دعوى عداء الإسلام للديمقراطية
وجها إبطال الشبهة:
1) لم تظهر معالم الديمقراطية إلا في كنف([1]) الحضارة الإسلامية؛ فالإسلام هو الذي بشر العالم بها حين أرسى جوهرها، وأسس معالمها، كما أن الإسلام قد حارب الظلم والاستبداد، وحمل على الحكام المتألهين، وذم الشعوب المطيعة للجبابرة.
2) الديمقراطية الإسلامية أشمل وأكمل من الديمقراطية البشرية من ناحية الشورى واختيار الحاكم، كما أن الحاكم فيها هو الله، مما يجعلها غير خاضعة للأهواء والرغبات.
التفصيل:
أولا. لم تظهر معالم الديمقراطية إلا في كنف الحضارة الإسلامية؛ فالإسلام هو الذي بشر العالم بها حين أرسى جوهرها وأسس معالمها:
إن الذين يدعون أن الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا العصر لمعاداته للديمقراطية، هم أبعد الناس عن فهم طبيعة الإسلام؛ فالإسلام هو دين الديمقراطية بكل أصنافها، فما عرفت الشعوب الديكتاتورية إلا في العصور التي ترك فيها المسلمون دينهم وتخلفوا بذلك عن القيادة والريادة، وساد حكم غير إسلامي، فأي ديمقراطية تلك التي يتحدثون عنها لو لم تكن هي التي سادت على عهد النبي صلى الله عنه، وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه، – وعمر رضي الله عنه – الذي رئي نائما في ظل شجرة بلا حارس ولا رقيب – وهو يومئذ إمام المسلمين وخليفتهم -، فقيل له: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر, بل ساد ذلك السمو على مدى قرون طويلة نعم فيها المسلمون بالحرية والرخاء والمساواة والعدل، وبأفضل صورة للديمقراطية عرفها التاريخ، وشهد لها الغرب قبل العرب، وغير المسلمين قبل المسلمين.
وكيف لا والإسلام قائم بقواعد ديمقراطية؛ من اختيار الحاكم، والرد عليه إن أخطأ، وعزله إن جار ومحاكمته، ومن اتخاذ الشورى كمبدأ، ومن إعطاء الضعيف حقه من القوي، وإعطاء غير المسلم حقه من المسلم، ومن المحافظة على حقوق الإنسان، بل الحيوان كذلك، وغير ذلك الكثير مما تعجز هذه الصفحات عن الوفاء به! ولتفصيل ذلك نقول:
إن الإسلام الحنيف دين الوسطية والاعتدال والحق والعدل والشرف والفضيلة والعزة والكرامة، وهو دين السلم القائم على الحق والثبات والعدل، وهو أول من صان حقوق الإنسان المسلم وغير المسلم، وأرسى قواعد أو خصائص الحكم على أساس من الشورى والحرية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وقاوم أنواع الظلم والتسلط والهيمنة والاضطهاد والامتيازات، وعبأ طاقات المجتمع برمته، والأمة بكاملها لزجها في صيانة المصلحة العامة العليا، دون تعطيل أو إهدار أو إهمال لجهد الإنسان في دولة العدل والرخاء، والعزة والشرف، والسلم والأمان، وإحقاق الحق لكل إنسان، وإنصاف المظلومين، وتحرير الوطن من التدخل الأجنبي.
فليس في الإسلام استبداد، أو دكتاتورية غاشمة، ولا تمييز عنصري أو طبقي أو عقدي أو مذهبي ولا إرهاب – وإنما مقاومة المحتل – ولا جور أو ظلم اجتماعي, ولا ممارسة لألوان القمع والتعذيب الوحشي على النحو الذي يمارسه العدو الغربي المستكبر والمحتل، ولا تحكم في مصالح الشعوب، ولا فساد ولا إفساد، ولا دمار ولا تدمير، ولا هوان ولا خسف، ولا مذلة أو ركوع أو خضوع لظالم أجنبي أو مستكبر عات يذيق الشعوب المستضعفة ألوان التعذيب والتشريد والطرد من بلادهم ووطنهم أو أرضهم وبيوتهم، من أجل الهيمنة على مصدر عيشهم والمساس بكرامتهم وعزة أنفسهم، أو تدمير وجودهم وهز كيانهم وانتهاك حرمات مقدساتهم([2]).
ويتسنى لنا أن نعلم مدى زيف هذا الادعاء عندما نرى كيف أسس الإسلام نظاما قائما على الحرية والشورى وإعطاء كل ذي حق حقه.
ويحدثنا د. يوسف القرضاوي عن مفهوم النظام الديمقراطي والأساس الذي يقوم عليه قائلا: إن جوهر الديمقراطية – بعيدا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية – أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله وتغييره إذا انحرف، وألا يساق الناس – رغم أنوفهم – إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل.
هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء… إلخ.
فهل الديمقراطية – في جوهرها الذي ذكرناه – تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟
جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام:
الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه، وفي الحديث: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا..» وذكر أولهم: «رجل أم قوما وهم له كارهون..». ([3]) وإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟ وفي الحديث الصحيح: «خيار أئمتكم – أي حكامكم – الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم – أي تدعون لهم – ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»([4]).
ومن الأدلة المؤكدة على أن جوهر الديمقراطية يتفق مع مبادئ الإسلام:
- حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض:
لقد شن القرآن حملة في غاية القوة على الحكام المتألهين في الأرض، الذين يتخذون عباد الله عبادا لهم، مثل ” نمرود” الذي ذكر القرآن موقفه من سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقال عز وجل: )ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258)( (البقرة)، فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت، كما أن رب إبراهيم – وهو رب العالمين – يحيي ويميت؛ فيجب أن يدين الناس له، كما يدينون لرب إبراهيم!
وبلغ من جرأته في دعوى الإحياء والإماتة أن جاء برجلين من عرض الطريق، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة، ونفذ في أحدهما ذلك فورا، وقال: ها قد أمته، وعفا عن الآخر، وقال: ها قد أحييته! ألست بهذا أحيي وأميت؟!
