دعوى تعارض حديث رضاع الكبير مع القرآن الكريم
وجوه إبطال الشبهة:
1) حديث رضاع الكبير صحيح في أعلى رجات الصحة، وقد أجمعت الأمة على ذلك، فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه مالك في”الموطأ” وأبو داود في سننه وغيرهم، فقد بلغ حد التواتر، وهذا يدل على صحته سندا ومتنا. كما أنه لا يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالاحتجاب، والحشمة، وغض البصر؛ إذ قد ورد كيفية رضاع سهلة لسالم – رضي الله عنهما – وأنها كانت تحلب اللبن من ثديها في إناء ويشربه سالم، ولم يرد أنه التقم ثديها، أو لمس جسدها.
2) لم يرفض نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث؛ فقد رواه بعضهن، وتلقينه جميعا بالقبول، ولكن لم يعملن به واعتبرنه رخصة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسهلة في رضاعها لسالم – رضي الله عنهما – لا تتعداه لغيره.
3) جمهور الصحابة، وجمهور علماء الأمة من التابعين فمن بعدهم على أن رضاع الكبير لا يحرم؛ إذ إن واقعة رضاع سهلة لسالم واقعة عين خاصة ولا يجوز الاحتجاج بها لغيره، وهذا هو الراجح درءا للفتنة وسدا للذرائع.
التفصيل:
أولا. الحديث الوارد في رضاع الكبير صحيح في أعلى درجات الصحة، وقد أجمعت الأمة على ثبوته وصحته، ولا يتعارض مع القرآن بحال من الأحوال:
إن حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة حديث صحيح أخرجه كثير من أئمة الحديث وجهابذته:
فأخرجه مالك في”الموطأ” عن ابن شهاب: «أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد بدرا، وكان تبنى سالما الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة كما تبنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة، وأنكح أبو حذيفة سالما، وهو يرى أنه ابنه، أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول، وهي من أفضل أيامى قريش، فلما أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل فقال: )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم( (الأحزاب: ٥) رد كل واحد من أولئك إلى أبيه، فإن لم يعلم أبوه، رد إلى مولاه، فجاءت سهلة ابنة سهيل، وهي امرأة أبي حذيفة، وهي من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل علي وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها، وكانت تراه ابنا من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال، وأبى سائر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس، وقلن: لا والله مانرى الذي أمر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في رضاعة سالم وحده، لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد، فعلى هذا كان أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- في رضاعة الكبير»[1].
وقد أخرج هذا الحديث الإمام البخاري في”صحيحه” من طريق عروة بن الزبير عن عائشة – أيضا – «أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس – وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم – تبنى سالما، وأنكحه بنت أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة…» فذكره[2].
وقد أخرج هذا الحديث الإمام مسلم في”صحيحه” من طريق القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: «جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم(وهو حليفه). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه»… فذكره[3].
وقد رواه أيضا أبو داود، وابن ماجه، والنسائي في سننهم، وكل واحد منهم أثبته في كتابه بالرواية التي وصلته بها.
وبما أوردنا من روايات لحديث رضاع الكبير في”الصحيحين”وغيرهما يستبين للمعارض ثبوت الحديث أولا، وصحته ثانيا، وليس هذا فحسب، بل إنه قد بلغ حد التواتر لدى علماء السنة، وهو بذلك من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم- بلا شك بإجماع الأمة كلها.
- الحديث لا يتعارض مع القرآن الكريم:
أما زعمهم أن رضاع سهلة لسالم مولى أبي حذيفة فيه شيء من مخالفة ما جاء في القرآن، من حيث غض البصر عن غير المحارم، والاحتجاب عنهم، وأن إتمام عملية الرضاعة بينهما كان فيه شيء من الإباحة الجنسية الممقوتة في دين الإسلام – ليس له أي وجه من الصحة والصواب.
ويرد على هذا الزعم المفترى، بما ورد من آثار تبين الصفة والهيئة التي تمت بها عملية الرضاع من سهلة، وذلك بما أخرجه ابن سعد عن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه، قال: “كان يحلب في مسعط[4]، أو إناء قدر رضعة فيشربه سالم كل يوم، خمسة أيام، وكان بعد يدخل عليها، وهي حاسر[5]؛ رخصة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لسهلة بنت سهيل”[6].
