دعوى خطأ القرآن في قصة تآمر إخوة يوسف – عليه السلام – عليه والمكر به
وجها إبطال الشبهة:
1) مكر إخوة يوسف – عليه السلام – به والتآمر عليه نية مسبقة، تتفق مع الطبائع البشرية، وسياق الأحداث تثبت هذا التآمر وأنه ليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة.
2) نسخ التوراة الثلاثة (العبرانية، واليونانية، والسامرية) لا تتفق في القصة اتفاقا تاما، فأيهما نصدق القرآن الكريم، أم التوراة المحرفة؟!
التفصيل:
أولا. مكر إخوة يوسف به والتآمر عليه نية مسبقة، تتفق مع الطبائع البشرية، وسياق الأحداث يثبت هذا التآمر وأنه ليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة:
إن المتأمل في آيات القرآن الكريم التي ذكرت قصة يوسف – عليه السلام – مع إخوته، وما ورد فيها من طلب إخوة يوسف – عليه السلام – من أبيهم أن يسمح بخروج يوسف – عليه السلام – معهم للعب، وما ورد في التوراة من قصة يوسف – عليه السلام -، من أن يعقوب – عليه السلام – هو الذي أرسل يوسف – عليه السلام – إلى إخوته في البرية – يجد أن الذي يتفق مع الواقع هو ما ذكره القرآن الكريم، أما التوراة فهي التي تتضمن المعلومات المغلوطة. فالذي يتفق مع الواقع أن إخوة يوسف – عليه السلام – بيتوا النية مسبقا للتخلص من يوسف – عليه السلام – فقالوا متآمرين: )اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9)( (يوسف). وهذا يتفق مع إحساسهم بأن يوسف – عليه السلام – أثير لدى أبيهم، فقد حقدوا عليه وحسدوه على حب أبيه إياه، وعلى ما أتاه الله من علم وجمال وجلال، فتآمروا على قتله وإبعاده عن أبيه بطرحه في أرض بعيدة لا يمكنه الرجوع منها إليه، ولا يعرف أحد من أهله مكانه فيأتي به إلى أبيه.
وقد بنوا على ذلك آمالا وأحلاما تدل على سفه عقولهم، وفساد رأيهم وقسوة قلوبهم، فقد تصوروا أنهم بتخلصهم من يوسف – عليه السلام – سوف يحوزون حب أبيهم، واعتماده عليهم في كثير من شئون الحياة، وهم عصبة؛ ولذلك رأوا أنهم أحق بحب أبيهم، ولم يعلموا أن عاطفة الحب لا يمكن أن تتحول بمجرد إرادة الإنسان لها، فحب يعقوب – عليه السلام – لولديه يوسف – عليه السلام – وبنيامين، نابع من كونهما صغيرين ضعيفين، والآخرون عصبة، ولكن خاب ظنهم فأي صلاح يكون لإخوة يوسف – عليه السلام – بعد أن يبعدوه عن أبيه، وهو قرة عينه؟ وهل مثل هذه الجريمة مما يطويه النسيان، أو يقلل من حدة وقعها مر الزمان؟!
أما كيدهم ليوسف – عليه السلام – دون أخيه فربما يرجع إلى أن أخاه كان صغيرا جدا ليس له عند أبيه من المكانة ما ليوسفـ عليه السلام – ولعلهم أحاطوا علما بالرؤيا التي رآها يوسف – عليه السلام – وعلموا تأويلها، وأدركوا أنه سيعلوهم ويسودهم، ويضطرون إلى استجدائه والسجود له؛ فمكروا به، ودبروا له دون أخيه.
وهذا يتفق مع الواقع وسياق الأحداث، وطبائع النفوس المريضة التي إذا تحكم فيها الهوى فكرت ودبرت للكيد والانتقام.
