دعوى تناقض القرآن حول تصوره للمسيح عليه السلام
وجه إبطال الشبهة:
-
-
- لا تناقض بين الآيات التي تعرضت لذكر المسيح – عليه السلام – فهي تصفه بأنه بشر خصه الله ببعض الخصائص التي تميز بها عن بقية الرسل، وهذه الخصائص والمزايا، منح من الله تعالى له، وليست ذاتية فيه.
-
التفصيل:
لا تناقض بين الآيات التي تعرضت لذكر المسيح – عليه السلام – فهي تصفه بأنه بشر خصه الله ببعض الخصائص التي تميز بها عن بقية الرسل؛ مثل تسميته بـ “كلمة الله”، و “روح الله”، وولادته بالروح القدس من عذراء، وقدرته على إتيان المعجزات، ورفعه إلى السماء، وكونه وجيها في الدنيا والآخرة، ووصفه بأنه المخلص وأنه قدوس بلا شر، وهذه الخصائص والمزايا منح من الله – عز وجل – له، وليست ذاتية فيه؛ ولو كان القرآن الكريم ينسب للمسيح شيئا بمعزل عن إرادة الله وإذنه، لكان لهؤلاء المغالطين حق في أن يستدلوا بهذه الخصائص على ألوهيته.
أما وإنها منح من الله – عز وجل – له، فإنها تدل على عبوديته لله، لا على ألوهيته، كما قال الله: )إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)( (الزخرف).
ولو كانوا موضوعيين، يبحثون عن الحقيقة المجردة، لاعترفوا بفضل القرآن، وأنه كلام الله، وبفضل رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنه مبلغ عن الله كلامه، وبفضل الأمة الإسلامية، وأنها نقلت ما بلغه رسول الله لها نقلا أمينا، ولم تبادلهم بغضاء ببغضاء، ولم تبدل كلام الله.
بل نقلت ما قاله الله في نبيه عيسى – عليه السلام – دون تبديل أو تحريف، ولم تبادلهم تشويها بتشويه، فكم حاولوا – زورا – تشويه صورة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم!!
أما البيان التفصيلي لما قيل عن لاهوت عيسى – عليه السلام – في القرآن فهو كالتالي:
- وصفه بأنه كلمة الله، أو كلمة منه، أي: أنه نفاذ كلمته )كن( وإن كان الخلق جميعا نفاذ كلمته، وأثرا لها، إلا أن عيسى جاء على نسق غير مألوف للناس لكونه ولد من غير أب، ومن هنا وصف بهذا الوصف.
و”من” في قوله سبحانه وتعالى: )بكلمة منه( (آل عمران: 45) ليست للتبعيض حتى لا يفهم أنه جزء من الله انفصل منه كما يتوهم النصارى، وإنما هي للابتداء، مثل “من” في قوله سبحانه وتعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه( (الجاثية: ١٣)، وإذا كان المسيح هو ذات كلمة الله كما يزعم النصارى، وما دامت كلمة الله تعالى قابلة لأن تنفصل منه وتتحول إلى مخلوق أو إنسان، فلم لا يكون الخلق أو الإنسانية كلها كذلك؟! إن تحول الصفة إلى ذات هو غاية في الشناعة، وإغراق في الاستحالة العقلية.
ووصفه بأنه “روح منه” لا يعنى أنه ابن الله كما زعموا، ولا يعنى أنه انفصل من الله، وإلا كان آدم أحق بذلك فقد قال الله تعالى في حقه: )ونفخت فيه من روحي( (ص: ٧٢)، وكان البشر كلهم كذلك؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – قال في الحديث: «إن أحدكم يجمع خلقه.. ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح»[1]، وضم الحديث مع الآيات في شأن آدم وعيسى يقدم لنا الحقيقة ناصعة، وهي أن جميع البشر – بمن فيهم عيسى عليه السلام – نفخت فيهم الروح بتكليف الملك المخصص بنفخ الروح، وبنفخ الروح تحل الحياة في الجسد[2].
