دعوى تكفير بعض الحكام بحجة أنهم لا يحكمون بما أنزل الله، ووجوب الخروج عليهم
وجوه إبطال الشبهة:
1) الحكم بالكفر يتوقف على توفر بينات من الأقوال والأفعال، ليس من بينها بالضرورة عدم تحكيم شرع الله؛ إذ قد ينتج ذلك عن ضعف عزيمة، أو ركون إلى شهوة، أو استبداد أو مصلحة دنيوية، مع عدم إنكار صلاحية شرع الله للتطبيق.
2) لتغيير المنكر – ومن صوره الخروج على الحاكم – مراتب، ولاستعمال القوة في سبيله شروط وضوابط، يجب أن تتوفر قبل الشروع في الخروج عليه، درءا للمفسدة وجلبا للمنفعة.
3) هناك فرق شاسع بين نظرية الإمامة الشرعية في الفكر السياسي الإسلامي، وبين كثير من ملامح الخلافة التاريخية التي جرى بها الواقع التاريخي للأمة، وقد خلط كثيرون من المستشرقين المغالطين وتلامذتهم من المتغربين بين الأمرين؛ إما عمدا، وإما جهلا.
التفصيل:
أولا. بينات الحكم بالكفر ومدى انطباقها على من لم يحكم بشرع الله:
بدهي القول بأن العقيدة هي أعز ما يملك المسلم، ومن ثم فإن رميه بالكفر بها والمروق منها أمر دقيق شائك، بل عظيم خطر؛ فيجب التثبت فيه والتحوط والتدقيق قبل إطلاق الحكم، لما يترتب عليه من نتائج بالغة الخطورة، خصوصا إذا لم يكن الشخص المقصود فردا عاديا، وكان ولي أمر جماعة مسلمة أو حاكما من حكام المسلمين، لفرط حساسية الأمر وجسامة آثاره، ومن ثم فلا بد أن تقوم البينات الواضحات على الكفر، قبل الحكم به من قول: كصدور تعبير صريح يتضمن إنكارا لمعلوم من الدين بالضرورة وجحودا به، أو فعل: كسجود لصنم.
وبناء عليه فقد توقف العلماء وتحوطوا في مسألة الحكم بالكفر على الحاكم المسلم الذي لايحكم بما أنزل الله، ويقول الشيخ ابن باز في هذه القضية: “لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه. قال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).
فالكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، والفسق فسقان: أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها، فقد كفر كفرا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر وظلمه ظلما أصغر، وهكذا فسقه. أي: إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم، ويعتبر كافرا كفرا أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.
فمن حكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن أربعة أمور:
- من قال: أنا أحكم بهذا – يعني القانون الوضعي – لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفرا أكبر.
- من قال: أنا أحكم بهذا؛ لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرا أكبر.
- ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرا أكبر.
- ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرا أصغر لا يخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر.
فإذا تقرر أنها مسألة اجتهادية، فإن التكفير للأعيان لا يكون في المسائل المتنازع فيها بين أهل السنة أنفسهم، وأن الخلاف مانع من تكفير المعينين.
ويؤكد هذ قول الإمام محمد بن عبد الوهاب: أركان الإسلام خمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة: فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان – أي تركهما – وقال النووي في كتابه “رياض الصالحين” في تفسيره “بواحا” – كفرا بواحا – أي: ظاهرا لا يحتمل تأويلا، ومما يؤكد هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، فالتكفير من باب أولى يدرأ بشبهة الخلاف، والله أعلم”[1].
ثانيا. قواعد الشريعة الإسلامية الضابطة لتغيير المنكر في فكر الإنسان وسلوكه:
لقد ربطت الشريعة الإسلامية بين دنيا الإنسان وأخراه، وبين عبادته وعمله، وبين فكره وسلوكه، وبين عقيدته ومعاملته، وبما أنها – بناء على هذا – قد اهتمت بولاية أمر الأمة ومن يسوسها ويقودها، وقالت بضرورة إقامة إمام لجماعة المسلمين، فقد حددت لهذا الإمام حقوقه وواجباته، وبينت مسئولياته وقيدت سلطته، فلم تدعها مطلقة بلا مراجعة أو محاسبة، سابقة – أي الشريعة الإسلامية – بذلك كل النظم القانونية الحديثة.
وحول نظرية “تقييد سلطة الحاكم في الشريعة الإسلامية” يقول د. عبد القادر عودة: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف، وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يجاوزوها وجعلتهم مسئولين عن أخطائهم.
وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية:
- وضع حدود لسلطة الحاكم:
كانت سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة الإسلامية سلطة مطلقة؛ لاحد لها ولا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته، فكلما كان قويا امتد سلطانه لكل شئ، وإن ضعف انكمشت سلطته وأصابها القصور والوهن، وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة، لا لأنه يحكمهم، بل لأنه أقوى منهم.
وجاءت الشريعة فاستبدلت بهذه الأوضاع البالية أوضاعا جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة، لا قوة الحاكم أو ضعف المحكومين، وتركت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدودا ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلا، وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها، وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.
والإمامة أو الخلافة – كما يرى الفقهاء – عقد لا ينعقد إلا بالرضى والاختيار، وبموجب هذا العقد يلزم الإمام، أي الحاكم، أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج، بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله على رسوله، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما أن تسمع له، وتطيع أمره ما لم يتغير حاله، فيصبح فاسقا أو يعجز عن مباشرة عمله، فإذا تغيرت حاله انعزل بفسقه أو عجزه.
فسلطة الإمام – أي الحاكم في الشريعة – ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها، وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء واجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقا لقوله عزوجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله( (المائدة: ٤٩)، وقوله عزوجل: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)( (الجاثية)، وقوله عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا طاعة لمخلوق في معصية الله»[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف»[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر – أي العبد المسلم – بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[4].
وبعد موت الرسول – صلى الله عليه وسلم – اختار المسلمون أبا بكر – رضي الله عنه – خليفة عليهم، فكانت أول خطبة يقولها تطبيقا دقيقا لهذه النصوص، حيث قال رضي الله عنه: “أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”[5].
وولي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر – رضي الله عنهما – فكان حريصا على إظهار معإني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوما فقال: “لوددت إني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه”، فقال طلحة: “وما عليك لوقلت: وإن تعوج عزلوه”، قال: “لا، القتل أنكل لمن بعده”[6].
هذه هي نظرية الشريعة التي جاءت بها في وقت كانت فيه سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، وهذه النصوص التي تقوم عليها النظرية جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، بحيث تنطبق في كل زمان ومكان، ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات.
- مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه:
لقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية، في تقييد سلطة الحكام، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة على الحكام، وأول قانون وضعي اعترف بعد الشريعة بسلطان الأمة على الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر، أي بعد أن قررت الشرعية نظريتها بأحد عشر قرنا، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية.
وتسير القوانين الوضعية في تقرير النظرية على هدي الشريعة الإسلامية، فتجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين الدستور الوضعي الذي يبين حقوق الأفراد والجماعات والحكام ومدى سلطة كل، كما جعلت النظرية الشرعية الحد بين الحاكمين والمحكومين نصوص الشريعة وهي الدستور الإسلامي[7].
وأقوال علماء الشريعة صريحة في أن للأمة حق القوامة على الحاكم، وهذه طائفة من أقوالهم في هذا الشأن:
- قال الشافعي: “الإمام ينعزل بالفسق والجور. وكذا كل قاض وأمير”.
- قال البغدادي: “ومتى زاغ عن ذلك كانت الإمامة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم، أو عدل عنهم”.
- قال الماوردي: “ووجب له عليهم حقان ما لم يتغير حاله، والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، والثاني: نقص في بدنه”.
- وقال الشهرستإني: “وإن ظهر بعد ذلك جهل أو جور أو ضلال أو كفر، انخلع منها أو خلعناه”.
- وقال الغزالي: “إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان”.
- وقال الإيجي: “وللأمة خلع الإمام وعزله، بسبب يوجبه”.
- وقال ابن حزم: “فهو الإمام الواجب طاعته، ما قادنا بكتاب الله – عزوجل – وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن زاغ عن شيء منها منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولي غيره”.
ويعلق د. ضياء الدين الريس على هذه الأقوال بقوله: “فهذه مجموعة من أقوال بعض كبار الأئمة المجتهدين في الإسلام، وكلها تثبت إثباتا جازما أن الإمام الذي هو رأس الدولة، مسئول أمام الأمة، وأنه خاضع للقانون، وتقرر بكل جلاء أن الأمة قوامة عليه، ولها حق تقويمه أو عزله حين توجد الأسباب لذلك، فلها السلطة العليا وهي إذن صاحبة السيادة بالنسبة إليه”[8].
- تخويل الأمة حق عزل الحاكم:
قررت الشريعة إذا مسئولية الحاكم تقريرا واضحا، وقيدت سلطانه، فلم تتركه مهيمنا دون حد، وحدت من سلطته فلم تدعها مطلقة دون ضابط، والسؤال هنا: كيف يمكن إعمال هذه المبادئ السامية والتقريرات العامة على أرض الواقع؟ بمعنى: ما هي كيفية التطبيق العملي لهذه المبادئ النظرية؟ بطريقة أكثر تحديدا: هذا الحاكم محدد المسئولية غير مطلق السلطة فمن يراقبه ويحكم بجوره إن جار؟ ومن ثم يدعو للخروج عليه ومحاولة عزله، إن لم ينعزل من تلقاء نفسه، ومن الذي يقدر أنه ارتكب منكرا تجب إزالته؟ وبأية وسيلة؟ وعلى أي أساس؟ وبأية ضوابط نسلك هذا السبيل أو ذاك من سبل تغيير هذا المنكر؟ من يحدد كل ذلك ويدعو لتنفيذه؟ حتى لايصير الأمر فوضى، ونفسد من حيث ابتغينا الإصلاح.
حول هذه المعإني سئل فضيلة د. القرضاوي السؤال الآتي: اشتد الجدل في هذه الأيام حول قضية من أهم القضايا وأشدها خطرا، وهي قضية تغيير المنكر بالقوة، ومن له الحق في التغيير؟ ومتى يجوز ذلك؟
فمن الناس من يقول: إن هذا الحق لولي الأمر فقط، أي هو من وظائف الدولة لا من وظائف الأفراد، وإلا كان الأمر فوضى، وحدث من الفتن ما لا يعلم نتائجه إلا الله – عزوجل – وآخرون يجعلون ذلك من حق كل مسلم بل من واجبه، استنادا إلى الحديث النبوي الذي يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[9].
فالحديث يجعل التغيير واجبا على كل من رأى المنكر باليد أولا، فإن عجز فباللسان، وإلا فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان، فمن قدر على أقوى الإيمان، فلماذا يرضى بأضعفه؟
وهذا ما حفز بعض الشباب المتحمس لتغيير ما يرونه منكرا بأيديهم بدون مبالاة بالعواقب، على أن ولي الأمر أو الدولة نفسها قد تكون هي فاعلة المنكر، أو حاميته، قد تحل الحرام أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض أو تعطل الحدود أو تعادي الحق أو تروج للباطل، فهنا يكون على الأفراد تقويم عوجها بما استطاعوا من قوة، فإن أوذوا ففي ذات الله، وإن قتلوا ففي سبيل الله، وهم شهداء بجوار حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، كما جاء في الحديث.
وقد اختلط الأمر على كثير من الناس، وبخاصة الشباب المتدين الغيور… وأملنا أن تعطوا بعض الوقت لهذه القضية، حتى يتبين لنا الصواب.
وقد أجاب د. يوسف القرضاوي إجابة مستفيضة، جاء فيها: “من الفرائض الأساسية في الإسلام، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الفريضة التي جعلها الله – عزوجل – أحد عنصرين رئيسيين في تفضيل هذه الأمة وخيريتها: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران:١١0)، ومن الصفات الأساسية للمؤمنين في نظر القرآن: )التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)( (التوبة)، وكما مدح القرآن الآمرين الناهين، ذم الذين لايأمرون بالمعروف، ولا يتناهون عن المنكر، كما قال عزوجل: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة)، والمسلم بهذا ليس مجرد إنسان صالح في نفسه، يفعل الخير ويدع الشر ويعيش في دائرته الخاصة، لا يبالي بالخير وهو يراه ينزوي ويتحطم أمامه، ولا بالشر وهو يراه يعشش ويفرخ من حوله.
بل المسلم – كل مسلم – إنسان صالح في نفسه، حريص على أن يصلح غيره، وهو الذي صورته تلك السورة الموجزة من القرآن، سورة العصر: )والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)( (العصر).
فلا نجاة للمسلم من خسران الدنيا والآخرة، إلا بهذا التواصي بالحق والصبر، الذي قد يعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حارس من حراس الحق والخير في الأمة. فكل منكر يقع في المجتمع الإسلامي، لا يقع إلا في غفلة من المجتمع المسلم، أو ضعف وتفكك منه، ولهذا لا يستقر ولا يستمر، ولا يشعر بالأمان، ولا يتمتع بالشرعية بحال.
