دعوى تفريق الإسلام بين المسلمين وأهل الذمة في الحقوق الاجتماعية
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإسلام بريء من إذلال أهل الذمة، وكل ما فيه من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وتاريخه الواقعي يشهد على حسن معاملة أهل الذمة تحت الحكم الإسلامي.
2) اعترافات أهل الذمة بسماحة الإسلام وعدله معهم، وإنصافه لهم تؤكد كذب هذه الدعوى، على حين أن الواقع يشهد بقسوة غير المسلمين على رعايا الإسلام وأهله.
3) الزي الخاص بأهل الذمة تقرر لمدة قصيرة، ولم يكن أمرا شرعيا يتعبد به، بل كان قانونا متعلقا بمصلحة زمنية للمجتمع دعت الحاجة إليه ثم زالت ولم تعتبر بعد ذلك.
التفصيل:
أولا. معاملة غير المسلمين في المجتمع المسلم في القرآن والسنة والتاريخ الواقعي:
إن الناظر في حال الأمة الإسلامية منذ عهد الفتوحات الأولى يجدها لم تظلم ذميا ولا معاهدا ولم تحرض على ذلك قط، وأني لها ذلك وقد حرمه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أشد تحريم؟! بل إن من يظلم ذميا أو معاهدا فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – خصيمه يوم القيامة!
وقد دفع هذا التعامل الحسن غير المسلمين إلى حب الإسلام واعتناقه عن طيب خاطر، فكيف يتسنى لهؤلاء أن يزعموا أن الإسلام يظلم الذميين؟!
إن نصوص الشريعة والواقع العملي والتاريخ في كل زمان ومكان، كل ذلك يشهد ببطلان هذه الدعوى، ويؤكد على أن تعاليم الإسلام كلها عدل وإنصاف وإحسان للناس جميعا مسلمين أو غير مسلمين، ويدل على ذلك ما يأتي:
- نص القرآن الكريم على حسـن معاملـة أهـل الكتـاب، قـال عـز وجـل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، وقال عز وجل: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولـوا آمنـا بالـذي أنــزل إلينـا وأنــزل إليكـم وإلهنـا وإلهكـم واحـد ونحـن لـه مسلمــون (46)( (العنكبوت)، وقال عز وجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة).
- ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[1]، وفي عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل نجران أنه: «لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر»[2].
- ولقد كفل الإسلام لأهل الذمة حقوقهم كحق الحماية من الاعتداء الخارجي والظلم الداخلي، كما حمى دماءهم وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم، وضمن لهم حق كفالة المعيشة عند العجز والشيخوخة والفقر، وأيضا كفل لهم حرية الاعتقاد والتعبد، وحرية العمل والكسب، وحرية تولي وظائف الدولة إلى غير ذلك من الحقوق.
- يشهد التاريخ على حسن معاملة أهل الذمة تحت الحكم الإسلامي، فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام.
فهذا الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تأتيه امرأة نصرانية لتقضي حاجتها، فقال لها: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر رضي الله عنه: اللهـم اشهـد، وتـلا قولـه تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة:٢٥٦) [3].
وكان لعمر – رضي الله عنه – أيضا عبد نصراني اسمه أشق، قال: كنت عبدا نصرانيا لعمر رضي الله عنه، فقال: أسلم. فأبيت، فقال: )لا إكراه في الدين(، فلما حضرته الوفاة أعتقني، وقال: اذهب حيث شئت[4].
وهذا عمرو بن العاص – رضي الله عنه – يكتب لأهل مصر عهدا جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم”[5].
وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة ممارسة شعائرهم الدينية، وأنهم لايمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلانا وجهرا كإخراجهم الصلبان، يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.
ويؤكد ذلك قول الشيخ الغزالي: إن الحرية الدينية التي كلفها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام.
وما ورد عن خالد بن الوليد – رضي الله عنه – في عهد ذمته الذي كتب لأهل الحيرة: “وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله”[6].
