دعوى جواز الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة مطلقا ً
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الحديث الضعيف الذي قصده العلماء الذين جوزوا الاحتجاج به هو الذي يرتقي إلى درجة الحسن، وليس الضعيف المتروك؛ وذلك لأن تقسيم الحديث أول الأمر كان إلى صحيح وضعيف فقط، ولم يقسم إلى صحيح وحسن وضعيف إلا مؤخرا.
2) لقد اختلف العلماء في العمل بالحديث الضعيف على ثلاثة أقوال: إما الاحتجاج به مطلقا (وهؤلاء يقصدون الحسن أو الضعيف الذي انجبر بكثرة الطرق)، وإما الاحتجاج به في فضائل الأعمال بشروط، والثالث عدم الاحتجاج به مطلقا وهو أقواها وأصحها؛ إذ الشريعة شاملة كاملة بالصحيح فقط، فلماذا نبني أحكاما على أحاديث ضعيفة؟!
التفصيل:
أولا. إن الضعيف الذي قصده هؤلاء العلماء هو الذي يرتقي إلى درجة الحسن وليس الضعيف المتروك:
إن الحديث الضعيف الذي قصده العلماء الذين جوزوا الاحتجاج به هو الذي يرتقي إلى درجة الحسن، وليس الضعيف المتروك؛ وذلك لأن تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف لم يظهر إلا مؤخرا، فقد كان في عرف هؤلاء العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.
والضعيف عندهم ينقسم إلى: ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى: مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعيف خفيف لا يمنع من ذلك[1].
فكما أن المريض الذي لا يرجى برؤه لا يصرف عليه المال طلبا للشفاء، كذلك الحديث الضعيف المتروك لا يحتج به، على عكس المريض الذي يرجى برؤه يستحق أن يصرف عليه المال طلبا للشفاء فهذا يشبه الحديث الحسن الذي يحتج به، وهو النوع الثاني من أنواع الضعيف عند العلماء المتقدمين.
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “منهاج السنة النبوية” معنى قول السلف: (إن الحديث الضعيف خير من الرأي) بقوله: “ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به الحسن؛ كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه، وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي: إما صحيح وإما ضعيف، والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح، فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة: “الحديث الضعيف أحب إلي من القياس”، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي، وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه”[2].
وهذا هو الإمام أحمد أحد هؤلاء العلماء القائلين بجواز الاحتجاج بالحديث الضعيف وتقديمه على الرأي… لكن ما هو حد الضعيف عنده؟ هذا ما يوضحه لنا ابن القيم رحمه الله إذ يقول: “ليس المراد بالضعيف عنده – يعني الإمام أحمد ابن حنبل – الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم، بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف.
وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه – كان العمل به أولى من القياس، وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم من أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس”[3].
ويؤكد ابن القيم ذلك أيضا فيقول: “وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون: حسنا، قد يسميه المتقدم ضعيفا”[4].
يقول الشيخ محمد أديب الصالح: “إن الضعيف الذي يقدمه أحمد بن حنبل على الرأي ليس الضعيف على الاصطلاح المشهور، وهو الذي لم يجمع صفات القبول التي هي شروط الصحيح والحسن، والذي هو القسم الثالث من أقسام الحديث على رأي المتأخرين، وإنما هو الضعيف الذي يقابل الصحيح في اصطلاحه هو – اصطلاح المتقدمين ومنهم الإمام أحمد – إذ الخبر عندهم قسمان فقط: صحيح وضعيف، وإنما كان الضعيف كذلك؛ لأنه ضعف عن درجة الصحيح فيشمل الحديث الحسن”[5].
وقد تلقي كلام العلامة ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – عند كثير من أهل العلم بالقبول والتأييد، بناء على أن الترمذي – رحمه الله تعالى – هو الذي أشهر هذا التقسيم للحديث من حيث القبول والرد، أعني: الصحيح والحسن والضعيف، بحيث أصبح إطلاق أحد هذه الأقسام يفيد حكما محددا، لا يتداخل مع غيره، وهذا لا يتنافى مع مجرد ورود ذكر الحديث الحسن، أو الرجل حسن الحديث في كلام المتقدمين؛ لأنه لا يشترط إرادة الحسن الاصطلاحي[6].