فقد قال تعالى في حق مريم: )فنفخنا فيها من روحنا( (الأنبياء: ٩١)، كما قال عن آدم: )ونفخت فيه من روحي(، لكن التعبير عن عيسى بأنه “روح” أو “روح منه” لكونه جاء على غير الإلف، فكأنه هو الروح، ومشكلة النصارى أنهم حولوا التعبيرات المجازية في كتابهم ككلمة الأب، إلى تعبيرات حقيقية.
- ولادته بالروح القدس من عذراء: يتخذ بعض المغالطين من هذا التمييز لعيسى عن سائر الأنبياء دليلا على أنه إله وابن إله، ويصرحون بأنه ابن، وأمه مريم وأبوه الله – حاشا لله – أما السبب في هذا التميز عندنا – نحن المسلمين – فهو لكي يظهر الله تعالى لنا آية على طلاقة قدرته، وأنه يخلق الشيء وضده، لا يعجزه شيء، فكما خلق الإنسان من أبوين، أعطانا آية على أنه يخلق من غير أب، كما خلق آدم بلا أب ولا أم، وكما خلق حواء من آدم، فقدم لنا الاحتمالات المفترضة كلها، وأنه – سبحانه وتعالى – لم يعجزه واحد منها.
كما قدم الاحتمالات الأربعة في قوله سبحانه وتعالى: )يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)( (الشورى)، وأنه ينفذها كلها.
ولو كان المقصود بقوله تعالى: )بكلمة منه(، وقوله: )وروح منه( أنه جزء من الله انفصل منه، وأنه ابن الإله، ما عقب الله على هذه الآية بإثبات الوحدانية له – سبحانه وتعالى – ونفي الولد وإبطال التثليث، وأكد أن المسيح عبد الله ورسوله، وأن المسيح لا يستنكف أن يكون عبدا لله، بل إن مقصود الآية في المقام الأول هو نهي النصارى عن الغلو في المسيح بتأليهه، قال سبحانه وتعالى: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)( (آل عمران)، )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء).
معاني كلمة “روح الله” في الكتاب المقدس[3]:
إن الله – سبحانه وتعالى ـخلق آدم – عليه السلام – ونفخ فيه من روحه: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)( (الحجر)، ولم يقل أحد: إن آدم إله، ثم إن روح الله تأتي عندكم – في المسيحية – على عدة أوجه:
- القدرة: “ولكن في الناس روحا، ونسمة القدير تعلقهم”. (أيوب 32: 8).
- الرأي: “الحكمة تنادي في الخارج. في الشوارع تعطي صوتها. تدعو في رؤوس الأسواق، في مداخل الأبواب. في المدينة تبدي كلامها قائلة: «إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل، والمستهزئون يسرون بالاستهزاء، والحمقى يبغضون العلم؟ ارجعوا عند توبيخي. هأنذا أفيض لكم روحي. أعلمكم كلماتي”. (الأمثال1: 20 – 23).
- نفس الإنسان: “فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها”. (الجامعة 12: 7).
- الإلهام: “وحل علي روح الرب وقال لي: قل هكذا الرب”. (حزقيال 11: 5).
- قوة الله وقدرته: “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8: 11).
- الخلق والإحياء: “روح الله صنعني، ونسمة القدير أحيتني”. (أيوب 33: 4).
- منزل الوحي على رسل الله: “لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون، مسوقين من الروح القدس”. (رسالة بطرس الرسول الثانية 1: 21).
وهل من الممكن أن تكون الكلمة الصادرة عن الرب هي الرب نفسه؟ فأنتم تقولون بذلك في بداية إنجيل يوحنا، بيد أن العقل السوي يأبي ذلك ويناقض معتقداتكم. فليس معنى أنه كلمة الله أنه هو الله نفسه؛ فالكلمة هنا تعني أمر الله إلى أمه مريم. وفي هذا إجلال لمريم؛ إذ يصفها الله بأنها أطاعت كلمته وأمره بمجرد تأكدها أنها صادرة من عند الله.
