دعوى تعارض حديث “من رأى منكم منكرا…” مع القرآن
وجها إبطال الشبهة:
1) لا يوجد تعارض مطلقا بين الحديث النبوي وبين الآية الكريمة، فليس معنى الآية الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يدعي هؤلاء، كما أن الحديث يدل دلالة واضحة على أن الآية المذكورة قد تأولها بعض الناس على غير وجهها الصحيح، فاتخذوها ذريعة للامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2) إن الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاءت آمرة للأمة كلها، ولم تخص فئة معينة بذلك، وهذا بإجماع أهل العلم، فأيما فرد علم بالمنكر وقدر عليه فليغيره بما يستطيع، والقول بتخصيص ما عممه الله ورسوله في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفئة معينة يؤدي إلى ظهور الفتن وإشاعة الفساد.
التفصيل:
أولا. لا يوجد تعارض مطلقا بين الحديث الشريف والآية الكريمة:
إن حديث الأمر بتغيير المنكر حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([1]).
ولا يتعارض هذا الحديث الصحيح مع القرآن الكريم في شيء، والذين قالوا بتعارض الحديث مع الآية لم يفهموا الآية على وجهها الصحيح، وأولوها تأويلا يعارض الحديث ويناقضه.
قال الألوسي: وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن الاهتداء في قوله تعالى: )لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال؛ فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم، قال: “صعد أبو بكر -رضي الله عنه- المنبر منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله -عز وجل- وتعدونها رخصة، والله ما أنزل الله -عز وجل- في كتابه أشد منها: )يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب”([2]).
الثاني: أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى، ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود -رضي الله عنه- سأله رجل عن هذه الآية، فقال: “أيها الناس، إنه ليس بزمانها، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم”([3]).
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قيل له: “لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى يقول: )عليكم أنفسكم(، فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب»([4])، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم…”([5]).
الثالث: أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال، فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم.
الرابع: أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة.
الخامس: أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم، لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: )ولا تقتلوا أنفسكم( (النساء: ٢٩)، ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه، ولا يخفى ما فيه([6]).
قال الإمام النووي – رحمه الله: “وأما قول الله عز وجل: )عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم(… فالمذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الإسراء: ١٥)، وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب، فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي، لا القبول”([7]).
مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة ومتنوعة:
- قال سبحانه وتعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر( (آل عمران: ١١٠)، وقال سبحانه وتعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( (التوبة: ٧١).
ففي هاتين الآيتين دلالة على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لثناء الله تعالى على من اتصف بذلك، والثناء دلالة على طلب الفعل ممن قدر عليه.
- وقال سبحانه وتعالى: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة).
وفي هاتين الآيتين وصف لفئة من بني إسرائيل كانت تعمل المعاصي، ومع هذا كانوا لا يتناهون عن المنكر الذي يفعلونه، فحق عليهم اللعن والذم لذلك الفعل، وهما يستلزمان طلب الترك لفعل أمر محظور شرعا، وما كان محظورا وجب تركه، والإنكار على فاعله. مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
- وقال تعالى فيما يحكيه عن لقمان: )يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (17)( (لقمان).
قال القرطبي: قوله تعالى: )واصبر على ما أصابك( يقتضي حضا على تغيير المنكر، وإن نالك ضرر، فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانا، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله([8]).
- وقال سبحانه وتعالى: )فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166)( (الأعراف).
قال القرطبي: “وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة([9])، وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت، ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وقيل: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم؛ فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا؛ فعلوا على الجدار فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟! فتقول برأسها: نعم.
قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم”([10]).
ومن هذا نعلم أن الناهين عن المنكر ينجيهم الله -عز وجل- من العذاب، أما الظلمة والعتاة، فقد بين النص القرآني أن لهم سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، مما يدل على وجوب إنكار المنكر، وعدم التهاون فيه.
- وقال سبحانه وتعالى: )إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22)( (آل عمران).
قال القرطبي: دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة.. وفي التنزيل: )المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف( (التوبة: ٦٧)، ثم قال: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(، فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه… وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة، حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس، فإن تشبثوا بقوله تعالى: )أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم( (البقرة: ٤٤) ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه، لا على نهيه عن المنكر. ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه([11]).
- وقال سبحانه وتعالى: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة).
قال القرطبي: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه([12]).
إن بني إسرائيل كانوا يفعلون المنكر ولا ينهى بعضهم بعضا، فيترك بذلك المباشر وغيره، الذي سكت عن المنكر مع قدرته على ذلك، وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه ولغضبوا لغضبه.
