دعوى تناقض أحاديث التفاضل بين الأنبياء
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- لا تعارض بين الأحاديث المذكورة؛ إذ إن أحاديث النهي عن المفاضلة بين الأنبياء محمولة على اعتقاد جانب النقص في حق بعضهم؛ لأن هذا كفر يتنزه عنه المسلم، أما اعتقاد فضل الجميع، ثم تمايزهم في هذا الفضل، فلا حرج فيه شرعا، بل هو منطوق النصوص، قال تعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣)، وأيضا نهي عن التفاضل سدا لذريعة الجدل والخصومة، وليس كل هذا بقادح في أفضلية النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – على الناس جميعا، وعلى الأنبياء خاصة.
-
التفصيل:
لقد خلق الله الخلق وفاضل بينهم، قال تعالى: )وربك يخلق ما يشاء ويختار( (القصص: 68)، فقد اختار من أرضه مكة، فجعلها مقر بيته العتيق، الذي من دخله كان آمنا، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليه، وأوجب على الناس الحج إليه من استطاع إليه سبيلا، وحرم صيد الحرم وقطع شجره، وجعل الأعمال الصالحة فيه مضاعفة، وجعل إرادة الظلم فيه مستحقة العذاب الأليم، قال تعالى: )ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)( (الحج).
واختار من الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأيام يوم عرفة، ومن أيام الأسبوع يوم الجمعة، وفاضل الله بين الملائكة، فاختار منهم الملائكة الذين يحملون رسالته إلى رسله وأنبيائه، واصطفى الله من بني آدم الأنبياء، فالأنبياء أفضل البشر، وأفضل الأنبياء الرسل، قال تعالى: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج).
وقد أجمعت الأمة على تفضيل الأنبياء على غيرهم من الصديقين والشهداء والصالحين، ويدل على تفضيلهم قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام).
وفضل أبو بكر وعمر على الصحابة، يدل على ذلك ما أخرجه الترمذي من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في أبي بكر وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما: «… هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين…»[1].
وقد رتب الله عباده السعداء الذين أنعم الله عليهم أربع مراتب، قال تعالى: )ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69)( (النساء).
فأول هذه المراتب وأعلاها الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون[2].
فالأنبياء جميعا لهم المكانة العالية، والمنزلة السامية، وهم يمثلون الإنسان الكامل، فقد اختارهم الله تعالى واصطفاهم وأدبهم فأحسن تأديبهم، ومع ذلك فإن بعضهم أفضل من بعض؛ فالحق تبارك وتعالى أخبر بأنه فضل بعض النبيين على بعض، قال تعالى: )وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا (55)( (الإسراء).
وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم، كما قال تعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( (البقرة: 253).
وأفضل الرسل خمسة: محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى – عليهم السلام، وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، قال تعالى: )فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل( (الأحقاف: ٣٥).
وقد ذكرهم الله في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: ١٣)، وفي قوله تعالى: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم( (الأحزاب: ٧).
والذي يتأمل الآيتين اللتين أخبرتا بتفاضل الأنبياء والرسل، يجد أن الله فضل من فضل منهم بإعطائه خيرا لم يعطه غيره، أو برفع درجته فوق درجة غيره، أو باجتهاده في عبادة الله والدعوة إليه، وقيامه بالأمر الذي وكل إليه.
فداود – عليه السلام – فضله الله بإعطائه الزبور: )وآتينا داوود زبورا (163)( (النساء)، وأعطى الله موسى – عليه السلام – التوراة: )وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53)( (البقرة)، والكتاب هو التوراة: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: ٤٤)، وأعطى عيسى الإنجيل: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور( (المائدة: ٤٦)، وفضل إبراهيم باتخاذه خليلا: )واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)( (النساء)، وجعل للناس إماما: )إني جاعلك للناس إماما( (البقرة: ١٢٤). وهؤلاء الأنبياء الخمسة وصفوا بأنهم أولو العزم؛ لجهادهم الكبير، وصبرهم الجميل، وتحملهم البأساء والشدة.
كما ورد النص أن هناك أنبياء اعترى عزيمتهم شيء؛ فقال – عز وجل – في حق آدم عليه السلام: )ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115)( (طه)، وقال – عز وجل – في حق يونس عليه السلام: )فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم (48) لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49) فاجتباه ربه فجعله من الصالحين (50)( (القلم)، وقال سبحانه في حق يعقوب عليه السلام: )وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84) قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85)( (يوسف)، والأمر ليس قاصرا على من ذكر من الرسل في الآيات السابقة.
فجميع الرسل لهم صبر وعزم وتحمل، لكنهم متفاوتون في ذلك، وما من نبي إلا وقد نالته البأساء، وكابد مكابدة شاقة في تبليغ الدعوة حتى جاءهم نصر الله، قال تعالى: )حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110)( (يوسف)[3].