معاني كلمة “كلمة الله” في الكتاب المقدس[4]:
- كتاب الله وكلامه وتعاليمه: “وهؤلاء هم الذين زرعوا بين الشوك: هؤلاء هم الذين يسمعون الكلمة، وهموم هذا العالم وغرور الغني وشهوات سائر الأشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر”. (مرقس 4: 18، 19).
- الإيمان وجهاد النفس لطاعة الله: “وإذا كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله”. (لوقا 5: 1)، وأيضا: “وهذا هو المثل: الزرع هو كلام الله والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا”. (لوقا 8: 11، 12).
- الكلمة العادية أو الأمر الموجه لشخص ما، والتي قد تكون سبب سعادة أو حزن: “قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا؛ لأنه كان ذا أموال كثيرة”. (متى 19: 21، 22).
- النطق والكلام العادي: “ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: “ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جدا”، فلم يجبها بكلمة”. (متى 15: 21 – 23).
- دليل أو إثبات: “وإن لم يسمع فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين؛ لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة”. (متى 18: 16).
- السؤال: “فأجاب يسوع: وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضا بأي سلطان أفعل هذا: معمودية يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من الناس؟”. (متى 21: 24، 25).
- التجديف: ” لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي”. (متى 12: 31، 32).
- السب واللعن والتهجم على الآخرين: “ولكن أقول لكم: إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين”. (متى 12: 36).
- الخطأ، أو الإثم، أو العلة، أو سبب الإدانة: “فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار؛ لكي يمسكوه بكلمة، حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين: «يا معلم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلم، ولا تقبل الوجوه، بل بالحق تعلم طريق الله. أيجوز لنا أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟» فشعر بمكرهم وقال لهم:«لماذا تجربونني؟ أروني دينارا. لمن الصورة والكتابة؟» فأجابوا وقالوا:«لقيصر». فقال لهم:«أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب، وتعجبوا من جوابه وسكتوا”. (لوقا 20: 20 – 26).
وكما رأينا لم تأت “الكلمة” أبدا بمعنى ذات الله ولا نفس الله، كما يحلوا لهم أن يفسروا على هواهم ما يثبت ألوهية يسوع؛ ومن ثم لا يمكن أن يكون الذي أوحى بكل معاني لفظ “الكلمة” قد أفاق أخيرا؛ ليوحي في إنجيل يوحنا بأن الكلمة هي الإله نفسه، مع الأخذ في الاعتبار أن علماء اللاهوت يعلمون أن هذا الإنجيل كتب بعد عام 120 ميلادية، فلا يمكن أن يكون الرب المتجسد عندهم نسي أن يوحي بأنه الكلمة لباقي الإنجيليين، وتذكرها بعد 120 سنة من مولده!! ثم قالوا: “والذين قاموا بكتابة أسفار الكتاب المقدس هم أناس الله القديسون”.
لقد خلت الأناجيل الأربعة وما ألحقوه بها من رسائل من بينة واحدة على أن عيسى – عليه السلام – أشار إلى نفسه أنه الكلمة، كما أن الثلاثة أناجيل الأولى المتوازية لم تشر بها إليه قط على ألسنة كاتبيها أو حكاية عن غيرهم، وأشير إلى قول لوقا الشهير في بداية إنجيله: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المـتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به”. (لوقا 1: 1 – 4). فماذا تعني “الكلمة” هنا غير ما سوف نذكره؟ وما الذي يمنع أن يكون هذا المعنى هو الذي قصده يوحنا في بداية إنجيله هو أيضا؟
معاني لفظ ” كلمة” في إنجيل لوقا:
ورد هذا اللفظ في إنجيل لوقا، بالمعنى نفسه الوارد في أسفار التوراة، أي: بمدلول الوحي، أو الأمر الإلهي، أو الرسالة النبوية عند أنبياء العهد القديم، ولم يتجاوز هذا الحد ولم يشر بها إلى مسيح الناصرة، أو حتى أي مسيح آخر. وهو نفس المدلول في سفر إرميا، ونصه: “اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب عليكم يا بيت إسرائيل. هكذا قال الرب: ألا تتعلموا طريق الأمم ومن آيات السماوات لا ترتعبوا؛ لأن الأمم ترتعب منها”. (10: 1، 2).
