دعوى تناقض قوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) مع الحقائق العلمية الفلكية
وجها إبطال الشبهة:
1) أشار القرآن الكريم إلى حقيقة الجاذبية التي تحكم الكون وتجعله مترابطًا يمسكبعضه بعضًا، وذلك في قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض((الحج: ٦٥) وهذا ما اكتشفه العلماء مؤخرًا؛ فقد رأى العلماء أن هذا الكون يقوم على قوة نابذة نتيجة دوران الأجرام السماوية في أفلاكها، وهي تكافئ القوة الجاذبة في الكون، وهذا ما أشارت إليه الآية؛ لذلك قال الله بعدها: )إلا بإذنه (؛ أي: إذا شاء الله ذلك اختلَّت هذه القوانين فانهار الكون وانفرط عقده، ولكن الله برحمته ورأفته جعل ذلك كائنًا إلى يوم القيامة؛ وعليه فلا تعارض بين الآية وحقائق العلم الحديث.
2) إذا كان المقصود بلفظ السماء الغلاف الجوي المحيط بالأرض الذي يحمي الأرض من النيازك والشهب؛ فإن هذا الغلاف محكوم بقانون الجاذبية الأرضية، فلا يستطيع الإفلات من جاذبيتها إلا إذا شاء الله عز وجل ذلك، فيصيب الأرض بعض أجرام السماء التي قد تدمِّرها.
التفصيل:
أولاً- أشار القرآن إلى أن الكون محكوم بقوانين تجعله متماسكًا، وهذا ما اكتشفه العلماء حديثًا، وأطلقوا عليه الجاذبية العظمى:
1) الحقائق العلمية:
إن أقرب أجرام السماء إلينا هو القمر الذي يبعد عنا في المتوسط بمسافة 383,942كم، وتُقدَّر كتلته بنحو سبعين مليون مليون مليون طن، ويدور في مدار حول الأرض يُقدَّر طوله بنحو 2,4 مليون كم بسرعة متوسطة تقدر بنحو كيلو متر واحد في الثانية، وهي سرعة دورانه نفسها حول محوره؛ ولذلك لا يرى أهل الأرض منه إلا وجهًا واحدًا.
ومدار القمر حول الأرض وكذلك مدار الأرض حول الشمس بيضاوي الشكل (أي أنه على شكل قطع ناقص) ومن قوانين الحركة في المدار البيضاوي (أو مدار القطع الناقص) أن السرعة المحيطية فيه تخضع لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن؛ وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة على طول المحيط، فتزداد بالاقتراب النسبي من الأرض، وتزداد بزيادتها قوة الطرد المركزي على القمر فتدفعه بعيدًا عن الأرض، وإلا اصطدم القمر بالأرض فدمَّرها ودمَّرته؛ وتقل السرعة المحيطية للقمر كلما بعد نسبيًّا عن الأرض، فتقل القوة الطاردة المركزية على القمر لئلا يخرج عن نطاق جاذبية الأرض فينطلق إلى فسحة السماء أو تبتلعه الشمس، وأعلى مقدار لسرعة سبْح القمر في مداره حول الأرض يقدر بما قيمته 3888كم/ س؛ وأقل مقدار لتلك السرعة يقدر بنحو 3483كم/ س، وهذا يجعل السرعة المتوسطة لسبح القمر حول الأرض تقدر بنحو 3675كم/ س.
والقانون نفسه (قانون الجري في القطع الناقص) ينطبق على سبح الأرض حول الشمس، وسبح باقي أجرام السماء كلٌّ في مداره حول الجرم الأكبر أو التجمع الأكبر، مع اختلاف سرعة كل جرم تبعًا لحجمه وبُعده.
ويؤكد علماء الفلك أن أبعد كواكب مجموعتنا الشمسية يبعد عن الشمس بمسافة متوسطة تقدر بنحو ستة آلاف مليون كيلو متر، وأن مجرتنا تحوي قرابة تريليون نجم.