وفي الآية: أن الله -عز وجل- أخبر أن من أسباب لعن الأمم المتقدمة خاصة بني إسرائيل: تركهم هذه الفريضة؛ تحذيرا لنا من الاتصاف بصفتهم أو أن نفعل مثل فعلهم، فنستحق مثل جزائهم.
ولما صار المنكر بين المسلمين لايستنكر ولا يستغرب، بل أصبح هو المعروف وصار المعروف منكرا مستغربا، ووالوا أعداء الله الذين كفروا خاصة اليهود والنصارى – حل بهم من سخط الله ونقمته ما لا يخفى على متأمل من تسلط أعدائهم، وانتهاك حرماتهم، وإذلال أممهم وشعوبهم، وإصابة الأمة في مقدساتها كالمسجد الأقصى وغيره. ومن ثم فعودة المسلمين إلى عزهم وكرامتهم لا يحدث إلا بسلوك السبيل الشرعي الذي سلكه أنبياء الله – صلوات الله وسلامه عليهم -، وهو السبيل الذي بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله -عز وجل- فبدأ بالأمر بأعظم معروف وهو التوحيد، والنهي عن أعظم منكر، وهو الشرك بالله.
فكان هذا هو الطريق، وهذا هو السبيل الذي علينا أن نسلكه إذا أردنا أن يرتفع ما بنا من أنواع الذل والهوان([13]).
لقد أكدت الآيات السابقة على أن من صفات المؤمنين والمؤمنات اللازمة لهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحصل الإيمان إلا لمن هذه صفته، وأن في تركه حصول الابتلاءات وانتشار الفساد الموجب لعذاب الله.
أما السنة النبوية ففيها كثير من الأحاديث الصحيحة التي تدل على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نذكر منها ما يأتي:
- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»([14]).
- وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر»([15]).
- وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء، فتوضأ ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات، فسمعته يقول: يا أيها الناس إن الله -عز وجل- يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم»([16]).
- وعن العرس بن عميرة الكندي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة: أنكرها – كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» ([17]).
- وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه»([18]).
- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك؛ فمن انتقص شيئا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره»([19]).
- وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن ناسا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة…»([20]).
- وأخرج البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل المدهن في حدود الله، والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم»([21]).
قال ابن حجر: “وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها، قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة…، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف”([22]).
وهذا الحديث عظيم جليل القدر فيه فوائد عظيمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال ابن النحاس: واعلم أن في تمثيل النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة من الفوائد منها:
- أن المسلمين مشتركون في الدين الذي هو آلة النجاة في الآخرة، كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي آلة النجاة في الدنيا، وكما أن سكوت شركاء السفينة عن الشريك الذي أراد فسادها سبب هلاكهم في الدنيا، كذلك سكوت المسلمين عن الفاسق، وترك الإنكار عليه سبب هلاكهم في الآخرة، بل في الدنيا، لما في الأحاديث الأخرى.
- أنه كما لا ينجي الشركاء من الهلاك قول المفسد، إنما أفسد فيما يخصني، كذلك لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة قول مرتكب المنكر: إنما أجني على ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، ولي عملي ولكم عملكم، وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام الذي يجري على ألسنة الجاهلين.
- أن أحد الشركاء في السفينة إذا منع المفسد من خرقها كان سببا في نجاة أهل السفينة كلهم، كذلك من قام من المسلمين بإنكار المنكر، كان قائما بغرض الكفاية عنهم، وكان سببا لنجاة المسلمين جميعا من الإثم، وله عند الله الأجر الجزيل على ذلك.
- أنه إذا أنكر منكر من أهل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها، فاعترض عليه معترض منهم، نسب ذلك المعترض إلى الحمق وقلة العقل، والجهل بعواقب هذا الفعل، إذ المنكر ساع في نجاة المعترض وغيره، كذلك لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه وقل عقله، وجهل عواقب المعصية وشؤمها، إذ المنكر قائم بإسقاط الفرض الواجب على المعترض وغيره، وساع في نجاتهم وخلاصتهم من الإثم والحرج.
- أن من سكت عن خرق الشريك السفينة مع استطاعته على الإنكار حتى غرق، آثم فيما نزل به وعاص بقتل نفسه، كذلك الساكت عن إنكار المنكر آثم بسكوته، عاص بإهلاك نفسه([23]).
- حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد أجمعت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد نقل الإجماع ذلك، ومقصودهم في ذلك الوجوب أن الأمر بالمعروف الواجب واجب، وأن النهي عن المنكر المحرم واجب، والأمر بالمعروف المستحب مستحب، والنهي عن المنكر المكروه مستحب.