ضوابط تغيير المنكر، وشروط استعمال القوة في دفع الضرر:
المنكر – أي منكر – يعيش مطاردا في البيئة المسلمة، كالمجرم المحكوم عليه بالإعدام أو السجن المؤبد، إنه قد يعيش ويتنقل، ولكن من وراء ظهر العدالة، وبالرغم من المجتمع، والمسلم إذن مطالب بمقاومة المنكر ومطاردته، حتى لا يكتب له البقاء – بغير حق – في أرض ليست أرضه، ودار ليست داره، وقوم ليسوا أهله.
ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، والحديث واضح الدلالة في أن تغيير المنكر من حق كل من رآه من المسلمين، بل من واجبه… وقد كان – صلى الله عليه وسلم – هو الإمام والرئيس والحاكم للأمة، ومع هذا أمر من رأى منهم – وهم المحكومون – منكرا أن يغيروه بأيديهم، متى استطاعوا، حين قال: “من رأى منكم منكرا”.
شروط تغيير المنكر:
كل ما هو مطلوب من الفرد المسلم – أو الفئة المسلمة – عند التغيير، أن يراعي الشروط التي لا بد منها، والتي تدل عليها ألفاظ الحديث، وهي:
- أن يكون محرما مجمعا عليه: أي أن يكون منكرا حقا، ونعني هنا المنكر الذي يطلب تغييره باليد أولا، ثم باللسان، ثم بالقلب عند العجز، ولا يطلق “المنكر” إلا على “الحرام”، الذي طلب الشارع تركه طلبا جازما، بحيث يستحق عقاب الله من ارتكبه، وسواء أكان الحرام فعل محظور أم ترك مأمور، وسواء أكان الحرام من الصغائر أم من الكبائر، وإن كانت الصغائر قد يتساهل فيها ما لا يتساهل في الكبائر، ولا سيما إذا لم يواظب عليها، وقد قال عزوجل: )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)( (النساء)، وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر»[10].
فلا يدخل في المنكر إذن المكروهات، أو ترك السنن والمستحبات، وقد صح في أكثر من حديث «أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عما فرض الله عليه في الإسلام؟ فذكر له الفرائض من الصلاة والزكاة والصيام، وهو يسأل بعد كل منها: هل علي غيرها؟ فيجيبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إلا أن تطوع”، حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والله يا رسول الله، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق»[11]. وفي رواية أخرى: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا»[12].
لا بد إذن أن يكون المنكر في درجة “الحرام”، وأن يكون منكرا شرعيا حقيقيا، أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة، التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة، وليس إنكاره بمجرد رأي أو اجتهاد، قد يصيب أو يخطئ، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وكذلك يجب أن يكون مجمعا على أنه منكر، فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديما أو حديثا، بين مجيز ومانع، فلا يدخل دائرة “المنكر”، الذي يجب تغييره باليد، وخصوصا للأفراد.
فإذا اختلف الفقهاء في حكم التصوير، أو الغناء بآلة، وبغير آلة، أو في كشف وجه المرأة وكفيها، أو في تولي المرأة القضاء ونحوه، أو في إثبات الصيام والفطر برؤية الهلال في قطر آخر بالعين المجردة، أو بالمرصد أو بالحساب أو غير ذلك من القضايا التي طال فيها الخلاف قديما وحديثا. لم يجز لإنسان مسلم، أو لطائفة مسلمة أن تتبني رأيا من الرأيين، أو الآراء المختلف فيها، وتحمل الآخرين عليه بالعنف.
حتى رأي الجمهور والأكثرية لا يسقط رأى الأقل، ولا يلغي اعتباره، حتى لو كان المخالف واحدا، ما دام من أهل الاجتهاد، وكم من رأي مهجور في عصر ما، أصبح مشهورا في عصر آخر.
وكم ضعف رأي لفقيه، ثم جاء من صححه ونصره وقواه، فأصبح هو المعتمد والمفتي به.
وهذه آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، في الطلاق وأحوال الأسرة، قد لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت تقاوم قرونا عدة بعد وفاته، ثم هيأ الله لها من نشرها وأيدها، حتى غدت عمدة الإفتاء والقضاء والتقنين في كثير من الأقطار الإسلامية.
إن المنكر الذي يجب تغييره بالقوة لا بد أن يكون منكرا بينا ثابتا، اتفق أئمة المسلمين على أنه منكر، وبدون ذلك يفتح باب شر لا آخر له، فكل من يرى رأيا يريد أن يحمل الناس عليه بالقوة!
في بعض الأقطار الإسلامية قام مجموعة من الفتيان المتحمسين لتحطيم المحلات التي تبيع العرائس واللعب للأطفال؛ لأنها أصنام، وصور مجسمة تعتبر من أكبر الكبائر!
ولما قيل لهم: إن العلماء من قديم أجازوا لعب الأطفال، لما فيها من امتهان الصورة، وانتفاء تعظيمها.. إلخ، قالوا: كان هذا في صور غير هذه الصور المتقنة التي تفتح عينيها وتغلقها.
قيل لهم: ولكن الطفل يرمي بها يمينا وشمالا، ويخلع ذراعها ورجلها، ولايمنحها أي قدر من التعظيم أو التقديس.. لم يجدوا جوابا!
وفي بلاد إسلامية أخرى قام بعض الشباب يحاول أن يغلق المطاعم ومحلات العصير والقهوة ونحوها بالقوة، حين أعلنت بعض الأقطار الإسلامية بدء الصيام، ورؤية الهلال، فرأى هؤلاء المتحمسون أن رمضان قد ثبت، فلا يجوز المجاهرة بالإفطار.
ومثل ذلك ما قام بعض الشباب المسلم الغيور في مصر في أحد أعياد الفطر حيث ترجح لدى الجهات الشرعية في مصر عدم ثبوت شوال لاعتبارات شتى؛ منها قطع الفلك أن من المستحيل رؤية الهلال تلك الليلة، ولم ير الهلال في مصر، ولكن بعض الأقطار أعلنت رؤية الهلال، فأصر هؤلاء على أن يفطروا ويقيموا شعائر العيد وحدهم، ضد الدولة، وأغلبية الأمة، وحدث من جراء ذلك صدام مع أجهزة الأمن لامبرر له.
