذلك.
قال ابن رجب الحنبلي: “قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا: قد يجوز أن يكون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استعمل ذلك في نفسه إذا كان مصليا، وقد أمر أئمته بالتخفيف، فيتوجه الحديثان على معنيين”.
ثم تعقبه ابن رجب بقوله: ” كذا قال، وفيه نظر؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخفف ويوجز ويتم الصلاة، فلم يكن يفعل خلاف ما أمر به الأئمة… فالصلاة التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصليها بالناس هي التخفيف الذي أمر به غيره، وإنما أنكر على من طول تطويلا زائدا على ذلك[9].
وقال ابن رجب – أيضا: “واعلم أن التخفيف أمر نسبي، فقد تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى ما هو أخف منها، فالتخفيف المأمور به الأئمة هو الذي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعله إذا أم، فالنقص منه ليس بتخفيف مشروع”[10].
وقال د. عبد الله الفوزان: “والقول بأن التخفيف أمر نسبي إضافي هو الأظهر في الجواب عن اختلاف الأحاديث في الباب”[11].
وجاء في الفتح: ” وقيل: المراد بالقيام والقعود القيام للقراءة، والجلوس للتشهد؛ لأن القيام للقراءة أطول من جميع الأركان في الغالب، واستدل به على تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين”[12].
وقد أجاب بعض العلماء عن حديث البراء: أن المراد بقوله «قريبا من السواء» ليس أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال؛ بل المراد أن صلاته كانت قريبا معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفها أخف بقية الأركان[13].
وقد عنون الإمام النووي بابا في صحيح مسلم سماه: (باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام)، جاء تحته أحاديث كثيرة بهذا المعنى، منها تلك الرواية السابقة – رواية البراء بن عازب – وقد عقب النووي على ذلك بقوله: فيه دليل على تخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع والسجود، ونحو هذا قول أنس رضي الله عنه: «ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تمام»[14].
وقوله: “قريبا من السواء” يدل على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام، ولعله أيضا في التشهد، واعلم أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال”[15].
وقال ابن القيم معلقا على حديث البراء بروايتيه: ” فإن البراء هو القائل هذا، وهذا؛ فإنه في السياق الأول – يعني: لفظ مسلم – أدخل في ذلك قيام القراءة، وجلوس التشهد، وليس مراده أنهما بقدر ركوعه وسجوده، وإلا ناقض السياق الأول الثاني، وإنما المراد أن طولهما كان مناسبا لطول الركوع والسجود والاعتدالين، بحيث لا يظهر التفاوت الشديد في طول هذا، وقصر هذا… فسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أولى وأحق بالاتباع، وقول البراء في السياق الآخر: ” ما خلا القيام والقعود “بيان أن ركن القراءة والتشهد أطول من غيرهما “[16].
وقال ابن القيم – أيضا: “ولاشك أن قيام القراءة، وقعود التشهد يزيدان في الطول على بقية الأركان، ولما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوجز القيام، ويستوفي بقية الأركان، صارت صلاته قريبا من السواء، فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى، والبراء تارة قرب ولم يحدد، فلم يذكر القيام والقعود، وتارة استثنى وحدد، فاحتاج إلى ذكر القيام والقعود”[17].
وقد عقد الإمام الطحاوي بابا لبيان مشكل حديث البراء، وأجاب بمثل ما تقدم نقله، وهو أن طول الصلاة متناسب، وأركانها منتظمة، فلا يطيل القيام ويخفف الركوع، أو يطيل التشهد ويخفف القيام، ويدل على ذلك الأحاديث الآمرة بالتخفيف، وقال: قد يـحتمل أن يكون هذا القول من البراء على إرادته به أن ركوع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورفعه رأسه من الركوع، وسجوده، ورفعه رأسه من السجود سواء، على أن ما بعد الركوع من الأشياء التي ذكرها في حديثه بجملتها تفي بالقيام والركوع، ومما يدل على أن هذا الاحتمال أولى – أمره – صلى الله عليه وسلم – بالتخفيف في الصلاة لمن أم الناس[18].
“فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين؛ فإنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يأمرهم بأمر، ثم يخالفه، وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به؛ فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى ما أطول منها، وهديه – صلى الله عليه وسلم – الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأمرنا بالتخفيف، وإن كان ليؤمنا بالصافات»[19]. فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي كان يأمر به”[20].
فإذا كان المراد من أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله هو بيان أن طول الصلاة يجب أن يكون متناسبا، وتكون أركانها منتظمة؛ فذلك إن دل على شيء فإنما يدل على تخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال بينهما، فأفعال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأقواله مكملة لبعضها البعض، ولا تعارض بينها، وبهذا تسقط الدعوى، ويبطل مرادهم.
ثانيا. عدم مواظبة النبي – صلى الله عليه وسلم – على قراءة سور بعينها في صلاة المغرب كان مراعاة لأحوال المأمومين ورغبتهم:
لقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قرأ في صلاة المغرب بسورة من السبع الطوال، وتارة من طوال المفصل، وتارة أخرى من أوساطه، وليس في ذلك تعارض على الإطلاق؛ لأنه وقع منه ذلك باختلاف الحالات والأوقات والأشغال وجودا وعدما.