كذلك يذكر علماء الفلك أن بالجزء المدرك من الكون أكثر من مئتي بليون مجرة تتفاوت في: أشكالها، وأحجامها، وكتلها، وسرعة دوران كل منها حول محورها، وسرعة جريها في مدارها، وسرعة تباعدها عنا وعن بعضها بعضًا، كما تتباين في أعداد نجومها، وفي مراحل تطور تلك النجوم، فمن المجرات: البيضاوي، والحلزوني، وغير ذلك من الأشكال، ومنها المجرات العملاقة التي يصل قطر الواحدة منها إلى 750 ألف سنة ضوئية، وتصل كتلتها إلى تريليون مرة قدر كتلة الشمس، ومنها المجرات القزمة التي لا يكاد يتعدى طول قطرها 3200 سنة ضوئية، ولا تكاد كتلتها تتعدى مليون مرة قدر كتلة الشمس؛ وتقدر كتلة مجرتنا درب اللبانة بنحو 230 بليون مرة قدر كتلة شمسنا.
وتَتَجمَّع المجرات في وحدات تضم العشرات منها تعرف باسم المجموعات المحلية، وتتجمع تلك في وحدات أكبر تضم المئات إلى عشرات الآلاف من المجرات وتعرف باسم التجمعات المجرية، وتلتقي هذه في تجمعات أكبر تعرف باسم “المجموعات المحلية العظمى” التي تلتقي بدورها في التجمعات المجرية العظمى، ثم تجمعات التجمعات المجرية العظمى، إلى نهاية لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وفي كل الأحوال يدور الصغير حول الكبير في مدار بيضاوي على هيئة قطع ناقص، تحكمه في ذلك قوانين الحركة في مثل هذا المدار.
والتجمع المجري الأعظم الذي تنتمي إليه مجرتنا يضم مئة من التجمعات المجرية، ينظِّمها قرص يبلغ قطره مئة مليون من السنين الضوئية، وسمكه عُشْر ذلك (وهي أبعاد مجرتنا نفسها مضروبةً في ألف).
وفي أيامنا هذه تدرس السماء الدنيا في شرائح تقدر أبعادها بنحو (150 مليون × 100 مليون × 15 مليون من السنين الضوئية)، ووصل أضخمها إلى 250 مليون سنة ضوئية في الطول، وقد أطلق عليه اسم “الحائط العظيم”.
وهذه الأعداد المذهلة مما قد علمنا من أجرام الجزء المدرك من السماء الدنيا لا تمثل إلا نحو 10% من مجموع كتلة ذلك الجزء المدرك، وهي ممسوكة بشدة إلى بعضها بعضًا، وإلا لزالت وانهارت.
وقد تمكَّنت العلوم المكتسبة من التعرف إلى عدد من القوى التي تمسك بأجرام السماء على النحو الآتي:
- قوة الجاذبية: وهي أضعف القوى المعروفة على المدى القصير، ولكن نظرًا لطبيعتها التراكمية فإنها تتزايد باستمرار على المسافات الطويلة حتى تصبح القوة الرابطة لكل أجزاء السماوات والأرض بإردة الخالق سبحانه وتعالى، حيث تمسك بمختلف أجرام السماء على الأقل، وتجمعاتها من الكواكب وأقمارها، والنجوم وتوابعها وتجمعاتها على كل المستويات إلى نهاية لا يعلمها إلا الله، ولولا هذا الرباط المحكم الذي أوجده الخالق عز وجل لانفرط عقد الكون.
ويفترض وجود قوة الجاذبية على هيئة جسيمات خاصة في داخل الذرة لم تكتشف بعدُ، واقتُرِحَ لها اسم “الجسيم الجاذب أو الجرافيتون” (The Gravition) الذي يعتقد أنه يتحرك بسرعة الضوء، ليربط بين مختلف أجزاء الكون حسب قانون محكم دقيق تزداد فيه قوة الجاذبية بزيادة الكتلة للجرمين المتجاذبين، وتتناقص بزيادة المسافة الفاصلة بينهما، وقد لعبت الجاذبية دورًا مهمًّا في تكثيف الدخان الكوني الذي نشأ عن واقعة الانفجار العظيم على هيئة كل صور المادة الموجودة في السماء الدنيا (على أقل تقدير) كما لعبت -ولا تزال- دورًا مهمًّا في إمساك الأرض بغلافيها الغازي والمائي، وبكل صور الحياة والتربة والهيئات الصخرية غير المتماسكة من فوقها.
