دعوى تعليق الإيمان بما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى ينزل آيات من السماء
وجوه إبطال الشبهة:
1) المولى – عز وجل – وحده القادر على الآيات والمعجزات، والمتصرف فيها، يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته ولا دخل لنبي أو رسول في ذلك، أما تعليق الإيمان على ذلك فهذا شأن المكذبين وأهل الضلال في كل وقت وزمان.
2) منع الإتيان بالآيات سببه تكذيب الأولين بها عنادا واستكبارا كما أن المشركين لا تقنعهم الآيات الحسية.
3) طلب المشركين واليهود من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن ينزل عليهم كتابا من السماء لم يكن بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع، ولكن كان على سبيل التعنت والتعجيز.
4) عدم استجابة الله للمشركين فيما طلبوه من آيات هو رحمة بهم؛ لأن من سنة الله في الأمم إهلاك من يكذب بالآيات بعد نزولها.
5) لو أنزل الله ملكا من السماء على البشر لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدونه، ولو جعله الله في صورة بشر لزعموا أنه بشر، فكان من رحمة الله أن أرسل إلى البشر رسلا منهم.
التفصيل:
أولا. الآيات والمعجزات عطاء الله لمن يشاء ولا دخل لنبي في ذلك، وتعليق الإيمان عليها شأن المكذبين دائما:
هذه شبهة طالما أثارتها كثير من الأمم الضالة والمكذبة لرسلها، فقوم عاد قالوا لنبي الله هود عليه السلام: )يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53)( (هود)، والذين كفروا قالوا لرسلهم: )فأتونا بسلطان مبين (10)( (إبراهيم)، أي بخارق ومعجزة نقترحها عليكم، وقوم ثمود قالوا لنبي الله صالح عليه السلام: )فأت بآية إن كنت من الصادقين (154)( (الشعراء)، وفرعون قال لموسى عليه السلام: )قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106)( (الأعراف)؛ أي: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كان معك حجة أو آية فأظهرها لنراها إن كنت صادقا فيما ادعيت، وأما المشركون والكفار فقد سألوا رسول الله مثل ذلك، فمن ذلك ما حكاه عنهم القرآن، كما في قوله سبحانه وتعالى: )وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها( (الأنعام: 109)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله( (الأنعام: ١٢٤)، كما طالبوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالكثير من الآيات التي لا يستطيعها بشر، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه( (الإسراء).
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: “وتفعلون”، قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل – عليه السلام – فقال: “إن ربك – عز وجل – يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة”، قال: بل باب التوبة والرحمة»([1]).
ثانيا. تكذيب الأولين بالآيات عنادا واستكبارا هو سبب منع الإتيان بها:
وقد رد القرآن على هؤلاء المعاندين في كل عصر بالردود التالية:
- أعلم الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن الآيات عند الله، فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته، فإن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم، فمرد الآيات إلى الله، قال سبحانه وتعالى: )قل إنما الآيات عند الله( (الأنعام: 109)، وليس لرسول الله أن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه، فليس ذلك إليه بل هو إلى الله – عز وجل – يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال سبحانه وتعالى: )وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38)( (الرعد)، فكمال الأدب معه – عز وجل – أن يفوض إليه الأمر في ذلك، كما قال الرسل لقومهم: )وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله( (إبراهيم: 11).
- بين الله – عز وجل – أن هؤلاء المعاندين من المشركين مهما أتتهم الآيات الواضحات، والبينات الظاهرات فلن يؤمنوا، وذلك لاستكبارهم وعنادهم، وكم سبقهم من أناس في التكذيب والتضليل جاءتهم رسلهم بالبينات، فما زادهم ذلك إلا عنادا فوق عنادهم، قال سبحانه وتعالى: )وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)( (الأنعام)، أي فما يدريكم بصدقهم في هذه الأيمان التي يقسمون بها، وأن هذه الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)( (يونس)، وقال أيضا: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون( (الإسراء: 59)، وقال سبحانه وتعالى: )ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)( (الحجر)، وقال أيضا: )ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9)( (إبراهيم).
وكأن القرآن يريد أن يقرر لهؤلاء أنه إذا لم تقنعهم آيات القرآن وما اشتمل عليه من أدلة نقلية وعقلية وعلمية، فلن يقنعهم ما يرونه من الآيات الحسية، بل قد يدعون أن أعينهم أصابتها آفة وخدع وتخييل، فلا ترى إلا صورا خيالية أو تحسب ذلك سحرا صناعيا، فهم دائما معاندون معارضون، قال سبحانه وتعالى: )وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4)( (الأنعام) وقال أيضا: )وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5)( (الشعراء).
