دعوى تفضيل المسيح – عليه السلام – على محمد صلى الله عليه وسلم
وجوه إبطال الشبهة:
1) دعوة الأنبياء والرسل الكرام دعوة واحدة تقوم على إفراد الله تعالى بالوحدانية المطلقة، فلا فرق في الإسلام بين نبي وآخر، ما دامت دعوتهم واحدة، فهم جميعا بشر فضلهم الله على غيرهم واصطفاهم بالرسالة والنبوة.
2) إن العتاب الوارد في القرآن الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يدل على صدور الذنب أو الخطأ منه – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كرامة له – صلى الله عليه وسلم ـ, ودليل على قربه من الله عز وجل.
3) الآية التي يستدلون بها على أفضلية عيسى – عليه السلام – هي في حقيقتها تؤكد أفضلية النبي – صلى الله عليه وسلم – على غيره من الأنبياء الآخرين.
4) علم الساعة غيب اختص الله به نفسه، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
5) كان لشق صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – حكم عظيمة، اختص الله بها نبيه دون غيره من الأنبياء.
6) النبي – صلى الله عليه وسلم – هو نبي الرحمة ونبي الملحمة، وقد شرع الجهاد دفاعا عن الحق، وليس للعدوان، كما أنه ليس صحيحا أن المسيح – عليه السلام – قد حرم القتال والحرب، بل دعا إليهما في أكثر من موقف، والشواهد من كتب أهل الكتاب على ذلك كثيرة.
التفصيل:
أولا. دعوة الأنبياء والرسل دعوة واحدة تقوم على إفراد الله تعالى بالوحدانية المطلقة:
إن الإسلام دين التوحيد الخالص، ولهذا فإن المسلم يعترف بصحة كل ما ورد عن أهل الكتاب من قول، أو حديث يؤكد توحيد الله ويدعو إليه، ومن أمثلة ذلك ما نجده في الأسفار, مصدقا لما يقرره القرآن في هذا الشأن:
- ففي الوصية الأولى لموسى – عليه السلام – ولبني إسرائيل: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور”. (الخروج 20: 2 – 5).
- وفي الوحي إلى إشعياء: “قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب وليس غيري مخلص”. (إشعياء 43: 10، 11).
- وفي أقوال المسيح وتعاليمه ما يقرر ذلك: “وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 17: 3).
- وورد في إنجيل مرقس: “فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك.. هذه هي الوصية الأولى”. (مرقس 12: 28 – 30).
وفي القرآن الكريم قال سبحانه وتعالى:)وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء), ويقول سبحانه وتعالى:)إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98)( (طه)، ويقول سبحانه وتعالى: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)[1].
هكذا نجد أن دعوة الأنبياء جميعا هي التوحيد الخالص لله عز وجل، وهذا يدل على بشرية هؤلاء الأنبياء جميعا، وأن الله اصطفاهم بهذه الرسالات وجعلهم هداة للبشرية، فهم القدوة الصالحة، فلقد اقتضت رحمة الله وعدله أن يبعث رسله إلى الأمم بهذا التوحيد، وهذه العقيدة, قال تعالى: )وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: ٣٦). فهذه الدعوة الواحدة تقتضي بشرية كل رسول من الرسل ما دام الإله واحدا لا شريك له.
ثم إن بشرية النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أكدها القرآن في أكثر من موضع, قال سبحانه وتعالى: )قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء)، وقال سبحانه وتعالى: )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94)( (الإسراء). وقد أكد القرآن أيضا على بشرية جميع الأنبياء، ومنهم عيسى – عليه السلام -، يقول سبحانه وتعالى: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة).
فهكذا وضح القرآن الكريم أن عيسى – عليه السلام – بشر، أرسله الله إلى بني إسرائيل ليصحح ما حرفوه في توراتهم, ويهديهم صراطا مستقيما.