ومعنى “الكلمة” هنا واضح لا يحتاج إلى شرح، وبمثله قال لوقا عن يوحنا المعمدان: “في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية”. (لوقا 3: 2)، فقد جاءت بعدة معان؛ منها:
- كتاب الله: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينيين وخداما للكلمة”. (لوقا 1: 1، 2).
- رضا الله: “وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا. فأجابه يسوع: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله”. (لوقا 4: 3، 4).
- التوبيخ والنهر: “فوقعت دهشة على الجميع، وكانوا يخاطبون بعضهم بعضا قائلين: ما هذه الكلمة؛ لأنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج”. (لوقا 4: 36).
- أوامر الله ونواهيه: “وإذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله كان واقفا عند بحيرة جنيسارت”. (لوقا 5: 1).
- الإيمان وجهاد النفس لطاعة الله: “وهذا هو المثل: الزرع هو كلام الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون، ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم؛ لئلا يؤمنوا فيخلصوا”. (لوقا 8: 11، 12).
- العمل بكتاب الله: “والذي في الأرض الجيدة هم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويثمرون بالصبر… وجاء إليه أمه وإخوته ولم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع. فأخبروه: أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك، فأجاب: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”. (لوقا 8: 15ـ 21).
- التجديف: “وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”. (لوقا 12: 10).
- السؤال: “فأجاب: وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي: معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟”. (لوقا 20: 3).
- الخطأ أو الإثم: “فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار؛ لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه.. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب وتعجبوا من جوابه وسكتوا”. (لوقا 20: 20 – 26).
ومن هذا نستنتج بوضوح أن الكلمة عند لوقا هي: التعليم، والوحي، والأمر الإلهي الصادر عن الله – سبحانه وتعالى – والمبلغ عن طريق نبي من عباده. فهل شذ من كتب إنجيل يوحنا واستخدم الكلمة “لوجوس” في وصف عيسى – عليه السلام – مخالفا سياق الأناجيل الأخرى والرسائل مستسقيا مصادر أجنبية، وهي الفلسفة اليونانية في جانبها الوثني؛ ليدسه في النصرانية؛ لأن المضمون عند فلاسفة اليونان مثل هيراقليطس: أن “اللوجوس” أو الكلمة هو العقل الإلهي الضابط لحركة الموجودات والمهيمن على الكون، وهذا ما التقطه كاتب إنجيل يوحنا كفكرة فلسفية ليس لها أي أصل ديني صحيح، بل هو تصور وثني أضافه كاتب هذا الإنجيل؛ ليزيد الأمور تعقيدا عند النصارى.