- ومن ردود القرآن عليهم أمر الله لنبيه أن يقول لهم: )سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء)، أي: ما أنا إلا بشر رسول أرسلت إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وليس لي من أمر في الإتيان بهذه الآيات، فمردها إلى الله – عز وجل – إن شاء جاءكم بها، وإن شاء لم يجبكم، فأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
ثالثا. طلب اليهود وكذلك المشركين من بعدهم من النبي – صلى الله عليه وسلم – إنزال كتاب من السماء لم يكن بقصد الحجة لأجل الاقتناع ولكن على سبيل التعنت والتعجيز:
سؤال اليهود – وكذلك المشركون من بعدهم – هذا هو من قبيل تعنتهم وتعجيزهم وجهلهم بحقيقة الدين، وهذه عادتهم، وذلك شأنهم في كثير من مواقفهم مع موسى عليه السلام، ثم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من اليهود المعاصرين له، وهم هنا يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ينزل عليهم كتابا مكتوبا من السماء كالألواح التي أنزلت على موسى – عليه السلام – أو أنهم أرادوا كتابا خاصا بهم، أو أنهم كانوا يريدون لكل واحد منهم كتابا مستقلا، كما قال سبحانه وتعالى: )بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (52)( (المدثر)، فقد كان كل واحد من المشركين يريد أن ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء اليهود يطلبون ذلك من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع، ولكن على سبيل التعنت والتعجيز.
ومن رد القرآن عليهم أيضا في هذا الشأن أن بين أن هؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين لن يقفوا عند حد في مطالبهم التعجيزية، والدليل على ذلك أنهم سألوا موسى أكبر من سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – أن ينزل عليهم كتابا من السماء؛ إذ سألوه أن يروا الله علانية، وكلا السؤالين يدل على جهلهم وعنادهم، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين: إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء والرسل، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله، وبين سائر الأمور المستغربة كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة، وقد بينت لهم كتبهم أنهم يقوم فيهم أنبياء مدعون كذبة، وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير لا بمجرد آية أو أعجوبة يعملها، وإما أنهم معاندون يقترحون ما يقترحون تعجيزا ومراوغة، وأيا ما قصدوا من هذين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا.
ثم بين القرآن عقب ذلك أن هؤلاء جاءتهم البينات والآيات الواضحات من موسى – عليه السلام – كاليد والعصا وفلق البحر والحجر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى، وإنجائهم من عدوهم والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ورفع الطور فوقهم وبعثهم بعد موتهم وإنزال الألواح والتوراة، ورغم كل ذلك فقد اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم هذه الآيات، قال سبحانه وتعالى: )ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات( (النساء: 153)، فهؤلاء يطلبون منك لا على سبيل الاقتناع وإنما تعنتا وعنادا وتعجيزا؛ ولذا لن يجابوا إلى طلبهم فهم مفترون كذابون مطبوع على قلوبهم فلا يؤمنون.
رابعا. رحمة الله بالمشركين في عدم إجابة مطالبهم:
هذه المقالة كم قالها كثير من المكذبين لرسلهم الذين أرسلوا إليهم، وملة الكفر واحدة تشابهت قلوبهم، ففرعون يقول عن موسى عليه السلام: )فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب( (الزخرف: 53)، وهؤلاء يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها( (الفرقان: 8).
بل يعلق الكفار والمشركون إيمانهم على تحقيق الرسول لهم بعض الخوارق أو المعجزات فهم يقولون له: )وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91)( (الإسراء).
فهذه المطالب التي أراد المشركون من الرسول تحقيقها ما أيسرها على الله عز وجل، ولو شاء لفعل ولأجابهم على جميع ما سألوا قال سبحانه وتعالى: )تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا (10) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11)( (الفرقان)، فهو – عز وجل – علم أنهم لن يهتدوا، كما قال سبحانه وتعالى: )إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)( (يونس)، وقال أيضا: )ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله( (الأنعام: 111).
وبين الله أيضا لهم أن سنة الأمم المرسل إليهم قبلهم هي التكذيب بالآيات، وقد جرت سنة الله فيهم أنه لا يؤخر عنهم العذاب إن كذبوا بها بعد نزولها، كما قال – عز وجل – عن عيسى – عليه السلام – والحواريين بشأن قصة المائدة: )قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)( (المائدة)، وأخبر الله أيضا عن ثمود حين سألوا صالحا – عليه السلام – آية؛ فأخرج لهم الناقة من صخرة عينوها، ثم ظلموا بها وكفروا بمن خلقها وعقروها فأهلكهم الله سبحانه وتعالى: )وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)، فشأن الأمم السابقة أنهم يطلبون الآيات ثم إذا أجيبوا لطلبهم كفروا بها فعذبهم الله؛ ولذا قال الله رادا عليهم: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون( (الإسراء: 59).
ولهذا لما طلبوا ما طلبوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال الله له: «إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، قال: بل باب التوبة والرحمة»([2]).
ومن ردود القرآن عليهم أيضا قوله – عز وجل – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: )قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء)، أي يتنزه ربي عن أن يعجز عن شيء من ذلك، وما أنا إلا بشر أتبع ما يوحى إلي من ربي ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات؟!
ثم إنه ليس لي أن أتخير على ربي ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يطلبونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أومن حتى أوتي بآية خلاف ما طلب غيري، وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله عز وجل، ولذا رد عليهم فقال: )إنما أنت نذير( (هود: 12)، فعليك أن تنذرهم لا أن تأتيهم بما يقترحون من الآيات.