إن المسلم يعلم يقينا أن المسيح – عليه السلام – جاء رسولا من الله إلى بني إسرائيل، وأنه كان نبيا من أفضل الأنبياء، وهو أولا وأخيرا عبد من عباد الله المكرمين، ولهذا يؤمن المسلم بكل قول في الأسفار يضع المسيح – عليه السلام – في موضعه الصحيح, ولا يتعداه بأن يجعله إلها أو ابن إله، ومن أمثلة ذلك:
- شهد المسيح أنه نبي، وذلك في قوله: “فقال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه، وبين أقربائه وفي بيته”. (مرقس 6: 4).
- وحين أحيا الميت – الابن الوحيد لأمه الأرملة – هتف الجميع بأنه نبي عظيم، فعندما: “تقدم ولمس النعش، فوقف الحاملون، فقال: أيها الشاب، لك أقول: قم، فجلس الميت وابتدأ يتكلم، فدفعه إلى أمه، فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه”. (لوقا 7: 14ـ 16).
ولقد شهد تلاميذ المسيح أنه عبد الله ورسوله ولا شيء أكثر من هذا، فها هو متى يقرر في إنجيله أن المسيح حين جاء صدقت فيه نبوءة إشعياء في الإصحاح 42، فقال: “فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه، فعلم يسوع وانصرف من هناك. وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعا. وأوصاهم أن لا يظهروه؛ لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم”. (متى 12: 14 – 21)[2].
تلك هي العقيدة التي يعتقدها المسلم في أنبياء الله ورسله، وأنهم ليسوا أكثر من عباد مكرمين، وبهذا يتضح لنا أن الأنبياء ما هم إلا بشر اصطفاهم الله وكرمهم بالنبوة والرسالة؛ ليكونوا حجة على الناس في تبليغهم ما أمرهم الله – عز وجل – به: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)( (النساء).
ثانيا. حقيقة العتاب الوارد في القرآن من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
إن عتاب الأنبياء الوارد في القرآن الكريم هو في الظاهر عتاب، وفي الحقيقة إكرام لهم وقرب لله – عز وجل ـ, وتنبيه لغيرهم ممن ليس في درجتهم من البشر بمؤاخذتهم بذلك، ليستشعروا الحذر، ويلتزموا الشكر على النعم، والصبر على المحن، والتوبة عند الزلة. فلله تعالى أن يعاتب أنبياءه وأصفياءه، ويؤدبهم، ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحصوا لعبودية الله – عز وجل ـ؛ لأن غاية أقوال الأنبياء وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله – عز وجل – لمن عاتبه منهم، أن تكون على فعل مباح، كان غيره من المباحات الأخرى أولى منه في حقهم.
ثم إن المباحات جائز وقوعها منهم، وليس فيها قدح في عصمتهم ومنزلتهم، فهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات، مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل أصبح طاعة، وقربة، وعلى هذا فليس كل من أتى ما يلام عليه يقع لومه، فاللوم قد يكون عتابا، وقد يكون ذما، فإن صح وقوع لومه، كان من الله عتابا له لا ذما؛ إذ المعاتب مسرور والمذموم مدحور[3].
ثم إن العتاب فيما قيل أنه عوتب عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إنما كان على ما حكم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالاجتهاد، والاجتهاد محتمل الخطأ، فكان تصحيح الخطأ في اجتهاده من الله – عز وجل – بتوجيهه – صلى الله عليه وسلم – إلى الأخذ بالصواب، فعاد الحكم بذلك إلى الوحي، ثم إنه ما من آية ظاهرها عتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إلا وهي واردة في مقام المنة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبيان عظيم فضله ومكانته عند ربه[4].
وخلاصة القول أن في هذا المقام أمورا ثلاثة:
- أن خطأ الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التي يتردى فيها كثير من ذوي النفوس الوضيعة، كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة، أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة، إنما كان خطؤه – صلى الله عليه وسلم – في أمور ليس لديه فيها نص صريح، فأعمل نظره وأجال فكره، وبذل وسعه، ولكن رغم ذلك كله أخطأ.
- أن الله – سبحانه وتعالى – لم يقر رسوله – صلى الله عليه وسلم – على خطأ أبدا؛ لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب، والحق للباطل، ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما يقول ويفعل، ولكان في ذلك تلبيس على الناس, وتضليل لهم عن الحق الذي فرض الله عليهم اتباعه، وثبت أن العليم الخبير لا يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا، بل لا بد أن يبين له وجه الصواب، ويكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب؛ لطيفا أو عنيفا، توجيها له وتكميلا، لا عقوبة وتنكيلا.
- أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يرجع إلى الصواب الذي أرشده إليه مولاه دون أن يبدي غضاضة، ودون أن يكتم شيئا مما أوحي إليه من تسجيل الأخطاء عليه، وفي ذلك أنصع دليل على عصمته وأمانته، وعلى صدقه في كل ما يبلغ عن ربه، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه، ولكنه تنزيل العزيز الرحيم[5].
وبهذا يتبين لنا أن العتاب الوارد في القرآن الكريم في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس فيه ذم للنبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا إثبات ذنب له، ولكنه يدل على مدى قربه من الله تعالى ومنته عليه بأن وجهه التوجيه الصحيح.
ثالثا. الآية التي يستدلون بها على أفضلية عيسى – عليه السلام – هي في حقيقتها تثبت وتؤكد أفضلية النبي – صلى الله عليه وسلم – على غيره من الأنبياء والرسل:
يقول الله: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( (البقرة: ٢٥٣).
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره: إن كل أعمال الحق – عز وجل – تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء، إذن هو سبحانه حين يعطي مزية، أو يعطي خيرا، أو يعطي فضيلة، يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
وحينما قال الحق:)وإنك لمن المرسلين (252)( (البقرة) جاء بعدها بالقول الكريم: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: 253), وأعطانا نماذج التفضيل فقال: )منهم من كلم الله( يأتي في الذهن مباشرة موسى – عليه السلام ـ, وإلا فالله – عز وجل – قد كلم الملائكة, وبعد ذلك يقول الحق:)ورفع بعضهم درجات(، ثم قال:)وآتينا عيسى ابن مريم البينات( إنه سبحانه قد حدد أولا موسى – عليه السلام – بالوصف الغالب فقال: )كلم الله(، وكذلك حدد سيدنا عيسى – عليه السلام – بأنه قد وهبه الآيات البينات، وبين موسى – عليه السلام -، وعيسى – عليه السلام – قال الحق: )ورفع بعضهم درجات(، والخطاب في الآيات لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يصرح القرآن باسم محمد, من باب إخفاء المعلوم؛ لأنه لا يستحق هذه المكانة سوى رجل واحد, ولن يكون غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جعله الله تعالى في الوسط بين موسى وعيسى؛ لينبه على فضله عليهما, فإن واسطة العقد هي أفضل شيء فيهما وهذا المفهوم شائع في لغة العرب, ومن ذلك قول الشاعر:
توخى[6] حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولكن هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن كلهم بلا حدود في المكان، إلى أن تقوم الساعة، إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل، فهو لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أيد الله بها رسله؛ ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات، قد جاءت معجزات كونية، أي معجزات مادية حسية, الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى – عليه السلام – وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى – عليه السلام – يبرئ الأكمه والأبرص، فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود, ولا يؤمن بمثل هذه المعجزات إلا من يؤمن بصدق الخبر.
إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – حينما يشاء الله أن يؤيده بمعجزة، لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسوسات التي تحدث مرة واحدة وتنتهي – رغم أنه كانت له معجزات حسية كثيرة، إنه سبحانه قد جعل رسالته إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولا بد أن تكون معجزته غير محسوسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن، ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله، وتلك معجزته.
إن معجزة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – هي واقع محسوس، وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا يبلغون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهو الرسول الوحيد الذي قال الله عنه:)وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧). وقد اختصه الله تعالى بالتشريع، أليست هذه مزية؟ وأيضا تفضيل من الله سبحانه وتعالى.
إذن حين يقول الله سبحانه وتعالى: )ورفع بعضهم درجات(, فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو أفضل من التصريح بالاسم[7].
وقد روي عن جابر – رضي الله عنه ـقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» [8].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه ـقال: قال – صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع»[9].
