دعوى عدم كتابة السنة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – لجهل العرب بالكتابة
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان العرب في الجاهلية يعتمدون على ملكة الحفظ، ويتميزون بقوة الذاكرة، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا لا يعرفون الكتابة؛ إذ أثبتت النقوش الأثرية وجود بعض الكتابات التي ترجع إلى العصر الجاهلي، وكذلك كتابة المعلقات السبع على أستار الكعبة، وصحيفة المقاطعة التي أعلنتها قريش ضد النبي – صلى الله عليه وسلم – في بداية الدعوة الإسلامية، كما عرفت أدوات الكتابة ومادتها عن طريق وصفها في كتب التاريخ والأدب.
2) انتشرت الكتابة انتشارا واسعا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وثبت ذلك في بعض النقوش الأثرية أيضا، ودل على هذا الانتشار افتداء أسرى بدر بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، ومعاهدات النبي – صلى الله عليه وسلم – ومكاتباته كمعاهدة المدينة مع اليهود، وصلح الحديبية مع قريش، ورسائله إلى الملوك والأمراء، وساعد على هذا الانتشار حض القرآن الكريم على الكتابة، وترغيب النبي – صلى الله عليه وسلم – في التعلم، وأمره بالكتابة خاصة؛ إذ إن دعوة الإسلام قامت على العلم.
3) وصف القرآن للعرب بـ “الأميين” لا يعني الأمية الكتابية ولا العلمية، وإنما يعني الأمية الدينية، إذا لم يكن لهم كتاب سماوي كاليهود والنصارى.
التفصيل:
أولا. معرفة العرب للكتابة قبل الإسلام:
كانت العرب قبل الإسلام يعتمدون على ملكة الحفظ، وقوة الذاكرة، وقد أوتوا النصيب الأوفر في ذلك، فكانوا يحفظون القصائد الطوال بمجرد سماعها لأول مرة، وكان أحدهم يرتجل القصيدة الطويلة بدون سابق إعداد لها، لكنهم مع هذا كانوا على معرفة بالخط والكتابة، إذ أثبتت النقوش الأثرية وجود بعض الكتابات من العصر الجاهلي، كما اشتملت كتب التاريخ والأدب على كثير من الشواهد الدالة على معرفتهم بالكتابة، ومن الأدلة على وجود الكتابة في العصر الجاهلي:
- وجود الخط العربي:
ومما يدلنا على معرفة العرب بالكتابة قبل الإسلام أن الباحثين القدامى والمحدثين اختلفوا حول نشأة الخط العربي؛ فمنهم من يرى أن أول من وضع الخط العربي والسرياني وسائر الكتب آدم – عليه السلام – قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه؛ فأصاب إسماعيل – عليه السلام – الكتاب العربي، وهذا يدل على أن تعلم الخط العربي توقيفا علمه الله – عز وجل – آدم – عليه السلام – ثم أصابه إسماعيل – عليه السلام – من بعده.
ومن الباحثين من يرى أن إدريس – عليه السلام – أول من خط بالقلم بعد آدم عليه السلام. ومنهم من يرى أن أول من وضع الكتابة العربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وكان أول من نطق بها، فوضعت على لفظه ومنطقه.
يقول د. ناصر الدين الأسد: “أصل الخط العربي مشكلة كانت مستعصية تتأرجح حولها الآراء، ولا تكاد تستقر، وللعرب القدامى في ذلك روايات مختلفة، وللمستشرقين المحدثين آراء متباينة”، وبعد أن أورد د. الأسد آراء الباحثين في ذلك وأشار إلى اختلافهم ذكر أن الخط النبطي هو الذي اشتق منه الخط العربي، وأكد على أن هذا الرأي هو أرجح الآراء عند الباحثين في هذا الموضوع[1].
وعلى كل حال فإن هذا الاختلاف يعطينا مؤشرا على أن الخط العربي قديم، وأن العرب في الجاهلية كانوا يعرفون الخط والكتابة.
- النقوش الأثرية:
ثم يسوق الأسد أدلة ملموسة على وجود الخط العربي قبل الإسلام، واستعمال العرب له، فيذكر نقوشا أثرية عثر عليها يرجع تاريخها إلى سنة (210 ميلادية) وقد اكتشف هذا النقش في وادي المكتب في شبه جزيرة طور سيناء، ونقش آخر يرجع إلى سنة (230 ميلادية)، وقد اكتشف في وادي فران في شبه جزيرة طور سيناء كذلك. ثم يذكر نقشا من القرن الرابع الميلادي عثر عليه في مدفن امرئ القيس بن عمرو ملك العرب في النمارة، وهي من أعمال حوران، ثم يذكر نقشين يرجع تاريخهما إلى القرن السادس الميلادي[2].
مما سبق يظهر لنا أن العرب ظلوا يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون، وقد أصبحت معرفة عرب الجاهلية بالكتابة أمرا يقينيا، يقرره البحث العلمي القائم على الدليل المادي المحسوس، وكل حديث غير هذا لا يستند إلا إلى الحدث والافتراض.
- حلقات تعليم الكتابة:
مما يدلنا على معرفة العرب للكتابة وجود ما يشبه الكتاتيب يتعلم فيها الصبيان الكتابة العربية، والشعر، وأيام العرب، وقد وجد هذا في البيئات المتحضرة آنذاك؛ مثل مكة والمدينة والطائف، والحيرة، والأنبار وغيرها، ومن الأدلة أيضا وجود المعلمين الذين كانوا يعلمون الصبيان ضروبا من العلم.