قال النووي – رحمه الله: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف، قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول. وكما قال الله عز وجل: )ما على الرسول إلا البلاغ( (المائدة: ٩٩) ومثل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك. قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر… اعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا. وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر أولا عم العقاب الصالح والطالح. وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)( (النور) فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله -عز وجل- أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهادن من ينكر عليه، لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: )ولينصرن الله من ينصره( (الحج:٤٠)، وقال تعالى: )ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101)( (آل عمران). وقال تعالى: )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا( (العنكبوت: ٦٩). وقال تعالى: )أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)( (العنكبوت). واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه؛ فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته والله أعلم.
وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب. فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”، ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر. وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع، وأن يعلم المشتري به والله أعلم.
وأما صفة النهي ومراتبه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح: «فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، فقوله صلى الله عليه وسلم: «فبقلبه» معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه([24]).
قال صاحب الظلال: “وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر – كما يلوح في بادئ الأمر – وتعبير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته، فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر، إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به، وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع “المعروف” في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة، وهذا كله عمل إيجابي في التغيير، وهو على كل حال أضعف الإيمان، فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر؛ لأنه واقع، ولأن له ضغطا – قد يكون ساحقا – فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان”([25]).
قال النووي – رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: «وذلك أضعف الإيمان» معناه والله أعلم أقله ثمرة، قال القاضي عياض: رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا؛ فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى. ويغلظ على المتمادي في غيه، والمسرف في بطالته؛ إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم. فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه، وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى.
وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله.
قال إمام الحرمين الجويني – رحمه الله: ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة وإن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح. فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان قال: وإذا جار والي الوقت، وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. هذا كلام إمام الحرمين. وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه. قال: وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده([26]).
ثانيا. أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء الأمر فيها متوجه إلى عامة الأمة وليس إلى فئة معينة:
تبين – إذا – أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، كل فرد على حسب قدرته كما تبين أن ترك القيام بهذا الواجب على وجهه الصحيح يؤدي إلى وقوع المفاسد الموجبة لعقاب الله -عز وجل- في الدنيا والآخرة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر مشروع، وسبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل على أي وجه كان.
وليس فيه إتلاف مال أو نفس وإن حدث مثل ذلك في الطريق إلى المقصود – وهو إقامة الدين – فإن هذا يكون للمصلحة وليس للمفسدة.
فالأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد. فكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه مشروع للصالح([27]).
ويتسنى لنا الآن أن نقف على ضابط مهم من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهو: هل هذا الأمر من اختصاص الوالي أو بإذنه؟
فإذا ما أجبنا على هذه النقطة ووقفنا فيها على وجهها الصحيح نستطيع أن نرد كيد الحاقدين ودحض كذبهم المفترى للتشكيك في هذا الأصل الأصيل وهدمه.
إن عدم اشتراط الولاية أو إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مذهب جماهير العلماء؛ لعموم الأدلة و إجماع المسلمين على ذلك، قال تعالى: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)( (آل عمران).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطبا أمته: «من رأى منكم منكرا فليغيره».
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه؛ وذلك يختلف باختلاف الشيء؛ فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم. وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق؛ فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر([28]).
فالأمر – إذن – على العموم، ولا توجد قرينة تخصصه بالوالي أو بفئة معينة، وهذا هو فهم السلف لهذه القضية، يدل على ذلك قصة أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في حديث: «من رأى منكم منكرا فليغيره».
فالقصة إنما كانت في الإنكار على مروان بن الحكم حينما بدأ بالخطبة قبل الصلاة في العيد. فحاول أبو سعيد منعه من الخروج للخطبة قبل الصلاة فلم يستجب فقام رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. قال مروان: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا – يقصد الرجل – فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([29])، وذكر الحديث.
وفي بعض الروايات أن أبا سعيد حاول منع مروان من الخطبة قبل الصلاة فلم يمكنه. فدل ذلك على أن عوام الناس كانوا يعملون على تغيير منكرات الأئمة بأنفسهم.
ومن هنا نعلم بطلان قول من يقول ممالأة لحكام الضلال: إن التغيير بالقلب واجب العوام، وباللسان واجب العلماء، وباليد واجب الحكام، فهو تحكم باطل بلا دليل.
ولنا أن نسأل هؤلاء: لو أن العوام رأوا في الطريق العام رجلا ينتهك عرض امرأة، وهي تستغيث – كما حدث ولا زال يحدث، وإنا لله وإنا إليه راجعون – فهل نلزم العوام السكوت والاكتفاء بالتغيير بالقلب حتى لا تحصل الفوضى المزعومة لو غيروا باليد؟ أم السكوت، وعدم ردع المعتدي بالقوة هو الجريمة الحقيقية والفوضى بعينها؟([30])
ماذا تريدون لهذا المجتمع؟ وإلى أين تقودونه بهذه السلبية الفظيعة التي جعلت أكثر الناس ينظرون إلى المنكرات كأنهم أمام تلفاز أو فيلم سينمائي، مهما بلغت بشاعة الجريمة، لا يحركون ساكنا.