وفي عهد الدولة العثمانية صدر القانون 18 فبراير 1856م لإنصاف الأقليات غير المسلمة من رعايا الدولة العثمانية وإزالة مظاهر التمييز بينهم وبين المسلمين، وتقرير المساواة بين كل رعايا الدولة.
وعن مظاهر تسامح الإسلام مع غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم يوضح د. محمد بدر معبدي علامات هذا التسامح ومنها:
- الإسلام دين التسامح:
إن الإسلام كان السابق الأكبر إلى بث التسامح، وحرص أول ما حرص على الأخوة الإنسانية بين البشر؛ وربما إلى الوحدة الإنسانية مهما اختلفت الألوان وتباينت اللهجات، ولقد قرر الإسلام هذه الحقيقة في أول نداء إنساني من نوعه قبل أن تعرف ذلك المنظمات التي تنادي بحقوق الإنسان، وقبل أن تعلنها المنظمات العالمية والهيئات الدولية، يقول الله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).
وقد عمل المسلمون – في العصور المختلفة – على تدعيم الوحدة الإنسانية، ونشروا التسامح بين المسلمين وغيرهم، وقد رأينا رسولنا العظيم محمدا – صلى الله عليه وسلم – استأجر عبد الله بن أريقط وهو مشرك، ليكون دليلا له في الهجرة، ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شئ أصلا؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجد من الحكمة الاستعانة بمثل هذا الرجل ما دام أمينا، والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها.
- الاستعانة بغير المسلمين في أعمال الدولة الإسلامية:
ومما هو معلوم أن العلماء قد أجازوا لإمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين وبخاصة أهل الكتاب في بعض الشئون السياسية والحربية، ما داموا أهل ثقة وأهل عهد لايقاتلوننا، ولا يقفون حجر عثرة في طريق الدعوة الإسلامية، قال عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركـم وظاهـروا على إخراجكـم أن تولوهــم ومــن يتولهـم فأولئـك هـم الظالمــون (9)( (الممتحنة).
والإسلام وهو دين التسامح حرص على رعاية العلماء والحكماء من أهل الملل المختلفة، وقد بلغ بعض النابغين من غير المسلمين الحظوة عند خلفاء المسلمين وعامتهم، يقول الفيلسوف داربر – أحد المؤرخين الأمريكان -: “إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى واليهود وغيرهم على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرا من الأعمال الجسام، ورقوهم إلى المناصب المختلفة في الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة من يثق فيه من المسيحيين وهو “حنا مسنيه، وقال في موضع آخر: كانت إدارة المدارس مفوضة إلى المسيحيين تارة وإلى اليهود تارة أخرى، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الملة التي يتبعها أو الدين الذي يدين به؛ بل لم يكن الإسلام ينظر إلا إلى مكانة العالم من العلم والمعرفة، قال الخليفة العباسي المأمون: الحكماء هم صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وارتفعوا بقواهم عن دنس الطبيعة، هم ضياء العالم، وهم واضعو قوانينه، ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية، وقال في موضع آخر: إن العرب قد زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود ومؤدبي أولادهم من النصارى ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين.
- بعض العلماء والحكماء غير المسلمين الذي كانت لهم الحظوة في الدولة الإسلامية:
- جيورجيس بن بختيشوع: طبيب المنصور، كان فيلسوفا كبيرا علت منزلته عند المنصور، فأعلى مكانته حتى على وزرائه، ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة، وخرج ماشيا يسأل عن حاله، وحينما طلب من الخليفة أن يعود إلى بلده ليدفن فيه مع آبائه وأجداده، أمر بتجهيزه ومنحه عشرة آلاف دينار، وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب.
- بختيشوع الطبيب وجبريل ولدا يوحنا ابن ماسويه النصراني: ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة، طبية وغيرها، وخدم الرشيد من بعده إلى المتوكل، ارتفع شأنهم عند الخليفة هارون الرشيد.
- يوحنا البطريق: مولى المأمون علا قدره في زمنه، حتى صار أمينا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة.
- سهل بن سابور وسابور ابنه: وكانا نصرانيين، تولى سابور بن سهل بيمارستان جند نيسابور.