والملاحظ أنه – سبحانه وتعالى – قال عن عيسى وأمه: )آية للعالمين (91)( (الأنبياء: ٩١)، ولم يقل: “رحمة للعالمين” كما فهم الكاتب، ولكنه قال: )ورحمة منا( (مريم: ٢١) إشارة إلى أنه من حيث كونه آية فهو آية للعالمين على طلاقة قدرة الله تعالى، ونفاذ مشيئته بلا حدود، أما من حيث كونه رحمة فهو رحمة لأناس بعينهم، وهم قومه من بني إسرائيل، كما قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف). وكما جاء في الإنجيل على لسانه: “إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة”، فهو آية للعالمين، وليس رحمة للعالمين؛ لأن رسالته ليست عالمية. أما صاحب الرسالة العالمية فهو محمد صلى الله عليه وسلم: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
إن الله – عز وجل – غني عن أن يكون له ابن، أو زوجة تلد له ابنا، وهو – عز وجل – لا يشبه خلقه، فالتوالد نتيجة التجانس والتشابه، وهو سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى: ١١)، وكل المخلوقات خلقه وملكه، فلا حاجة لاختصاص أحد من الخلق ببنوة، ولهذا كانت الحجج في القرآن الكريم تتوالى لإبطال الولد: )سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض( (يونس: ٦٨).
أما أن القرآن لقب المسيح بأنه قدوس بلا شر:
وهذا افتراء على كتاب الله تعالى؛ فالله تعالى لم يسم أحدا من خلقه باسم القدوس، وإنما هو سبحانه وحده القدوس، قال سبحانه وتعالى: )هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس( (الحشر: ٢٣)، ومعنى القدوس: المنزه عن كل وصف يدركه حس، أو خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير[5].
وكون المسيح ذكر في القرآن الكريم من غير أن يذكر له خطيئة لا يعني أنه إله، أو ابن إله، فهو بشر، عبد الله، عصمه الله من الوقوع في المعصية، ولم يمسه الشيطان عند ولادته كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب».[6] وفي رواية: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه”، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: )وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36)( (آل عمران)». [7] لا لأنه إله ابن إله، ولكن تحقيقا لدعوة المرأة الصالحة امرأة عمران عندما لجأت إلى الله – عز وجل – أن يعيذ مريم وذريتها من الشيطان الرجيم.
أما ما يستدل به بعضهم على ألوهية المسيح، وهو:
- قدرته على إتيان المعجزات:
والمعجزة أمر خارق للعادة يجريه الله – عز وجل – على يد نبي؛ تصديقا له في دعوى النبوة، فهي فعل من الله أظهره الله على أيدي أنبيائه، ولم يختص عيسى – عليه السلام – دون سائر الأنبياء بالمعجزات؛ فلكل نبي معجزاته التي أظهرها لقومه؛ ليثبت لهم صدقه، ولا تدل المعجزة على ألوهية من جرت على يديه، وإلا كان الأنبياء جميعا آلهة، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: )وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون( (آل عمران: 52) قال على لسان يوسف عليه السلام: )قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي( (يوسف: 37).
والإحاطة الكاملة بالغيب كله ليست إلا لله – عز وجل – علما كاملا ليس مستمدا من غيره – عز وجل – وهذا لا يمنع أن يعلم بعض خلقه ما تقتضيه الحكمة، كإطلاع رسله على بعض الغيب، قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27)( (الجن).
وما جاء في القرآن الكريم من نسبة الخلق لعيسى في قوله سبحانه وتعالى: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله( (آل عمران: ٤٩)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني( (المائدة: ١١٠).
فعيسى لم يدع أنه يتفرد بالخلق، ولكنه لا يفعل شيئا إلا بإذن الله، ومن معاني الخلق التقدير قال الشاعر:
فلأنت تفري ما خلقت
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
فالخلق الذي نسب له هو التقدير، لذلك جاء في الآيتين أنه يخلق )كهيئة الطير( ولم يرد أنه يخلق الطير، فهو لا يوجد الطير ويخلقه، ولكنه يعمل من الطين شكل الطائر، كما يصنع ذلك أي إنسان، لكن الله تعالى أعطاه آية، بأن ينفخ فيما شكله فيكون طائرا بإذن الله – عز وجل – فهو الذي يوجد الحياة عقب نفخ عيسى – عليه السلام – في الطين المشكل طيرا، وكذلك الأمر في إحياء الموتى فإنه بإذن الله تستجيب الأموات لندائه، فإذا بهم أحياء، وليس عيسى – عليه السلام – أول من أظهر الله على يديه هذه المعجزة، فقد أجرى الله على يد إبراهيم – عليه السلام – إحياء الطير بعد تقطيعها أشلاء، وخلط بعضها ببعض، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة)، وعلى يد موسى – عليه السلام – جاءت معجزة إحياء القتيل عندما ضربوه ببعض البقرة المذبوحة، قال سبحانه وتعالى: )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة).