والأنبياء يفاضلون من جهة أخرى، فالنبي قد يكون نبيا لا غير، وقد يكون نبيا ملكا، وقد يكون عبدا رسولا، فالنبي الذي كذب ولم يتبع ولم يطع، هذا نبي وليس بملك، أما الذي صدق واتبع وأطيع، فإن كان لا يأمر إلا بما أمره الله به، فهو عبد نبي ليس بملك، وإن كان يأمر بما يريده مباحا له، فهو نبي ملك، كما قال الله لسليمان: )هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39)( (ص)، فالنبي الملك هنا قسيم العبد الرسول، كما قال جبريل – عليه السلام – للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد، أرسلني إليك ربك، قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا؟ قال جبريل عليه السلام: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبدا رسولا»[4].
وحال العبد الرسول أكمل من حال النبي الملك، كما هو حال النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنه كان عبدا رسولا، مؤيدا مطاعا متبوعا، وبذلك يكون له مثل أجر من تبعه، وينتفع به الخلق، ويرحموا به، ويرحم بهم، ولم يختر أن يكون ملكا، لئلا ينقص؛ لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال، عن نصيبه في الآخرة.
فالعبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم أفضل عند الله من داود وسليمان ويوسف[5].
- الحكمة من النهي عن التفاضل بين الأنبياء:
وبعد أن عرضنا لمسألة التفاضل بين الأنبياء وحديث القرآن عنها، لزم إزالة الاعتراض المتوهم وجوده بين أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتي ينص بعضها على النهي عن التفاضل بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء، وبعضها ينص على أفضليته على العالمين، بأنه سيد ولد آدم.
فنقول: ما ورد من نصوص تنهى عن التفضيل بين الأنبياء، فهو محمول على اعتقاد جانب النقص في حق بعضهم، وقد ورد حديث النهي عن التفاضل بين موسى – عليه السلام – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «استب رجلان؛ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – المسلم فسأله عند ذلك، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروني على موسى…» [6] الحديث.
وفي حديث آخر: «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى»[7]، ومع ذلك وردت أحاديث أخر تثبت أفضلية النبي – صلى الله عليه وسلم – على البشر جميعا، منها: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع»،[8] وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتأليف بين معانيها تأويلات عديدة:
جاء في “مرقاة المفاتيح”: “قوله: «لا تخيروني على موسى» أي: لا تفضلوني عليه، وهذا قول قاله على سبيل التواضع أولا، ثم ليردع الأمة عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانيا؛ فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبية، فينتهز الشيطان منهم عند ذلك فرصة، فيقعون في مهواة الغي، ولهذا قال: «لا تخيروني من بين الأنبياء»[9]؛ أي: لا تقدموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم، بل بما آتاكم الله من البيان، وعلى هذا النحو قوله: «ولا أقول: إن أحدا خير من يونس بن متى»؛ أي: لا أقول من تلقاء نفسي، ولا أفضل أحدا عليه في النبوة والرسالة؛ فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل نقول: كل من أكرم بالنبوة، فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله، وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أكرم بالرسالة، وإليه الإشارة بقوله: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥)، وإنما خص يونس – عليه السلام – بالذكر من بين الرسل، لما قص الله عليه في كتابه من أمر يونس وتوليه عن قومه، وضجرته عن تثبطهم في الإجابة، وقلة الاحتمال عنهم والاحتمال بهم حين راموا التنصل؛ فقالعز وجل: )ولا تكن كصاحب الحوت( (القلم: ٤٨)، وقال في الصافات: )وهو مليم (142)( (الصافات)، فلم يأمن أن يخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة في حقه، فنبأهم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين”[10].
وأما قوله: “لا تخيروني من بين الأنبياء” فجوابه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم.
الثاني: قاله أدبا وتواضعا.
الثالث: أن المنهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول.
الرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة.
الخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في النبوة نفسها، ولا تفاضل فيها، وإنما التفاضل في الخصائص، وفضائل أخرى، ولا بد من اعتقاد التفضيل، فقد قال تعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣)، وقال أيضا: )ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض( (الإسراء: ٥٥)[11]. وقوله:«أنا سيد ولد آدم» أي: أنا المقدم عليهم.
وإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى»؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون نهيه عن تفضيله قبل إعلامه بأنه سيد ولد آدم.
وثانيها: أن يكون علم، غير أنه نهى عن تفضيله على يونس لثلاثة أشياء:
الأول: أن تفضيل شخص على شخص نوع نقص للآخر، والمعنى: قولوا ما قيل لكم، ولا تخيروا برأيكم، وليس المراد ألا تعتقدوا تفضيل قوم على قوم، فقد قال تعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض(. والثاني: أن يفضل عليه في صبره ومعاناة قومه، فإن نبينا – صلى الله عليه وسلم – لم يفضل الأنبياء بمعاناة قومه، بل بموهبة الله – عز وجل – له الفضل. والثالث: أن يكون دل الناس على التواضع؛ لأنه إذا تواضع هو مع شرفه، فغيره أولى بذلك.