وقد نقله الحافظ ابن حجر عنه في الإصابة[7].
وأخرج عبد الرزاق في”مصنفه” عن ابن جريج قال: “سمعت عطاء يسأل، قال له رجل: سقتني امرأة من لبنها بعدما كنت رجلا كبيرا، أأنكحها؟ قال: لا، قلت: وذلك رأيك؟ قال: نعم. قال عطاء: كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها”[8].
والملاحظة في هذه الرواية أنه قال”سقتني” ولم يقل أرضعتني، والسقيا لا تلزم التقام الثدي، فدل ذلك على أن الرضاع لا يشترط فيه التقام الثدي.
إذن تبين بهذين الأثرين أنه لا يشترط في الرضاع أن يكون بالتقام الثدي، ومس جسد المرأة المرضعة، ولم يؤثر أنها أرضعته كرضاع الصغير، ومن معه دليل حجة على من ليس عنده دليل. كما أن الحافظ النووي قال: “قال القاضي: لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما، وهذا الذي قاله القاضي عياض حسن”[9].
إذن رضاعة سالم من سهلة لم يخرق فيه أي خلق من أخلاق الإسلام وآدابه فيما بين الرجال والنساء، وما كان النبي – صلى الله عليه وسلم- ليأمر بشيء ينكره الشرع المطهر، والاستدلال بهذا الحديث على احتمال مص الثدي بطريقة مباشرة غير مقبول؛ لأن النص إذا تطرق إليه الاحتمال سقط الاحتجاج به.
إذن الرضاعة لا يشترط لها مص الثدي، بل تكون بتناول اللبن بأي وسيلة كانت، وقد ظهر هذا الفعل حديثا عندما بدأت المرأة تخرج للعمل، أصبحت تحلب لبنها في إناء وتضعه في الثلاجة، لكي تقوم خادمة المنزل، وحاضنة الأطفال بإرضاعه للأطفال، ولا يعتبر هذا غير متحقق به الرضاعة؛ وأنه يشترط في الرضاعة التقام الثدي.
وإن سلمنا لكم بأنه قد رضع من ثديها كما تزعمون، فإن ذلك كان للضرورة التي أرادها النبي – صلى الله عليه وسلم-، وللحالة التي كانت بين سهلة وسالم – رضي الله عنهما – من الشعور بالبنوة الحقيقية. فكأن النبي – صلى الله عليه وسلم- أباح لها ذلك لما تقرر في نفس سهلة وزوجها أن سالما ابنهما، فتكون حالة خاصة به من هذا المعنى، وكشف العورة في تلك الحالة جائز للضرورة، فلا معارضة بين الحديث وبين قوله تعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها( (النور) كما يزعم ذلك بعض أدعياء العلم.
وأيضا، إن قدوم سهلة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ليضع لها حلا في مسألة سالم بعدما نزل قوله تعالى: )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( (الأحزاب: ٥)، فهي بذلك قد وضعت أمام نظرها أنه نزل القرآن بشأن انتهاء بنوة التبني، وسالم مولى أبي حذيفة في بيتها معها هي وزوجها، وهناك آيات تتحدث عن غض البصر بين الأجانب، وقد تغير وجه أبي حذيفة من دخول سالم عليها، وليس لهما إلا بيت واحد، وهما يعتبران سالما ابنا لهما، وقد تعلقا به تعلقا شديدا. إذن هي رصدت كل هذه التساؤلات والأفكار في ذهنها مريدة إبقاء سالم ابنا لهما، بغية التستر والحشمة، فكان ذهابها إلى رسول الله، وكان جوابه عليه الصلاة والسلام: “أرضعيه تحرمي عليه”.
من ذلك كله يتبين لنا أن دعوى تعارض حديث رضاع الكبير مع القرآن من حيث الأمر بالاحتجاب والاحتشام وغض البصر – مردودة، لما وضحنا أنه لا يشترط في الرضاعة التقام ثدي المرضعة، ولا الاختلاء بها، ولا مس جسدها للأثرين السابقين، وعلى احتمال أنه رضع من ثديها فكان هذا ضرورة خاصة بسهلة لما تقرر في نفسها هي وزوجها أن سالما ابنا لهما، ولا يتعارض هذا مع القرآن في الأمر بغض البصر، بل هو ضرورة حتمية لتلك الحالة لتصبح إحدى محارمه، ويجوز المكث معها في بيتها والنظر إليها.