فمحمد – صلى الله عليه وسلم – لا يفخر بذلك، إنما يتحدث عن نعم الله التي أعطاها له وأكرمه بها لقوله سبحانه وتعالى: )وأما بنعمة ربك فحدث (11)( (الضحى). فهو سيد المتواضعين وإمام المتقين، فقد شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فلن تقبل “لا إله إلا الله” إلا مقرونا بها “محمد رسول الله”، ولا يصح الإيمان بالله مع الكفر بمحمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان مقترن بالتصديق بالله وأن محمدا رسول الله.
لذا فقد أخذ الله ميثاق جميع الأنبياء والرسل إن أدركوا محمدا أن يؤمنوا به وينصروه، قال سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)( (آل عمران).
وقد خصه الله دون غيره بست لم يعطها أحد من الأنبياء قبله، ففي الحديث: عن أبي هريرة – رضي الله عنه ـأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» [10].
ففي هذا الحديث يخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن الله فضله على غيره بست، أوتي جوامع الكلم، وذلك بأن يجمع في القول الوجيز المعاني الكثيرة, ونصر بالرعب، وذلك بما يلقيه الله في قلوب أعدائه من الخوف من رسوله وأتباع رسوله – صلى الله عليه وسلم ـ, وأحلت له الغنائم، وكانت غنائم من قبلنا من الرسل وأتباعهم تجمع، ثم تنزل نار من السماء تحرقها, وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركت رجلا من هذه الأمة الصلاة، فبإمكانه أن يتوضأ، فإن لم يجد يتيمم، ثم يصلي في مسجد مقام، أو في منزل في الصحراء, وأرسل إلى الناس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم وأحمرهم، من كان في وقت بعثته ومن يأتي من بعده حتى تقوم الساعة: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا( (الأعراف: ١٥٨), وأرسله إلى الجن كما أرسله إلى الإنس، وقد رجع وفد الجن بعد استماع القرآن، والإيمان بما نزل من الحق، داعين قومهم إلى الإيمان: )يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32)( (الأحقاف), والفضيلة السادسة أنه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده: )ولكن رسول الله وخاتم النبيين( (الأحزاب: ٤٠). وإذا كان رسولنا خاتم الأنبياء، فهو خاتم المرسلين من باب أولى، ذلك أن كل رسول هو نبي لا شك في ذلك، فإذا كانت النبوة بعد نبينا ممنوعة مقطوعة، فالرسالة ممنوعة أيضا؛ لأن الرسول لا بد أن يكون نبيا.
ومعنى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين أنه لا يبعث رسول من بعده يغير شرعه، ويبطل شيئا من دينه، أما نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان، فهو حق – كما أخبر به المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لا ينزل ليحكم بشريعة التوراة أو الإنجيل، بل يحكم بالقرآن، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويؤذن بالصلاة[11].
وبهذا يتبين لنا أن الآية التي يستشهدون بها على أفضلية عيسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم -، هي في حقيقتها تثبت أفضلية النبي – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء والناس كافة.
رابعا. علم الساعة غيب اختص الله به نفسه، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا:
إن الآية التي يستشهدون بها على علم عيسى – عليه السلام – للغيب توضح أن نزول عيسى – عليه السلام – علامة من علامات الساعة قبيل وقوعها، فليس لديه علم بوقت وقوعها.
إن علم الساعة أول مفاتح الغيب الخمسة التي هي من مكنونات علم الله، يقول تعالى: )إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)( (لقمان)، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مفاتح الغيب خمس: )إن الله عنده علم الساعة(»[12].
وقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الساعة، فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»،[13] وكان السائل جبريل – عليه السلام – متمثلا في صورة بشر، فإذا كان أعلى الملائكة منزلة، وهو جبريل، وأعلى البشر منزلة وهو محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يعلمان متى تكون الساعة، فحري أن يكون غيرهما أكثر جهلا بهذا الأمر.
وقد صرح القرآن أن وقت وقوعها من خصائص علم الله، ولذا فإنه لم يطلع أحدا على وقت وقوعها، لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)(
(الأعراف), وقال في آية أخرى: )يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63)( (الأحزاب).
وقال سبحانه وتعالى أيضا: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها (43) إلى ربك منتهاها (44)( (النازعات).