ورأيي – الكلام للدكتور القرضاوي – أن هؤلاء وأولئك أخطئوا من جملة أوجه:
- أن الفقهاء مختلفون في طريق إثبات الهلال، فمنهم من اكتفى بشاهد واحد، ومنهم من طلب شاهدين، ومنهم من اشترط في حالة الصحو شهادة الجم الغفير، ولكل أدلته ووجهته، فلا يجوز إجبار الناس على مذهب واحد، من غير ذي سلطة.
- أنهم اختلفوا كذلك في مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتبارها، وفي عدد من المذاهب أن لكل بلد رؤيته، ولا يلزم بلد برؤية بلد آخر، وهو مذهب ابن عباس ومن وافقه، كما هو معروف من حديث كريب في صحيح مسلم.
- أن حكم الإمام أو القاضي في الأمور الخلافية يرفع الخلاف، ويلزم الأمة اتباعه.
ولهذا إذا أخذت السلطات الشرعية بقول إمام أو اجتهاد مذهب في هذه القضايا فالواجب اتباعها، وعدم تفريق الصف.
وقد قلت في بعض ما أفتيت به: إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين جميعا في الصيام والفطر، فعلى الأقل يجب أن يتحد أهل البلد الواحد في شعائرهم، فلا يقبل بحال أن ينقسم أهل البلد الواحد إلى فريقين: فريق صائم وفريق مفطر.
ولكن هذا الخطأ في الاجتهاد من شباب مخلصين لا يقاوم بالرصاص، بل بالإقناع.
- ظهور المنكر: أي أن يكون المنكر ظاهرا مرئيا، فأما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه، فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التصنت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبسا بالمنكر.
وهذا ما يدل عليه لفظ الحديث: «من رأى منكم منكرا فليغيره…»، فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره.
وهذا لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به إلى الله – عزوجل – يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلا في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره.
حتى إن العقاب الإلهي ليخفف كثيرا على من استتر بستر الله، ولم يظهر المعصية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»[13].
لهذا لم يكن لأحد سلطان على المنكرات الخفية، وفي مقدمتها معاصي القلوب من الرياء والنفاق والكبر والحسد والشح والغرور ونحوها. وإن اعتبرها الدين من أكبر الكبائر ما لم تتجسد في عمل ظاهر، وذلك لأننا أمرنا أن نحكم بالظواهر، ونكل إلى الله – عزوجل – السرائر.
ومن الوقائع الطريفة التي لها دلالتها في هذا المقام ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ما حكاه الغزالي في كتاب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من “الإحياء”: أن عمر – رضي الله عنه – تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد، فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ قال: قد قال الله عزوجل: )ولا تجسسوا( (الحجرات: ١٢) وقد تجسست، وقال عزوجل: )وأتوا البيوت من أبوابها( (البقرة: ١٨٩)، وقد تسورت من السطح، وقال عزوجل: )لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: ٢٧)، وما سلمت، فتركه عمر – رضي الله عنه – وشرط عليه التوبة.
- القدرة الفعلية على التغيير: أي أن يكون مريد التغيير قادرا بالفعل – بنفسه أو بمن معه من أعوان – على التغيير بالقوة. بمعنى أن يكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكنه من إزالة المنكر بسهولة.
وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضا؛ لأنه قال: “فمن لم يستطع فبلسانه” أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته.
وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته، الذين يعولهم ويلي عليهم، وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته، والأمير المطاع في حدود إمارته أو سلطته، وحدود استطاعته وهكذا.
وإنما قلنا: القوة المادية أو المعنوية؛ لأن سلطة الزوج على زوجته أو الأب على أولاده، ليست بما يملك من قوة مادية، بل بما له من احترام وهيبة تجعل كلمته نافذة، وأمره مطاعا.
وهنا تظهر مشكلة ما إذا كان المنكر من جانب الحكومة أو الدولة، التي تملك مقاليد القوة المادية والعسكرية، ماذا للأفراد والفئات أو عليهم أن يعملوا لتغيير المنكر الذي ترتكبه السلطة أو تحميه؟
والجواب: أن عليهم أن يملكوا القوة التي تستطيع التغيير، وهي في عصرنا إحدى ثلاث:
- القوات المسلحة: التي يستند إليها كثير من الدول في عصرنا – ولا سيما في العالم الثالث – في إقامة حكمها، وتنفيذ سياستها، وإسكات خصومها بالحديد والنار، فالعمدة لدى هذه الحكومات ليس قوة المنطق، بل منطق القوة، فمن كان معه هذه القوات استطاع أن يضرب بها كل تحرك شعبي يريد التغيير، كما رأينا ذلك في بلاد شتى آخرها في الصين، وإخماد ثورة الطلبة المطالبين بالحرية.
- المجلس النيابي: الذي يملك السلطة التشريعية، وإصدار القوانين وتغييرها، وفقا لقرار الأغلبية، المعمول به في النظام الديمقراطي، فمن ملك هذه الأغلبية – في ظل نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيف – أمكنه تغيير كل ما يرى من منكرات بوساطة التشريع الملزم، الذي لايستطيع وزير، ولا رئيس حكومة، ولا رئيس دولة أن يقول أمامه: لا.
- قوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع: والتي إذا تحركت لايستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العرم، لايقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم.
فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث، فما عليه إلا أن يصبر، ويصابر ويرابط، حتى يملكها، وعليه أن يغير باللسان، والقلم، والدعوة والتوعية والتوجيه، حتى يوجد رأيا عاما قويا يطالب بتغيير المنكر، وأن يعمل على تربية جيل طليعي مؤمن يتحمل تبعة التغيير.
وهذا ما يشير إليه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما خطب فقال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: )عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( (المائدة:105) وتضعونها على غير ما وضعها الله، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه»[14].
- عدم خشية منكر أكبر: أي ألا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه، كأن يكون سببا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرا وفسادا في الأرض.
ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم، ارتكابا لأخف الضررين، واحتمالا لأهون الشرين.
فقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة – رضي الله عنها -: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين»[15].
وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك؛ ففي قصة موسى – عليه السلام – مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون عليه السلام، فلم ينتصحوا وقالوا: )قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91)( (طه).
وبعد رجوع موسى – عليه السلام – ورؤيته لهذا المنكر البشع – عبادة العجل – اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب، قال عزوجل: )قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)( (طه)، ومعنى هذا: أن هارون – عليه السلام – قدم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر، حتى يحضر، ويتفاهما معا كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة.
هذه هي الشروط الأربعة التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر: بالقوة المادية المرغمة.
تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجا:
وينبه د. يوسف القرضاوي على قضية في غاية الأهمية لمن يشتغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعاتنا، وخلال عصور التخلف، وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني، تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء، أو تبرج امرأة في الطريق، أو بيع أشرطة كاسيت أو فيديو تتضمن ما لا يليق أو ما لا يجوز.
إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لا بد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق، تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات.
وقبل ذلك لا بد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلا لأن يغير الله ما بهم وفق السنة الثابتة: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: ١١).
ضرورة الرفق في تغيير المنكر:
ينبغي لمن يريد تغيير المنكر ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرفق، وبين لنا أن الله يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ومما يناسب المقام هنا ما ذكره الغزالي في “الإحياء”: أن رجلا دخل على المأمون ليأمره وينهاه، فأغلظ عليه القول، وقال له: يا ظالم، يا فاجر… إلخ. وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعاجله بالعقاب كما يفعل كثير من الأمراء، بل قال له: يا هذا، ارفق، فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر منى وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون – عليهما السلام – وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر منى، فقال لهما: )اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)( (طه)، وهذا التعليل بحرف الترجي: )لعله يتذكر أو يخشى( برغم ما ذكره الله – عزوجل – من طغيان فرعون )إنه طغى( دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يفقد الأمل فيمن يدعوه مهما يكن كفره وظلمه، ما دام مستخدما طريق اللين والرفق، لا طريق الخرق والعنف[16].
وضح لدينا الآن أن تكفير الحاكم، ومن ثم إجازة الخروج عليه، ليس منوطا بأي أحد، وإنما هو أمر يقرره أهل الاجتهاد المؤتمنين ببينات واضحات، وأن لتغيير المنكر مراتب، وتحكمه ضوابط، وذلك كله بعد أن حددت الشريعة للحاكم مسئولياته وأبانت له عن حقوقه وواجباته لتلزمه الحجة إن جار وفجر أو بدل وغير.
ثالثا. الفرق الشاسع بين “نظرية الإمامة الشرعية” في الفكر السياسي الإسلامي، وبين التطبيق التاريخي لهذه النظرية:
ليس صحيحا ما يزعمه بعض المستشرقين من أن سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة وسلطانه غير محدود، ومن ثم فلا راد لرأيه ولا معقب لحكمه، وقد أوقعهم في هذا الخلط – إما جهلا وإما عمدا – عدم التفرقة بين مبادئ النظام السياسي في الإسلام، أي نظرية الإمامة أو الخلافة كما أوردت أحكامها الشريعة الإسلامية – وبين الخلافة التاريخية أو الواقع التاريخي الذي جرى على مستوى سلطة الحكم على مر عصور التاريخ الإسلامي، والذي حاد فيه كثيرا أهل السلطان عن مبادئ القرآن، وقد أوقع ذلك في وهمهم أن الشريعة الإسلامية تؤيد سلطان المستبدين، وتجيز أن يطلق لهيمنتهم العنان دون ضابط أو رادع، وقد اتهم فقهاء أهل السنة بالذات بأنهم يناصرون الحاكم الظالم الغشوم، ويحضون على الخضوع له والاستكانة تجاه مفاسده وجرائمه.
وهناك فرق شاسع بين نظرية الإمامة الشرعية ومجريات الخلافة التاريخية، فالحق أن الجهة منفكة بين المبادئ النظرية السامية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في قضية الإمامة، وبين الواقع التاريخي الذي جرى في تولي منصب الخلافة.
يستبين لنا هذا الفرق واضحا عندما نقارن بين السلوك التطبيقي للمبادئ السامية في تولى الراشدين الخلافة في صور متعددة، لكنها حققت جميعا مبدأ جوهريا هو الشورى والاختيار الحر.
وفي رد الفاروق عمر – رضي الله عنه – في لحظة استشهاده – وقد حصر أمر الخلافة في الستة بقية العشرة المبشرين بالجنة – على من أشار عليه بأن يضم إليهم ابنه عبد الله، فكان رده على هذا المشير: “قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟! لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فشرعنا آل عمر، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد”[17].
أقول يتبين الفرق بين المبادئ النظرية السامية وتطبيقاتها الراشدة، وبين الواقع التاريخي المنحرف المجافي لهذه المبادئ – بشكل أو بآخر – الذي جرى بعد ذلك على مر عصور تاريخ المسلمين، كأن نجد – في مقابل تورع الفاروق وتحاميه للشبهات – من ولاة الأمر من حرص أن يعهد بالخلافة بعده لابن أو اثنين من ولده، بغض النظر عن مدى صلاحيتهم للاطلاع بمسئولياتها الجسام.
ويحلل د. ضياء الدين الريس هذه القضية بشكل واضح ويرفع اللبس ويزيل الإشكال فيقول: “فإذا كانت مسئولية الإمام قد تقررت على هذا النحو، وقد أوردنا النصوص القاطعة، واستشهدنا بالآيات والأحاديث التي تثبتها، وقد تبين لنا أنها مسئولية مزدوجة؛ فهو مسئول أمام الأمة وأمام الله، فإذا خرج عن الجادة بظلم أو ارتكاب للمعصية، أصبح معرضا: إما لأن يقام عليه الحد، وإما لأن يفقد منصبه إذا شاءت الأمة أن تعزله، ولأن يحل به غضب الله ويعاقب على أعماله إما في الآخرة أو في الآخرة والدنيا معا، كما قال الله – عزوجل – إذ ضرب المثل بمن حقت عليهم نقمته في هذه الدنيا: )وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45)( (إبراهيم)، وأيضا: )وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11)( (الأنبياء).
إذا كان كل ذلك قد تقرر، فإنه يظهر لنا إذن مدى جسامة الخطأ الذي وقع فيه كبار المستشرقين، حين تحدثوا عن طبيعة الدولة الإسلامية، وعن حدود سلطة الإمام وعلاقته بالرعية، وها نحن أولاء نروي بعض أقوالهم: أما الأستاذ مرجليوث فقد قال: “أيا كان الحاكم الإمام الذي يستقر الرأي على الاعتراف له، فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أية حقوق ضد رئيس الجماعة القائم”؛ ثم يصرح بهذا: “إن الحاكم – يقصد الإمام – ليس مسئولا أمام أحد”، وهو يضرب المثل لذلك بأن الإمام إذا قتل أحد أفراد رعيته فإنه لا يكون مسئولا أمام أحد عن ارتكاب جريمة القتل! فهل يمكن أن يقول الإسلام بذلك؟ وهل مثل هذا الكلام – الذي لا يوجد ما هو أدل منه على الجهل بالإسلام ومبادئه، أو على وجود شعور عميق بالعداء نحوه – يستحق المناقشة أو الرد؟!