وإبراء الأكمه والأبرص معجزة كغيرها من معجزات الأنبياء، والله – عز وجل – هو الذي شفاهما على الحقيقة، ولكن نسبة الإبراء إلى عيسى – عليه السلام – بإذن الله لما باشر السبب بأن مسح عليهما فشفيا بإذنه تعالى، والفعل ينسب إلى السبب المباشر كما ينسب إلى الفاعل الحقيقي، وذلك كثير في القرآن وفي اللغة، تقول: شفى الله المريض، وشفى الطبيب المريض، وقال الله: )وارزقوهم فيها( (النساء: ٥)، مع أنه سبحانه هو الرزاق.
- رفعه إلى السماء:
لا يدل ذلك على ألوهيته، بل يدل على ما خصه الله – عز وجل – به لتكتمل خصائصه، وليكون آية للعالمين في بدء حياته، وفي خاتمتها، وفي أثنائها، أما أن يتخذ البعض من رفعه دليلا على خلوده، ويجعل ذلك اعترافا من القرآن بخلوده، فهذا ما يكذبه القرآن نفسه؛ فالقرآن الكريم يذكر على لسان عيسى – عليه السلام – أنه يموت كغيره من البشر، قال سبحانه وتعالى: )والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( (النساء: ١٥٩)، والآية التي استدل بها الكاتب على موت النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ليقارن بين موت محمد، وخلود عيسى – عليهما الصلاة السلام – تدل على موت عيسى ولو بعد حين، فالآية تقول: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد( (الأنبياء: ٣٤)، وعيسى من بين البشر الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
- وجيها في الدنيا والآخرة:
نعم جاء ذلك عن عيسى – عليه السلام – بمعنى أنه ذو جاه ومنزلة في الدنيا والآخرة، وكونه ذا جاه ومنزلة لا ينفي أن يكون غيره كذلك، وقد قال الله تعالى في حق الكافرين: )فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48)( (المدثر: ٤٨)، فيفهم من هذا أن غير الكافرين من أهل الإيمان تنفعهم الشفاعة، وأنها شفاعة شافعين كثيرين، وليست شفاعة واحد فقط، فعيسى – عليه السلام – يشفع لمن أذن الله له بأن يشفع له، وغيره من ذوي الجاه من الأنبياء والملائكة والصالحين كذلك، ولو أكمل الكاتب الآية ووقف عندها، ما تطاول على كتاب الله، فالله – عز وجل – يقول: )ومن المقربين( (آل عمران: ٤٥)، فهو واحد من المقربين إلى الله، لكنه يفرض عقائده الباطلة فرضا على آيات كتاب الله؛ ليقول عن المسيح عليه السلام: “إنه ابن الله المتجسد، والوسيط الوحيد بين الله والناس”.
- المخلص:
يتخذ بعض الكتاب من إطلاق القرآن الكريم على المسيح اسمه المتداول؛ أي: عيسى، ولقبه المعروف؛ أي: المسيح، وإطلاق القرآن اسم “الإنجيل” على كتابهم – اعترافا من القرآن بعقائدهم، فعيسى هو الإطلاق العربي لاسم يسوع عندهم، ويسوع بمعنى المخلص، ويزعمون أن هذا اعتراف من القرآن بأن يسوع مخلص العالم من الخطيئة الموروثة، ومخلص المؤمنين به، كما أن إطلاق المسيح في القرآن اعتراف منه بأنه معين ملكا ونبيا وكاهنا، لتعيينه مخلصا للجنس البشري، كما أن الإنجيل بمعنى: الخبر المفرح.