وهذه الآيات وغيرها واضحة الدلالة على أن معرفة الوقت الذي تكون فيه الساعة لا يعرفه إلا رب العزة – عز وجل -، وأنها تأتي بغتة، وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يدري متى هي[14].
أما عن تفسير قوله سبحانه وتعالى:)وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)( (الزخرف)، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الضمير في: )وإنه لعلم للساعة( مراد به القرآن، وبذلك فسره الحسن وقتادة وسعيد بن جبير… ومعنى تحقيق أن القرآن علم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم، وهذا معنى ما روي من قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى»[15]. والمشابهة في عدم الفصل بينهما، وإسناد (علم الساعة) إلى ضميرالقرآن إسناد مجازي؛ لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه[16].
هذا وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى “أي: أن عيسى – عليه السلام – علامة على قرب الساعة، قال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم: إن خروج عيسى – عليه السلام – من علامات الساعة؛ لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة” [17].
وجاء فيها أيضا: أنه قد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى – عليه السلام – إلى الأرض قبيل الساعة، وهو ما تشير إليه الآية::)وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم( بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها، والقراءة الثانية “وإنه لعلم للساعة” بمعنى أمارة وعلامة.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه ـقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، حتى لا يقبله أحد» [18].
وعن جابر – رضي الله عنه ـقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء, تكرمة الله تعالى لهذه الأمة» [19] [20].
إذن يتبين من تفسير هذه الآية، أنها لا تحمل أية دلالة على علم عيسى – عليه السلام – بالساعة، أو بوقتها، فعلم الساعة قد استأثر الله – عز وجل – به نفسه، ولم يجعله لأحد غيره.
خامسا. كان لشق صدر النبي حكم عظيمة اختص الله بها نبيه – صلى الله عليه وسلم – دون غيره من الأنبياء:
إن عملية التنقية التي حدثت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو صغير، تدل على عصمة الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – من وساوس الشيطان حتى لا يجد الشيطان سبيلا إلى نفسه، وذلك إعداد له لبلوغ المنزلة الرفيعة التي تؤهله للتلقي عن الله – عز وجل – في المستقبل، وهذا من رحمة الله ورعايته لعبده ورسوله الذي اصطفاه.
يقول الشيخ محمد الغزالي عن هذه الحادثة: “وشيء واحد يمكن استنتاجه من هذه الآثار، أن بشرا ممتازا كمحمد – صلى الله عليه وسلم – لا تدعه العناية عرضا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس, فإذا كانت هناك موجات تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها, فقلوب النبيين – بتولي الله لها – لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة، ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدني، وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته” [21].
ويشير العلامة السبكي إلى الحكمة البالغة من هذه الحادثة بقوله: “لو خلق سليما منها لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته, فأظهره الله على يد جبريل – عليه السلام – ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل ظاهره”.
وبهذا فقد أنعم الله على عبده ورسوله بعصمته من الشيطان حتى أصبح المثل الكامل للنقاء والصفاء، وهذا من تباشير النبوة وعلاماتها الواضحة التي سبقت مبعثه صلى الله عليه وسلم [22].
سادسا. المسيح – عليه السلام – لم يحرم قتال الأعداء، والشواهد على ذلك كثيرة:
إن الجهاد الحقيقي الذي يريده الإسلام جهاد ضد الطغاة الذين يعتبرون الشعوب قطيعا من الغنم، وجهاد ضد البغاة الذين لا يعترفون لإنسان بأي حق، وجهاد ضد الظلم الذي لم يترك الإنسان آمنا فوق هذه الأرض, وجهاد ضد الفساد الذي فشا، وانتشر حتى في دور العبادة, وجهاد ضد الإذلال الذي جعل الحياة جحيما يصطلي الناس بناره، دون سبب واحد يبرر هذا الإذلال أو هذا القهر.