وبهذا يتضح لنا أن هؤلاء العلماء عندما جوزوا الاحتجاج بالحديث الضعيف، لم يقصدوا به الضعيف بمصطلحه المعروف بيننا وهو الضعيف الواهي أو المتروك، لكنهم قصدوا به الحسن الذي ينجبر بغيره من الشواهد، أو الذي يوافق نصوص القرآن، وتتلقاه الأمة بالقبول.
ومن ثم فلا يجوز الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة في الأحكام؛ لأن الأحكام تحتاج إلى دقة في النقل لاشتمالها على الحلال والحرام، فلا يجوز أن يتطرق إليهما بحديث ضعيف، وإن كنا نجوز رواية الضعيف مع بيان ضعفه في الأحكام وغيرها للاستئناس به فقط، لا لأخذ حكم شرعي منه، أو بنائه على حديث ضعيف.
ثانيا. آراء العلماء في العمل بالحديث الضعيف:
لقد ذهب العلماء في حكم العمل بالحديث الضعيف إلى ثلاثة مذاهب أساسية:
المذهب الأول: يعمل به مطلقا – أي في الأحكام وفضائل الأعمال – والمقصود بالضعيف عندهم هو الحسن عند المتأخرين.
المذهب الثاني: يعمل به في فضائل الأعمال بشروط.
المذهب الثالث: لا يعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل.
هذه هي مذاهب العلماء في العمل بالحديث الضعيف، وحتى يتضح ما قررناه سلفا من أن الضعيف المتروك لم يقل أحد بجواز العمل به لا في الفضائل ولا في الأحكام نعرض هذه المذاهب بشيء من الإيضاح:
المذهب الأول. يعمل بالحديث الضعيف مطلقا (ولكن المقصود بالضعيف هنا الحسن وما قاربه):
وعزي ذلك إلى أبي داود وأحمد بن حنبل؛ لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال، إذا لم يوجد في الباب غيره ولا يوجد ثمة ما يعارضه من عموم آية أو حديث، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي.
وذكر ابن القيم في “إعلام الموقعين” أن الأصل الرابع في الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل هو “الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس[7]، وعلى هذا المذهب إشكال، فيقال: إذا كان الحديث لم يأت إلا من طريق أو طرق لا تقوم بها حجة، فلا يحل إعماله ولا القول به، وحينئذ يرجع في هذه المسألة بخصوصها إلى الاجتهاد فيما صح من النصوص للخروج بالحكم الثابت فيها، وعليه يكون الحديث بهذه الصفة كأن لم يكن، وهو المعتبر[8]… لكن هذا الإشكال يزول إذا علمنا أن الضعيف الذي قصده هؤلاء العلماء هو الذي يرتقي إلى درجة الحسن وليس الضعيف المتروك كما بينا ذلك في الوجه الأول.
المذهب الثاني. يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط:
إن كثيرا من العلماء أخذوا بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون غيرها، وذكر العلامة القاسمي أن هذا المذهب هو المعتمد عند الأئمة، ونسبه الإمام النووي إلى العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم[9].
وقد اشترط العلماء عدة شروط في العمل بالحديث الضعيف، جمعها أشرف بن سعيد في كتابه، وهي:
- أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج ما انفرد به أحد الكذابين أو المتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
- أن يندرج تحت أصل عام معمول به، فيخرج ما لا يكون له أصل أصلا.
- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يقصد الاحتياط، لئلا ينسب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ما لم يقله.
- أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة.
- أن يكون العمل الوارد في ذلك الحديث الضعيف، مما ثبت بالشرع حكمه مدحا أو ذما.
- أن لا يشتمل ذلك الضعيف على تفصيلات أو تقديرات أو تحديدات، زيادة على ما ثبت في الصحيح[10].
وممن قال بهذا الرأي:
- سفيان الثوري (ت: 111هـ)، حيث يقول: لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ[11].
- الإمام أحمد بن حنبل(ت: 241هـ)، حيث يقول: إذا روينا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد. وقال أيضا: أحاديث الرقاق يحتمل أن نتساهل فيها حتي يجيء شيء فيه حكم[12].