ثانيا. قبول زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث رضاع سالم من سهلة – باعتباره خاصا بسالم ولا يتعداه لغيره:
لقد تقبل زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- حديث رضاع سهلة – رضي الله عنها – لسالم – رضي الله عنه-، ولم يؤثر عن واحدة منهن رفضها له رواية، بل رفضن العمل به حكما؛ لأنه خاص بسالم.
إن الزعم أن زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- أنكرن هذا الحديث ورفضنه يرد بأدلة كثيرة جمعتها كتب السنة، فقد روى هذا الحديث ثنتان من زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- وهما: عائشة وأم سلمة – رضي الله عنهما – أما حديث عائشة فهو الذي رواه الشيخان ومالك، وغيرهم من أهل السنن، وقد تقدم ذكره بتمامه في رواية مالك.
أما عن حديث أم سلمة – رضي الله عنها – فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة؛ أن أمه زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أمها أم سلمة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- كانت تقول:«أبى سائر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة…» فذكره[10].
إذن كيف يصح أن ينكر الحديث أحد رواته؟! فحجة من زعم رفض زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- لحديث رضاع الكبير باطلة، فلو كان هناك رفض، ما حدثت به! والقصة واقعة عين، وصل نبؤها إلى كل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وكذلك زوجاته؛ ولأن الحادثة كانت مظهرة لحكم جديد في الإسلام؛ وهو ماذا يفعل الأبوان مع الابن المتبنى، وقد ترك الحكم في الابن المتبنى بأن يدعى إلى أبيه… إلخ، لا سيما والتبني كان واقعا في بيت الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن طريق زيد بن حارثة – رضي الله عنه- فكان يجب على كل الحاضرين من الصحابة أن يعلموا الحكم في ذلك، أفلا يعلم الحكم في ذلك أزواجه ويحدثن به؟!
بناء على ما قلنا: ينتفي عن زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- رفضهن الحديث، ولو سملنا بأن هناك وجه رفض فلنتأمل ما صفة هذا الرفض الذي كان من نساء الرسول صلى الله عليه وسلم؟
روى مسلم في”صحيحه«أن أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم- كانت تقول: “أبى سائر أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول – صلى الله عليه وسلم- لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا»[11].
ففي هذه الرواية عن أم سلمة – رضي الله عنها – تبين الموقف الصحيح المتفق مع الحقائق الشرعية من زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم- من رضاع سهلة سالما – رضي الله عنهما – وأنهن اعتبرن هذه حالة خاصة بسالم لا تتعداه لغيره، ولا يدخل أحد على امرأة برضاعته منها وهو كبير، كما حرمت سهلة على سالم برضاعها إياه، وخالفتهم في ذلك عائشة – رضي الله عنها.
وطالما أن مطلق الرفض من زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- للحديث رواية ممنوع، فيتعين بذلك الدليل الشرعي – وهو روايتهن للحديث – أنه ثابت وصحيح عنهن، ولكنهن اعتبرنه حكما عينيا لحالة خاصة حدثت في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم- فأجاب عنها بهذا، ولا يعتبر هذا في حالة غير حالة سالم.
ومما بينا يظهر جليا أن زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يرفضن حديث رضاع سالم، بل قد روينه، واعتبرنه خصوصية ورخصة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسالم مولى أبي حذيفة، وليس حكما عاما لسائر الأمة.