ومثله فرعون الذي نادى في قومه: )فقال أنا ربكم الأعلى (24)( (النازعات)، وقال في تبجح: )يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري( (القصص: 38).
وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة:
- الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله “فرعون”.
- السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له، ويمثله “هامان”.
- الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية فهو يؤيد ببذل بعض ماله، ليكسب أموالا أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله “قارون”.
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: )ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24)( (غافر)، )وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين (39)( (العنكبوت).
والعجيب أن قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، ولكنه بغى على قومه، وانضم إلى عدوهم فرعون، وقبله فرعون معه، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما، برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما.
- ربط القرآن بين الطغيان والفساد:
من روائع القرآن أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها، كما قال عز وجل: )ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الذين طغوا في البلاد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) إن ربك لبالمرصاد (14)( (الفجر).
وقد يعبر القرآن عن “الطغيان” بلفظ “العلو”, ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت، كما قال – عز وجل – عن فرعون: )من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)( (الدخان)، وقال عز وجل: )إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)( (القصص)، وهكذا نرى “العلو” و”الإفساد” متلازمين.
- ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة:
ولم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتألهين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم، وساروا في ركابهم، وأسلموا لهم أزمتهم، وحملهم المسئولية معهم.
يقول – عز وجل – عن قوم نوح: )قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21)( (نوح)، ويقول – عز وجل – عن عاد قوم هود: )وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)( (هود)، ويقول – عز وجل – عن قوم فرعون: )فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)( (الزخرف)، وقال عز وجل: )إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98)( (هود).
وإنما حمل الشعوب المسئولية أو جزءا منها؛ لأنها هي التي تصنع الفراعنة والطغاة، وهو ما عبر عنه عامة الناس في أمثالهم حين قالوا: قيل لفرعون: ما فرعنك؟ قال: لم أجد أحدا يردني!
- جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه:
وأكثر من يتحمل المسئولية مع الطغاة هم “أدوات السلطة” الذين يسميهم القرآن ” الجنود”, ويقصد بهم “القوة العسكرية” التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمردت أو فكرت في أن تتمرد، يقول القرآن: )إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8)( (القصص)، )فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40)( (القصص).
- حملة السنة النبوية على الأمراء الظلمة:
والسنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة، الذين يسوقون الشعوب بالعصا الغليظة، وإذا تكلموا لايرد أحد عليهم قولا، فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش.
كما حملت على الذين يمشون في ركابهم، ويحرقون البخور بين أيديهم، من أعوان الظلمة,ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف، حتى لاتقدر أن تقول للظالم: يا ظالم، فعن معاوية أن النبي – رضي الله عنه – قال: «ستكون أئمة من بعدي، يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يتقاحمون في النار، كما تقاحم القردة»([5]).
وعن جابر أن النبي – قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لايهدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولايردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وسيردون على حوضي»([6]).
وعن معاوية مرفوعا:«لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع»([7]).
- الشورى والنصحية والأمر والنهي:
لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله, ومنها: النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم.
كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ومعنى هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي؛ لأن الأول كثيرا ما يكون سببا للثاني.
- الحاكم في نظر الإسلام:
إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء، وخصوصا إذا أخل بموجباتها.
فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة، بل هو بشر يصيب ويخطئ، ويعدل ويجور، ومن حق عامة المسلمين: أن يسددوه إذا أخطأ، ويقومونه إذا اعوج, وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلفاء الراشدون المهديون، الذين أمرنا أن نتبع سنتهم، ونعض عليها بالنواجذ،([8]) باعتبارها امتدادا لسنة المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الخليفة الأول أبو بكر – رضي الله عنه – في أول خطبة له: “أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني, أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم”.
ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق رضي الله عنه: “رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا “([9]). ويقول: ” أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني… “، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول: والله يابن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا!
وترد عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر، فلا يجد غضاضة في ذلك، بل يقول: ” أصابت المرأة وأخطأ عمر!”
ويقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لرجل عارضه في أمر: أصبت وأخطأت: )وفوق كل ذي علم عليم (76)( (يوسف)([10]).
إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان.
مزية الديمقراطية:
وميزة الديمقراطية: أنها اهتدت – خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين، من الأباطرة والملوك والأمراء – إلى صيغ ووسائل، تعتبر – إلى اليوم – أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين، وإن لم تخل من بعض المآخذ والنواقص، التي لا يكاد يخلو منها عمل بشري.
ولا حجر على البشرية ولاعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى، لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا: أن نقتبس من أساليب الديمقراطية، ما لا بد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.
ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد. ولا يوجد شرعا ما يمنع من اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين، فقد أخذ النبي – رضي الله عنه – في غزوة الأحزاب بفكرة ” حفر الخندق” وهو من أساليب الفرس.
واستفاد من أسرى المشركين في بدر ” ممن يعرفون القراءة والكتابة ” في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، رغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
فمن حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا… ما دام لا يعارض نصا محكما، ولا قاعدة شرعية ثابتة، وعلينا أن نحور فيما نقتسبه ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا: ما يجعله جزءا منا، ويفقده جنسيته الأولى.
ومن هنا نأخذ من الديمقراطية: أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا، ولنا حق التحوير والتعديل فيها، ولا نأخذ فلسفتها التي يمكن أن تحلل الحرام، أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض.
- الانتخاب نوع من الشهادة:
فإذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام “شهادة” للمرشح بالصلاحية؛ فيجب أن يتوفر في “صاحب الصوت” ما يتوفر في الشاهد من الشروط بأن يكون عدلا مرضى السيرة، كما قال عز وجل: )وأشهدوا ذوي عدل منكم( (الطلاق: 2)، )ممن ترضون من الشهداء( (البقرة: 282)، ويمكننا أن نخفف من شروط العدالة وأوصافها هنا بما يناسب المقام، ويمكن أكبر عدد من المواطنين من الشهادة، ولا يستبعد إلا من أثبت عليه القضاء جريمة مخلة بالشرف ونحوها.
ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة (شهادة الزور)، وقد قرنها القرآن بالشرك بالله، إذ قال: )فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30)( (الحج). ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله عز وجل: )وأقيموا الشهادة لله( (الطلاق: 2).
ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق ممن لم يتوفر فيه وصف “القوي الأمين”, فقد خالف أمر الله في أداء الشهادة، وقد دعي إليها، وكتم شهادة الأمة أحوج ما تكون إليها، وقد قال عز وجل: )ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا( (البقرة: 282)، )ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)( (البقرة).
ومثل ذلك يقال في صفات المرشح وشروطه من باب أولى. إننا بإضافة هذه الضوابط والتوجيهات لنظام الانتخاب، نجعله في النهاية نظاما إسلاميا، وإن كان في الأصل مقتبسا من عند غيرنا.
- حكم الشعب وحكم الله:
والذي نريد التركيز عليه هنا هو: جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لامن تاريخ أمراء الجور، وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.
وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: “إن الحاكمية لله قول غير مسلم؛ فمبدأ “الحكم للشعب” – الذي هو أساس الديمقراطية – ليس مضادا لمبدأ (الحكم لله) – الذي هو أساس التشريع الإسلامي – إنما هو مضاد لمبدأ (الحكم للفرد)، الذي هو (أساس الدكتاتورية).
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لايخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو: رفض الدكتاتورية المتسلطة، ورفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
أجل، كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير.
المراد بمبدأ “الحاكمية لله”:
وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ “الحاكمية لله” مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن “الحكم” الشرعي، وعن “الحاكم” فقد اتفقوا على أن “الحاكم” هو الله عز وجل، والنبي مبلغ عنه، فالله – عز وجل – هو الذي يأمر وينهي، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.
وقول الخوارج: “لاحكم إلا لله” قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة في غير موضعها، واستدلاهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما.
ولهذا رد أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – على الخوارج بقوله: “كلمة حق أريد بها باطل”؛ فقد وصف قولهم بأنه “كلمة حق”، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلا.
وكيف لاتكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن: )إن الحكم إلا لله( (يوسف: 40).
فحاكمية الله – عز وجل – للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان:
- حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لاتتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله عز وجل: )أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41)( (الرعد)، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به: الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.
- حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع, وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام.
وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – نبيا ورسولا.
والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلا للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصا إذا وصلت إلى ” كفر بواح” فيه من الله برهان.
ومما يؤكد ذلك: أن الدستور ينص – مع التمسك بالديمقراطية – على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا.
ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة: أن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس.
لا يلزم – إذن – من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله؛ إذ لاتناقض بينهما.
ولو كان ذلك لازما من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام: أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لايجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيه مطلقا.
- تحكيم الأكثرية هل ينافي الإسلام؟
ومن الأدلة لدى المدعين على أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام: أنها تقوم على تحكيم رأي الأكثرية، واعتبارها صاحبة الحق في تنصيب الحكام وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأ أو باطلا.
هذا مع أن الإسلام – في نظرهم – لايعتد بهذه الوسيلة، ولا يرجح الرأي على غيره لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته: أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابا نفذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه(99) من الــ (100)!!
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائما في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت، كما في مثل قوله عز وجل: )وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116)( (الأنعام)، )وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103)( (يوسف)، وتكرر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية: )ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)( (الأعراف)، )بل أكثرهم لا يعقلون (63)( (العنكبوت)، )ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243)( (البقرة).
كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددا، كما في قوله عز وجل: )وقليل من عبادي الشكور (13)( (سبأ)، )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم( (ص:24).
وهذا الكلام مردود على قائله، وهو قائم على الغلط أو المغالطة.
فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم، أكثره ممن يعلمون ويعقلون، ويؤمنون، ويشكرون، ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.
- الثوابت لا يتدخل فيها التصويت:
ثم إن هناك أمورا لاتدخل مجال التصويت، ولاتعرض لأخذ الأصوات عليها؛ لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلما.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما علم منه بالضرورة وإنما يكون التصويت في الأمور ” الاجتهادية ” التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان هو منصب رئيس الدولة، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء “المصالح المرسلة”,ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد.. إلخ.
فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟
- الكثرة العددية مرجح معتبر ودليل ذلك: أن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح, والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد.
- الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد: وفي الحديث: «إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد»([11]).
- النزول على رأي الكثرة في أحد: كما رأيناه – صلى الله عليه وسلم – ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخل الطرقات.
- الستة أصحاب الشورى: وأوضح من ذلك موقف عمر – رضي الله عنه – في قضية الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدا منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة، اختاروا مرجحا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
- حديث “السواد الأعظم”: وقد ثبت في الحديث التنويه “بالسواد الأعظم” والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم، حديث روي من طرق، بعضها قوي ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه.
وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة، عندما تتساوى وجهتا النظر.
وقول من قال: إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصا ثابتا صريحا يقطع النزاع، ولايحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة، وهذا قليل جدا, وهو الذي قيل فيه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
أما القضايا الاجتهادية، مما لا نص فيه، أو مافيه نص يحتمل أكثر من تفسير، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف، والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر، وارتضاها العقلاء، ومنهم المسلمون، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها، بل وجد في النصوص السوابق ما يؤيدها.
- الاستبداد السياسي المسبب الأول لما أصاب الأمة قديما وحديثا:
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول “الخلافة الراشدة” إلى “ملك عضوض”, سماه بعض الصحابة “كسروية” أو “قيصرية”, أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببا في زوال دولتهم، ولكنهم – وأسفاه – نقلوا أسوأ ما في حياتهم السياسية – وهو الاستبداد والعلو في الأرض – إلى دولتهم التي يجب أن يقودها الذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
وما أصيب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب، إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرا، أو توجهه من وراء ستار([12]).