- الحافظ ابن عبد البر (ت: 413هـ)، حيث يقول: “أحاديث الفضائل لا نحتاج فيها إلى من يحتج به”[13]. وقال أيضا: “وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام”[14].
المذهب الثالث: لا يعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل:
حكاه ابن سيد الناس في “عيون الأثر”، ونسبه السخاوي لأبي بكر بن العربي، والظاهر أنه مذهب البخاري ومسلم، يدل عليه شرط البخاري في صحيحه، وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف، وعدم إخراجهما في صحيحيهما شيئا منه.
وممن قال بهذا القول أيضا:
- شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول في “مجموع الفتاوى”: “لا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست بصحيحة ولا حسنة”[15].
- الشوكاني، حيث يقول في “إرشاد الفحول”: الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معنى الظن لا يثبت به الحكم ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام، وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع”[16].
- العلامة أحمد شاكر، حيث يقول: “لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حديث صحيح أو حسن”[17].
- وهذا ما اختاره الشيخ الألباني، حيث يقول: والذي أعتقده وأدين لله به أن الحق في هذه المسألة مع العلماء الذين ذهبوا إلى ترك العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال” [18].
أدلة كل مذهب:
لقد اعتمد كل فريق من الثلاثة على أدلة تعضد ما ذهب إليه، وفيما يلي نعرض لأدلة كل فريق حتى يتبين لنا الراجح منها:
المذهب الأول: الذين يجوزون العمل بالحديث الضعيف مطلقا، ويشترطون لذلك شروطا ثلاثة:
- ألا يكون في الباب غيره من الأحاديث أو فتاوى الصحابة.
- ألا يكون الحديث شديد الضعف؛ لأنه إن كان كذلك فهو متروك عند العلماء.
- ألا يكون هناك ما يعارضه.
ووجهة نظر هذا المذهب قائمة على أن الحديث الضعيف لما كان محتملا الإصابة، ولم يعارضه شيء، فإن هذا يقوي جانب الإصابة في روايته، فيعمل به.
فالحديث الضعيف فيه نسبة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن كانت ضئيلة، بالإضافة إلى أن الحديث الضعيف المقصود هنا هو الذي يرتقي إلى الحسن وليس المتروك[19].
المذهب الثاني: الذي يجوز العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال والمواعظ والقصص والترغيب والترهيب، بالشروط المذكورة آنفا:
فقد قال الخطيب البغدادي: “قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئا من التهمة، بعيدا عن المظنة، وأحاديث الترغيب والترهيب، والمواعظ ونحو ذلك، فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ[20].
وعن أبي زكريا العنبري قال: “الخبر إذا ورد لم يحرم حلالا، ولم يحل حراما، ولم يوجب حكما، وكان في ترغيب، أو ترهيب، أو تشديد، أو ترخيص وجب الإغماض عنه، والتساهل في رواته”[21].
وعن أحمد بن حنبل قال: “أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم”[22].
وقد وجه الهيتمي الاستدلال للعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال فقال: “قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ لأنه: إن كان صحيحا في نفس الأمر فقد أعطي حقه من العمل به. وإلا لم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم ولا ضياع من الغير”[23].
المذهب الثالث: وهم الذين لا يجوزون العمل بالحديث الضعيف مطلقا، ومن أدلتهم:
- أن فضائل الأعمال، كالفرض والحرام؛ لأن الكل شرع.
قال الشوكاني في “الفوائد المجموعة”: إن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، لا فرق بينها إلا بما يقوم به الحجة، وإلا كان من التقول على الله ما لم يقل، وفيه من العقوبة ما هو معروف[24].
قال الجلال الرواني: اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا يثبت به الأحكام الخمسة الشرعية، ومنها الاستحباب.
- أن في الأحاديث الصحاح والحسان مندوحة عن الأحاديث الضعيفة.
- ما يكون حجة في الدين بعد القرآن الكريم هو الحديث الذي يثبت، أو يغلب على الظن ثبوته، والحديث الضعيف ليس كذلك، فالأخذ به زيادة في الدين بغير بينة.