خامسا. الحكمة في كون الرسول من البشر:
يقترح كفار مكة أيضا أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا مؤيدا له أمامهم، إذ يرونه ويسمعون كلامه، قال سبحانه وتعالى: )لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7)( (الفرقان)، كما اقترحوا أيضا نزول الملائكة عليهم بالرسالة من ربهم، قال سبحانه وتعالى: )وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا (21)( (الفرقان).
وبذلك جمعوا بين الاقتراحين، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أخبرهم بأنه ينزل عليه الملك، وكأنهم ظنوا أن مساواتهم له – صلى الله عليه وسلم – في البشرية تقتضي مساواته في الاستعداد لرؤية الملائكة وتلقي العلم عنهم، وهذه من أقوى شبه الكفار على الوحي، فإنهم لغرورهم بأنفسهم ينكرون كل ما لا يصلون إليه بأنفسهم.
وقد رد الله عليهم هذين الاقتراحين بما يلي:
- أن الله لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا يمهلون ولا يؤخرون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا، كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم ممن قامت عليهم الحجة، وذلك أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأعطوها ولم يؤمنوا يعذبهم الله بالهلاك والاستئصال، قال سبحانه وتعالى: )ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)( (الحجر)، وقال أيضا: )يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين( (الفرقان: 22)، لكن الله – عز وجل – لا يريد أن يستأصل هذه الأمة المحمدية التي بعث فيها خاتم الرسل نبي الرحمة، إذ الرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)؛ ولذا قال الله في الرد عليهم: )وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)( (الأنعام).
- أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية كما يطلبون لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون، قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا؛ إذ لا يطيقون رؤيته، وقال أيضا: )قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)( (الإسراء).
- أن الله لو جعل الرسول ملكا لجعل الملك متمثلا في صورة بشر، حتى يتمكنوا من رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله عز وجل، ولو جعله ملكا في صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر؛ لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثل بها.
وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا، وقد كانوا في غنى عن هذا، وإنما شأنهم فيه شأن أكثر الناس فيما يوقعون فيه أنفسهم من المشكلات بسوء اختيارهم، وما يخترعونه من الشبهات بسوء فهمهم، ثم يحارون في أمر المخرج منها؛ ولذا قال – سبحانه وتعالى – في الرد عليهم: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)( (الأنعام).
- أن من رحمته – عز وجل – بخلقه ولطفه بعباده، أن أرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ليدعوا بعضهم بعضا، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال، قال سبحانه وتعالى: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم( (آل عمران:164). ولو كان جنس المكلفين في الأرض من الملائكة، لأنزل الله عليهم رسولا منهم كما قال تعالى: )قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)( (الإسراء).
الخلاصة:
- حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التي كان يقترحها المشركون على رسول الله، وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها على سيدنا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله، وأنك يا محمد صادق فيما تبلغه عن ربك، بيد أن الله لقن رسوله – صلى الله عليه وسلم – الرد المفحم لهم فقال: )قل إنما الآيات عند الله( (الأنعام: 109)، أي: قل لهم يا محمد – صلى الله عليه وسلم – إن هذه الآيات التي اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله، فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته، إن شاء أنزلها، وإن شاء منعها، أما أنا فليس ذلك إلى.
- سبب منع نزول الآيات التي يطلبونها هو فساد آبائهم وعدم امتثالهم وتكذبيهم كفرا واستكبارا، فضلا عن أنهم إذا لم يؤمنوا بالآيات القرآنية فلن تنفعهم آيات حسية أخرى، كما أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الآيات فسوف يهلكهم الله كما أهلك المكذبين قبلهم حين لم يؤمنوا بتلك الآيات الحسية التي طلبوها واستجاب الله لهم فيها. ومن ثم فعدم استجابة مطالبهم هو رحمة بهم.
- طلب اليهود والمشركون من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن ينزل عليهم كتابا من السماء كان من باب التعنت والتعجيز لا من باب الاقتناع؛ حيث إن اليهود نزلت عليهم آيات من قبل أنبيائهم فقتلوهم، والمشركون جاءتهم الآيات من قبل؛ كمعجزة شق القمر، ولكنهم لم يؤمنوا.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (النساء/ 153، الأنعام / 8، 37، 109، 124، يونس/ 20، هود/ 22، 32، الرعد/ 7، 27، إبراهيم/ 10، الحجر/ 7، الإسراء/ 90: 93، طه/ 133، الأنبياء/ 5، المؤمنون/ 24، الفرقان/ 7، 8، العنكبوت/ 50، 51، الشعراء/ 154، فصلت/ 14، الزخرف/ 53، المدثر/ 52).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (آل عمران/ 164، النساء/ 153، 154، الأنعام/ 4، 6، 7، 8، 24، 37، 109: 111، 124، يونس/ 96، 97، هود/ 12، الرعد/ 7، 27، إبراهيم/ 9، 11، الحجر/ 5، 8، 14، 15، الإسراء/ 59، 93، 95، 96، الفرقان/ 10، 11، 22، الجمعة/ 2، المدثر/ 53).
[1]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2166)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (174)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[2]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2166)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (174)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.