ويقول الأستاذ ماكدونالد: “لا يمكن – على الإطلاق – أن يكون الإمام حاكما دستوريا، بالمعنى الذي نعرفه”، ومعنى أن يكون حاكما دستوريا: أن يكون مقيدا بقانون، وللأمة عليه سلطان، فهل الإمام الذي هو مقيد في كل تصرفاته واتجاهاته بأحكام الشريعة، والذي يتولى سلطته من الأمة، وهو مسئول أمامها – كما قررناه بالأدلة الدامغة التي قدمناها – لا يمكن أن يكون حاكما دستوريا، على الإطلاق، كما يقول صاحب هذا الزعم؟
وربما كان من العوامل التي دعت المستشرقين إلى الوقوع في هذا الخطأ الجسيم، أنهم قصروا نظرهم على حالة الضرورة، وما صرح به الفقهاء بشأنها، بينما كان ينبغي أن لا تعتبر هذه الحالة إلا أنها حالة شاذة أو حالة استثنائية – وهو الاستثناء الذي كما يقولون ينهض دليلا على صحة القاعدة – فإن هؤلاء المستشرقين – ومثلهم أيضا بعض ذوي الأهواء ممن كان لهم مقصد أن يوجهوا نقدا إلى النظام السياسي كما حددت معالمه النظريات الإسلامية – قد أخذوا هذا الاستثناء على أنه هو القاعدة العامة، وعرضوا الشاذ الذي لم يلجأ إليه إلا بحكم الضرورة على أنه الطبيعي المطرد.
ولذا ينبغي تحقيق هذه الحالة، أي حالة الضرورة، التي تقام فيها إمامة على غير ما توجب القواعد، وليست مستوفية للشروط، ولكنها مفروضة بحكم الواقع، وهي متصرفة فعلا، في شئون المسلمين، ولها كل الأثر على مصالحهم، سواء أكان الإفتاء النظري في صالحها، أو مناهضا لقيامها.
إنه لما طال العهد على الجماعات الإسلامية، منذ انقضى العصر الذي وجدت فيه الخلافة الصحيحة، التي تستحق أن توصف بأنها “شرعية”، وكانت العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية – وفق ما ظهرت في دائرة الواقع – قد أثبتت أن إمكانية عودة مثل تلك الخلافة قد أصبحت بعيدة ما بقيت تلك العوامل كما هي إلا في ظروف خاصة، وإلا إذا تغيرت تلك العوامل، أو وجدت مؤثرات أخرى، فإن علماء الشريعة لم يجدوا أمامهم إلا هذه الخلافة التي فرضها الواقع، وكان من الأغراض التي يحرصون عليها أن يظل القانون – بقدر الإمكان – مسايرا للحالة الواقعية، أو لحاجات المجتمع، فإنهم وجدوا أنفسهم بين أمرين:
أن يحكموا بأن تلك الإمامة غير شرعية – مع أنها هي القائمة بالفعل مهما يكن الرأي فيها – باطلة، وأنها غير منعقدة، ويكون من النتائج التي تترتب على ذلك أن يحكموا أيضا ببطلان تصرفات كل القضاة والولاة والعاملين في مصالح المسلمين الذين تولوا سلطاتهم بمقتضى إذن أو عقد الإمام لهم، فوق بطلان كل تصرفات هذا الإمام نفسه، معنى ذلك أنهم يحكمون بإيقاف كل أوجه النشاط والمبادلات والمعاملات التي تتكون منها الحياة الاجتماعية للجماعة، ويكون هذا بمثابة إعلان بأن الحياة الاجتماعية لها منعدمة، وأنها ليست لها صفة سياسية أو يجمعها أي نظام، فهم إذن حكموا عليها بالإعدام من الوجهتين السياسية والاجتماعية.
وإما أن يجدوا أن الأوفق أن إكساب هذا النظام القائم بالفعل صفة قانونية، وينظروا إلى الأمور نظرة واقعية، حتى يمكن أن ينقذوا ما يمكن أو ما يجب إنقاذه، من أوجه نشاط الجماعة وتصرفاتها متى تجيء موافقة للشرع، ويجتنبوا خطورة التورط في الحكم بانعدام الجماعة أو فنائها كوحدة سياسية واجتماعية، ولكن مع الحرص على الإعلان في نفس الوقت بأن هذه حالة ضرورة وأن هذا الاعتراف ليس إلا اعترافا بالأمر بعد وقوعه، وأنه لا ينشيء مبدأ ولا يقرر قاعدة، وأنه اعتراف موقوت لا يبقى إلا ببقاء حالة الاضطرار وأن الواجب أن يعملوا على وضع حد لهذه الحالة وإنهاء حالة الاضطرار، وقد وازن الفقهاء بين الأمرين، فوجدوا أن الأمر الثاني هو بلا شك، أخف الاثنين ضررا وأن خطورته أقل نسبيا، وكعادتهم في أنهم يتحملون الشر الأقل من أجل دفع الشر الأكثر، فإنهم قد قرروا هذا الأمر الثاني.
هذه هي الحالة التي وجد الفقهاء أنفسهم فيها، حينما وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الحكم بانعقاد إمامة المتغلب، الذي لم يستمد سلطاته عن طريق البيعة واختيار الأمة، أو يكون غير مستوف للشروط، فهم قد اعتبروها حالة ضرورة، تماما كالاعتراف بإباحة أكل الميتة للجائع المضطر، وهو اعتراف مؤقت وفي حدود، ولا ينفي وجود القواعد الصحيحة التي يجب أن تنفذ وتطبق حينما يمكن ذلك.
وإذا أردنا أن نحدد موقف الفقهاء في هذه المسألة، قلنا: إنهم جميعا متفقون – ولا خلاف بينهم في ذلك – على أن مثل هذا الإمام أو الوالي، الذي لا تنطبق القواعد على توليته، مستحق العزل، ويجب عزله إذا قدر على ذلك، وأقوالهم السابقة التي رويناها قاطعة بذلك، ولكن الخلاف بينهم فيما إذا لم يقدر على الإمام، وظهر أنه من غير الممكن عزله، فهل يحكم بانعزاله؟ أي بأن إمامته تبطل من تلقاء نفسها وبطريقة مباشرة من دون خلع واستبدال؟ ثم هل يجب الخروج حينئذ وإعلان الحرب عليه وتحت أي ظروف وبأي شروط؟!