- حنين بن إسحاق النصراني: اشتهر أيام المتوكل، وكان من أشهر المترجمين لكتب أرسطو وغيره، وكان قد عرف بفصاحة العبارة، وحسن الترجمة في زمن المأمون.
- متى بن يونس المنطقي النصراني: كان متفننا في جميع العلوم العقلية، أخذ عنه أبو نصر الفارابي وانتهت إليه الرئاسة في بغداد.
ومن هنا يتضح للجميع مدى اهتمام الدين الإسلامي الحنيف بالعلماء والحكماء، وسعة صدره للغريب والقريب على السواء، دون تمييز ولا تفريق فالكل يوزن بميزان واحد، وهو ميزان العلم والحكمة.
- من التسامح كون الرسول – صلى الله عليه وسلم – داعيا فحسب:
كان من سماحة الإسلام أن أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن، لا يجبر أحدا على قبول دعوته، ولايكره الناس على الدخول في الإسلام مكتفيا بالحجة والإقناع، معلنا أنه لاسيطرة له على الضمائر، ولاسلطان له على القلوب، وظيفته الهداية والدعوة إلى الله بالحكمة والعقل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل:125).
يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحذر عاقبة الظلم والطغيان، وليس من وظيفته ولا اختصاصه إحلال الهداية في قلوب الضالين، وإيصال اليقين إلى نفوس الحيارى التائهين، إنما ذلك لله وحده، قال )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص) [7].
الدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم:
ويبين د. أمير عبد العزيز، وضع أهل الذمة في المجتمع الإسلامي وهو ما نطلق عليه الآن الأقلية السياسية وذلك تحت عنوان “الكف عن أهل الذمة والذب عنهم”: إذا عقد إمام المسلمين الذمة لأهل الكتاب، لزم المسلمون أن يكفوا عن إيذائهم البتة، بل وجب عليهم أن يحوطوهم بالصون والحماية في أنفسهم وأموالهم ومعابدهم، وأن يدفعوا عنهم الشر والعدوان الواقعين بهم، وعلى المسلمين خلاص المأسورين منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم، ذلك أن المسلمين منوط بهم أن يجمعوا أهل الذمة، وأن يذبوا عنهم وأن يدفعوا ما حاق بهم من ضرر أو اعتداء. المسلمون ملزمون بذلك كله، وذلك بموجب عقد الذمة وهو من موجباته ومعانيه أن المعقود لهم الذمة قد دخلوا في عهد المسلمين وفي أمانهم، وفي هذا يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – محذرا من الاعتداء على أهل الذمة: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[8].
وأصدق دليل على تركيز هذه الحقيقة في العدل والاستقامة، ومجانبة الجور والهوى، قوله عزوجل في محكم التنزيل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة)، إنه لا ضير ولا حيف على أهل الكتاب[9] لو كانوا في أمان الإسلام والمسلمين وفي حمايتهم ورعايتهم، لا جرم أنهم حيئنذ آمنون مطمئنون لايمسهم أحد بسوء أو مظلمة، لا في أنفسهم ولا في دمائهم ولا أموالهم.
ثانيا. شواهد الواقع على قسوة غير المسلمين، واعترافات أهل الذمة بسماحة الإسلام:
فظائع التنكيل بالمسلمين على مدار التاريخ:
أين ذلك كله من فظائع الصليبيين الغربيين الذين أذاقوا المسلمين الويلات والبلايا، وساموهم ألوانا من التنكيل والقمع والإبادة؟! ومن شواهد ذلك ما فعله الغربيون بالمسلمين في الأندلس، إذ كانت للمسلمين هنالك حضارة شامخة ساطعة ظلت منارا للعدل، والعلم، والنور إبان عزها المستطير الذي شعشع في الآفاق، وأشرق بضيائه الثاقب البهيج حتى استضاءت به أوربا كلها، ثم ما إن زحف الصليبيون صوب هذه الحضارة العظيمة حتى نكلوا بالمسلمين شر تنكيل، فاستأصلوهم استئصالا فقطع دابرهم وأكره من نجا منهم على اعتناق النصرانية، إلى غير ذلك من وجوه التعذيب والإذلال والإبادة.