ثالثهما: أن السيادة هي التقدم، فأشار بتقدمه في القيامة في الشفاعة على الخلق، ولم يتعرض بذكر فضل[12].
وبما نقلناه عن العلماء يرتفع التناقض المتوهم بين النصوص التي فيها النهي عن التفاضل بين الأنبياء، وبين قول المصطفى: «أنا سيد ولد آدم»؛ حيث ينحصر الجمع بينها بإرادة التواضع، ورفع الخصومات؛ لا سيما وأن الحديث الذي ذكر فيه أن النبي قال: «لا تخيروني على موسى…» كان بسبب مخاصمة حدثت بين مسلم ويهودي، وأدى ذلك إلى لطم المسلم لليهودي بيده؛ بسبب أنه حلف بأفضلية موسى – عليه السلام – على العالمين، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك الكلام، وينهى عن التفاضل الذي يصل إلى هذا الحد من الخصومة والتناحر بين أهل ملتين. أما ما قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – بشأن نفسه «لا تخيروني من بين الأنبياء»، فيحتمل أن يكون قاله قبل أن يوحى إليه بأنه “سيد الناس يوم القيامة”، وأن ما ذكر بعدم تفضيله على يونس – عليه السلام – ذلك لأن في تفضيل شخص على آخر نقصا للآخر – كما ذكرنا آنفا.
ومن أجل تثبيت تلك العقيدة في نفوس الناس؛ فإنه ذكر فضيلة لموسى – عليه السلام – إذ قال: «إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق»، فهو – صلى الله عليه وسلم – قد أثبت لنفسه أولية الإفاقة، إلا أنه عقب على ذلك بأن موسى قد أفاق قبله، ولعله قد جوزي بصعقة الطور، لما طلب من ربه أن يراه، وبذلك يثبت لموسى فضيلة في هذا الموقف الذي حدث فيه المشادة بين المسلم واليهودي، حتى لا يكون الموقف عاريا عن الدليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تخيروني على موسى».
- من الحكمة سد ذريعة الجدال والخصومة:
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما نهى عن التفضيل بين الأنبياء كان ذلك سدا لذريعة الجدال والتنازع، ولم ينه – صلى الله عليه وسلم – عن التفاضل بذكر بعض الفضائل، وما ورد من أحاديث تنهى المسلمين عن تفضيل بعض النبيين على بعض، فإنها لا تعارض النصوص القرآنية التي تدل على أن الله فضل بعض الأنبياء على بعض، وبعض المرسلين على بعض، وينبغي أن يحمل النهي الذي ورد في الأحاديث على النهي عن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية والانتقاص، أو كان هذا التفضيل يؤدي إلى خصومة أو فتنة، يدلنا على هذا سبب الحديث الذي تقدم ذكره فيما حدث بين اليهودي والمسلم من السب والضرب.
قال ابن حجر في هذه المسألة: “قال العلماء في نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن التفضيل بين الأنبياء: إنما نهي عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد: لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلا إذا قلنا: إنه أفضل من المؤذن، لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان.
وقيل: النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها؛ كقوله تعالى: )لا نفرق بين أحد من رسله(، ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض لقوله: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض(، وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب، وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر، فيفضي إلى الكفر. فأما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان، فلا يدخل في النهي”[13].
وجاء في “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي: إنما نهي عن الخوض في ذلك؛ لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال، وذلك قد يؤدي إلى أن يذكر بعضهم بما لا ينبغي أن يذكر به، وقد يؤدي إلى قلة احترامهم عند المماراة… وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة، التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات والمتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا ومنهم من كلمه الله… فالقول بتفضيل بعضهم على بعض، إنما بما منح من الفضائل، وأعطي من الوسائل[14].
ومعنى ذلك أن حكم التفضيل إنما هو لله – عز وجل – وليس لبشر، وما علينا إلا الانقياد والتسليم، وليس التفضيل أمر عصبية، وإنما هو أمر دين وخلق، وليس التفضيل تخاصما وتشاجرا، وإنما هو تواضع وشكر لله.
ومع ذلك فإن الفضل مراتب، والكمال درجات، فإذا كان الأنبياء جميعا أفضل البشر، فإن أولي العزم من الرسل أفضل الأنبياء، وإن محمدا – صلى الله عليه وسلم – أفضل أولي العزم، فهو – صلى الله عليه وسلم – سيد الأنبياء وخير خلق الله.
وقد جاء في الصحيح: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع».