وأما عن مرتكزات الديمقراطية وغاياتها؛ فتعتمد الديمقراطية على أساسين:
- تحقيق معنى الديمقراطية السياسية (حكومة الشعب)، والديمقراطية الاجتماعية (الحكومة للشعب).
- توفير الحقوق والحريات، وهي هدف كل حكم ديمقراطي وغايته.
ولم يتحمس الناس لنظام الشورى إلا لأنها أفضل وسيلة لكفالة الحكم الصالح لحقوق الناس وحرياتهم، وتسمى الحقوق الفردية أو المدنية أو الحقوق العامة.
والحقوق العامة السياسية ترجع في الفقه الغربي إلى دعامتين أساسيتين: وهما المساواة والحرية, ومظاهر المساواة أو أنواعها أربعة:
- مساواة أمام القانون: أي إن الناس جميعا سواء في تطبيق القانون، لا يتميز أحد عن أحد.
- مساواة أمام القضاء: أي ألا يتميز أشخاص على غيرهم من حيث القضاء أو المحاكم أو العقوبة.
- مساواة في التوظيف: أي ألا تميز فئة من المواطنين على غيرها في تقلد الوظائف العامة، إذا توافرت شروط التوظيف، ومنها المؤهلات المطلوبة الخاصة.
- مساواة في التكاليف العامة: من ضرائب ورسوم وخدمة عسكرية.
وأنواع الحرية هي في الغالب:
- حرية شخصية: وهي قدرة الشخص على ممارسة أي عمل لايضر بالآخرين.
- وحق التملك: وهو الاعتراف بحق الملكية الفردية لكل إنسان.
- وحرية المسكن: وهي أن يكون لكل فرد حق الانتفاع في سكنه دون إزعاج أو إقلاق من أحد.
- وحرية العمل: وهي حرية ممارسة أنواع النشاط التجاري والصناعي والزراعي والمهن الحرة.
- وحرية العقيدة والعبادة: إما في القلب ولا سلطان لأحد غير الله – عز وجل – فيها، وإما في ممارسة الشعائر الظاهرة وأداء المناسك دون تقيد أو منع.
- وحرية الرأي والتعبير والاجتماع: وهي قدرة الإنسان على التعبير عن وجهة نظره بمختلف وسائل التعبير والنشر، وعقد الاجتماعات السلمية من أجل ذلك.
- وتكوين الجمعيات: أي الحق في إحداث جميعات ذات أنشطة متنوعة؛ ثقافية أو خيرية أو اقتصادية وغيرها.
- وحق التعليم وحرية التعليم: وهي تمكين الإنسان من أن يأخذ العلم عمن يشاء، ويعلم من يشاء.
- وحق التظلم أو تقديم العرائض (الاستدعاءات): وهو حق الإنسان في أن يتقدم بشكواه أو مطالبه أو ملاحظاته إلى السلطات العامة، إما لدفع ضرر، أو للمساس بحقوقه وحرياته، إذا كان القصد من استعمال هذا الحق تحقيق مصلحة عامة، أو توجيه السلطات وجهة معينة في الحكم أو الإدارة، وهذا مظهر للمساهمة في الشئون العامة، ويدخل ضمن الحقوق السياسية.
وهذه الحقوق والحريات، سواء في المساواة بأنواعها أو في ممارسة الحريات وتقريرها: سبق النظام الإسلامي إلى تقريرها والإلزام باحترامها وكفالتها، دون تمييز بسبب الجنس، أو اللون، أو العرق، أو الدين والمذهب، أو اللغة، أو الأصل والانتماء، بل إن الإسلام بهذا السبق كان في الحقيقة هو مصدر الإلهام بهذه الحقوق والحريات، وهو أول من أيقظ الضمير الإنساني إلى ضرورة رعايتها واحترامها، وإن كان الإحساس بالظلم والتمييز الطبقي هو المفجر للحركات الثورية.
وأدلة مراعاة هذه الحقوق والحريات تعتمد على صريح نصوص الشريعة في القرآن والسنة، ومواقف الخلفاء الراشدين وكلماتهم الرائعة في هذا المجال، وكل ذلك معروف([13]).
فالإسلام إطار واضح يمكن تطبيقه في كل عصر، تمكن المسلمون الأوائل من تطبيقه في العصور الأولى للإسلام مع بساطة المجتمعات وقلة وظائف الدولة، وتمكن المسلمون من تطبيقه مع تعقد المجتمعات وزيادة وظائف الدولة.
وكفل الإسلام حقوق المسلم السياسية وكان من أشهرها:
- اختيار الحاكم والرضا به، وهو ما كان يعبر عنه في التراث الفقهي بـ “البيعة”.
- المشاركة العامة في القضايا التي تخص عامة الأمة، وهو مبدأ الشورى الذي حث عليه الإسلام.
- تولي المناصب السياسية في الحكومة أو مؤسسات الدولة.
- نصح الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
- وتختلف الأنظمة في ترتيب الحقوق السياسية وكيفية تطبيقها، والذي يعنى الإسلام به هو تحقيق المعنى وترك النظام والتطبيق لما يوافق كل عصر.
أما بخصوص الديمقراطية، فلا يتصور أن تكون الديمقراطية التي كافحت من أجلها الشعوب في الغرب، وصارعت صراعا مريرا لتتخلص من الطغاة والمستبدين، أن تكون منكرا أو كفرا؛ فإن جوهر الديمقراطية من صميم الإسلام.
فالإسلام يتفق مع مبدأ اختيار الحاكم، وأكبر دليل على ذلك أن الإسلام ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، فما بالنا بالحياة السياسية إذن، والبشرية أوجدت للديمقراطية صيغا وأشكالا مثل الانتخاب والاستفتاء وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء، وحق الأقلية في المعارضة… إلخ؟ وكل هذه الأشكال ابتكرها الغرب وسبقنا فيها.
وكان من الأجدر بنا كمسلمين أن نكون نحن السباقين؛ إذ إن الإسلام سبق الديمقراطية بألف سنة بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهر الديمقراطية.