وقد يحلو للبعض أن يتحدث عن ” محمد القاتل” – قاتلهم الله – وقد يصفون عبقريته العسكرية، ولكنهم يخطئون الخطأ الجسيم حين يعذلون هذا الجانب عن الجوانب الأخطر والأهم من سيرته الشريفة، لقد قاتل حين كان سفك الدم قصاصا لضمان الحياة، أو حين يأمر بقتل مجرم، ولا يرون الطبيب قاتلا حين يأمر ببتر عضو فاسد، إن القتال الذي خاضه محمد – صلى الله عليه وسلم – وصحبه كان في سبيل الله، وما كان في سبيل مأرب شخصي، أو مجد ذاتي، أو توسع إقليمي، أو غرض آخر مما ألف المؤرخون في سير القادة، والساسة على اختلاف العصور [23].
إن نبي الملحمة، هو نبي الرحمة، هو نبي الصلاة والزكاة، والبر والتقوى، شخصية متكاملة التقت فيها أمجاد الإنسانية الرفيعة كلها… لقد كان جهاده جهادا في سبيل الله، لم يكن إشباعا لغرور، ولا تمشيا مع طمع، ولا جريا وراء جاه، ولا عصبية لجنس ولا دعما لباطل في هذه الحياة، بل كان منعا للشرك أن يقهر التوحيد، وأن يصد عن سبيل الله، ومنعا للظلم أن يجتاح الحقوق، ومنعا للقوة أن تمحق العدل[24]، لم يكن جهاده – صلى الله عليه وسلم – للقتال ذاته، ولا حبا في إراقة الدماء كما يزعمون، بل لدرء الشر، ودفع البغي والعدوان، وحماية الدعوة، وكف الطغيان والباطل عنها.
جهاد يحرم قتل الطفل والضعيف والشيخ والمرأة، ويحترم دور العبادة، ويحرم قطع شجرة، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويأمر برعاية الجرحى والرفق بالأسرى, جهاد يحرم قتل شاة أو بقرة، إلا في حالة الضرورة القصوى, جهاد يستهدف السلام والعدل، وإقامة دولة الإخاء، والمساواة فوق هذه الأرض.
يقول الله تعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( (190) (البقرة)، ويقول تعالى: )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)( (النساء).
هذا هو الجهاد في الإسلام, أما عن الجهاد أو الحرب في الكتاب المقدس، والتي يؤمن بها كل يهودي أو مسيحي مخلص فقد جاء:
- “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما”. (التثنية 20: 10 – 16).
- “ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف؛ لأن حاصور كانت قبلا رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف، حرموهم[25] ولم تبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرمهم كما أمر موسى عبد الرب. غير أن المدن القائمة على تلالها لم يحرقها إسرائيل، ما عدا حاصور وحدها أحرقها يشوع. وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم. وأما الرجال فضربوهم جميعا بحد السيف حتى أبادوهم. لم يبقوا نسمة”. (يشوع 11: 10 – 14).
إن هذه التعاليم الإلهية في نظر اليهود والنصارى هي أساس الصلات بين المسيحيين وخصومهم، هي التدمير الذي يسقط جثة الأب إلى جوار ولده، إلى جوار امرأته.. ثم يهدم البيت فوق الجميع.
هذه هي المبادئ والأسس التي لا يتورع أصحابها من اتهام الإسلام بأنه انتشر بالسيف..
ألم يقل المسيح – عليه السلام – بالنص: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته”. (متى 10: 34 – 36).
ألم يقل كذلك: “جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت.. أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم: بل انقساما”. (لوقا: 11: 49 – 51).
وقال المسيح أيضا: “حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء، فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الآن من له كيس فليأخذه، ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا؛ لأني أقول لكم: إنه ينبغي أن يتم في أيضا هذا المكتوب: وأحصى مع أثمة؛ لأن ما هو من جهتي له انقضاء، فقالوا: يا رب، هوذا هنا سيفان، فقال لهم: يكفي”. (لوقا 22: 35 – 38).
ويقول في موضع آخر: “ولأني أقول لكم: إن كل من له يعطى، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه. أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي”. (لوقا 19: 26، 27)[26].
وعليه فلا مجال للقول بأن المسيح – عليه السلام – قد جاء للعالم بالسلام وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – قد جاء بالسيف، فكلاهما نبي من عند الله مهمته هي تبليغ الناس رسالة ربهم، ونحن – المسلمين – مطالبون بأن نؤمن بكل الأنبياء وبكل ما أنزل عليهم من ربهم دون تفرقة بين أحد منهم، يقول تعالى: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).