أما تصوير التوراة للموقف فإنه يختلف تماما، فالذي جاء فيها أنهم انتظروا إلى حين إرسال يعقوب ابنه يوسف – عليهما السلام – إليهم، وبناء على هذا لو لم يرسله أبوه لما حدث ما حدث، وهذا لا يتفق مع نيتهم المبيتة، وتآمرهم السابق، فيوسف – عليه السلام – يذهب إلى إخوته، وهم يرعون مواشيهم ليطمئن عليهم وعلى سلامة الغنم، والإخوة يفكرون في التخلص منه حين يرونه (وهذا وفق ما جاء في سفر التكوين في الإصحاح السابع والثلاثين) وهذا غير مستقيم لدينا؛ لأن يعقوب – عليه السلام – نهى يوسف – عليه السلام – عن قص رؤياه على إخوته، حين سمعها منه، فهو يخاف على ابنه من بغضهم وكراهيتهم له، فكيف يرسله إليهم في البرية؟
ولذلك تحكي الآيات القرآنية الدافع وراء التآمر على حياة يوسف – عليه السلام – وهي: )إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8)( (يوسف). فهناك السبب العاطفي وهو إيثار أبيه له ولأخيه بالحب كما فصلناه. والسبب الثاني: أنهم رأوا قوتهم في عصبتهم، ومدى نفعهم لأبيهم أكثر من صغيرين نالا محبة أبيهم، ويبدو أن الشيطان دخل إليهم من خلال اختلاف الأمهات.
وقد جعل كاتب التوراة فكرة القتل لدى إخوة يوسف وليدة اللحظة التي رأوا فيها يوسف قادما عليهم من بعيد، ولكن بالتأمل في سرد التوراة فيما بعد يتضح أن هناك تآمرا، فإنهم على دراية بالمنطقة الصحراوية، والبئر كانت محددة في أذهانهم من قبل، بدليل قولهم: “اطرحوه في هذه البئر”. (التكوين 37: 22). فاستخدام اسم الإشارة “هذه” يدل على اتفاق سابق على نوع البئر المطلوبة.
كما أن التوراة تقول على ألسنتهم: هل نقتله ونطرحه في إحدى الآبار، أي أنهم سيجمعون بين القتل والطرح في البئر، وكلاهما وسيلتا قتل، ولكن القرآن ذكر أنه ألقي حيا، كما نص على أن إخوة يوسف – عليه السلام – ليسوا قتلة محترفين، يقتلون لمجرد القتل، وإنما القتل إحدى وسائل التخلص من يوسف – عليه السلام – ومن هنا كان الخيار الثاني “اطرحوه أرضا”، وجاءت كلمة “أرضا” نكرة كدليل على أن هؤلاء الإخوة سيتجهون في كل ناحية؛ حتى يجدوا منطقة مليئة بالذئاب، أو تكثر فيها الآبار.
ومن هنا بدأ الاحتيال؛ لذا قالوا لأبيهم: )قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12)( (يوسف)، فقد كانوا يعرفون خشية أبيهم عليه منهم لسوء صنيعهم وإهمالهم له، وهم تحت عينيه فكيف بهم إذا كانوا خارج البيت في أرض قفر؟! وقد حاولوا إقناعه ليثق بهم، ويصدق قولهم، باعتبارهم سيقومون على حراسة يوسف، وحفظه من العوادي، والمؤذيات، ولكن أباهم لم يكن غافلا عنهم، ولا خافيا عليه أمرهم فهو نبي مرسل، له من النور ما يميز به الصدق من الكذب، لقد تفرس الكذب في وجوههم وعرف ما انطوت عليه سرائرهم، فأفصح عما يكنه قلبه، وما يعتمل في نفسه، وصارحهم بالحقيقة التي ما غابت عنه لحظة؛ لذا قال لهم: )قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف)، وهذا ما لم تذكره التوراة، فهذه مزية في القرآن الكريم، وليس عيبا فيه، وصدق الله: )إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76)( (النمل)، ولم يذكر القرآن أن يعقوب اتهم بنيه بالغفلة، وإنما قال لهم: )وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف) فهو يخشى أن يحدث ذلك.