وكذلك الصليبيون في بلاد الشام بأفاعليهم البشعة المشهودة وما أنزلوه بساحة المسلمين – في القدس خاصة – من ضروب التنكيل، فلم يرعوا فيهم إلا ولا ذمة، ولم يزجرهم عن إبادة المسلمين زاجر من ضمير أو دين أو حس!
فأين ذلك من سماحة الإسلام، وروعة نظامه الرحيم الفياض؟! النظام الذي حفظ لأهل الذمة حقوقهم وكرامتهم وأموالهم وعباداتهم فما مسهم أذى ولا عدوان ولا إساءة، وهذه حقيقة بلجة، يشهد لها إحسان المسلمين وبرهم بأهل الكتاب، وما كانوا يحفونهم به من العفو، والتسامح والرحمة عقب هزيمتهم الصليبيين في حطين.
أما أحفاد صهيون في فلسطين، فقصتهم المذهلة شاهد مرير على ما فعلوه بالمسلمين في هذه الديار المنكوبة، إذ شردوا أهلها تشريدا بعد أن أرعبوهم بالتقتيل والفظائع الرهيبة، حتى إذا اضطروهم للهروب طلبا للنجاة من المذابح الجماعية، استولوا على ديارهم وأوطانهم فباتت فلسطين بمدنها وقراها وسهولها ومروجها يبابا[10]، أو أثرا بعد عين. وما فتئ شعب فلسطين يكابد الضيم والظلم، ومرارة المآسي المادية والمعنوية، وكذلك التشريد بالقمع والقوة، وبما قارفه أحفاد صهيون من ترويع لهم وإبادة، مستعينين في ذلك كله بقوى البغي والطغيان في أوربا وأمريكا. أولئك جميعا مالأوا أحفاد صهيون على اغتصاب فلسطين بالبطش والإرهاب والتطهير العرقي.
وأما أخبار البوسنة والهيرسك فتلك ذروة قصوى في الطغيان والإجرام، وغاية بالغة في الترويع والظلم والشنار، فما بلغه الحاقدون الصرب من أفاعيل همجية شنيعة، وما ألحقوه بالمسلمين من فظائع وأهوال قد فاقت كل خيال، وأذهلت كل عقل وبال.
أولئك هم الأشرار القتلة الذين جاسوا ديار المسلمين في البوسنة؛ فقارفوا فيها ما لم تقارفه كواسر الوحوش في الغابات؛ بل إن الوحوش الضارية يحنو منها الكبار على الصغار.
وأخيرا ما ارتكبه الطغيان الأمريكي على الشعب العراقي المسلم؛ فقتل فيهم الأبرياء من أطفال ونساء، وطوقهم بأطواق الحرمان والتدمير، فأذاقهم مرارة الجوع والبؤس والأسقام.
فأين ذلك من كرم المسلمين وسماحتهم وعدلهم، إبان حكمهم وسلطانهم لما ساسوا الناس في قسط وبر ومرحمة، حتى إذا أحس غير المسلمين روعة الأخلاق والقيم وجمال السلوك في العدل والفضل والاستقامة، أيقنوا أن هذا الدين حق فبادروا بالدخول فيه واعتناقه عن طواعية ويقين وود.
وفي ذلك من مستفيض الدلالة على أن الإسلام وحده دين الحق والعدل والرحمة، وأنه الذي يغمر البشرية بسحائب رحمته ولطفه[11].
وعلى هذا فإن تسامح الإسلام مع أهل الكتاب بين، لا يستطيع منصف أن ينكره، والحق أن الجور يأتي من غير المسلمين، مما يؤكد أن الإسلام وحده دين الحق والعدل والرحمة.
التعصب والإسقاط وقلب الحقائق وتزوير التاريخ:
لقد اتهم الإسلام بالتعصب من قبل فئة حاقدة اعتادت على قلب الحقائق كيدا منهم للإسلام والمسلمين، كما يقول د. شوقي أبو خليل: “ومما أسقطه الغربيون – برعاية الكنيسة – علينا قولهم: “يتحتم على المسلم أن يعلن العداوة على غير المسلمين حيث وجدهم؛ لأن محاربة غير المسلمين واجب ديني”.