الخلاصة:
- لا فرق في الإسلام بين نبي وآخر ما دامت دعوتهم واحدة وهي: إفراد الله – عز وجل – بالوحدانية المطلقة؛ لذلك فهم جميعا بشر فضلهم الله واصطفاهم بالرسالة والنبوة دون غيرهم من البشر الآخرين.
- العتاب الوارد في القرآن الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – ليس فيه ما يثبت الذنب والخطأ له – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو زيادة في التقرب إلى الله – عز وجل ـ, فالعتاب لا يصدر إلا من حبيب لحبيبه، ثم إنه كان في اجتهاد لم ينزل فيه حكم.
- إن الآية التي يستدلون بها على أفضلية عيسى – عليه السلام – تثبت وتؤكد الأفضلية للنبي – صلى الله عليه وسلم – على غيره من الأنبياء والرسل، بما اختصه الله – عز وجل – من خصوصيات ثبتت له – صلى الله عليه وسلم ـ, وهذه الآية هي: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( (البقرة: ٢٥٣). وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: )ورفع بعضهم درجات(.
- لقد اختص الله – عز وجل – نفسه بعلم الغيب، ومنه قيام الساعة، فلم يطلع على قيامها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، ولكن أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بعلامات تكون قبل قيامها لينبهنا إذا وقعت هذه العلامات أن الساعة قد اقتربت، ومنها كما في الآية نزول سيدنا عيسى – عليه السلام – ليحكم بالعدل ويقتل الدجال، وهذا هو تفسير الآية كما ورد في الأحاديث الصحيحة بذلك:)وإنه لعلم للساعة( (الزخرف: ٦١).
- اختص الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بمعجزات لم تحدث لغيره، ومنها شق صدره، وقد كان لهذا الحادث حكم عظيمة، منها انتزاع حظ الشيطان من قلبه، حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل، وتعليمه الحكمة التي أرادها الله – عز وجل ـ, وتعليم البشر أن كل إنسان يولد ومعه حظ الشيطان فلا بد أن يتغلب عليه.
- لم يحرم المسيح – عليه السلام – القتال والحرب على أتباعه – كما يدعون -، بل دعا إليهما في حالات كثيرة، ومن ذلك قوله: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا”, فكيف يدعون أنه لم يدع إلى قتال ولا حرب؟! لكن ننبه إلى قتال الأنبياء يكون لدفع الشر، ودحض الباطل وحماية الحق، وكذلك كان قتال محمد – صلى الله عليه وسلم – وجهاده.
(*) الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق مكتبة وهبة، مصر، 1407هـ/ 1987م.
[1]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص27، 28 بتصرف يسير.
[2]. الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1998م، ص35 بتصرف.
[3]. المدحور: المطرود.
[4]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168، 169 بتصرف.
[5]. مناهل العرفان في علوم القرآن، د. محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص313 بتصرف يسير.
[6]. توخى: قصد وتعمد.
[7]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص1071: 1073 بتصرف.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، أوائل كتاب التيمم (328)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).
[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق (6079).
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1195).
[11]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص217: 219 بتصرف يسير.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الأنعام (4351)، وفي مواضع أخرى.
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام (50)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله (106).
[14]. القيامة الصغرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص124 بتصرف يسير.
[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2042).
[16]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د.ت، مج12، ج25، ص242، 243 يتصرف يسير.
[17]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، د. ت، ج2، ص1325.
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب قتل الخنزير (3264)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (406).
[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (412).
[20]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص3198، 3199 بتصرف يسير.
[21]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص66، 67 بتصرف.
[22]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص308، 309 بتصرف يسير.
[23]. فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء، محمد الغزالي، دار الاعتصام، مصر، د. ت، ص139: 141.
[24]. محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبي الرحمة، سعيد عامر، طبعة خاصة، مصر، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص242: 244 بتصرف.
[25]. حرم: قتل.
[26]. بنديكت السادس عشر، د. عبد الودود شلبي، كتاب المختار، القاهرة، 2007م، ص105: 110.