رابعا. الجمهور على أن رضاع الكبير لا يحرم كالصغير:
ذهب الجمهور إلى أن رضاعة الكبير لا تحرم كالصغير، واستدلوا على ذلك بأن النبي – صلى الله عليه وسلم- اختص سهلة وسالما بهذه الرخصة دون غيرهما، وإلى ذلك ذهب مالك – رحمه الله – في الموطأ، فقد روى قصة سهلة، ودلل على خصوصية هذا الحديث بها دون غيرها – وقد سبق ذكر هذه الرواية بتمامها – وهذه الرواية التي أخرجها مالك – رحمه الله – بتمامها قد ذكر فيها أسباب اختصاص سهلة بهذا الأمر دون غيرها؛ لربطه ما حدث معها بحادثة النهي عن التبني التي أشار إليها القرآن؛ لذلك رخص لها النبي – صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر، يقول ابن عبد البر: هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به، ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه، بل تلقوه على أنه خصوص، وممن قال رضاع الكبير ليس بشيء ممن رويناه لك عنه، وصح لدينا: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة، وجمهور التابعين، وجماعة فقهاء الأمصار: منهم الثوري ومالك وأصحابه، والأوزاعي وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري، ومن حجتهم قوله – صلى الله عليه وسلم-: «إنما الرضاعة من المجاعة»… والعمل بالأمصار على هذا. وبالله التوفيق”[12].
وعلى هذا، فإن جمهور أهل العلم والفقهاء يذهبون إلى أن هذا الحديث كان رخصة من النبي – صلى الله عليه وسلم- لسهلة وسالم – رضي الله عنهما -، وهو خاص بهما فقط لا يتعداهما لغيرهما، ولا رضاعة محرمة بعد الحولين، ومن أقوى أدلتهم في ذلك – كما أشار ابن عبد البر – ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وعندي رجل قاعد. فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه. قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة.
قالت: فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة. فإنما الرضاعة من المجاعة»[13].
وعلى هذا فالحديث يدل دلالة قاطعة على أن الرضاع الذي يحرم هو الرضاع الذي يسد الجوع، فإن الكبير لا يسد اللبن جوعته، فالمدة التي يحرم بها الرضاع إنما هي في الصغر؛ حيث يسد اللبن المجاعة، وإلا لما غضب النبي – صلى الله عليه وسلم-. فالرضاعة في الكبر لا أثر لها في التحريم.
وكذلك فإن من أقوى الأدلة التي استدل بها الجمهور على أن الرضاعة المحرمة هي ما كانت قبل الحولين فقط، وما بعدهما لا يحرم شيئا، ما رواه الإمام الترمذي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام»[14].
وقد علق الإمام الترمذي على هذا الحديث قائلا: “هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا”[15].
وقد استدل الجمهور – أيضا – على قولهم هذا بما رواه الإمام أبو داود عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال رضي الله عنه: «لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم»[16].
فهذه الأحاديث تدل بوضوح على أن الرضاعة التي تحرم هي الرضاعة في الصغر دون الحولين، وأما الرضاعة في الكبر فلا أثر لها ولا تحريم، وما جاء في سالم وسهلة – رضي الله عنهما – هي قصة عين، وحكم خاص بهما لا يتعداهما.
ومما يزيد الأمر وضوحا ما قاله ابن قدامة في المغني قال: “قال أحمد: فإن من شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين، وهذا قول أكثر أهل العلم، روي نحو ذلك عن عمر وعلي، وابن عمر وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- سوى عائشة، وإليه ذهب الشعبي، وابن شبرمة، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، ورواية عن مالك، وروي عنه: إن زاد شهرا جاز، وروي شهران… ولنا قول الله تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣)، فجعل تمام الرضاعة حولين، فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما – واستدل ابن قدامة على ما ذهب إليه بالحديثين السابقين«إنما الرضاعة من المجاعة» وحديث أن ما يحرم من الرضاع ما فتق الأمعاء قبل الفطام، ثم قال: وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس، كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم”[17].
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله: “فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت؟ – يقصد أن الحديث رخصة لسالم وحده – قال: فذكرت حديث سالم الذي يقال له مولى أبي حذيفة عن أم سلمة عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضعه خمس رضعات يحرم بهن، وقالت أم سلمة في الحديث: وكان ذلك في سالم خاصة، وإذا كان هذا لسالم خاصة، فالخاص لا يكون إلا مخرجا من حكم العام، وإذا كان مخرجا من حكم العام، فالخاص غير العام، ولا يجوز في العام إلا أن يكون رضاع الكبير لا يحرم، ولابد إذا اختلف الرضاع في الصغير والكبير من طلب الدلالة على الوقت الذي صار إليه المرضع فأرضع لم يحرم. قال: والدلالة على الفرق بين الصغير والكبير موجودة في كتاب الله – عز وجل- قال الله تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣) فجعل الله – عز وجل- تمام الرضاع حولين كاملين… فإن قال قائل: فقد قال عروة: قال غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما نرى هذا من النبي – صلى الله عليه وسلم- إلا رخصة في سالم. قيل: فقول عروة عن جماعة أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- غير عائشة لا يخالف قول زينب عن أمها أن ذلك رخصة مع قول أم سلمة في الحديث: هو خاصة، وزيادة قول غيرها ما نراه إلا رخصة مع ما وصفت من دلالة القرآن، وإني قد حفظت عن عدة ممن لقيت من أهل العلم أن رضاع سالم خاص.