- الحديث الضعيف [25]يفيد الظن المرجوح لا الراجح، وهذا النوع مذموم مردود؛ يقول الشيخ الألباني: إن الحديث الضعيف لا يفيد إلا الظن اتفاقا، والعمل بالظن لا يجوز؛ لقوله تعالى: )وإن الظن لا يغني من الحق شيئا( (النجم: ٢٨)، وقال: )إن يتبعون إلا الظن( (النجم: ٢٨).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»[26][27].
هذه حجج المذاهب الثلاث[28].
والمذهب الذي نرتضيه هو المذهب الثالث القائل بعدم جواز العمل بالحديث الضعيف مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل لقوة أدلتهم، وهذا ما ذهب إليه أشرف بن سعيد في كتابه “حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال” وذكر الأدلة على ذلك، فأحسن وأجاد، لذلك ننقل كلامه ففيه الكفاية، يقول: تتلخص أدلة هذا المذهب في النقاط الآتية:
- ليس ثم دليل معتبر على ذلك التفصيل الذي ادعاه أصحاب المذهب المفرق بين فضائل الأعمال وغيرها، فالكل شرع سواء كان توحيدا أو أحكاما أو فضائل ورقائق ومواعظ ونحوها، فيلزم في الجميع ثبوت الدليل.
- إذا كان في الصحيح بأقسامه كفاية، وغنية عن اللجوء للضعيف في شيء من الشرع، وهي أحاديث راجحة الدلالة، فلماذا نلجئ إلى مرجوح الدلالة ونحن لسنا في حاجة إليه؟!
قال الإمام مسلم: “… مع أن الأخبار الصحيحة من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع[29]. وقال ابن حبان: “ولسنا نستجيز أن نحتج بخبر لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا، ولأن فيما يصح من الأخبار بحمد الله ومنه يغني عنا عن الاحتجاج في الدين بما لا يصح منها…”[30].
فمن المسلمات أنه يمتنع أن يريد الله تعالى تشريع حكم، ثم يقطع على الأمة الطريق الموصلة إليه وهذا القطع قد يكون بأحد أمرين:
الأول: عدم وصوله إليهم وكتمانه عنهم أصلا.
الثاني: وصوله، لكن بطريق لا تقوم عليهم به حجة.
والأول ممنوع شرعا وعقلا، والثاني يتنزل منزلته، لأنه بالنسبة إليهم كأنه لم يصلهم.
ويؤيد ما ذكرناه قول ابن حزم – رحمه الله تعالى: إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو ندب إليها، أو فعلها – صلى الله عليه وسلم – فتضيع، ولم تبلغ إلى أحد من أمته، إما بتواتر، أو بنقل الثقة عن الثقة حتى تبلغ إليه، وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول.
وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطئ فيها راويها الثقة ولا يأتي ببيان جلي واضح بصحة خطأه فيه… “.
فتأمل قوله: وأمنا أيضا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله”.
- فتح باب العمل بالضعيف في تلك الأمور المذكورة، يفتح أبوابا من المفاسد، منها:
- انسحاب ذلك إلى غيره من أحاديث التوحيد والعقيدة والأحكام، وهذا ما حدث من بعضهم. حيث حكموا على بعض الأحاديث المنكرة الباطلة بالضعف فقط ثم جعلوها من فضائل الأعمال بحجة أن الضعيف يؤخذ به في فضائل الأعمال.
- عدم الأمن من خلط الصحيح بالضعيف في هذه الأمور، لا سيما مع روايتها دون بيان حالها.
- الوقوع في مغبة الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنسبة ما لم يقله أو يفعله إليه، لا سيما ممن لا يعنون بتمحيص الأخبار والتفتيش عنها، مع الاعتماد على مجرد سماعها أو قراءتها عن غير المختصين بهذا العلم الشريف.
- الوقوع في مضار الابتداع في الدين، من جراء العمل بما لم يثبت في الشرع، لا سيما في الأحاديث المتضمنة على تفصيلات وتقديرات وتحديدات، كتخصيص عبادة مشروعة في الأصل، بزمان أو بمكان أو بصفة أو بهيئة أو بعدد ونحو ذلك، والذي لم يرد إلا من طريق ضعيف فلا تقوم به الحجة.
