دعوى خطأ القرآن الكريم بشأن إيمان سحرة فرعون
وجوه إبطال الشبهة:
1) الباطل لا يقبله عقل ولا يكون حجة ومعيارا على الحق الذي ثبتت حجته وموافقته للعقل، ذلك أن سجود الملائكة لإله موسى ثابت لأنه محل الإعجاز.
2) القرآن يقص حقيقة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم كاشف لزيف الكتاب المقدس.
3) لا تباين في موقف إيمان السحرة أو سجودهم، بل إن إيمانهم وسجودهم كان لله وحده لا شريك له، لا كما زعمت التوراة التي أشركت موسى – عليه السلام – بالله في الألوهية، تعالى الله عن قولها علوا كبيرا.
التفصيل:
أولا. الباطل لا يقبله عقل، ولا يكون حجة ومعيارا على الحق الذي ثبتت موافقته للعقل:
القرآن الكريم يقص الحق، ويخبر أن موسى وهارون – عليهما السلام – نبيان لبني إسرائيل، ويشرح رسالة موسى – عليه السلام – إلى فرعون وقومه، وقصة السحرة الذين آمنوا لله رب العالمين، فالقرآن حجة ثابتة تاريخيا تبرز الفارق بين كلام الخلق المتمثل في الكتاب المقدس، وكلام الخالق الموافق للعقل والمتمثل في آيات القرآن الكريم. فالتوراة تجعل من موسى إلها وهارون نبيه.
وموسى وهارون – عليهما السلام – يدعوان فرعون إلى “إله العبرانيين”، وليس إلى “رب العالمين”، هكذا تقص علينا التوراة، ولا يدعوان فرعون إلى عبادة الإله الواحد أولا، بل إلى تخليص بني إسرائيل وفقط: “وبعد ذلك دخل موسى وهارون، وقالا لفرعون: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيدوا في البرية، فقال فرعون: من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل؟ لا أعرف الرب، وإسرائيل لا أطلقه، فقالا: إله العبرانيين قد التقانا”. (الخروج 5: 1 – 3).
والطامة الكبرى أن موسى اعتذر للرب عندما طلب منه أن يكلم فرعون قائلا: “ها أنا أغلق الشفتين، فكيف يسمع لي فرعون؟ هنا قال الرب لموسى: انظر: أنا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك”!! موسى إله، وهارون نبي موسى!! هذه هي التوراة التي يحتجون بها.
أما القرآن الكريم فيقدم لنا موسى وهارون – عليهما السلام – رسولين من رب العالمين جاءا برسالة تهدي الناس إلى الحق، والخير، هذا هو الهدف الأول والهدف الثاني، هو: إنقاذ بني إسرائيل من ذل وعبودية فرعون، قال سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48)( (الأنبياء)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24)( (غافر)، وقال سبحانه وتعالى: )وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11)( (الشعراء)، وقال سبحانه وتعالى: )فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16)( (الشعراء).
فموسى – عليه السلام – رسول من رب العالمين، ومعه أخوه هارون – عليه السلام – رسول من رب العالمين كذلك إلى فرعون وقومه، وآمن بهما من آمن من قوم فرعون من السحرة، عندما قامت الحجة، وهم أعلم الناس بالسحر وحدوده، فوجدوا أن معجزة موسى – عليه السلام – تفوقت على السحر )فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء).
إن التوراة المحرفة أغفلت مهمة موسى – عليه السلام – الأساسية الأولى وهي الهداية، ووضعتنا أمام الدوران في فلك بني إسرائيل، كما عهدناها دائما، وليتها تتحدث عنهم لهدايتهم، بل للتنفيث([1])عن عقيدتهم، المتمثلة في الشعور بالنقص، والمذلة، والمهانة، والنقمة على الأمم، والانتقام منها. فهذه صورة حية تبرز الفارق بين كلام الخلق، وكلام الخالق.
متى كان هذا التخبط الذي لا يقبله عقل ولا دين حجة على الحق، ومعيارا يقاس به؟!!
إن التوراة التي يتخذونها مقياسا للحقيقة، ووصية عليها، وعلى التاريخ، تجعل من رب العالمين إلها لبني إسرائيل وحدهم، وهم شعبه! قال الرب لموسى: “وأنا أيضا قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون، وتذكرت عهدي، لذلك قل لبني إسرائيل: أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة، وأتخذكم لي شعبا، وأكون لكم إلها”. (الخروج 6: 5 – 7).
ومع أن رب العالمين جعلهم خاصته، وجعل نفسه إلها لهم وحدهم، ونقل موسى – عليه السلام – هذه الرسالة لهم، لكنهم “لم يسمعوا لموسى من صغر النفس، ومن العبودية القاسية”. (الخروج 6: 9).