والدين الإسلامي لا يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين. فقد اقتبس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكرة الخندق من الفرس، كما أنه جعل أسرى بدر المشركين يعلمون المسلمين القراءة والكتابة, وكذلك اقتبس – صلى الله عليه وسلم – ختم كتبه من الملوك. واقتبس عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نظام الدواوين ونظام الخراج, وعلينا أن نعلم في النهاية أن: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها([14]).
أما الجانب السياسي فهو مجرد وسيلة بأن تكون الحكومة من الشعب، وقد حقق النظام الإسلامي مدلول الجانب الاجتماعي للديمقراطية بما لا يعرف له مثيل في التاريخ، ولم يسبقه في ذلك نظام، فاستطاع هذا النظام على مدى مئة عام من ظهوره في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – إغناء الناس جميعا، وتوفير الرخاء والهناءة والسعادة وراحة العيش لهم، عن طريق منهاجه في التكافل الاجتماعي بفريضة الزكاة والتعاون الفعال بين فئات المجتمع بغير الزكاة أيضا من نذور وصدقات وكفارات وتضحيات نادرة المثال، وقام الأغنياء بسد حاجات الفقراء، وبرز التضامن في تحمل المسئوليات الاجتماعية بين الفرد والدولة، وقامت الدولة المسلمة برعاية أهل الحاجة والعوز، وعلاج مشكلات المرض والشيخوخة والبطالة وغير ذلك.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هو القمة في الشعور بالمسئولية المرهفة عن جميع رعيته مسئولية شاملة، فيعول الأرامل، ويرعى المسنين، ويتعاطف مع الأسرة في البيوت وكلمته المشهورة في هذا الصدد معروفة لدى القاصي والداني وهي: “والله، لو عثر بعير بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه, ألا تدرون أني مسئول عن إصلاح الطريق؟!
ومن الملاحظ أن أكبر ضمان للحكم الصالح في الديمقراطية الإسلامية بنوعيها، كان هو الوازع الديني، واعتبار هذا الصلاح في الحكم عبادة.
أما الديمقراطية الغربية أو الشرقية الحديثة فلا سند لها من الوازع الديني لانفصال الدولة عن الدين؛ لذا وضعت ضمانات كثيرة في صور الديمقراطية الثلاث؛ وهي البرلمانية والرئاسية والمجلسية لاحترام النظام، سواء في الدساتير أو في القوانين المختلفة لمراقبة الحكام ومساءلتهم.
وحينئذ تعد الديمقراطية الإسلامية في طابعها الاجتماعي أبعد مدى في حياة الجماعة الإسلامية منها في الديمقراطيات الحديثة، كما أنها كانت أكثر تحقيقا لأهداف الديمقراطية السياسية وبعدها عن شكليات الديمقراطية الحديثة، حتى إن وجدت مخالفات أو انحرافات لدى بعض الحكام عن منهجها([15]).
ثانيا. الديمقراطية الإسلامية أشمل من الديمقراطية البشرية:
الديمقراطية في الإسلام غير خاضعة للرغبات البشرية “فليس الوالي الحاكم صاحب الحق في السيادة، وإنما السيادة للشريعة، وللأمة وحدها فيما لايتصادم مع نصوص الشريعة وأحكامها التشريعية، المراعي فيها مصلحة الأمة العليا والمجتمع، والحقيقة، أو الفطرة الإنسانية، والوالي أو الخليفة نائب أو وكيل عن الأمة، ولها عزله إن توافرت مسوغات العزل، واختلت ضوابط اختصاصاته ومؤهلاته”([16]).
ومن هنا، لايلزم من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله؛ إذ لاتناقض بينهما، فالديمقراطية المبتغاة للبلاد الإسلامية تعد شكلا للحكم يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور. بمعنى آخر، عندما يطالب المسلمون بالديمقراطية، فهم يطالبون بوسيلة تساعدهم على تحقيق أهداف حياة كريمة يستطيعون من خلالها الدعوة إلى الله – عز وجل – ولن يضرهم أبدا أن يستخدموا لفظا غربيا – كالديمقراطية – فإن مدار الحكم ليس على الأسماء، بل على المسميات والمضامين.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإننا لا نستطيع أبدا اعتبار الشورى نسخة من الديمقراطية، فالمسلم لايأخذ كل ما في الديمقراطية الغربية وينفذه بغير عقل ووعي، وإنما عليه أن يقر ما في أفكار الآخرين من صواب ويبتعد عن الخطأ، فهو لا يقلد، وإنما يستفيد من تجارب الآخرين من خلال الميزان الذي وهبه الله وهو ميزان الشرع.
وحتى دعاة الديمقراطية الغربية يتفقون معنا أن الفكر الإنساني ليس معصوما، وإنما يخضع للإضافة والتغيير والانتقاء، كذلك الديمقراطية بمفهومها الغربي تحتاج إلى تعديل إذا ما أردنا جعلها ديمقراطية إسلامية عربية، وهذا لتناسب ثقافات وعادات الشعوب التي ستطبق عليهم، وتحفظ لهم الأمن والاستقرار.
والديمقراطية التي يقرها الإسلام ويدعو إليها، ديمقراطية لا تجعل ثوابت الأمة من عقائد وأعراف محلا للإلغاء والنقاش، فكما أن الديمقراطية الغربية تجعل الحفاظ على العلمانية وتكريم السامية خطوطا حمراء لا يجوز للديمقراطية تخطيها، كذلك يرى المسلمون أن العقائد الإسلامية والثوابت الدينية والعرفية للمجتمع المسلم خطوطا حمراء، وإطارا للعمل الديمقراطي.
فالديمقراطية إذا كانت لا تتعدى على حقوق الشعوب في المحافظة على هويتهم، وعقيدتهم، وشخصيتهم، ولا تجعل ثوابت الأمة محلا للتبديل والتغيير، فهي الديمقراطية التي تخدم الإسلام وتحقق أهدافه، وإذا كانت ديمقراطية مفروضة من الخارج للهيمنة على الشعوب والأنظمة، فهي مظهر جديد من مظاهر الاحتلال البغيض، نسأل الله السلامة لنا ولأوطاننا([17]).