والفرق كلها مجمعة على أن مثل هذا الحاكم إذا قامت عليه ثورة – أي ثورة كانت – ثم نجحت، فإن ولايته باطلة وخلعه صحيح، والثورة مبررة شرعية، فالاعتراف إذن بولايته – إذا وجد مثل هذا الاعتراف – قائم على أوهى أساس، وهو قائم في نفس الوقت الذي يوجد فيه الاستعداد للاعتراف بشرعية الثورة عليه إذا ضمن نجاحها، وبصحة ولاية من يقوم مقامه:
- أما من حيث الخروج: ويعبرون عنه بـ “سل السيف”، والمراد به القيام بثورة مسلحة، فإن الناس اختلفوا في ذلك على أقوال؛ فقالت المعتزلة والخوارج والزيدية وكثير من المرجئة: ذلك واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغي ونقيم الحق، واستدلوا بقول الله عزوجل: )وتعاونوا على البر والتقوى( (المائدة: ٢)، وبقوله عزوجل: )فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله( (الحجرات: ٩)، وقوله عزوجل: )لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة)، وكل هؤلاء مجمعون على أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك.
وقد أكد ابن حزم أن هذا هو أيضا مذهب كثير من أهل السنة، وأورد دلائل كثيرة تؤيد هذا المذهب، منها قول حذيفة: «إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتحاضن على الخير، أو ليسحتنكم الله بعذاب»[18]،وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل ومن دون دمه فهو شهيد»([19]).
أما مذهب الصبر: فالذين قالوا به أكثر رجال الحديث، وبقية علماء السنة، ولا سيما متأخرين منهم، وقالوا: إن هذا كان مذهب الصحابة رضي الله عنه، الذين امتنعوا عن القتال، في عهد الفتنة بين على ومعاوية، ولم ينضموا إلى أحدهما: كعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد وكان الامتناع عن السيف هو أيضا الرأي الذي اختاره عثمان – رضي الله عنه – وثبت عليه؛ بل نهى غيره عن أن يبدأ بقتال يؤدي إلى سفك دم مسلم، من أجل الدفاع عنه.
والذي دعا أصحاب المذهب إلى القول بذلك هو الخوف من حدوث الفتنة وسفك الدماء، واضطراب الأحوال والاعتداء على الحقوق واستحالة الأمر إلى فوضى.. وكانت لهم العبرة فيما أعقبت الحروب التي نشبت في عصر الصحابة، أو من بعدهم. والثورات التي قامت في عهد بني أمية، وما أعقبت من شرور كثيرة، عاد على المجتمع منها ضرر بالغ، فهم يرون إذن وجوب الأمر بالمعروف، بالدعوة والإرشاد، أو حتى – إذا لم يمكن – بالاستنكار القلبي، دون سل السيف والقتال.
وهذا المذهب هو الذي أسيء تأويله، والذي من أجله حمل بعض النقاد على فقهاء أهل السنة، ودعاهم إلى النقد أن عبارات بعض المؤلفين من المتأخرين تذكر مسألة الصبر على حكم أئمة الجور، وانعقاد بيعة المتغلب، كأنها إحدى القواعد الأصلية، دون أن تنبه إلى أنها مسألة شاذة، أو مسألة ضرورة، وذلك إما للرغبة في الإيجاز، أو لطول ما مر عليهم من قرون وعهود، وهم يرون هذا الحكم الذي لا ينطبق عليه قواعد الشرع باقيا ثابتا، وكأنه لا يستطاع تغييره، وكأنه صار مما يقتضيه – لا محالة – القانون الوجودي.
على أنه لا ينبغي أن يذكر هذا المذهب دون أن تقرن به المبادئ الأساسية التي يسلم بها هؤلاء الفقهاء أنفسهم، ويستمسكون بها في نفس الوقت الذي ينصحون فيه بالصبر، فإن تلك المبادئ هي التي تكمل المذهب، والتي تبين الحدود التي ينتهون إليها في قولهم بهذا الرأي.
فمن تلك المبادئ أنهم إنما قبلوا – على كره منهم – أن يعترفوا بإمامة المتغلب جريا على القاعدة التي يتبعونها، وهي أنه ينبغي احتمال الضرر الأقل في سبيل دفع الضرر الأكثر، فإذا ظهر حينئذ أن بقاء مثل هذا الإمام هو الضرر الأكبر وأنه أكثر ضررا من الخروج عليه، وسل السيف لمحاربته، لتنفيذه سياسة بغي وعدوان، أو تعطيله لبعض حدود أو أحكام الشريعة أو لتأخر أحوال الأمة الإسلامية في عهده، أو نحو ذلك، فإنه طبقا لقاعدتهم هم نفسها، يجب حينئذ دفع هذا الضرر الأكبر بالخروج على هذا الحاكم وقتاله، إذ إن الخروج والجهاد إذ ذاك هو الضرر الأخف؛ فالاعتراف ببقاء هذه الولاية مشروط إذن بأن يبقى ضررها هو الضرر الأقل، الذي يستطاع تحمله، دون خوف على الدين أو الأمة.
وأن الخروج على مثل هذا الحاكم المتغلب – وإن لم يعترف به على أنه قاعدة عامة – لا يعتبر في نظر هؤلاء الفقهاء أنفسهم “بغيا”، وإنما هو متروك لاجتهاد صاحبه. والدليل على ذلك أنهم – كما رأينا من قبل – قد عرفوا البغي بأنه: الخروج على الإمام الحق بغير حق؛ فالخروج على الإمام غير الحق لايعد إذن بغيا.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك في التاريخ الإسلامي خروج الحسين على يزيد بن معاوية، فالحسين لم يكن باغيا، وقد ناقش ابن خلدون هذه المسألة في مقدمته وأوضح جوانبها، ونبه إلى أن البغي إنما يكون في حالة الخروج على الإمام العادل، وحكم بأن الحسين شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد.
فإذا أدى الخروج على مثل هذا المتغلب إلى خلعه وإزالته، فإن الفقهاء لا يترددون في الاعتراف بمن يخلفه – إما اعترافا صحيحا، إذا كان مستكملا للشروط، وإما اعتراف ضرورة مثل اعترافهم بسلفه – ولايعود للأول أي حق، إذ إن إقراره كان ضرورة. وهذا يتضمن أنهم يعترفون بالثورة على هذا الحاكم إذا تحقق نجاحها، كما سبقت إشارتنا إلى ذلك.