وتأسيسا على ما سبق فالقول الفصل هو الذي حكاه القرآن، لأنه كلام رب العالمين المنزل على خير خلقه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. القرآن يقص حقيقة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم برب موسى:
مضى موسى – عليه السلام – يشرح رسالة ربه، وأخذ فرعون يتهدده؛ ويتوعده بالسجن والتعذيب، والتشريد، فقال له موسىعليه السلام: أو لو جئتك بشيء مبين؟ فقال: وماذا عندك؟ فألقى العصا فإذا هي ثعبان مبين، وأدخل يده إلى صدره، ثم أخرجها، فإذا بها كأنها قطعة من نور الشمس تضيء، ففزع فرعون لهذا ودعا جماعته، واستشارهم فأشاروا عليه أن يجمع السحرة؛ ليبطلوا ما جاء به موسىعليه السلام؛ لأنهم ظنوا أنه من قبيل السحر، فاجتمع السحرة عند فرعون، فطلب منهم فرعون أن يجمعوا قواهم، ويوحدوا هدفهم؛ ليبطلوا – بعزيمتهم – سحر موسى – عليه السلام – وأغراهم بالمال، والمنصب، وأن يجعلهم من خاصته فيما إذا تمكنوا على موسى – عليه السلام – وغلبوه، ثم كانت النتيجة بعد تداول بين السحرة أن طلبوا من موسى – عليه السلام – أن يلقي ما معه، أو يبدأوا هم بالإلقاء اعتزازا منهم بالنفس واعتقادا بالغلبة: )قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117)( (الأعراف) ([2]).
ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، وقالوا مغترين: )فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44)( (الشعراء). ونظر موسى – عليه السلام – وإذا بهذه الحبال والعصي، كأنها حيات وثعابين، فهاله أمرها، وأوجس في نفسه([3]) خيفة منها، ولكن الله ثبته أمام ذلك الجمع الزاخر، وأوحى إليه ألا تخف فإنك أنت المنصور، وأمره أن يلقى العصا، فإذا هي تبتلع كل ما قذف به السحرة، من زور وبهتان: )فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)( (طه).
وأن موسى – عليه السلام – لما ألقى العصا، انقلبت إلى حية عظيمة لها عنق طويل، وشكل مفزع هائل، حتى إن الناس هربوا فزعا منها، وقد أقبلت هذه الحية على الحبال والعصي، فجعلت تلقفها([4]) في أسرع ما يكون، والناس في فزع واضطراب، وفي دهشة واستغراب، وكان أول من أذعن للحق وأعلن إيمانه، إنما هم “السحرة” الذين أتى بهم فرعون لينصروه، ويتغلبوا على خصمه موسى – عليه السلام – قال تعالى: )فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46)( (الشعراء).
آمن السحرة، وسجدوا لله – عز وجل – وأقروا له بالوحدانية؛ لأنهم أيقنوا أن هذا ليس بسحر، ولا شعوذة، ولا زور ولا بهتان، وإنما هي آية من آيات الله الباهرة، أظهرها على يد رسوله موسى – عليه السلام – لتكون برهانا على صدقه، وعرفوا أن ذلك ليس بطاقة إنسان ولا قدرته، وإنما هي القوة الإلهية التي تصنع العجائب؛ فخروا لله ساجدين وقالوا: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء). علم فرعون أنه لم يعجز موسى، ولكن موسى أعجزه، فأراد أن يستر هزيمته، ويستعيد هيبته، فقال للسحرة – وكان صاحب مكر وخداع: )قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49)( (الشعراء) توعد السحرة بالقتل والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، واتهمهم بالتآمر مع موسى، مع أنه يعلم علم اليقين، أن موسى – عليه السلام – لم يعرفهم، ولم يجتمع معهم من قبل؛ لأنه كان مقيما مع أهل مدين، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثم إن موسي – عليه السلام – لم يجمعهم، ولا علم باجتماعهم، وإنما استدعاهم فرعون من أنحاء البلاد؛ ليبطلوا دعوى موسىعليه السلام، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر، وإن كان لا يغني أمام الحق شيئا([5]).
أما السحرة فقد ثبتوا على الإيمان، ولم يبالوا بوعيد فرعون، وتهديده، بل صرخوا في وجهه صرخة الإيمان والبطولة، متحدين فرعون وبطشه وجبروته: )قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73)( (طه).
قال سعيد بن جبير: لما سجد السحرة، رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة، تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون، وتهديده، ووعيده بل صدعوا بالحق في وجهه، ولقد نفذ فرعون ما هددهم به، فصلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وقتلهم شر قتله، ومع ذلك لم يثنهم ذلك عن الإيمان بالله، فماتوا شهداء أبرارا رضوان لله عليهم أجمعين، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: كانوا أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة.