ونقول ردا على هذه المزاعم: إن استخدام القرآن الكريم لهذه الإطلاقات: “عيسى، المسيح، الإنجيل” لا يعني الاعتراف بعقائدهم الفاسدة، ولا يعني حتى الاعتراف بما تحمله من معان، فإن كانت هذه الكلمات في أصل اشتقاقها تحمل المعاني المذكورة، فإنها أصبحت أسماء لمسميات، فأصبح عيسى – عليه السلام – علما على النبي المرسل، وكذلك المسيح أصبح لقبا له، وأصبح الإنجيل علما على الكتاب الذي أنزله الله عليه.
وحتى لو كان معنى كل اسم من هذه الأسماء مقصودا، فليس على عقيدتهم الوثنية، ولكن عيسى – عليه السلام – مخلص للمؤمنين به من عذاب الله لكونه سببا في هدايتهم، والمسيح معين ليكون نبيا وقد كان، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى – عليه السلام – لا ما بأيديهم مما افتروه على الله، فيه بشرى للمؤمنين، وهذا الفهم لا ينكره القرآن، بل يقرر أن المرسلين مبشرون ومنذرون: )وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين( (الأنعام: ٤٨)، أما كثرة ذكر عيسى ابن مريم – عليه السلام – في القرآن الكريم فليس اعترافا بألوهيته؛ ولكن لأنه لم يقل أحد قولا عظيما في حق مخلوق مثلما قيل في المسيح – عليه السلام – فكان تكرار ذكره تأكيدا على أنه بشر ابن بشر – ابن مريم – ونفيا لألوهيته، ولو كانوا صادقين في الإيمان بعيسى – عليه السلام – وفي حبه، لآمنوا بالكتاب الذي اعترفوا بأنه أشاد به، ووضعه في المكانة اللائقة به، ولأخذوا بكل ماجاء فيه عن المسيح وعن غيره، لا أن يزيفوا الحقائق ويقلبوها، ويحرفوا آيات القرآن ويستنطقوها ضلالاتهم.
الخلاصة:
- المسيح – عليه السلام – كلمة الله وروح منه، أي: أنه نفاذ لكلمته “كن”، ونتيجة نفخ الروح في أمه، لكونه خلقا غير معتاد.
- ما خص الله تعالى به عيسى – عليه السلام – من معجزات لا يدل على ألوهيته، ولكنها تصديق لنبوته، يشاركه في ذلك بقية الرسل، فهم مؤيدون بالمعجزات، وما كان من أمر خلقه، ورفعه فذلك آية للناس تدل على طلاقة قدرة الله تعالى.
- تكرار ذكر عيسى – عليه السلام – في القرآن الكريم لا يدل على ألوهيته، بل لأنه أكثر من فتن الناس به، واختلفوا فيه، ومنهم من عاداه من بني إسرائيل، حتى كفروا به وحاولوا قتله، ومنهم من أفرط في حبه – أو هكذا توهموا – حتى رفعوه إلى درجة الألوهية؛ فجاء القرآن الكريم ليحسم هذا الخلاف، وليضعه في منزلته اللائقة به.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islameyat.com
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3036)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه (6893).
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص20: 25 بتصرف. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص814: 823 بتصرف. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات، دار الفكر، بيروت، 1416هـ/ 1998م، ج2، ص130، 131 بتصرف.
[3]. المناظرة الكبرى مع القمص زكريا بطرس حول ألوهية يسوع، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص99 وما بعدها.
[4]. المناظرة الكبرى مع القمص زكريا بطرس حول ألوهية يسوع، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص100 وما بعدها.
[5]. المقصد الأسنى، أبو حامد الغزالي، مكتبة الجندي، القاهرة، د. ت، ص55.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3112).
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (6282).