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[15]. وفي حديث آخر: «فضلت على الأنبياء بست…» ذكر الخمسة السابقة، وزاد«وختم بي النبيون»[16]. والعدد لا مفهوم له، والمراد تعداد الخصائص المحمدية[17].
فلم يقتصر تفضيل النبي – صلى الله عليه وسلم – على هذه الخصائص الست فقط، بل إنه فضل – صلى الله عليه وسلم – بالكثير والكثير من الفضائل التي وهبها الله له، والمعجزات التي أيده الله بها.
ومن خلال ما سبق يتبين أنه لا تعارض بين أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – في نهيه عن التفضيل بين الأنبياء، وقوله: «أنا سيد ولد آدم» لأن ذلك يحمل على أمور أهمها: التواضع، وألا يؤدي ذلك إلى انتقاص درجة نبي معين؛ لأن التفضيل من الله؛ وألا يؤدي ذلك إلى التناصر والتخاصم والجدال، وقد يكون النهي عن ذلك قبل أن ينبأ بأنه سيد الأولين والآخرين، فقد ثبت بالنصوص أنه أفضل الناس جميعا، وأفضل الأنبياء على وجه الخصوص؛ لـما وهبه الله من فضائل وكرامات ومعجزات فاقت الأنبياء والمرسلين جميعا.
الخلاصة:
- إن الله لما خلق الخلق فضل بعضهم على بعض، ففضل بعض الأماكن على بعض، وكذلك بعض الشهور والأيام. حتى إنه – عز وجل – فاضل بين الملائكة، وكذلك فاضل بين الناس، فجعل الأنبياء والرسل أفضل الناس، قال تعالى: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج).
- لقد فاضل الله – عز وجل – بين الأنبياء، قال تعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض(، وكان هذا التفضيل بسبب إعطاء المفضل ما لم يعط المفضل عليه، كرفعه درجة على غيره، أو اجتهاده في عبادة الله عز وجل، واختار الله – عز وجل – أولي العزم، ليكونوا أفضل الأنبياء والرسل؛ لما قدموه من الجهاد الكبير والصبر والتحمل لشدة البلاء.
- إن ما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بشأن النهي عن التفضيل بين الأنبياء، فذلك بسبب حادثة وقعت بين مسلم ويهودي، مما أدى إلى ضرب المسلم اليهودي، فنهى النبي عن تخييره على موسى – عليه السلام – لرفع هذا اللجج والخصومة التي وقعت بين أهل ملتين، نتيجة تفضيل كل واحد لنبيه.
- وأيضا نهى عن ذلك من أجل عدم انتقاص نبي من الأنبياء؛ إذ إن كلهم مفضلون، وتفضيلهم هذا من قبل الله لهم، لا من ذات أنفسهم، إذن المنهي عنه هو التفاضل في النبوة ذاتها، وليس النهي عن التفاضل في الفضائل المعجزات.
- وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سيد ولد آدم، فذلك أول بأنه قال بعدم التفضيل قبل أن يعلم بذلك، أو أن المقصود تقدمه في الشفاعة يوم القيامة؛ لأنه لم يذكر الفضل، لا سيما وأن ذلك تفضيل وهبة من الله له، وقد أكد كلامه – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ولا فخر.
- إن النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – أفضل الأنبياء جميعا، لـما آتاه الله من فضائل، ولما ميزه تعالى بميزات فاق بها الأنبياء قبله، وحاز بها درجة الشرف في التقدم عليهم، وقد أكد ذلك بقوله: «فضلت»، فنسب فعل الفضل والهبة إلى الله، لا إلى ذات نفسه، ومن هنا يتم الجمع بين الأحاديث.
(*) ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.
[1]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر، (10/ 104)، رقم (3911). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3665).
[2]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص205.
[3]. الرسالة والرسل في العقيدة الإسلامية، د. محمد المسير، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص66، 67.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (12/ 143)، رقم (7160). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[5]. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (35/ 33، 34).
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي، (5/ 85)، رقم (2411). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام، (8/ 3498، 3499)، رقم (6038).
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: ) وإن يونس لمن المرسلين (، (6/ 520)، رقم (3415).
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: تفضيل نبينا على جميع الخلائق، (8/ 3411)، رقم (5830).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) قل إنما حرم ربي الفواحش (، (8/ 152)، رقم (4638).
[10]. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، الملا علي القاري، (16/ 347: 349).
[11]. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، الملا علي القاري، (16/403، 404).
[12]. كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي حسن البواب، دار الوطن، الرياض، 1418هـ/ 1997م، (1/ 971).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 514).
[14]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 262) بتصرف.
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التيمم، باب رقم (1)، (1/ 519)، رقم (335). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، (3/ 1083)، رقم (1143).
[16]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، (3/ 1084)، رقم (1147).
[17]. الرسالة والرسل في العقيدة الإسلامية، د. محمد المسير، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص68 بتصرف.