وعن نظام الشورى في الإسلام والأنظمة الديمقراطية الحديثة يحدثنا د. وهبة الزحيلي فيقول: تعتمد الديمقراطية الحديثة على أسلوب الشورى، فهي الوسيلة المفضلة لحماية الحقوق وتقرير الواجبات، وإشاعة الأمن والسلام، وتحقيق الوفاق ومنع الخلاف، وتمارس الشورى من خلال جميع صور الديمقراطية: البرلمانية (مجالس الأمة أو الشعب)، والرئاسية، والمجلسية، ولكل منها وسائلها الخاصة في هذا الشأن، وتعطي المجالس النيابية صفة التشريع، وتمثل السلطة التشريعية إحدى سلطات الدولة الثلاث مع التنفيذية والقضائية.
ويتفق نظام الشورى في الإسلام مع الأنظمة الديمقراطية، فهو أحد قواعد الحكم الإسلامي وخصائصه الكبرى، ومرتكز قيادة المسلمين في تدبير وتسيير الشئون العامة، قال ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح»([18]).
لكن أسلوب الشورى في الديمقراطية الحديثة أعم وأشمل، فيختلف نطاقه أو مجاله في الإسلام، عما هو موجود في الديمقراطية الحديثة؛ لأنه فيها – أي في الديمقراطية الحديثة – يعتمد على العقل المحض والآراء الشخصية والمصالح الذاتية والأهواء الخاصة، فتكون سلطة التشريع مطلقة غير مقيدة للمجالس المنتخبة أو المعينة، سواء في مجالس النواب أو مجالس الشيوخ.
أما في الإسلام فتتفق الشورى مع الديمقراطية في وضع الأنظمة التنفيذية، وكذلك في وضع القوانين الجديدة التي تقتضيها المصلحة العامة، مثل قانون السير، والموظفين، والتأمينات المعاشية أو التقاعدية، والصحة، وشئون السياسة والمعاملات والاقتصاد، وكل ما يقتضيه التطور، والتدابير الإجرائية أو الموضوعية لحل المشكلات الطارئة، والأعراف الجديدة.
لكن ليس للشورى مجال فيما يصادم النصوص الشرعية القطعية أو الظنية الواضحة المراد، والمبينة في السنة والعمل؛ لأن التشريع أو الحكم في هذا لله عز وجل، وهذا ما يسمى بالأحكام أو الأمور المعلومة من الدين بالضرورة أو بالبداهة، كأحكام العبادات والعقوبات المقدرة، والكفارات، والمحرمات أو المحظورات([19]) من الشرك بالله، والزنا والسرقة، وشرب الخمور، وتناول المخدرات، والغصوب، وجرائم القتل والسلب والنهب، وأكل أموال الناس بالباطل، والمصادرة بغير حق، وأحكام الأسرة من زواج وطلاق وعدة([20]) ونفقة وتربية أولاد على منهج الإسلام ونظامه وآدابه، واحترام قواعد الإسلام وآدابه وأخلاقه، كالتراضي في العقود، والمسئولية الفردية أو الشخصية لقوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤).
وكون الأصل في الإنسان البراءة، فكل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، وسريان الإقرار على المقر نفسه، دون غيره، وضمانات الإتلاف، ومنع الضرر والضرار (مقابلة الضرر بالضرر)، ونحو ذلك؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص، وهذه قاعدة شرعية وقانونية أيضا.
أوجه الشبه والاختلاف بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية المعاصرة:
فكما أن هناك أوجه شبه بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية المعاصرة، كذلك هناك أوجه اختلاف، وربما تكون أوجه الخلاف هي الغالبة.
فأما أوجه الشبه أو التماثل: فهي تتضح فيما تتميز به الديمقراطية الحديثة من صفات أو خصائص إيجابية نافعة وهي ما يأتي:
- يتشابه النوعان في نظام الحكم، بالمعنى الذي عرف به (لنكولن)، الديمقراطية، وهو ” حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب ” فإن نظام الحكم في الإسلام يعتمد أساسا على حرية الاختيار أو الانتخاب أو البيعة.
- ويتماثلان في القيام على مبادئ معينة سياسية واجتماعية، تتعلق بإرساء معالم الحقوق والواجبات الأساسية، مثل حق المساواة أمام القانون أو النظام، وبقية أنواع هذا الحق كما تقدم، ومثل حق الحرية، ولا سيما حرية الفكر والاعتقاد، ورعاية العدالة الاجتماعية، وحقوق الحياة والعمل، وبقية أنواع الحريات؛ فكل تلك المبادئ والحقوق مصونة في الإسلام، والغاية من الديمقراطية الحديثة وهي إرساء معالم الأمن والسلام والإخاء هي غاية الديمقراطية الإسلامية.
- وهما بنحو ظاهر يراعيان مبدأ الفصل بين السلطات، فالتشريع في الإسلام يصدر عن القرآن والسنة أو إجماع الأمة أو إرادة الأمة العامة أو الاجتهاد، وكل ذلك مستقل عن الإمام، بل هو ملزم به ومقيد بنتائجه، ومن الناحية العملية يعبر الإجماع عن الإرادة العامة للأمة بتعبير روسو وأمثاله، فهي في رأيهم إرادة معصومة، وكذلك حجية الإجماع قطعية؛ لأنه يعبر عن عصمة الأمة.
- يعارض كلا النظامين سياسة الاستبداد والانفراد بالرأي، ويعتمدان على القاعدة الشعبية في الحكم والإرادة وسياسة البلاد.
- تصدر القوانين النظامية في كلا النظامين بموافقة الأمة، سواء سميت بالمجالس النيابية أو بمجالس الشورى.
- تعتمد الديمقراطية الحديثة على مبدأ الأغلبية في اتخاذ قراراتها، وكذلك الديمقراطية الإسلامية، إما أن تأخذ بالإجماع الحاصل، أو برأي الأكثرية فيما لا نص فيه، ولا مانع في كلا النظامين من وجود أقلية لها حق المعارضة والمصارحة برأيها.