- بالنظر في نصوص الأئمة الأوائل كالإمام سفيان الثوري وأحمد وغيرهما ممن استشهد بهم المتأخرون على جواز العمل بالحديث الضعيف – لا نجد في كلامهم نصا صريحا ولا شبه نص على ما أطلقه المتأخرون من مسألة العمل بالضعيف في الفضائل أو غيرها، وحتى يتضح ذلك نأخذ بعض أقوالهم على سبيل المثال:
o قول سفيان الثوري: “لا تأخذوا العلم… إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، فلا بأس بما سوى ذلك من المشايخ”.
فالمقصود بهؤلاء الرؤساء المشهورين هم الحفاظ المتقنون الذين يعرفون الزيادة من النقصان، وهم الذين يقال فيهم، ثقة ثقة، أو ثقة ثبت، ونحوه، وقد يقال فيهم: ثقة، ومن دون هؤلاء، لم يقل أحد أن أحاديثهم ضعيفة، بل فيها الصحيح والحسن ونحوه، وهم الذين يقال فيهم: ثقة أو صدوق، أو لا بأس به وما شابه ذلك.
o قول الإمام أحمد في محمد بن إسحاق صاحب المغازي: “هو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث – يعني المغازي ونحوها -… “فاعتبر هذا مع قول أحمد فيه “حسن الحديث”.
o قول البيهقي: “وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم، لأن ما فسروا به ألفاظه تشهد لهم به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط”.
يفيد هذا أنه لم يعتمد على هؤلاء الضعفاء في التفسير؛ لأن التفسير مما لا يطلب فيه الثقات، بل لأن ما فسروا به له شواهد صحيحة، تقوي أقوالهم وتعضدها، وبالتالي لا يصلح أن يقال: الضعيف حجة في التفسير، والمواعظ…. ونحوها.
o ما جاء في تعبير أحمد: “يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم”، وقال ابن المبارك: يحتمل أن يروى هذا القدر أو مثل هذه الأشياء، فالتعبير بذلك يوحي بأن الأمر ليس بالمطرد المفروغ منه.
o مسألة “التشدد والتساهل” غير منضبطة، وتحديد المراد منها غير واضح، وقد اختلف في مدلولهما وفهم المقصود منهما؛ فمن قائل: التشدد في الأحكام يعني الاحتجاج بالأحاديث ذات الصفات العالية، أما التساهل فهو الاحتجاج بأحاديث أقل من تلك في الرتبة وإن كانت لا تزال على رتبة الاحتجاج، وقد سبق ما في كلام الثوري من هذا المعنى، ومثلوا لذلك بالصحيح والحسن.
ومن قائل: بل التشدد يقتضي الاحتجاج بما تقوم به الحجة والتساهل ضد ذلك، ومثلوا لهذا بالمقبول بقسميه – الصحيح والحسن، والآخر الضعيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “… ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع، وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله، أو مما يكرهه الله، بنص أو إجماع، كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة وغيرها… فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه، إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى: أن النفس ترجو ذلك الثواب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا فهذا إن صدقه نفعه، وإن كذب لم يضره. ومثال ذلك: الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، وكلمات السلف ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، لا استحباب ولا غيره…[31].
وبهذا يتبين لنا رجحان الرأي القائل بعدم جواز العمل بالحديث الضعيف مطلقا لا في الفضائل ولا في الأحكام؛ إذ إن الشريعة غنية بالصحاح ولسنا في حاجة إلى الضعيف، كما أن العمل بالضعيف يفتح بابا للعمل بغيره؛ لأن مراتب الضعف تختلف من شخص لآخر، إضافة إلى أن الفضائل كالأحكام تستوجب التثبت منها؛ لأن الكل شرع وتبليغ عن الله تعالى.
ولذلك يتبين أنه لا يجوز العمل بالحديث الضعيف مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل، فقد يكون الرأي الذي يحتويه الضعيف رأيا ساقطا، وليس له قيمة فيكون الرأي المجرد خيرا من حيث قوة معناه، ورجحانه بما يناسب الشريعة، والشريعة كاملة شاملة بالصحيح فقط، فلماذا نبني أحكاما على الضعيف والصحيح كاف؟!
