دعوى تودد القرآن إلى اليهود والنصارى، ثم عدوله عن ذلك
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم ينزل القرآن على مراحل حددتها علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – بيهود الجزيرة ونصاراها كما زعموا، بل نزل منجما مفرقا لحكم ومقاصد شرعية.
2) سار القرآن على منهج بين في معاملة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهو منهج يشهد له غير المسلمين بالعدالة والتسامح.
3) لم يتودد الإسلام في شيء من نصوصه إلى أهل الكتاب، بل شنع عليهم تحريفهم لوحي الله وقولهم على الله ما لا يعلمون، وتشابه القصص في القرآن وكتب أهل الكتاب لا دلالة له على الاقتباس منهم والأخذ عنهم.
التفصيل:
أولا. نزول القرآن منجما[1]:
نزل القرآن الكريم منجما، قال سبحانه وتعالى: )وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32)( (الفرقان)، وهذا جانب من افترضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرودهم عن الحق، وتجافيهم عن اتباعه، قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت الكتب الثلاثة، وما له أنزل مفرقا؟
والقائلون هم قريش، وقيل: اليهود، وهذه مماراة[2] بما لا طائل منه؛ لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا، والحكمة من نزوله كذلك أن يقوي الله ـعز وجل – قلب نبيه حتى يعيه ويحفظه؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، ولو ألقي إليه جملة واحدة لشق حفظه، والرسول – صلى الله عليه وسلم – فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى – عليهم السلام -، فإنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والحفظ، فأنزل عليه منجما[3] في عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين سنة، وقد كان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين.
وكذلك من حكمة نزوله منجما أن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا، وذلك ينفي ادعاءهم أن القرآن نزل على مراحل لوحظ فيها صلته باليهود والنصارى وتطور علاقته بهم؛ فقد تبين مما تقدم أن نزول القرآن مفرقا له حكم ومقاصد مستقلة عن علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – بيهود الجزيرة ونصاراها، وأن منها ما يتعلق بشخص النبي – صلى الله عليه وسلم – ليثبت الله فؤاده، أو لييسر عليه حفظه وتلقيه، ومنها ما يتعلق بطبيعة القرآن ذاته واشتماله على ناسخ ومنسوخ، وهو ما لايتأتى في كتاب ينزل جملة واحدة.
خصائص القرآن المكي والمدني:
من خلال خصائص القسمين المكي والمدني، يتبين لنا أن عقيدة التوحيد التي رسخها القرآن المكي لا تحوي مداهنة[4] لأحد، لا يهود ولا نصارى ولا غيرهم، وهذه جملة من خصائص القرآن في العهد المكي:
- الدعوة إلى التوحيد، وإثبات الرسالة، وإثبات اليوم الآخر، والوعد والوعيد، وجدال المشركين بالبراهين العقلية والآيات الكونية.
- وضع القواعد العامة للتشريع في الحلال والحرام، والتركيز على تثبيت مكارم الأخلاق، كالعدل، والإحسان، وإبطال ما ينافيها من مساوئ الأخلاق كالظلم والفجور والأذى مما كان يفعله أهل الجاهلية.
- ذكر قصص الأنبياء والأمم السالفة للعبرة والقياس، وتثبيت النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين فهو الكتاب الخاتم.
- قصر الفواصل بين الآي، مع قوة الوقع في الألفاظ، والإيجاز في العبارة.
أما القرآن المدني:
فله – كذلك – جملة خصائص تميزه عما نزل بمكة، ومنها:
- تفصيل العبادات والمعاملات والحدود، وقانون الدولة الإسلامية، وسائر شرائع الإسلام مما يناسب التكليف به واقع التمكن للمجتمع المسلم.
- التركيز على دعوة أهل الكتاب، وشرح أحوالهم وبيان ضلالهم، حيث كانوا يوجدون في مجتمع المدينة بعد الهجرة.
- الكشف عن حقيقة النفاق وشرح صفات المنافقين وأحوالهم، والنفاق لم يظهر في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى مكن الله لهذا الدين، فصار بعض الناس يستترون بالإسلام في الظاهر خوفا من سلطان الحق وأهله، وهم يسرون له العداوة والكيد والتآمر، ولم يظهر النفاق في مكة وإنما ظهر في المدينة.
- وأخيرا طول الآيات بما يتناسب مع الشرح والبيان لشرائع الإسلام[5].
وبذلك يتضح لنا أن الإسلام لم يجامل اليهود ولا النصارى، ولا حتى المسلمين أنفسهم، من باب إحقاق الحق وإقامة العدل.