فقد ورد عن عائشة – رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين»[21].
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: «قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار، وقد سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ بطولى الطوليين»[22]؟
وزاد أبو داود: «قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف، والأخرى الأنعام، وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي من قبل نفسه: المائدة والأعراف»[23].
وقد روى الجماعة إلا الترمذي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في المغرب بالطور»[24].
فالأحاديث السابقة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث أخرى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – تؤكد أنه قرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل، منها:
حديث جابر رضي الله عنه: «… فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ أفتان أنت؟! أو أفاتن؟! (ثلاث مرار)، فلولا صليت بـ )سبح اسم ربك الأعلى (1)( (الأعلى)، )والشمس وضحاها (1)( (الشمس)، )والليل إذا يغشى (1)( (الليل)؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة»[25].
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن سليمان بن يسار عن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أشبه صلاة برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فلان. قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل[26].
أما حديث ابن عمر الذي يستدلون به على المعارضة: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في المغرب: )قل يا أيها الكافرون (1)( (الكافرون)، و )قل هو الله أحد (1)( (الإخلاص)…» [27].
فقد ورد مثله لابن حبان عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن سعيد بن سماك بن حرب، حدثني أبي سماك بن حرب قال: ولا أعلم إلا جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بـ )قل يا أيها الكافرون (1)(، )قل هو الله أحد (1)(…» الحديث[28].
وقد علق ابن حجر في “الفتح” على الروايتين بقوله: “أما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة، إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ فيه بعض رواته، وأما حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – ففيه سعيد بن سماك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب”[29].
وذكر ابن حجر أيضا: ” وليس في حديث جبير بن مطعم – رضي الله عنه – دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك؛ لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال؛ وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي “صلى الله عليه وسلم[30].
والحق أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قرأ في صلاة المغرب بالسور الطويلة – طولى الطوليين، والسور المتوسطة – طوال المفصل، وكذلك قرأ بالسور القصار – قصار المفصل، كما بينت الأحاديث السابقة، وليس في ذلك أي تعارض؛ لأن المعول عليه هو مواظبته – صلى الله عليه وسلم – على قراءة سور بعينها.
يقول ابن دقيق العيد فيما حكاه عنه ابن حجر في “الفتح”: “والحق عندنا أن ما صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه”[31].
كما أن فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا فيه دلالتان: أنه كان يقصد من ذلك بيان الجواز، وإما أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يعلم حال من كانوا خلفه من المأمومين، ورغبتهم في التطويل.
قال ابن حجر: “وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه – صلى الله عليه وسلم – كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين”[32]. فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقول قولا ويأتي بخلافه، فأقواله – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله تخرج من مشكاة واحدة؛ ليكمل بعضها بعضا.
يقول ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة[33].
ويؤكد الصنعاني ما ذهبنا إليه من أن ذلك وقع من النبي – صلى الله عليه وسلم – مراعاة لأحوال الناس، وذلك فيه دليل على عدم المواظبة على قراءة سور بعينها، فقال: “والجمع بين هذه الروايات أنه وقع ذلك منه – صلى الله عليه وسلم – باختلاف الحالات والأوقات والأشغال وجودا وعدما”[34].
وذهب د. عبد المتعال الجبري إلى أن طريق الجمع بين الأحاديث: أنه كان يطيل في صلاة المغرب، وحين يعلم وجود معذورين أو يتوقع ذلك يخفف من صلاته، فقد أنب معاذا؛ لأنه يطيل الصلاة في ساعة متأخرة، وفي الناس مسافرون أو مظهر الإجهاد والعمل باد عليهم، كهذا الشاكي معاذا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ـ يقصد رواية جابر – رضي الله عنه – السابقة – فالسنة هي المراوحة بين سائر سور القرآن؛ طواله وطوال مفصله، أو قصاره أو ما بينهما، والاقتصار على نوع منه هو البدعة[35].
ومما يؤكد القول السابق قول الحافظ ابن حجر في “الفتح”: ” إن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء، وقد صرح البخاري بذلك في روايته لحديث جابر رضي الله عنه، فقال: حدثنا محارب بن دثار قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «أقبل رجل بناضحين – وقد جنح الليل – فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة – أوالنساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فشكا إليه معاذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا معاذ، أفتان أنت؟ أو أفاتن؟ ثلاث مرار، فلولا صليت بـ )سبح اسم ربك الأعلى (1)(، )والشمس وضحاها (1)(، )والليل إذا يغشى (1)(، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة»[36]؟
أما الإمام مسلم فقد أورد حديث جابر – رضي الله عنه – تحت باب: (القراءة في العشاء)، وذكر حديث جابر رضي الله عنه – السابق – بأكثر من رواية، منها: عن جابر – رضي الله عنه – أنه قال: «صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء فطول عليهم، فانصرف رجل منا فصلى، فأخبر معاذ عنه، فقال إنه منافق، فلما بلغ ذلك الرجل، دخل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره ما قال معاذ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تكون فتانا يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بـ )والشمس وضحاها (1)(، و )سبح اسم ربك الأعلى (1)(، و)اقرأ باسم ربك(، )والليل إذا يغشى (1)(»[37].