- القوة النووية الشديدة: وهي القوة التي تقوم بربط الجسيمات الأولية للمادة في داخل نواة الذرة، والتي تعمل على التحام نوى الذرات الخفيفة مع بعضها بعضًا لتكون سلاسل من نوى الذرات الأثقل في عمليات الاندماج النووي، وهي أشد أنواع القوى المعروفة لنا على الأبعاد المتناهية الصغر، ولكنها تضعف باستمرار عبر المسافات الطويلة، وعلى ذلك فدورها يكاد يكون محصورًا في داخل نوى الذرات، وبين تلك النوى ومثيلاتها، وتُحمل هذه القوة على جسيمات تسمَّى باسم “القوة اللاحمة أو الجليون”(The Gluon).
- القوة الذرية الضعيفة: وتحمل على جسيمات تُسمَّى باسم “البوزونات” (The posons)وهي إما سالبة أو عديمة الشحنة، وتربط الإلكترونات الدائرة في فلك النواة، وهي لضعفها تؤدي إلى تفكك تلك الجسيمات الأولية للمادة كما يحدث في تحلل العناصر المشعة.
- القوة الكهرومغناطيسية: وتُحمل على هيئة فوتونات الطاقة أو ما يُعرف باسم “الكم الضوئي”، وهذه الفوتونات تنطلق بسرعة الضوء لتؤثِّر على جميع الجسيمات التي تحمل شحنات كهربائية، ومن ثم فهي تؤدي إلى تكوُّن الإشعاع الكهرومغناطيسي وتؤثر في جميع التفاعلات الكيميائية.
وكما تم توحيد قوتي الكهرباء والمغناطيسية في قوة واحدة، يحاول العلماء جمع هذه القوة مع القوة الذرية الضعيفة، فيما يعرف باسم “القوة الكهربائية الضعيفة”؛ لأنه لا يمكن فصل هاتين القوتين في درجات الحرارة العُليا.
وفي نظريات التوحيد الكبرى يحاول عدد من العلماء جمع القوة الكهربائية الضعيفة مع القوة النووية الشديدة في قوة كبرى واحدة، بل ضم تلك القوة الكبرى مع قوة الجاذبية فيما يسمى باسم “الجاذبية العظمى” التي تربط كل صور المادة في الكون اليوم، والتي يعتقد أنها كانت القوة الوحيدة السائدة في درجات الحرارة العليا عند بدء خلق الكون، ثم تمايزت إلى القوى الأربع المعروفة لنا اليوم، التي تُعتبر وجوهًا أربعة لتلك القوة الكونية الواحدة.
ومن هنا ظهرت نظرية الخيوط فائقة الدقة التي تفترض تكون اللبنات الأساسية للمادة من خيوط فائقة الدقة تلتف حول ذواتها، فتبدو كما لو كانت نقاطًا متناهية الضآلة في الحجم، مشابهة بذلك شريط الحمض النووي في داخل نواة الخلية الحية الذي يتكدَّس على ذاته في حيِّز لا يزيد على الواحد من مليون من الملِّيمتر المكعب، ولكنه إذا فُرِدَ يبلغ طوله قرابة المترين، بضمان 18,6 بليون قاعدة كيميائية في ترتيب غاية في الإحكام وغاية في الإتقان، وتقترح نظرية الخيوط فائقة الدقة وجود مادة خفية تتعامل مع المادة الظاهرة بواسطة قوة الجاذبية([1]).