فإن قال قائل: فهل في هذا خبر عن أحد من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- بما قلت في رضاع الكبير؟! قيل نعم: أخبرنا مالك عن أنس عن عبد الله بن دينار، قال: «جاء رجل إلى ابن عمر، وأنا معه عند دار القضاء، يسأله عن رضاعة الكبير، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: كانت لي وليدة، فكنت أطؤها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلت عليها، فقالت: دونك، فقد والله أرضعتها، فقال عمر: أوجعها، وأت جاريتك، فإنما الرضاع رضاع الصغير» [18]… فجماع فرق ما بين الصغير والكبير أن يكون الرضاع في الحولين، فإذا أرضع المولود في الحولين خمس رضعات، كما وصفت، فقد كمل رضاعه الذي يحرم”[19].
ومما يزيد الأمر تأكيدا ما قال ابن حجر: “إن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، المطعمة من المجاعة، قال القرطبي: في قوله«إنما الرضاعة من المجاعة» تثبيت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغني به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى: )لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣) فإنه يدل على أن هذه المدة أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة فلا يعتبر شرعا”[20].
وأما الإمام النووي فقال: “واختلف العلماء في هذه المسألة، فقالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ، كما تثبت برضاع الطفل لهذا الحديث، وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا تثبت إلا بإرضاع من له دون سنتين إلا أبا حنيفة، فقال: سنتين ونصف، وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية سنتين وأيام، واحتج الجمهور بقوله تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣) وبالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا”إنما الرضاعة من المجاعة” وبأحاديث مشهورة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنهن خالفن عائشة في هذا”[21].
وقد أكد ذلك ابن القيم – رحمه الله – بقوله: “وقد قال بقول عائشة في رضاع الكبير الليث بن سعد، وعطاء، وأهل الظاهر، والأكثرون حملوا الحديث إما على الخصوص وإما على النسخ، واستدلوا على النسخ بأن قصة سالم كانت في أول الهجرة؛ لأنها هاجرت عقب نزول الآية، والآية نزلت في أوائل الهجرة، وأما أحاديث الحكم بأن التحريم يختص بالصغر، فرواها من تأخر إسلامهم من الصحابة نحو أبي هريرة وابن عباس وغيرهم، فتكون أولى”[22].
ولهذا قال شمس الحق آبادي: “وأحاديث الباب تدل على أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في حال الصغر؛ لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن، وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء، وإنما اختلفوا في تحديد الصغر، فالجمهور قالوا: مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما مستدلين بقوله تعالى: )حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣)، وقالت جماعة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان”[23].
وبهذا يتبين لنا أن هذا الحديث صحيح، ولكنه يخص سهلة وسالما – رضي الله عنهما – دون غيرهما، فهو حادثة عين لا ينبغي أن تعمم على غيرهما بعدهما.
وأما ما ذهب إليه بعض العلماء كالليث وابن حزم من أن رضاع الكبير يحرم كرضاع الصغير، وذلك أخذا برأي السيدة عائشة – رضي الله عنها – فهو رأي مرجوح، وكذلك ما ذهب إليه بعض العلماء إلى التحريم برضاع الكبير عند الحاجة، أو الحالات المشابهة لحالة سالم مولى أبي حذيفة، كابن تيمية، والشوكاني، والصنعاني فهو قول مرجوح أيضا، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء من أن الرضاع المحرم هو ما كان في الصغر؛ لقوة الأدلة الواردة في ذلك، أما ما ذهبت إليه السيدة عائشة – رضي الله عنها – في الأخذ برضاع الكبير؛ لما ورد في حديث سالم – فهو إما خاص بسالم وإما منسوخ، وقد خالفت أمهات المؤمنين السيدة عائشة ولم يأخذن بذلك، وعلى هذا سار بقية الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء المذاهب الأربعة[24].