“في القرن السابع للميلاد برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب، لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات”.
“إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم”.
“إن الإسلام يبث في المسلمين روح البغض للأغيار والشقاق وحب الانتقام”.
تلك هي مجموع أقوالهم التي تنم عن حقد دفين لكل ما هو إسلامي، فكيف يصل التعصب بأصحابه إلى قلب المفاهيم وعكس الحقائق؟
ونركز على كلمة “تعصب”، بكل ما تحمل من معان؛ لأنه يستحيل أن يكون من نعنيهم من المستشرقين والمبشرين يجهلون أبسط الحقائق والمعارف عن الإسلام، وهؤلاء قبل غيرهم يعرفون ويعلمون علم اليقين أن كتاب المسلمين مصدر شريعتهم الأول، فرض بآيات صريحة يفهمها أبسط الناس، بما لايقبل أي التباس على المسلمين أن يحسنوا معاملة غير المسلمين أحسن معاملة؛ حيث ورد بحقهم قوله عز وجل: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (البقرة: 83)، وقوله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).
إن روح الصليبية المقيتة العمياء لا تزال تسيطر على عقول معظم المستشرقين وجل المبشرين، وتطمس قلوبهم فينفثوا سموم أحقادهم تهجمات واتهامات وإسقاطات.
يقول المبشر رايد: “إنني أحاول أن أنقل المسلم من محمد إلى المسيح، ومع ذلك يظن المسلم أن لي في ذلك غاية خاصة، أنا لا أحب المسلم لذاته، ولا لأنه أخ لي في الإنسانية، ولولا أني أريد ربحه إلى صفوف النصارى لما كنت تعرضت له لأساعده”.
فبينما يقبل المسلمون بينهم وجود أديان مغايرة لدينهم، ويرفضون إكراه أحد على ترك ملته: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، ويرضون أن يتألف المجتمع من المسلمين وغير المسلمين، ويشرعون نظما عادلة لتطبق عليهم وعلى من في ذمتهم من المسيحيين أو اليهود، بينما نفعل ذلك، نرى المسيحية تتبرم من الديانات الأخرى، وترسم سياستها الظاهرة والباطنة لإبادة خصومها أو تحقيرهم وحرمانهم، حتى ترغمهم على ترك دينهم، وتجبرهم على النصرانية جبرا.
الإسلام مد يده لمصافحة أتباع الأديان الأخرى لتحقيق التعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن، وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك.
والإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالإكراه عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم.
ولن ينسى التاريخ أن الإسلام ربط ضمير المؤمن بمثل أعلى، فالعدل قوام التعامل مع كل الناس، فلا تفاوت بسبب قرابة، أو مودة أو عداء.. ولا اعتداء على الأنفس أو الأموال أو الأعراض؛ لذلك: تحول البدو المسيحيون ببلاد الشام إلى الإسلام بالتسامح، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح، وهذا ينطبق على الشمال الإفريقي والأندلس وفارس وما وراء النهر.
ويعيش في البلاد الإسلامية على مر تاريخها مسيحيون ويهود، ويعيش مسلمون في بلاد غير إسلامية، فكيف كانت معاملة هؤلاء؟ وكيف كانت معاملة أولئك؟ فإذا طفنا في العالم الإسلامي، فهل نسمع شكاية مسيحي أو يهودي ضد المسلمين؟
أما المسلمون الذين يعيشون تحت كنف حكومات غير إسلامية، فيا للهول، إن ضروب القسوة والوحشية، التي ارتكبت في فلسطين من قبل الصليبيين، جعلت غليوم الصوري يقول: لو أراد كاتب أن يصف رذائلهم الوحشية، لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي.
ولقد سفكت دماء المسلمين في إسبانيا، عندما أصدر الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا أمرا خلاصته: لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، ويعاقب المخالفون بالموت، أو مصادرة الأموال.