- الجاذبية العامة:
من الثوابت العلمية أن الجاذبية العامة هي سُنَّة من سنن الله في الكون أودعها ربناسبحانه وتعالى كافة أجزاء الكون ليربط تلك الأجزاء بها، وينص قانون هذه السنة الكونية على أن قوة التجاذب بين أي كتلتين في الوجود تتناسب تناسبًا طرديًّا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة الفاصلة بينهما، ومعنى ذلك أن قوة الجاذبية تزداد بازدياد كل من الكتلتين المتجاذبتين وتنقص بنقصهما، بينما تزداد هذه القوة بنقص المسافة الفاصلة بين الكتلتين وتتناقص بتزايدهما، ولما كان لأغلب أجرام السماء كتلة مذهلة في ضخامتها، فإن الجاذبية العامة هي الرباط الحقيقي لتلك الكتل على الرغم من ضخامة المسافات الفاصلة بينها، وهذه القوة الخفية (غير المرئية) تمثل النسيج الحقيقي الذي يربط كافة أجزاء الكون كما هو الحال بين الأرض والسماء، وهي القوة الرافعة للسماوات بإذن الله بغير عمد مرئية.
وهي القوة نفسها التي تحكم تكوُّر الأرض وتكور كافة أجرام السماء وتكور الكون كله، كما تحكم عملية تخلُّق النجوم بتكدُّس أجزاء من الدخان الكوني على بعضها بعضًا، بكتلات محسوبة بدقة فائقة، وتخلق كافة أجرام السماء الأخرى، كما تحكم دوران الأجرام السماوية كلٌّ حول محوره، وتحكم جريه في مداره، بل في أكثر من مدار واحد له، وهذه المدارات المتعددة لا تصطدم فيها أجرام السماء على الرغم من تداخلاتها وتعارضاتها الكثيرة، ويبقى الجرم السماوي في مداره المحدد بتعادل دقيق بين كل من قوى الجذب إلى الداخل بفعل الجاذبية وبين قوى الطرد إلى الخارج بفعل القوة الطاردة (النابذة) المركزية.
وقوة الجاذبية العامة تعمل على تحدُّب الكون -أي تكوُّره-، وتجبر كافة صور المادة والطاقة على التحرك في السماء في خطوط منحنية (العروج)، وتمسك بالأغلفة الغازية والمائية والحياتية للأرض، وتحدِّد سرعة الإفلات من سطحها، وبتحديد تلك السرعة يمكن إطلاق كل من الصواريخ والأقمار الصناعية.
شكل يوضح ثبات مدارات كواكب المجموعة الشمسية حول الشمس بالتعادل بين قوة الجاذبية والقوة الطاردة المركزية
والجاذبية مرتبطة بكتل الأجرام وبمواقعها بالنسبة إلى بعضها بعضًا، فكلما تقاربت أجرام السماء وزادت كتلتها زادت قوى الجذب بينها، والعكس صحيح، ولذلك يبدو أثر الجاذبية أوضح ما يكون بين أجرام السماء التي يمسك الأكبر فيها بالأصغر بواسطة قوى الجاذبية، ومع دوران الأجرام حول نفسها تنشأ القوة الطاردة (النابذة) المركزية التي تدفع بالأجرام الصغيرة بعيدًا عن الأجرام الأكبر التي تجذبها حتى تتساوى القوتان المتضادتان: قوى الجذب إلى الداخل، وقوى الطرد إلى الخارج، فتتحدَّد بذلك مدارات كافة أجرام السماء التي يسبح فيها كل جرم سماوي دون أدنى تعارض أو اصطدام.
والجاذبية وموجاتها التي قامت بها السماوات والأرض منذ بدء خلقهما، ستكون سببًا في هدم هذا البناء عندما يأذن الله تعالى بتوقف عملية توسُّع الكون، فتبدأ الجاذبية وموجاتها في العمل على انكماش الكون وإعادة جمع كافة مكوناته على هيئة جرم واحد شبيه بالجرم الابتدائي الذي بدأ به خلق الكون، وسبحان القائل:)يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104)((الأنبياء).