وإن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايزال قائما؛ فليس معنى الصبر أن يترك للمتغلب الحبل على غاربه، ويرضى بأعماله كيفما كانت، بل لا بد أن تظل الأمة مهيمنة عليه، ولا بد أن يدعى إلى الخير، ويصد عن الظلم، ويوعظ وينهى عن المنكر، بكل الطرق الممكنة دون القتال، وقد تواردت الأخبار والآثار، حاثة على وجوب تذكير الأئمة والولاة، وإرشادهم وتنبيههم إلى وجوب اتباع سبل الحق، ويجمع هذه المعإني قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما سئل: «أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كلمة حق عند سلطان جائر»[20]، وصحائف التاريخ الإسلامي مليئة بأخبار مواعظ الصالحين والعلماء للولاة والخلفاء، وإن عرضوا أنفسهم للخطر، وكان القتل يبدو كأنه ثمن ما يفوهون به من أقوال.
ومما يؤكد هذا أن أبا بكرة دخل على معاوية، فقال: اتق الله يا معاوية، واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتى عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعدا، ومن الآخرة إلا قربا، وعلى إثرك طالب لا تفوته، وإنا وما نحن فيه زائل، وفي الذي نحن إليه صائرون باق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر[21].
وأيضا أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة، وهو يريد مكة، فأرسل إلى أبي حازم فدعاه، فلما دخل عليه، قال له سليمان: يا أبا حازم: مالنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. وما زال يعظه حتى بكى!
وأيضا أن هشام بن عبد الملك قدم حاجا إلى مكة، فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين، فأتى بطاووس اليمإني… ثم دار بينهما حديث، فكان مما قاله له طاووس: وأما قولك: لم تسلم على بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب. قال الإمام الغزالي، معقبا: فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين، إذا ألزموا، وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم.
ولا خلاف بينهم مطلقا – بل لا خلاف بين أمة الإسلام جميعا – على أنه لا تجوز الطاعة إلا فيما وافق الشرع، وما قال أحد أبدا إن الطاعة تجوز في معصية. وعلى رأس الأدلة التي يستنبط منها هذا الحكم قوله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[22].
قال القسطلإني: هذا تقييد لما أطلق من الأمر بالسمع والطاعة، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يكره. نقول: وهذا تقييد لكل الأحاديث التي وردت حاثة على الطاعة.
ومما ذكر عند توضيح معنى الآية الكريمة: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: ٥٩)، قال الطبري: إن الأمر بذلك فيما كان لله طاعة، وللمسلمين مصلحة. وذكر البيضاوي في تفسيره ما يأتي: أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل. وقال الفخر الرازي: إن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب.
ونختم هذا كله بقول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في أول خطاب له: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”[23].
الخلاصة:
عدم تحكيم شرع الله ليس بينة بالضرورة على كفر من لم يحكم به؛ إذ قد يكون مرد عدم الاحتكام لشرع الله إلى ضعف في العزيمة، أو ركون إلى شهوة استبداد، أو حكم بشريعة القوة أو المصلحة الدنيوية يصيبها هذا الحائد عن شرع الله.
- قد يحكم الحاكم بغير شرع الله وهو يعتقد أن هذا غير جائز ويوقن بأفضلية الشريعة وعدم جواز الحكم بغيرها، ولكنه يتساهل في الأمر، فهو بهذا يرتكب أكبر الكبائر، فإذن قد وقع الخلاف في تكفيره، وصارت المسألة اجتهادية والخلاف مانع للتكفير.
- قيدت الشريعة سلطة الحاكم عبر ثلاثة ضوابط لهذه السلطة هي:
o وضع حدود لسلطة الحاكم.
o مسؤلية الحاكم عن عدوانه وأخطائه.
o تخويل الأمة حق عزل الحاكم.
- وكثير من هذه الضوابط متحقق في السيرة العملية للراشدين، خصوصا عصر الشيخين الصديق والفاروق.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة أساسية في الإسلام، ولتغيير المنكر شروط ومراتب، منها: أن يكون هذا المنكر محرما مجمعا عليه، وأن يكون ظاهرا مرئيا، وأن تتأتي القدرة الفعلية على التغيير بقوة، وعدم الخشية من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر، كأن يكون سببا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع في الشريعة الإسلامية.
- لا يكفر أي فرد الحاكم ولا يدعو للخروج عليه خروجا مشروعا؛ فهذا منوط بما يقرره أهل الاجتهاد المؤتمنين ببينات واضحات.
- ليس صحيحا ما زعمه المغالطون من المستشرقين من أن سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة وسلطانه غير محدود، ومن ثم فلا راد لرأيه، ولا معقب لحكمه وقد أوقعهم في هذا الخلط – إما جهلا وإما عمدا – عدم التفرقة بين مبادئ النظام السياسي في الإسلام، أي نظرية الإمامة أو الخلافة – كما أوردت أحكامها الشريعة الإسلامية – وبين الخلافة التاريخية أو الواقع التاريخي الذي جرى على مستوى سلطة الحكم على مر عصور التاريخ الإسلامي، والذي حاد فيه – كثيرا – أهل السلطان عن تعاليم القرآن.
- الفرق شاسع والجهة منفكة بين المبادئ الإسلامية وبين الواقع التاريخي الذي جرى في تولي منصب الخلافة، فيما عرف بإمارة المتغلب التي أقرها الفقهاء اضطرارا لتصريف مصالح الرعية، وعدم الحكم بفساد معاملاتهم وبطلان تعاقداتهم، وأجاز في الوقت نفسه الخروج على إمام الغلبة عند التمكن.
(*) النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م. ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، عبد الملك البراك، النور للإعلام الإسلامي، عمان، 1997م.
[1]. البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير، عبد العزيز الريس، دار الإمام مالك، أبو ظبي، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص7 وما بعدها.
[2]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصلاة، باب الأمراء يؤذون الصلاة (3788)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب السير، باب في إمام السرية يأمرهم بالمعصية من قال: لا طاعة له (33717) بنحوه.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم (6830)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4871).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب السمع والطاعة للإمام (2769)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4869).
[5]. السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1403هـ/ 1983م (4/ 793).
[6]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص572.
[7]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص41 وما بعدها.
[8]. النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص342.
[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (186).
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات (574).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان (1792)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (109).
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1333)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة (116).
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (5721)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (7676) بنحوه.
[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (53)، وابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (305) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2317).
[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها (3308).
[16]. فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، ط6، 1996م، ج2، ص681 وما بعدها.
[17]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص580.
[18]. حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها (37221)، وأحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم (23360)، وقال عنه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد: أثر حسن.
[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعيد بن زيد (1652)، وعبد بن حميد في مسنده، مسند سعيد بن زيد (106)، وصححه الألباني في المشكاة (3529).
[20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه (18850)، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (491).
[21]. ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين، الباب السادس: فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم (2/ 148).
[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة ما لم تكن معصية (6725)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4869).
[23]. النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص344 وما بعدها.