الخلاصة:
- حديث رضاع الكبير ثابت صحيح في معظم كتب السنة – إن لم يكن كلها ـ؛ فقد أخرجه الشيخان ومالك وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وغيرهم؛ لذلك قال الإمام الشوكاني: إنه بلغ حد التواتر، وهذا يدل على صحته سندا ومتنا.
- لا يتعارض حديث رضاع سالم من سهلة مع القرآن من حيث الأمر بغض البصر، والاحتجاب عن المرأة غير المحرم؛ لأنه ورد في الأثر الصفة التي كانت ترضع بها سهلة سالما عن طريق حلب اللبن في إناء، وإعطائه له ليشربه.
- لو اعتبر أن سالما رضع من سهلة كما يرضع الأطفال، فإن ذلك لا شيء فيه لما في ذلك من الضرورة الشرعية التي تبيح مثل هذا الأمر، لاسيما والآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وقر في نفس سهلة وزوجها من اعتبار سالم ابنا لهما.
- زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- روين حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة من سهلة، ولكنهن لم يعملن به واعتبرنه خصوصية لسهلة وسالم دون غيرهما، ولذلك فقد روته عائشة، وأم سلمة – رضي الله عنهما – وأخبرت أم سلمة عن موقف أمهات المؤمنين من هذا الحديث؛ وعلى هذا فالحديث وصلهم جميعا.
- ذهب جمهور العلماء والفقهاء إلى أن رضاع الكبير لا يحرم كرضاع الصغير؛ استنادا إلى فعل الصحابة – رضي الله عنهم- والتابعين بعدهم مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم«إنما الرضاعة من المجاعة»وقوله – صلى الله عليه وسلم- أيضا: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام»، وأدلة الجمهور أقوى من أدلة غيرهم وهو الراجح الصحيح؛ وبهذا الرأي الراجح يسد باب عظيم من أبواب الفتن، حتى لا يتخذه بعض الأشرار حيلة للدخول على النساء.
(*) دفع الشبهات عن السنة النبوية، عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط2، 1427هـ / 2006م. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها، عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ / 2002م.
[1]. أخرجه مالك في”الموطأ”، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، ص222، 223، رقم (1287).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين، (9/ 34)، رقم (5088).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، (5/ 2255)، رقم (3536).
[4]. المسعط: وعاء السعوط: الدواء يدخل في الأنف، وقد يوضع في السعوط اللبن.
[5]. الحاسر من النساء: المكشوفة الرأس والزراعين.
[6]. الطبقات الكبير، محمد بن سعد بن منيع الزهري، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (10/ 257).
[7]. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، (7/ 717).
[8]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب: الطلاق، باب: رضاع الكبير، (7/ 458)، رقم (13883).
[9]. شرح صحيح مسلم، الإمام النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (5/ 2262).
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، (5/ 2256)، رقم (3541).
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: رضاع الكبير، (5/ 2256)، رقم (3541).
[12]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: محمد الفلاح، مطبعة فضالة، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (8/ 260).
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، (5/ 300)، رقم (2647). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، (5/ 2256)، رقم (3542).
[14]. صحيح: أخرجه الإمام الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، (4/ 263)، رقم (1162). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1152).
[15]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (4/ 264).
[16]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير (6/ 43)، رقم (2059). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2059).
[17]. المغني، ابن قدامة، تحقيق: د. عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، القاهرة، 1413هـ/ 1992م، (11/ 319، 320).
[18]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في الرضاعة بعد الكبر، رقم (1288).
[19]. الأم، الشافعي، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ / 1982م، (5/ 30، 31).
[20]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 52).
[21]. شرح صحيح مسلم، الإمام النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (5/ 2261، 2262).
[22]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (6/ 44، 45).
[23]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، (6/ 44).
[24]. أحاديث الرضاع حجيتها وفقهها، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ / 1994م، ص52، 53.