- نظرية الخيوط العظمى وتماسك الكون:
في محاولة لجمع القوى الأربع المعروفة في الكون (القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوى الجاذبية) في صورة واحدة للقوة اقترح علماء الفيزياء ما يعرف باسم “نظرية الخيوط العظمى” (The Theory of Superstrings)،التي تفترض أن الواحدات البانية للَّبنات الأولية للمادة من مثل الكواركات والفوتونات، والإلكترونات وغيرها، تتكون من خيوط طويلة في حدود 10-35 من المتر، تلتف حول ذواتها على هيئة الزنبرك المتناهي في ضآلة الحجم، فتبدو كما لو كانت نقاطًا أو جسيمات، وهي ليست كذلك.
وتفيد النظرية في التغلب على الصعوبات التي تواجهها الدراسات النظرية في التعامل مع مثل تلك الأبعاد شديدة التضاؤل، حيث تتضح الحاجة إلى فيزياء كمية غير موجودة حاليًّا، ويمكن تمثيل حركة الجسيمات في هذه الحالة بموجات تتحرك بطول الخيط، كذلك يمكن تمثيل انشطار تلك الجسيمات واندماجها مع بعضها بعضًا بانقسام تلك الخيوط والتحامها.
وتقترح النظرية وجود مادة خفية (Shadow Matter) يمكنها أن تتعامل مع المادة العادية عبر الجاذبية لتجعل من كل شيء في الكون (من نواة الذرة إلى المجرة العظمى وتجمعاتها المختلفة إلى كل السماء) بناءً شديد الإحكام، قوي الترابط([2]). إن كل كتلة في هذا الكون تجذب الكتلة الأخرى بقدر حجم كتلتها، وبقدر المسافة فيما بينهما، وما دامت كل كتلة تجذب أختها فلا بد أن يصبح الكون كتلة واحدة، وهذا ما يحول بين تكتُّله وتبعثره.
إن كل شيء في السماء يدور، ويدور بمسار مغلق، يدور ويرجع، هذه الحركة الكونية المستمرة ينشأ عنها قُوى نابذة، هي التي تكافئ القوى الجاذبة، ومن هذه الحركة المستمرة ينشأ ما يُسمَّى “التوازن الحركي”، وهذا من آيات الله الدَّالة على عظمته([3]).
وإذًا فهذه كواكب، وهذه أقمار تدور حول الكواكب، وهذه نجوم تُعدُّ بالبلايين، تتخلل السماء وتتلألأ في ظلمة الليل، والكل محلِّق في الفضاء سابح في أفلاكه ومداراته، لكنه متماسك بدون عمد فيما بينه بقوة وحكمة ربانية -قوة جاذبية وقوة طاردة وأخرى لا يعلمها إلا الله- فلا اختلال ولا اضطراب في هذا التماسك، بل هو بنيان متين وفريد([4]).
ثانيًا- قوة تماسك الغلاف الجوي للأرض نتيجة الجاذبية الشديدة لها:
1) الحقائق العلمية:
لم يكن أحد يعلم أن الهواء له وزن، وإذا ما حسبنا وزن الغلاف الجوي للأرض نجده مساويًا خمسة مليار مليار كيلو جرام! إذًا الغلاف الجوي الذي يعدُّ سماء بالنسبة إلينا ثقيل جدًّا، ولو كانت كثافة الغلاف الجوي أقل مما هي عليه الآن لتبخَّر وهرب إلى الفضاء الخارجي، ولو أن جاذبية الأرض كانت أقل مما هي عليه الآن لما تمكَّنت الأرض من الإمساك بهذا الغلاف.
وتتجلَّى أهمية الغلاف الجوي للأرض في أنه يحتوي على العناصر الغازية التي لا غنى للحياة عنها، كما أنه يحمي سكان الأرض من الإشعاعات الكونية وأسراب الشهب والنيازك، التي عندما تدنو من الأرض تحترق في جوِّها العلوي احتراقًا جزئيًّا أو كليًّا قبل أن تصل إلى السطح العلوي للأرض.