ثالثا. لا تباين في موقف السحرة من الإيمان بالله والسجود له، بل إن إيمانهم وسجودهم كان لله وحده لا شريك له، رب العالمين، رب موسى وهارون، لا كما جاء في الكتاب المقدس:
حين رأى السحرة المعجزة استيقظت عندهم الفطرة الإيمانية، قال الحق سبحانه وتعالى: )فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه)، فهنا الفعل “ألقى” مبني للمجهول، فكأن نفوسهم من تلقاء نفسها خرت ساجدة لله فكأن قوة الحق تلاقت مع صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أن يقعوا ساجدين بدون اختيار، وهذا السجود عملية مرئية.
وهناك عملية أخرى قولية هي قولهم: )آمنا برب هارون وموسى (70)( إذن هناك منظر رآه الناس وهو: أنهم ألقوا سجدا، والذي ألقاهم هو قوة الحق؛ لمفاجئته الفطرة فانكبوا على الأرض ساجدين دون اختيار أو شعور، ومع أن موسى – عليه السلام – هو المرسل وهارون – عليه السلام – هو العضد، إلا أنهم حينما سجدوا قالوا: )آمنا برب هارون وموسى (70)( بعض الناس قد يتساءل، ماذا قال السحرة؟ هل قالوا: آمنا بـ )رب موسى وهارون (48)(، أم قالوا: )آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه)، ونحن نقول: إذا كان رؤساء السحرة سبعين فلا بد أن الأتباع يصل عددهم إلى سبعمائة أو يزيد، فهل من المعقول أن يتحدوا جميعا في الحركة وفي القول، أم أن كل واحد انفعل بحسب مداركه الإيمانية الجديدة، فبعضهم قال: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء)، وبعضهم قال: )آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه) فقيل هذه وهذه، والقرآن عدد كل اللقطات مجتمعة؛ لأنه ليس من المعقول أن يتفق هذا العدد الضخم في الحركة وفي اللفظ؛ ولذلك نجد الواحد من خصوم الإسلام يقول: القرآن يقول عن السحرة مرة: إنهم قالوا كذا، ومرة يقول: إنهم قالوا كذا… فأيهما قالوا؟ نقول له: هذه جمهرة لا نستطيع أن تحكي أقوالهم، فكل واحد انفعل بما يقول؛ فنحن نستطيع أن نرد على من يقول: إن القرآن يحكي أقوالا متعددة عن كلام السحرة بعد إيمانهم، فأي قول قيل؟ فنقول له: هذه لقطات لمجتمع جماهيري لا تضبط حركاته، ولا تضبط كلماته، بل كل واحد ينفعل حسب مداركه الإيمانية. فالقرآن عدد اللقطات؛ ليقص كل ما حدث في القصة([6]).
الخلاصة:
- الباطل لا يقبله العقل، ولا يصح – أن يكون – حجة على الحق، ومعيارا يقاس به، فالتوراة المحرفة التي يتخذونها مقياسا للحقيقة – في زعمهم – تجعل من رب العالمين إلها لبني إسرائيل وحدهم، وتجعلهم شعبه المختار، وما عداهم عبيد لهم.
- الكتاب المقدس يزيف الحقائق، ويجعل موسى – عليه السلام – إلها وهارون – عليه السلام – نبيا له، وهذا لا يتوافق مع العقل السليم.
- القرآن الكريم يخبر بالحقيقة، والقرآن ثبتت حجته تاريخيا. وهو يحكي قصة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم بالله – عز وجل – عندما اكتشفوا زيف سحرهم وحقيقته، وإعجاز ما يفعله موسى – عليه السلام – فعلموا أن هذا ليس بسحر، وإنما هي آية من آيات الله الباهرة، أظهرها على يد رسوله موسىعليه السلام، وعرفوا أن ذلك ليس بطاقة إنسان، وإنما هي القوة الإلهية التي تصنع العجائب، فخروا لله ساجدين وقالوا: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء).
- فهذه صورة حية تبرز الفارق بين كلام الخلق المتمثل في الكتاب المقدس، وكلام الخالق المتمثل في القرآن الكريم.
- لا تباين في موقف السحرة من الإيمان بالله والسجود له وحده، بل كان إيمانهم وسجودهم لله وحده لا شريك له، رب العالمين، رب موسى وهارون.
(*) قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م.
[1]. التنفيث: التفريج عنها وكشفها ونشرها.
[2]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص177.
[3]. أوجس في نفسه خيفة: وجد في نفسه بعض الخوف نتيجة المفاجأة.
[4]. تلقف: تبتلع وتأكل.
[5]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص178، 179.
[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص300، 301.