- المجالس النيابية تقوم على مبدأ تمثيل الأمة بنواب عنها، يختارونهم بالانتخاب الحر المباشر، وأهل الشورى إما أن تزكيهم الأمة بحكم التردد عليهم وقبول فتاويهم وآرائهم، وإما أن يختار بعضهم الإمام الحاكم، مراعيا ضوابط الشريعة في حسن الاختيار، وتوافر ملكة الاجتهاد, وجميع الأمة في النظام الإسلامي لها الحق في النهاية ببيعة الخليفة أو معارضة ما يراه أهل الشورى.
ويشترك كل من المرأة وغير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام في القضايا العامة التي تحتاج لمشاورة في الحدود المسموح بها شرعا لإجراء الشورى أو تداول الآراء.
وعلى الرغم من هذا التشابه بين النظامين، يتطلب النظام الإسلامي الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية في الإمام الحاكم وفي أهل الشورى على حد سواء.
وأما أوجه الخلاف أو الفوارق فهي كثيرة، حتى إن بعض المتشددين قالوا: الديمقراطية كفر، وليس الإسلام دين الديمقراطية، ناظرين إلى منطلقات الديمقراطية الحديثة ومبادئها المادية والنفعية، وهذه الفوارق هي ما يأتي:
- المراد بكلمة ” الشعب ” أو ” الأمة ” في الديمقراطية الغربية أو الشرقية: هو الشعب المحصور في حدود إقليمية معينة، ويعيش في أرض إقليم واحد، وتجمع بين أفراده روابط طارئة أو صناعية هي رابطة الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، أي إن الغالب في الديمقراطية المعاصرة اقترانها بفكرة القومية أو العنصرية، ويستتبع ذلك ظهور العصبية.
أما الأمة في الإسلام فهي أعم وأشمل، فهي تشمل جميع أبناء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب، دون قصر على حدود دولة معينة، ولا تربط بينها تلك الروابط الضيقة، وإنما الرابطة في العقيدة: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات)، فكل من أسلم هو مواطن في الدولة الإسلامية، وكذلك كل شخص غير مسلم رضي بالإقامة في دار الإسلام فهو من شعب الدولة.
والشعب في الإسلام غير منغلق في مكان معين محدود، وإنما يمتد وجوده في كل بقاع الدنيا، لا يحمل غير الانتماء لعقيدة واحدة، مما يبعد النظرة القومية أو العنصرية عنه، ويجعله منفتحا مصطبغا بالصبغة الإنسانية أو العالمية.
- هدف الديمقراطية الغربية تحقيق أغراض مادية أو دنيوية، بقصد إسعاد شعب بعينه، عن طريق توفير فرص متنوعة للدخل، حربية كانت أو صناعية أواقتصادية.
أما الديمقراطية الإسلامية فلها غرضان أساسيان: وهما تحقيق مصالح الناس الدينية الأخروية والدنيوية، ويترتب عليه أن الشورى في الإسلام مرتبطة بقيم دينية وأخلاقية نابعة من الدين نفسه، فهي ثابتة غير متقلبة ولا متأثرة بالأهواء والشهوات الخاصة.
أما الديمقراطية المعاصرة: فلا ثبات فيها في القيم، وإنما هي نسبية توجهها رغبات الأكثرية.
ويترتب على ذلك احتمال وجود تسلط شعوب الديمقراطية الغربية أو المعاصرة ولو كانت شعبية شرقية على بعضها، بينما تحتفظ الديمقراطية الإسلامية بنظرتها الإنسانية غير المغلقة، وتحترم حقوق الإنسان وكرامته بالفعل، على عكس ما نراه لدى الشرق والغرب من شعارات زائفة فقط للديمقراطية، بل إن الديمقراطية بنوعيها الشرقي والغربي في محنة أو أزمة، مما أوجد تصادما بين الديمقراطية المحلية والديمقراطية العالمية.
- الحقوق والحريات العامة في الشورى الإسلامية والديمقراطية الإسلامية تختلف عن الديمقراطيات المعاصرة من ناحيتين:
- إن هذه الحقوق والحريات في الإسلام ذات وظيفة اجتماعية، ترتبط بتحقيق مقاصد الشريعة، وإيجاد التوازن بين مصلحتي الفرد والجماعة، أما الديمقراطية المعاصرة فتغلب الجانب الفردي أو المصلحي الخاص على الجانب الاجتماعي، أو تحرص في الشرق على طحن مصلحة الفرد بمصلحة الدولة التي تدعي رعاية المصلحة العامة.
- تتقيد الحقوق والحريات في الإسلام بضوابط الشريعة، أما في الديمقراطية المعاصرة فهي حقوق مطلقة، لايقيدها سوى عدم الإضرار بالغير، والقانون القابل للتغير.
- إن سلطة الأمة أو المجالس النيابية النائبة عنها في الديمقراطية المعاصرة مطلقة:
الأمة مصدر السلطات,فهي صاحبة السيادة، وقراراتها واجبة النفاذ والطاعة، حتى إن خالفت الأخلاق والمصالح الإنسانية، فيمكن للأنظمة الديمقراطية إعلان الحرب على شعب دولة أخرى، لدوافع عنصرية أو اقتصادية أو استعمارية أو احتكارية.
أما سلطة الأمة أو مجالس الشورى في الإسلام: فهي ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بشريعة الله – عز وجل – ودينه وأصوله وقواعده العامة، فلا تخرج عن إطار الشريعة وأحكامها، وتتقيد بالنظام الأخلاقي ومبادئه، وتكون الأمة محكومة بهذين الأمرين: الشريعة والأخلاق.
فالدولة الإسلامية حكومة قانون إلهي، ولا تملك مجالس الشورى مخالفة نص قطعي أو واضح الدلالة، وإنما تتحرك فيما لا نص فيه أو فيما فيه نص ظني الدلالة أو غامض، أو في إطار التنفيذ (إصدار القوانين التنظيمية والقرارات واللوائح)، مثل قوانين تنظيم النقابات والتأمينات الاجتماعية وحقوق العمال، ونظام السير وتقرير العقوبات المناسبة للجرائم غير المنصوص عليها.