ثانيا. تسامح الإسلام مع أهل الكتاب:
لقد عامل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اليهود بالإحسان[6] والتسامح ثم زاد من جانبه في حسن معاملتهم أنه بدأ يتبادل معهم المنافع، فعقد بينه وبينهم معاهدة أمنهم فيها على أنفسهم وأموالهم وعقائدهم، وضمنها ما يحقق لهم كل خير.
نصت هذه المعاهدة على الكثير من المبادئ السامية التي تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان، كإقرار التعايش السلمي واحترام عقيدة الآخر، وكفالة الحرية الدينية لليهود، وأباحت لهم أن يقوموا بأداء شعائر دينهم، كما أن المعاهدة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الصادق مع اليهود من أجل نشر الطمأنينة والأمن في المجتمع، ومحاربة مثيري الفتن أيا كان دينهم أو جنسهم، والتعاون التام بين المسلمين واليهود في صد أي عدوان خارجي على المدينة.
كما أن المعاهدة اشتملت على كثير من المبادئ الإنسانية السامية، كنصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، ومساعدة المدين… إلخ، وكذلك نصت الصحيفة على أن من ارتكب إثما يوجب عقوبة نفذت عليه[7].
هذا عن الجانب الإسلامي، أما ما عرف عن اليهود من أنهم ليسوا بأوفياء للعهود، فقد كان وسيستمر أبد الدهر فدائما ما ينقضون عهودهم ومواثيقهم مع الله على مر العصور، فلا نتعجب أن ينقضوا عهدهم مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغيره من أنبياء الله.
فقد أمرهم سبحانه بعد أن نجاهم من التيه أن يدخلوا القرية سجدا وشكرا لله، وأن يقولوا في سجودهم “حطة”؛ أي: غفرانا، فغيروا وبدلوا فيها على حسب أهوائهم، كما فعلوا يوم سبتهم، فمسخهم الله قردة؛ لأنهم دائما ما يقلدون دون وعي، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)( (البقرة)، كما قال سبحانه وتعالى: )ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)( (البقرة)[8].
ثالثا. الاستدلال بالقصص القرآني على تودد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل الكتاب:
أما القصص الذي يزعمون أنه مقتبس من العهد القديم، فقد ورد في القرآن الكريم لأنه هو الكتاب الخاتم الذي لا بد من وجود العبر والعظات فيه، وذلك بذكر أخبار الأمم السابقة، وقصص الأنبياء والصالحين، على أنه ذكر كل ذلك مصوبا ومضيفا لما ورد في التوراة والإنجيل لا مقتبسا عنهما، والمتتبع لقصة سيدنا آدم وولديه قابيل وهابيل، وقصة سيدنا يوسف، وزكريا وابنه يحيى، والسيدة مريم، وغيرها يجد أن التناول مختلف تماما في طريقة العرض والأسلوب والأحكام.
بل إن القرآن الكريم إذا وافق الكتب السماوية السابقة عليه في أصل الحادثة، فإنه يحق الحق ويبين وجه الحقيقة فهو يضيف ويصوب وينقح ويصحح، ويبين الحكمة والعظة من وراء القصة تبصرة لأولي الألباب.
أما توراتهم وأناجيلهم المحرفة، فتحوي العديد من الأكاذيب والافتراءات على أنبياء الله؛ كزعمهم أن سيدنا نوحا – عليه السلام – شرب الخمر حتى ترنح سكرا، وسيدنا لوطا زنى بابنتيه، وسيدنا إبراهيم يكذب، وسيدنا موسى قاتل أخيه هارون، وغيرها الكثير من الافتراءات.
أما قولهم إن ذكر قصص السالفين في القرآن الكريم من باب التودد والمحاباة لليهود فلا أصل له؛ لأن القرآن ذكر المحسن من أهل الكتاب والمسيء كما في قوله سبحانه وتعالى: )ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)( (آل عمران)، وذم فسادهم، وجدالهم وتطاولهم على أنبياء الله، كما في قوله سبحانه وتعالى: )ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)( (آل عمران). وقال سبحانه وتعالى: )الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)( (البقرة). وهنا يتضح إنكارهم للحق وهم يعرفونه.
وقال سبحانه وتعالى: )وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم( (البقرة: 111)، وقال: )وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18)( (المائدة). كما قال: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80)( (البقرة).
وقال سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا( (المائدة: 64). )لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق( (آل عمران: 181). وقال سبحانه وتعالى: )ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51)( (النساء). وقال سبحانه وتعالى: )ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم( (المائدة: 13)، فالخيانة شيء متأصل فيهم. وقال سبحانه وتعالى: )ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة( (البقرة: 74) فقلوبهم شديدة القسوة. وقال سبحانه وتعالى: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود( (المائدة: 82). فيتضح شدة كراهيتهم للمسلمين.