الخلاصة:
- إن الحديث الضعيف الذي قصده العلماء الذين جوزوا الاحتجاج به هو الذي يرتقي إلى درجة الحسن، وليس الضعيف المتروك؛ إذ إن التقسيم المشهور للحديث بين الناس إلى صحيح وحسن وضعيف لم يعرف إلا بعد الترمذي، وإنما كان ينقسم عند الأوائل إلى صحيح وضعيف، وكان الحسن يدخل ضمن الضعيف؛ لذلك لم يجوز العلماء الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة كما ادعى هؤلاء وإنما جوزوا الاحتجاج بالحسن منها فقط.
- لقد انقسمت آراء العلماء في العمل بالحديث الضعيف إلى ثلاثة آراء هي:
o يعمل بالحديث الضعيف مطلقا لأنه أقوى من رأي الرجال، ويشترطون لذلك ألا يكون في الباب غيره من الأحاديث أو فتاوى الصحابة، وألا يكون شديد الضعف، وألا يكون هناك ما يعارضه، وقصدوا به الحسن كما بينا.
o يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشرط ألا يكون ضعيفا ضعفا شديدا، وأن يندرج تحت أصل معمول به، وألا يعتقد صحته عند العمل به بل يعتقد الاحتياط، وهذا الرأي نسبه النووي إلى العلماء والمحدثين والفقهاء وغيرهم.
o لا يعمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في الفضائل؛ وذلك لأن فضائل الأعمال كالأحكام، فالكل شرع، كما أن في الأحاديث الصحاح والحسان كفاية عن الضعيف، والضعيف يفيد الظن المرجوح فكيف يقال بجواز العمل به؟!
o الرأي الأخير هو الذي نرتضيه وعليه كثير من العلماء، فما دامت الشريعة كاملة وغنية بالصحيح فلماذا اللجوء إلى الضعيف؟!
(*) مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي، حمدي عبد الله، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2006م.
[1]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (1/ 251).
[2]. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (4/ 154).
[3]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 31).
[4]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، ص77.
[5]. انظر: لمحات في أصول الحديث، د. محمد أديب الصالح، ص198، نقلا عن: القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1995م، ص37. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص88، 89.
[6]. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص89 بتصرف.
[7]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 31).
[8]. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص87.
[9]. الحديث الضعيف أسبابه وأحكامه، د. ماهر عبد الرازق، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص255: 258 بتصرف.
[10]. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف سعيد، مكتبة السنة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص53: 55.
[11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 398).
[12]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 399).
[13]. فتح المغيث شرح ألفية الحديث، السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ، (1/ 288).
[14]. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري، مطبعة فضالة، المغرب، ط2، 1402هـ/ 1982م، (1/ 127).
[15]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (1/ 250).
[16]. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط1، 1356هـ/ 1937م، ص48.
[17]. الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص76.
[18]. الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، الألباني، مكتبة غراس، الكويت، ط1، (1/ 218).
[19]. القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1415هـ/1995م، ص43.
[20]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 398).
[21]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 399).
[22]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 399).
[23]. قواعد في علم الحديث، التهانوي، نقلا عن: القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1415هـ/1995م، ص47 بتصرف.
[24]. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، الشوكاني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1407هـ، (1/ 283).
[25]. الظن الراجح يختلف عن الظن المرجوح؛ فالظن الراجح يفيد العلم أو إدراك الطرف الراجح، وهذا ليس مذموما، بل يجب الأخذ به والعمل عليه، وأحاديث الآحاد الصحيحة من هذا النوع لذا أوجب العلماء الأخذ بها.
[26]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك، (9/ 106)، رقم (5413). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، (9/ 3692)، رقم (6416).
[27]. الثمر المستطاب، الألباني، مكتبة غراس، الكويت، ط1، ص218.
[28]. القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1415هـ/1995م، ص26: 30 بتصرف.
[29]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 182).
[30]. كتاب المجروحين، ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، دمشق، ط2، 1402هـ، (1/ 25).
[31]. انظر: حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف سعيد، مكتبة السنة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص38، 44، 74: 77.