يقول (Bill cooke)(من وكالة ناسا): في كل يوم يسقط بحدود طن متر من النيازك على سطح القمر، وتتضمن النيازك كل الأشكال اعتبارًا من القطع الكبيرة وحتى جزيئات الغبار، وتضرب سطح القمر بسرعة تتجاوز مئات الآلاف من الكيلو مترات في الساعة؛ ولهذا استخدم بعض العلماء في التعبير عن هذه الظاهرة قولهم: السماء تسقطThe skyis falling،وبسبب وجود غلاف جوي قوي للأرض لا نحس بهذه الحجارة؛ لأنه يحفظ الأرض من مثل هذه النيازك… إن الذي يراقب سطح القمر أو يوجد عليه يحس وكأن السماء تقع عليه كل يوم، وهذا ما أحس به رواد الفضاء عندما كانوا على سطح القمر([5])!
صورة لسطح القمر كما التقطتها وكالة الفضاء الأمريكية، ويظهر القمر مليئًا بالحفر وفوهات البراكين، والثقوب الناتجة عن سقوط كميات هائلة من النيازك والحجارة الكونية
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
ينكر الطاعنون الإعجاز العلمي في قوله تعالى:)ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ((الحج:65) وقد تغافل هؤلاء عن قدرة الله عز وجل الذي خلق هذا الكون المليء بالكواكب وتوابعها التي تدور حول النجوم المكدَّسة في داخل المجرات، وهذه النجوم بدورها تدور حول المجرات، وهذه المجرات تكوِّن ما يسمَّى بـ “التجمعات المجرية المحلية”، ثم “التجمعات المجرية العظمى”، كل هذا يقوم على قوى الجاذبية التي خلقها الله لضمان تماسك الكون وعدم انهياره، وإلى هذا تشير الآية الكريمة، وهذا يدل على السبق القرآني لهذه الحقائق التي اكتشفها العلماء حديثًا.
من الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
“يمسك” في قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض( (الحج:65)؛ أي: يحفظها([6]).
“تقع”: وقع، يقع، وقْعًا ووقوعًا: أي سقط([7]).
من أقوال المفسرين:
ذكر ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ( (الحج:65)، ما مختصره “أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ ولهذا قال: )إن الله بالناس لرءوف رحيم ((65)(الحج ) أي: مع ظلمهم”([8]).
وجاء في تفسير الجلالين ما نصه: “) ويمسك السماء ( (الحج: ٦٥)، من أن أو لئلا ) تقع على الأرض إلا بإذنه((الحج:65) فتهلكوا )إن الله بالناس لرءوف رحيم ((65)(الحج ) في التسخير والإمساك”([9]).
وذكر البغوي في تفسير قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض((الحج:65) ما نصُّه: “يعني: لكيلا تسقط على الأرض”([10]).
وذكر الرازي في تفسيره أن من دلائل قدرة الله عز وجل ونعمه على عباده في قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم (65) ((الحج): أن النعم المتقدِّمة في الآيات لا تكتمل إلا بهذه، بأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلبًا، ووجب أن يكون ثقيلًا، وما كان كذلك فلا بد من الهوي -أي: السقوط- لولا مانع يمنع منه، وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام، وقوله تعالى:)أن تقع ( قال الكوفيون: كي لا تقع. وقال البصريون: كراهية أن تقع، والمعنى: أنه أمسكها لكيلا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها([11]).
وذكر صاحب الظلال في تفسير قوله تعالى: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه((الحج:65)، وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له؛ وحكَّم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة، لا تسقط ولا يصدم بعضها بعضًا… والله عز وجل يمسك السماء أن تقع على الأرض بفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها وهو من صنعه )إلا بإذنه(، وذلك يوم يُعطَّل الناموس الذي يُعمله لحكمة ويعطله كذلك لحكمة([12]).
ويقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله عز وجل: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه((الحج:65): والإمساك: الشدُّ، وهو ضد الإلقاء، وقد ضُمِّن معنى المنع…، ولفظ “السماء” في الآيةيجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس، فيكون كُلًّا شاملًا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علمًا، كالكواكب السيارة وما الله أعلم به، وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان([13]).