وغيرها العديد من الصفات الذميمة التي سجلها عليهم القرآن الكريم، وعرفها المسلمين ليحذروا عدوهم، والوقوف على هذه الآيات يكفي وحده لرد ادعاء أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – جاملهم أو داهنهم في بعض أطوار[9] دعوته.
علاقة القرآن بالنصارى:
والنصارى هم من جملة أهل الكتاب الذين يعيشون في الدولة الإسلامية، رعايا كالمسلمين لهم حقوق وعليهم واجبات، من باب الإنصاف والعدل، فالإسلام أمرنا ألا نسيء إليهم، ولكن لا يقال: إن هذا ضعف أو تودد؛ فقد أثبت القرآن الكريم ما فيهم من مساو ولكن لم يرغمهم يوما على ترك دينهم أو تغيير معتقداتهم.
أما صورتهم في القرآن الكريم فتحددها الآيات التالية:
قال سبحانه وتعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)( (العنكبوت).
فهنا أمر من الله – عز وجل – بحسن معاملة أهل الكتاب عامة إلا من يؤذي المسلمين منهم فقد ذمهم القرآن الكريم، وهذا من محكم العدل والإنصاف، وقد أوصى الرسول الكريم بأقباط مصر خيرا، فقال: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما»[10].
ولعل تطبيق هذه الوصية كان سببا في دخول الكتابيين من نصارى مصر في دين الإسلام، حتى أصبحت مصر دار الإسلام وحصنه الحصين، وفي المقابل قال تعالى في محكم تنزيله: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)( (المائدة).
وقال أيضا: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)( (المائدة).
قال وهو الأحد الصمد: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة).
وقال أيضا: )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)( (التوبة).
وقال سبحانه وتعالى: )إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)( (آل عمران).
وقد دعا القرآن أهل الكتاب جميعا إلى كلمة سواء؛ فقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله( (آل عمران: 64)، وهي دعوة لا يناقضها الإقرار بتحريف الكتب المقدسة لليهود والنصارى؛ فإن الحديث عن تحريفها ليس فيه إساءة ألبتة لمشاعر أهل الكتاب، بل فيه شحذ لأذهانهم، ليسلكوا السبيل الموصلة للحق، والذي ينتهي بهم إلى رضوان الله، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض، فنحن – المسلمين – منهيون عن سب ما يعبده الآخرون، أو إثارة مشاعرهم، )ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم( (الأنعام: 108). ولكننا نقول الحق وبيانه للناس كافة، ودعوتهم إليه، فنحن – المسلمين – كما قال ربعي بن عامر: “ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
ثناء القرآن الكريم على المسيح – عليه السلام – وأمه:
أما عن زعمهم بتودد القرآن الكريم للنصارى عن طريق ذكر المسيح – عليه السلام – وأمه بكلام طيب، فهو زعم باطل مردود؛ لأن القرآن الكريم حينما أثنى على المسيح – عليه السلام – وأمه لم يكن يهدف إلى التودد إلى النصارى كما يزعمون، وإنما كان تكريما لرسول عظيم من أولي العزم من الرسل، ولأمه السيدة البتول العابدة، والمتأمل لهذه الآيات التي ورد فيها الثناء على المسيح – عليه السلام – يجد أنها قد ذكرته بألقاب متعددة تحمل كلها أروع معاني الإجلال والتقديس، وفي هذا تقدير من العزيز الحكيم ليحدد هوية هذا الإنسان وصفته الذي خلق بمعجزة؛ فهو ابن مريم فقط، وليس ابنا لله – تعالى الله عما يقولون – ولا ليوسف النجار كما تنسبه الأناجيل، وإنما هو “عبد الله” و “رسول الله” و “كلمة الله”و “روح من الله” و “آية الله”، ولم يكن أبدا – ولا ينبغي له أن يكون – ابنا لله، أو صورة لله كما يزعم النصارى[11]، وأمه السيدة مريم هي العابدة البتول الصديقة، وخير نساء العالمين، ولم تكن أبدا أم الإله كما يقول النصارى. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فقد أثنى القرآن الكريم على سائر الأنبياء والرسل الكرام، وكذلك أثنى على نساء صالحات؛ كأم موسى، وامرأة فرعون، فأين المحاباة؟! وأين هذا التودد المزعوم للنصارى؟!
علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – بورقة بن نوفل:
أما عن علاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – بورقة بن نوفل، فقد بالغ فيها هؤلاء المدعون مبالغة عظيمة؛ إذ إنه في حقيقة الأمر لم يكن هناك أية علاقة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة بن نوفل، سوى هذا اللقاء الوحيد الذي تم بينهما بعد أول لقاء للنبي – صلى الله عليه وسلم – مع جبريل – عليه السلام – في غار حراء؛ إذ انطلقت به خديجة – رضي الله عنها – إلى ابن عمها ورقة، وكان ممن تنصر في الجاهلية، وعنده علم بالتوراة والإنجيل، وكان ممن يعبد الله ويوحده، فقص عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – قصته فبشره بالنبوة، وتمنى لو أدركته الرسالة لينصره نصرا مؤزرا[12]، والمتأمل في هذا اللقاء يجد أنه تم بواسطة السيدة خديجة؛ أي: لم تكن هناك علاقة سابقة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة، كما أن ورقة بن نوفل توفي بعد هذا اللقاء بفترة قصيرة، ولم تذكر كتب السيرة أي لقاء بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة غير هذا اللقاء، مما يبطل أية دعوى تتهم النبي – صلى الله عليه وسلم – والإسلام بالمداهنة لأحد – يهوديا كان أو نصرانيا – في أية مرحلة من مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
- أن الإسلام ما تودد إلى اليهود، ولا النصارى ولا غيرهم، إنما عاملهم بالإنصاف والتسامح، بصفتهم رعايا يعيشون في الدولة الإسلامية لهم ما لنا من حقوق، وعليهم ما علينا من واجبات.
- والقرآن كذلك لم يتعرض لهم بالذم دائما، بل ذكر محسنهم ومسيئهم، ولذلك حذر المسلمين من بعض أفعالهم التي قد تسبب الأذى للمجتمع ككل.
- إن القرآن المكي يرسخ عقيدة التوحيد، في غير تودد ولا مجاملة، أما بعد الاحتكاك الفعلي بيهود المدينة، فلم يكن بد من إرساء بعض الأحكام لضبط التعامل معهم، لذلك جاء القرآن المدني مبينا لتلك الضوابط.
- كما عقد الرسول – صلى الله عليه وسلم – معاهدة معهم تنص على العديد من المبادئ الإسلامية الراقية، التي تنصفهم باعتبارهم آدميين، لهم حق الحياة، والعدل، والحماية وغير ذلك.
- إن الثناء الوارد في القرآن الكريم عن المسيح – عليه السلام – وأمه السيدة مريم، هو في حقيقته ثناء على نبي كريم، ورسول عظيم من أولي العزم من الرسل، وثناء على أمه السيدة الصديقة العابدة البتول، ووصفهما بما يستحقان من صفات جليلة، وليس فيه أي تودد أو مداهنة للنصارى، بل إنه يوضح حقيقة المسيح – عليه السلام – وأمه، وأنه عبد الله ورسوله، وليس إلها أو ابن إله كما يزعم النصارى.
- لم تكن هناك أية علاقة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة بن نوفل، سوى في هذا اللقاء الوحيد الذي تم بينهما، وذلك بعد أول تجربة للنبي – صلى الله عليه وسلم – مع الوحي، وقد توفي ورقة بعد هذا اللقاء بوقت وجيز، فأين العلاقة التي كانت بينهما؟!
- إن القرآن الكريم لم ينزل على مراحل مرتبطة بعلاقة النبي – صلى الله عليه وسلم – باليهود والنصارى في الجزيرة، ولكنه نزل منجما مفرقا لحكم ومقاصد معلومة، فقد كان ينزل وفق الحوادث، وإجابات السائلين، كما أن ذلك أدعى لسهولة حفظه وتطبيق أحكامه.
(*) محاضرة عن “ألوهية المسيح في كتاب الآخرين”.
[1]. انظر: الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر، بيروت، ج3، ص91.
[2]. الممارة: المجادلة.
[3]. المنجم: المفرق.
[4]. المداهنة: المجاملة.
[5]. المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1427هـ /2006م، ص56، 57.
[6]. القرآن واليهود، الشيخ منصور الرفاعي عبيد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003م.
[7]. القرآن واليهود، الشيخ منصور الرفاعي عبيد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003م، ص125 بتصرف.
[8]. القرآن واليهود، الشيخ منصور الرفاعي عبيد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003م، ص135: 143 بتصرف.
[9]. الأطوار: المراحل، جمع طور.
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب وصية النبي بأهل مصر (6658).
[11]. انظر: أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص45.
[12]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد بن محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص261 بتصرف.