وفي الفليبين، وتايلاند، وبورما، والحبشة، وغينيا، وزنجيبار، وبلغاريا، وفرنسا، وإنجلترا، وأمريكا… ما واقع المسلمين؟ إن المسلمين يلاقون من المجتمعات غير الإسلامية ألوانا من الاضطهاد والمضايقة، وعلى عكس ذلك يجدون حماية ورعاية لكل هجمة أو افتراء على دينهم ونبيهم وتاريخهم.
ولن ينسى التاريخ لمحمد الفاتح أنه حمى الكنيسة الإغريقية، وحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، وأعطى للبطريرك والأساقفة من الحصانات ونفوذ الكلمة، ما يعد بحق صورة نابضة من صور تسامح الإسلام مع أهل الكتاب، وكذلك عومل الأساقفة نفس المعاملة الحسنة في كل الولايات التي تخضع للدولة العثمانية.
“ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني – محمد الفاتح – بعد سقوط القسطنطينية، وإعادة إقرار النظام فيها، أن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية، فحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، ومنح البطريق الجديد مرسوما يضمن له ولأتباعه ولمرءوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة، والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق، وقد تسلم أجناديوس، أول بطريق بعد الفتح العثماني من يد السلطان نفسه عصا الأسقفية التي كانت رمز هذا المنصب، ومعها كيس يحتوي على ألف دوكة ذهبية”.
وليس أدل على تسامح المسلمين مع المسيحيين من كلمات ريتشارد ستبر، وهو تاجر إنجليزي كان في آسيا الصغرى – تركيا – سنة 1875م؛ حيث قارن بين المسلمين الأتراك، وبين المسيحيين في معاملة المسيحيين أنفسهم، فقال: “وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب بسيرهم في أعمال الظلام.. سمحوا للمسيحيين جميعا، للإغريق منهم واللاتين أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا، بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية، وفي أماكن أخرى كثيرة جدا، على حين أستطيع أن أؤكد بحق – بدليل اثنى عشر عاما قضيتها في إسبانيا – أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وسلعنا”.
ولم تعرف المسيحية التسامح حتى بين أتباعها إن اختلف المذهب، ولن نتحدث مطولا عن الحروب التي نشبت في أوربا إبان الإصلاح الديني، ونكتفي بمثال واحد فقط:
“ملحمة سان بارتلمى”: مذبحة أمر بها سنة 1572م شارل التاسع، وكاترينا دوميديسيس، حينما قتلت كاترينا خمسة من زعماء البروتستانت في باريس، ظنت أنهم يأتمرون بها وبالملك، ولم يكد ينتشر الخبر في باريس حتى شاع أنه شرع في قتل الخوارج؛ فانقض أشراف الكاثوليك والحرس الملكي والنبالة والجمهور على البروتستانت، وقتلوا منهم ألفي نسمة، وقد قـلـد سـكان الولايـات الفرنسـيـة – بعامل العدوى – أهل باريس، فسفكوا دماء ستة إلى ثمانية آلاف نسمة.
ولم تنل حادثة السان بارتلمى أيام وقوعها شيئا من الانتقاد في أوربا الكاثوليكية، وقد أوجبت حماسا يفوق الوصف، فكاد فيليب الثاني يصبح مجنونا لشدة فرحه يوم بلغه وقوعها، وانهالت التهاني على ملك فرنسا أكثر من انهيالها عليه لو نال نصرا عظيما في ساحة الوغى.
وما بدا السرور على أحد كما بدا على البابا غريغوار الثالث عشر، فقد أمر بضرب أوسمة خاصة تخليدا لذكراها، رسمت على هذه الأوسمة صورة غريغوار الثالث عشر، وبجانبه ملك يضرب بالسيف أعناق الخوارج، ثم قال العبارة: “قتل الخوارج”، كما أمر بإيقاد نيران الفرح، وبضرب المدافع، وبتكليف الرسام فازاري أن يصور على جدران الفاتيكان مناظرها.