من خلال هذا العرض لآراء المفسرين نجد أنهم أشاروا إلى إمكانية وقوع السماء على الأرض، إلا أن الله عز وجل يمسك السماء بقدرته وعظمته من أن تقع على الأرض رحمة بالناس ورأفة بهم، وهذه القدرة التي أشار إليها القرآن هي الجاذبية التي تمسك هذا الكون من الانهيار، نتيجة دوران كل أجرامه في فلك محدود لا يتعداه بقوة دفع طاردة وقوة جذب شديدة؛ وهذا إنما يدل على قدرة الله تعالى على تسيير خلقه حسب مشيئته وحكمته، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث مؤخَّرًا، وقد سبق إليه القرآن منذ آلاف السنين، فكيف ينكرون هذا السبق القرآني ويعدُّونه ضربًا من الهذيان؟!
3) وجه الإعجاز:
لم يكن أحد يعلم قبل ذلك أن هذا الكون بكل ما فيه من كواكب ونجوم ومجرات، كل يدور في فلكه، وتحكمه قوانين جعلها المولى عز وجل سببًا في بقاء أجرامه متراصة ومترابطة دون أن يحدث بينها تصادم إلى أن يشاء الله عز وجل، ولم تكتشف هذه الأشياء إلا مؤخرًا، وإلى ذلك تشير الآية، فقد بدأت بقوله تعالى: )ويمسك السماء( (الحج: ٦٥)، وفي هذه العبارة إشارة إلى قوة الجاذبية التي خلقها الله وسخرها لتربط أجزاء الكون فلا ينهار، ولو أن هذه الجاذبية اختفت لبدأت المجرات في التصادم، ولحدثت تصادمات في المجموعة الشمسية، الأمر الذي يؤدي إلى اصطدام الكواكب ببعضها وبالأرض بشكل يفتِّت الأرض تمامًا.
ولكن رحمة الله تعالى بعباده أنه حفظ هذه القوى الجاذبية، فهي مستمرة إلى يوم القيامة، حيث تنهار هذه القوى مسبِّبة تناثر الكواكب والنجوم والمجرات؛ فيزول الكون، ولا يبقى إلا الله عز وجل.
كذلك؛ فإن المخاطب بهذه الآية هو الإنسان على الأرض، ولكي نتخيل تحقق هذه الآية، أي اصطدام السماء بالأرض، يمكن أن نتخيل نيزكًا بحجم صغير، لو أنه اصطدم ووقع على الأرض لأحدث هزَّات ارتدادية عنيفة واحتكاكًا يرفع درجة الحرارة آلاف الدرجات، ويفتت أجزاءً من الأرض، وقد يؤدي ذلك إلى انقراض عديد من الكائنات الحية، على رأسها الإنسان، ولكنها رحمة الله بنا([14]).
(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص570- 573. وانظر: القوى الأساسية في الكون، هارون يحيى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[2]. ) الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها( (الرعد: 2)، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الدكتور زغلول النجارwww.elnaggarzr.com.
[3]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، دمشق، ط3، 1429هـ/ 2008م، ص55.
[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، شركة حرف لتقنية المعلومات، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م ، ج6، ص41، 42.
[5]. كيف يمسك الله السماء؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com. وانظر: هل يمكن للسماء أن تسقط على الأرض, عمر الشهاوي, منتديات النور والإيمان.
[6]. المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص468.
[7]. المعجم الوسيط، مادة: وقع.
[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط.2، 1420هـ/1999م، ج3، ص233.
[9]. تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، دار الحديث، القاهرة، ط1، ج1، ص422.
[10]. معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر، وآخرين، دار طيبة، السعودية، ط4، 1417هـ/ 1997م، ج5، ص198.
[11]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، 1401 هـ/ 1981 م، عند تفسيره لهذه الآية.
[12]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2441 بتصرف.
[13]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، مج8، ج17، ص322- 323 بتصرف.
[14]. كيف يمسك الله السماء؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.