وإنما يشترط استئذان الإمام المسلم إذا كانت الحسبة تؤدي إلى فتنة أو قتال فيلزم الإذن لرفع الضرر لا لمجرد الإذن حتى تتحقق المصلحة المرجوة من هذا الأمر المشروع.
وبهذا يتبين أنه ما من أمر مشروع، إلا وكان فيه جلب للمصالح وما من أمر ممنوع إلا وكان في منعه دفع للمفاسد. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب مشروع، في تحقيقه الكثير من المصالح، وفي التخلي عنه الكثير من المفاسد. وهذا أمر عام لكل فرد في الأمة، ولا يوجد فيه تخصيص لفئة معينة، بطريقة دون أخرى، كالذي ادعاه هؤلاء المشككون من اقتصار التغيير باليد على الحاكم فقط دون غيره، وهذا فيه من الفتن والفوضى ما فيه.
الخلاصة:
- إن هذا الحديث الشريف لا يتعارض مع الآية الكريمة؛ بل إن كليهما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يضير الآية فهم هؤلاء لها، فقد دل الحديث على أنهم قد تأولوا الآية تأولا خاطئا.
- إن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة في الدين؛ لأن الصلاح في الدين سببه الأمر والنهي والدعوة إلى الخير، ويأتي الفساد في الدين أو في حياة الناس من ترك ما توجبه الشريعة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لهذا ولغيره صار من المسائل العظام، وعده طائفة من أهل العلم أصلا من أصول الدين ومبانيه العظام.
- إن الانتهاء عن المعاصي واجتنابها ليس كافيا أو داعيا لسقوط هذا الأمر الواجب عن كل من يستطيع القيام به، وهذا إنما جاء نتيجة للتأويل الخاطئ لقوله تعالى: )عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( (المائدة: ١٠٥).
- وهذا ما تنبه إليه سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لما وجد بعض الناس قد اتخذ هذه الآية ذريعة للامتناع عن الأمر والنهي، فبين لهم معنى الآية على وجهها الصحيح.
- لقد أجمع أهل العلم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا وجد من يقوم به من هذه الأمة. سقط عن الباقين، وإلا فإن كل قادر يمتنع عن الإنكار أو الأمر فإنه آثم.
- لما جاءت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاءت على العموم، ولا يوجد بها قرينة تخصص شخصا معينا أو فئة بعينها، بل جاء الأمر لكافة المؤمنين كل على قدر استطاعته؛ من استطاع وغير باليد وحصل المقصود منه والفائدة، ومن لم يستطع فباللسان ومن لم يستطع فبالقلب، وليس في ذلك تخصيص اليد بشخص معين، بل إن تخصيص هذا هو عين الفوضى والفتن.
- إن الأمر والنهي باليد يكون خاصا بالحاكم فقط، في حالة إذا ما كان هناك إراقة للدماء أو إفساد للأموال، ويكون هذا بعد رأي أهل العلم.
(*) المفترون “خطاب التطرف العلماني في الميزان”، فهمي هويدي، دار الشروق، مصر، ط1، 1416هـ/ 1996م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (1/ 413)، رقم (175).
[2]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (11/ 150).
[3]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (11/ 14).
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، (7/ 711)، رقم (4406). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، (6/ 2611، 26112)، رقم (4304).
[5]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (11/ 139).
[6]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، (5/ 166، 167).
[7]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 415، 416).
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (14/ 68).
[9]. الوهق: الحبل في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة والإنسان حتى تؤخذ، والأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها، إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت.
[10]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (7/ 306).
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 47، 48).
[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 253).
[13]. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. ياسر برهامي، ص31.
[14]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (1/ 413، 414)، رقم (177).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المظالم والغصب، باب: أفنية الدور والجلوس فيها، (5/ 134)، رقم (2465).
[16]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها، رقم (25294). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: حسن لغيره.
[17]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، (11/ 335، 336)، رقم (4335). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4345).
[18]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، (2/ 558، 559)، رقم (362).
[19]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: الإيمان، (1/ 70)، رقم (53). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2324): صحيح لغيره.
[20]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، (4/ 1632، 1633)، رقم (2292).
[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: القرعة في المشكلات، (5/ 345، 346)، رقم (2686).
[22]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 349).
[23]. تنبيه الغافلين، ابن النحاس، نقلا عن: القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، (1/ 35).
[24]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 416: 420).
[25]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، (2/ 951).
[26]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 420، 421).
[27]. انظر: الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، (1/ 177).
[28]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 418).
[29]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (1/ 413)، رقم (175).
[30]. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ياسر برهامي، ص31.