ومما يؤسف له أن رجال التبشير من النصارى يتغافلون عن سماحة الإسلام، وأهله، ويكرسون مليارات الدولارات، وكل أوقاتهم، وكل نشاطهم لمحاربة الإسلام وتشويه سمعته، وسمعة رسوله الكريم، وهو الذي أمر المسلمين بحسن معاملة كل إنسان؛ احتراما لإنسانيته، أما وقوفه – صلى الله عليه وسلم – لجنازة فاحتراما وتلطفا، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال – صلى الله عليه وسلم – معلما: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا»[12].
وعلى الرغم من ذلك، يقول المستشرق الفرنسي كارا دى فو Carra de Vaux: “ظل محمد زمنا طويلا معروفا في الغرب معرفة سيئة، فلا تكاد توجد خرافة، ولا فظاظة إلا نسبوها إليه”.
وقال ليون روش في كتابه “ثلاثون عاما في الإسلام”: “اعتنقت دين الإسلام زمنا طويلا لأدخل عند الأمير عبد القادر الجزائري، دسيسة من قبل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة، فوثق بي الأمير وثوقا تاما، واتخذني سكرتيرا، فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته، فهو دين إنساني طبيعي اقتصادي أدبي.
ولم أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعا فيه، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية، فوجدتها كأنها أخذت عن الشريعة الإسلامية أخذا، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالا وكرما، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة والمعروف في عالم لايعرف الشر واللغو والكذب، فالمسلم بسيط لايظن بأحد سوءا، ثم هو لا يستحل محرما في طلب الرزق”.
هذه شهادة سياسي فرنسي أقام في بلاد المسلمين ثلاثين سنة، تعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر المسلمين في الجزائر وتونس واسطنبول ومصر والحجاز، ولا شك أنه قد اختبر بهذه المدة الطويلة أحوال المسلمين من سائر الشرائح، فهو إذا كتب يكتب عن روية وحكمة ومعرفة، لا كما كتب بروكلمان وكولي وكرومر من الأوهام والكذب والخلط؛ لأن روح التعصب كانت ترفرف فوقهم عندما كتبوا ما كتبوا.
من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضوما، فكيف بمن رأى الباطل يسقط افتراءاته على الحق ظلما وحقدا وتعصبا، والباطل على علم ويقين بأنه يفتري ويكذب، ويصم الآخرين بما فيه[13]؟
كما يقول جوستاف لوبون مشيرا إلى معاملة عبيدة بن الجراح لأهل حمص، فقد رد عليهم ما جباه منهم باسم الجزية، عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلا: “سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم”، وغادر مدينتهم منسحبا بجيشه، مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفع جند هرقل عن المدينة حمص مع عاملكم.
ويقول أيضا: “الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، إن الإسلام هو الذي أعطى المسلمين هذه الرحمة وهذا التسامح، ونحن رأينا صورا مختلفة مثل: حرب الأفيون، وأقسى منها حروب الاستعمار الحديث، وأشد منها ظلم الصهيونية وقسوتها، وحبها للدماء والعدوان والإبادة”.
ويقول توماس أرنولد عن الإسلام: “إنه الدين الذي يسمو فيه نشر الحق وهداية الكفار. إلى واجب مقدس، على يد مؤسس الدين أو خلفائه من بعده”.
ويقول جوستاف لوبون أيضا: “وكان محمد – صلى الله عليه وسلم – كثير المسامحة لليهود والنصارى خلافا لما يظن”.
ويعترف بهذه المسامحة والعدالة والمساواة قادة الدين والفكر النصراني أنفسهم، يقول البابا شنودة: إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أحسن حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد: نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل “لهم مالنا وعليهم ما علينا”.
كل ذلك مما ينفي تماما هذه الدعوى الباطلة أن الإسلام يذل أهل الذمة، وهل يصدق أحد بعد هذا مثل تلك الدعاوى المزيفة.