أما حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – السابق: «ما رأيت رجلا أشبه صلاة…» فهو يحكي عموم المشابهة، وهذا العموم تخصصه الأحاديث الدالة على أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يستمر على قراءة قصار المـفصل، بل قرأ فيها بطولى الطوليين، وبطوال المفصل؛ كالطور والدخان والمرسلات[38].
وبناء على ما سبق، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يواظب على قراءة سور بعينها في صلاة المغرب؛ وإنما قرأ بسور من السبع الطوال – الأعراف، وقرأ بسور من طوال المفصل – الطور، وقرأ أيضا بسور من قصار المفصل كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن الجدير بالذكر أنه لا تعارض على الإطلاق بين تلك الروايات؛ فإن التعارض ينشأ إن واظب النبي – صلى الله عليه وسلم – على قراءة معينة من طول أو قصر؛ حتى تصير سنة؛ وإنما أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من وراء ذلك أن يبين جواز القراءة بالسور الطويلة، إذا آثر المأمومون ذلك، أما إذا وجد معذورون أو توقع ذلك، فالأمر بالتخفيف مطلقا؛ فإذا صح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يواظب على قراءة سور بعينها في صلاة المغرب؛ فلا تعارض، وبالتالي تسقط الشبهة وتتلاشى.
الخلاصة:
- لقد تواترت الأحاديث في حث الأئمة على التخفيف في الصلاة كلها؛ نظرا لأحوال المأمومين وظروفهم.
- إن قيام القراءة وقعود التشهد يزيدان في الطول على بقية الأركان، ولـما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يوجز القيام ويستوفي بقية الأركان، صارت صلاته قريبا من السواء.
- إن التخفيف أمر نسبي، فقد تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى ما هو أخف منها، فالتخفيف المأمور به الأئمة هو الذي كان يفعله النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أم؛ لذا فالنقص منه ليس بتخفيف مشروع.
- لم يواظب النبي – صلى الله عليه وسلم – في صلاة المغرب على قراءة سور بعينها؛ وإنما قد صح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قرأ بطولى الطوليين تارة، وبطوال المفصل تارة ثانية، وبقصار المفصل تارة ثالثة.
- إن النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحيان كثيرة كان يطيل القراءة في الصلاة؛ ذلك لبيان الجواز في الإطالة أو التقصير؛ وذلك إذا ضمنت رغبة المأمومين في التطويل، وإلا فالتخفيف مستحب.
(*) مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م. شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م.
[1]. المفصل: السبع الأخير من القرآن الكريم.
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، (2/ 233)، رقم (703). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (3/ 1037)، رقم (1030).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود، (2/ 231)، رقم (702). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (3/ 1036)، رقم (1026).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الإيجاز في الصلاة وإكمالها، (2/ 235)، رقم (706). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (3/ 1037)، رقم (1034).
[5]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 233).
[6]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 1038).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، (2/ 322)، رقم (792).
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، (3/ 1039)، رقم (1039).
[9]. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن رجب الحنبلي، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، دار ابن الجوزي، السعودية، ط2، 1422هـ، (4/ 208).
[10]. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن رجب الحنبلي، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، دار ابن الجوزي، السعودية، ط2، 1422هـ، (4/ 208، 209).
[11]. مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ، (1/ 503).
[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 323).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 337) بتصرف.
[14]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، (3/ 1040)، رقم (1043).
[15]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (3/ 1041) بتصرف.
[16]. الصلاة وحكم تاركها، ابن القيم، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص179.
[17]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع حاشية ابن القيم، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (3/ 74، 75).
[18]. شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (13/ 43) بتصرف.
[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، (7/ 16)، رقم (4796)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[20]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (1/ 213، 214).
[21]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بالمص، (1/ 162)، رقم (999). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (991).
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: القراءة في المغرب، (2/ 287)، رقم (764).
[23]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصلاة، باب: قدر القراءة في المغرب، (3/ 20)، رقم (807). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (812).
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الجهر في المغرب، (2/ 289)، رقم (765).
[25]. صحيح البخاري، (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: من شكا إمامه إذا طول، (2/ 234)، رقم (705).
[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، رضي الله عنه (2/ 300)، رقم (7978). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[27]. ضعيف: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: القراءة في صلاة المغرب، (1/ 272)، رقم (833). وقال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه برقم (825): شاذ.
[28]. ضعيف: أخرجه ابن حبان في سننه، كتاب: الصلاة، باب: صفة الصلاة، (5/ 149)، رقم (1841). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: إسناده ضعيف.
[29]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 290).
[30]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 290، 291).
[31]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 290).
[32]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (2/ 290).
[33]. صحيح ابن خزيمة، ابن خزيمة النيسابوري، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ/ 1970م، (1/ 261) بتصرف.
[34]. سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (2/ 268).
[35]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص190 بتصرف.
[36]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: من شكا إمامه إذا طول، (2/ 234)، رقم (705).
[37]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، (3/ 1034)، رقم (1023).
[38]. لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص189 بتصرف.