وإذا كان الدستور يقيد الأمة في الديمقراطية المعاصرة، فإن الدساتير في أغلبها عنصرية غير إنسانية، وقابلة للتغير، بينما الدستور الإسلامي بقيمه وأصوله وغاياته ومنطلقاته ثابت، وذو مصدر إلهي غير بشري ولا وضعي، أو عرضة للتغير والتبدل، ومرونة الإسلام محصورة في الأحكام المصلحية أو القياسية أو العرفية غير المنظمة في النصوص الشرعية.
وبالجملة: إن السيادة في الديمقراطية المعاصرة هي للأمة على الإطلاق، وفي الإسلام هي للشريعة والأمة معا([21]).
لقد بدأ المستشرقون بإشاعة أن الإسلام عدو الديمقراطية، وحذا حذوهم ساسة الغرب، وبعض ساسة الشرق وزعمائهم ومفكريه؛ فعقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر والتفاف الشعب حولها، كادت تمسك بزمام الحكم في البلاد، عقب هذه الظاهرة هبت عاصفة هوجاء شنها أصحاب الأقلام الجاهلة، وأساطين الفكر العميل، وقالوا – في غير حياء ولا خجل -: إن الذي يجري في الجزائر خطر على الديمقراطية، وحرب شعواء على الحضارة وعود إلى عصور التخلف والاستبداد!
وقد تبين مما سبق عرضه وتفصيله زيف هذه الدعوى الباطلة، بل الدليل والواقع والتاريخ شهود على عكسها؛ وعليه فلا نجد مسوغا لأي ادعاء على الإسلام أنه عدو للديمقراطية، فالإسلام منبع الديمقراطية,وإن كان المسلمون لايطبقون ما جاء فيه من تعاليم، فالعيب فيمن لا يطبقونه كما هو، وليس العيب في الإسلام نفسه.
الخلاصة:
- لقد نشأت الديمقراطية في كنف الإسلام,وظهرت بعد أن لم تكن؛ فالإسلام قائم بقواعد ديمقراطية,من اختيار الحاكم,والرد عليه إن أخطأ,وعزله إن جار ومحاكمته,ومن اتخاذ الشورى كمبدأ,ومن إعطاء الضعيف حقه من القوي,وإعطاء المسلم حقه من المسلم,ومن المحافظة على حقوق الإنسان.
- وهذا يتفق مع جوهر الديموقراطية؛ إذ إن جوهرها أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم,وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه,أو نظام يكرهونه,وألايساقوا إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها,وهذا من صميم الإسلام.
- ومن الأدلة المؤكدة أن جوهر الديموقراطية يتفق مع مباديء الإسلام:
o حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض.
o ربط القرآن بين الطغيان والفساد.
o ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة.
o حملة السنة النبوية على الأمراء الظلمة.
- إن مبدأ الحكم للشعب – الذي هو أساس الديمقراطية – ليس مضادا لمبدأ الحكم لله – الذي هو أساس التشريع الإسلامي ـ, إنما هو مضاد لمبدأ الحكم للفرد,الذي هو أساس الدكتاتورية.
- الديمقراطية الإسلامية أشمل وأكمل من الديمقراطية البشرية من ناحية الشورى ومبدأ اختيار الحاكم؛ فنظام الشورى في الإسلام يتفق مع الأنظمة الديمقراطية,فهو أحد قواعد الحكم الإسلامي وخصائصه الكبري,ومرتكز قيادة المسلمين في تدبير وتسيير الشئون العامة.
- أما بالنسبة لمبدأ اختيار الحاكم,فليس الحاكم صاحب الحق في السيادة وإنما السيادة للشريعة والأمة وحدها فيما لا يتصادم مع نصوص الشريعة وأحكامها التشريعية,وللأمة عزله إن توفرت مسوغات العزل,واختلت ضوابط اختصاصاته ومؤهلاته.
(*) من فقه الدولة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، مصر، ط4، 1425هـ/ 2005م.
[1]. كنف: ظل.
[2]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص529.
[3]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أم قوما وهم له كارهون (971)، وحسنه الألباني في المشكاة (1128).
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم (4910).
[5]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (385/ 19)، باب الميم، من اسمه معاوية، رقم (903)، وأبو نعيم في حلبة الأولياء (6/ 128)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2191).
[6]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده (13/ 307)، حديث ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (7382)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 393)، باب الميم، من اسمه معاوية، رقم (925)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3615).
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (14481)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فضل الصلوات الخمس (1723)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (265) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2242).
[8]. النواجذ: الأضراس، والمقصود: شدة الحرص.
[9]. ذكره المحب الطبري في الرياض النضرة في مناقب العشرة (1/ 179).
[10]. أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 192)، تفسير سورة يوسف، آية 76.
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (114)، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (2165)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (430).
[12]. من فقه الدولة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، مصر، ط4، 1425هـ/ 2005م، ص132: 144 بتصرف.
[13]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص452: 454 بتصرف.
[14]. البيان لما يشغل الأذهان، د. علي جمعة، المقطم للنشر والتوزيع، مصر, ص93، 94.
[15]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م, ص458، 459 بتصرف يسير.
[16]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص 455.
[17]. البيان لما يشغل الأذهان، د علي جمعة، المقطم للنشر والتوزيع، مصر، ص94، 95.
[18]. حسن: أخرجه أبو داود الطيالسي في مستده، مسند ما أسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (246)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3600)، وحسنه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (530).
[19]. المحظورات: المحرمات، وهي ما طلب الله تعالى الكف عنها بطريق الجزم، وما ثبت النهي عنه بلا عارض، وحكمه الثواب بالترك لله تعالى، والعقاب بالفعل، والكفر بالاستحلال في المتفق عليه.
[20]. العدة: تربص يلزم المرأة عند زوال نكاحها أو شبهته، وسمى التربص “عدة”؛ لأن المرأة تحصي الأيام المضروبة عليها، وتنتظر الفرج الموعود بها، مأخوذ من العد والإحصاء.
[21]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص463: 469.