ثالثا. الزي الخاص بأهل الذمة ليس أمرا شرعيا يتعبد به، بل كان قانونا يتعلق بمصلحة زمنية دعت إليها الحاجة ثم زالت، ولم تعتبر بعد ذلك:
من المستشرقين المؤرخين من يتشكك في نسبة الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها، على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرا دينيا يتعبد به في كل زمان ومكان، وهو ليس أكثر من أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولامانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيلغي هذا الأمر أو يعدل.
لقد كان هذا التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرا ضروريا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي؛ فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار الأوامر والقرارات؛ ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من الفقهاء يرى ما رآه الأولون من وجوب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.
لقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد؛ فنحن نقول: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء، وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين أن لايتشبهوا بالعرب المسلمين.
فالأمر لا اضطهاد فيه، وإنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء للطوائف وأصحاب الحرف.
ناقش المؤرخ ترتون هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها، وقال: كان الغرض من هذه القواعد المتعلقة بالملابس، سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لايرقى إليه شك.
على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف مالبسه المسلمون، إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام، على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن، إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم والتشبه بهم في ثيابهم.
ومهما يكن الرأي فإن هذه الأوامر التي تحدد أنواع الملابس وأشكالها حقيقة لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية، بل إن الأمر كان للمسلمين وأهل الكتاب على السواء[14].
الخلاصة:
- نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية مصرحة بمعاملة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأصحاب الملل بالحسنى والعدل والمساواة، بل ونهت عن ظلمهم، والاعتداء عليهم وسلبهم حرياتهم.
- سيرة الخلفاء الراشدين المهديين ومن بعدهم معظم خلفاء المسلمين، وكذلك مواقف علماء الإسلام ومعاملة الشعوب الإسلامية مع غير المسلمين كل ذلك يؤكد – بشهادة التاريخ والواقع – على سماحة الإسلام والمسلمين في معاملة الآخر على عكس التعصب الأعمى والقسوة المفرطة التي يجدها المسلمون من غيرهم عندما تكون لهم الغلبة على المسلمين أو حينما يكونون أكثرية في مجتمع به أقلية مسلمة.
- ومما يشهد بذلك التاريخ الإسلامي الحافل بالمواقف المأثورة، من أن أهل الكتاب قد لاقوا من العرب المسلمين من العدل والمساواة، ما لم يلاقوه ممن كانوا يحكمونهم من الرومان والبيزنطيين، وكسرى وقيصر، بل ورحبوا بالفتح الإسلامي لبلادهم، ولقد اعترف بهذه السماحة والعدل أهل الكتاب أنفسهم على مر التاريخ إلى يومنا هذا.
- أما بخصوص الزي الخاص بأهل الكتاب؛ فإنه إنما كان قانونا يتعلق بمصلحة زمنية دعت إليها الحاجة ثم زالت، ولم يكن أمرا شرعيا تعبديا، ولذا لم نر أحدا نادى بهذا على مدى العصور الإسلامية السالفة.
(*) بين الدين والحياة: رحلة في قطار، د. عبد الحليم حفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
[1]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الجزية، ياب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).
[2]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب غزوة تبوك، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم (2126).
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.
[4]. نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس، الأردن، طـ3، 1407هـ، ج1، ص85.
[5]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص515.
[6]. سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص93.
[7]. مظاهر التسامح في العلاقة بين المسلمين وغيرهم، د. محمد بدر معبدي، مقال منشور بسلسلة فكر المواجهة، العدد 13 بعنوان: التسامح في الفكر الإسلامي، تحرير: د. جعفر عبد السلام، رابطة الجامعات الإسلامية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص135 وما بعدها.
[8]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمنة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).
[9]. أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
[10]. اليباب: الخراب.
[11]. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، مصر، طـ1، 1422هـ/2002م، ص32: 35 بتصرف.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1249)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (2266)، وفي مواضع أخرى.
[13]. أضواء على مواقف المستشرقين والمبشرين، د. شوقي أبو خليل، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، ط2، 1428هـ/ 1999م، ص215: 222. السلطة التنفيذية، د. محمد الدهلوي، دار المعارف الدولية، الرياض، طـ1، 1412هـ. حقوق الإنسان: بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص111.
[14]. سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص313، 314.