ثانيا. نسخ التوراة الثلاثة لا تتفق على القصة اتفاقا تاما فأيهما نصدق: القرآن الكريم أم التوراة المحرفة؟!
مما يؤكد ما جاء في القرآن الكريم من قصة يوسف – عليه السلام – أنه هو الحق الذي لا مراء فيه أن نسخ التوراة تتناقض فيما بينها؛ فما نجده في نسخة منها قد لا نجده في الأخرى، وهذا دليل على بشريتها وأنها من تأليف النساخ والكتاب، فما جاء في القرآن، ولم يجئ في التوراة، لا يدل على إيراد شبهة على القرآن؛ ذلك لأن نسخ التوراة الثلاثة: العبرانية، واليونانية، والسامرية – لا تتفق مع القصة اتفاقا تاما.
ففي اليونانية نجد قصة “صواع الملك” وليس في العبرانية صواع الملك، وفي التوراة العبرانية ترجمة البروتستانت: “ولما كانوا قد خرجوا من المدينة، ولم يبتعدوا؛ قال يوسف للذي على بيته: قم اسع وراء الرجال، ومتى أدركتهم فقل لهم: لماذا جازيتم شرا عوضا عن خير؟ أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه، وهو يتفاءل به؟ أسأتم فيما صنعتم”. (التكوين 44: 4، 5)، وفي الكتاب المقدس في الشرق الأوسط: “فما أن خرجوا من المدينة، وابتعدوا قليلا حتى قال يوسف لوكيل بيته: قم اتبع هؤلاء الرجال، فإذا لحقت بهم فقل لهم: لماذا كافأتم الخير بالشر؟ لماذا سرقتم كأس الفضة التي يشرب بها سيدي، وبها يرى أحوال الغيب؟ أسأتم فيما فعلتم”.
وهنا نلاحظ تناقض التوراة بشأن الشيء المسروق، فتارة يكون “صواع الملك” وفي نسخ أخرى يكون “كأس الفضة”، ولا توجد إشارة إليه في بعض النسخ[2]، فما جاء في القرآن الكريم – إذن – هو الصواب، فهو المصوب لأخطاء السابقين بل إن القرآن يضيف حقائق لم تذكر عندهم، وهو الكتاب الخاتم الذي حفظه الله تعالى من التحريف، والتبديل، )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) [3].
الخلاصة:
- مكر إخوة يوسف – عليه السلام – به والتآمر عليه نية مسبقة تتفق مع الطبائع الإنسانية، وسياق الأحداث، وليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة، فالتآمر على قتله والتخلص منه يتفق مع إحساسهم بأن يوسف – عليه السلام – يستأثر بحب أبيه، كما ينبع من حقدهم عليه وحسدهم له لجماله، وعلمه، وجلاله، فقد أراد كاتب التوراة أن يخفف من حدة فكرة القتل لدى إخوة يوسف – عليه السلام – ولكن المعلومات التي تسردها التوراة فيما بعد تبين أن هناك اتفاقا مسبقا على طريقة القتل ونوع البئر المطلوبة، وليس وليد اللحظة التي رأوا فيها أخاهم مقبلا عليهم فراودتهم فكرة التخلص منه، فهل يعقل أن يرسل لهم يعقوب – عليه السلام – ابنه مع علمه أنهم يحقدون عليه ويحسدونه لمكانته لدى أبيهم!
- التوراة المحرفة تتناقض فيما بينها في هذا الشأن، فنسخ التوراة الثلاث لا تتفق على القصة إطلاقا، فأيهما نصدق: القرآن المحكم أم التوراة التي حرفت؟!
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. Islamyet.com
[1]. يرتع: يلهو.
[2]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص490.
[3]. للمزيد انظر: جولة نقدية في نصوص الرواية التوراتية، محمد صالح توفيق، دار الهاني، القاهرة، 1426هـ/ 2005م. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م.