ومن هؤلاء الذي تعلموا الكتابة فيما يشبه الكتاتيب عدي بن زيد العبادي، إذ طرحه أبوه في الكتاب حتى حذق الخط العربي ثم أرسله إلى كتاب الفارسية فصار أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، ثم انتقل إلى بلاط فارس فأصبح كاتبا بالعربية ومترجما في ديوان كسرى[3]، وكان لقيط بن يعمر الإيادي كاتبا بالعربية، ويحسن الفارسية؛ فكان من أجل ذلك مترجما في ديوان كسرى أيضا، وكان ورقة بن نوفل يكتب الكتاب العبراني.
- الكتب والرسائل:
مما يدل على معرفة العرب بالكتابة كثرة الرسائل التي وصلتنا عنهم؛ ومنها: كتاب المنذر الأكبر إلى كسرى أنوشروان، وكتاب عمرو بن هند إلى عامله على البحرين، وكتاب عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي إلى قومه، وكتاب عدي بن زيد العبادي إلى أخيه أبي، ورد أخيه أبي عليه، وكتاب النعمان بن المنذر إلى كسرى، وكتاب عبد المطلب بن هاشم إلى أخواله بيثرب وغيرها[4]. ومن الأدلة أيضا على قدم معرفة العرب بالكتابة، كتابة العهود والمواثيق والأحلاف التي يرتبطون بها فيما بينهم أفرادا وجماعات، وما يتصل بها من كتابة كتب الأمان، ومنها كتاب النعمان الذي أرسله إلى الحارث بن ظالم وهو في مكة يؤمنه[5].
- المعلقات والصحف في جوف الكعبة:
ومما يدل على معرفة العرب بالكتابة قبل الإسلام تلك المعلقات السبع التي كتبها العرب بماء الذهب وعلقوها في أستار الكعبة؛ يقول ابن عبد ربه: “كان الشعر ديوان العرب خاصة المنظوم من كلامها، والمقيد لأيامها، والشاهد على أحكامها، حتى لقد بلغ من كلف العرب به وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها بين أستار الكعبة”[6].
ومن ذلك أيضا تلك المقاطعة التي كتبتها قريش في صحيفة وعلقتها في جوف الكعبة حينما تحالفت قريش على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق: “أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل”[7].
فهذه أدلة ملموسة توقفنا على حقيقة واقعية، وهي أن العرب في جاهليتهم كانوا يعرفون الكتابة، وكانوا يكتبون في موضوعات شتى، مما يقطع الطريق على القائلين بعدم معرفتهم للكتابة والخط.
- معرفتهم بأدوات الكتابة:
ثمة دليل آخر على معرفة العرب بالكتابة وهو وجود أدواتها كالقلم، والتي تصفه النصوص أنه مصنوع من القصب، يقط ويقلم أو يبرى، ثم يغمس في مداد الدواة، ويكتب به[8]، قال عدي بن زيد:
ما تبين العين من آياتها
غير نؤي مثل خط بالقلم[9]
وقال الزبرقان بن بدر:
هم يهلكون ويبقى بعد ما صنعوا
كأن آثارهم خطت بأقلام[10]
ومن أدوات الكتابة الدواة والمداد، وقد ورد ذكرهما كذلك في الشعر الجاهلي قال عبد الله بن عنمة:
فلم يبق إلا دمنة ومنازل
كما رد في خط الدواة مدادها
مما سبق نستخلص أن العرب كانوا يعرفون الكتابة، وأنها انتشرت بينهم،
مما يجعلنا نطمئن إلى أن العصر الإسلامي، وهو عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي أعقب عصر الجاهلية كانت الكتابة فيه منتشرة ومعروفة معرفة جيدة، وهو موضوع
حديثنا فيما يلي.
ثانيا. انتشار الكتابة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه:
إذا كنا قد أشرنا إلى أن الكتابات العربية يرجع تاريخها إلى العصر الجاهلي فإن وجودها في صدر الإسلام – عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه الراشدين – يكون من باب أولى بشكل أوسع، فالإسلام قد بنى رسالته على العلم الذي يتطلب التعليم والتعلم، فكان أول ما نزل في رسالته قوله تعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق).
ومن مظاهر انتشار الكتابة في ذلك العصر:
- النقوش:
- نقش القاهرة: وهو مؤرخ في سنة (31 هجرية)؛ أي في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو محفوظ في دار الآثار العربية، وإن كان هذا النقش قد كتب بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه يدل على انتشار الكتابة في عهد النبي.
- عدة نقوش على قمة الطرف الجنوبي لـ “جبل سلع” في المدينة المنورة خارج سورها الشمالي. وقـد عثـر عليـه د. محمـد حميـد الله الـذي يرجـع تاريخها إلى غزوة الخندق في السنة الخامسة للهجرة[11].
- الكتابات والرسائل إلى الملوك والأمراء:
والكتابات التي عثر عليها أيضا تدلنا على هذا الانتشار في العصر النبوي، إذ وجدت ثلاث رسائل أرسلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المقوقس عظيم القبط في مصر، وإلى المنذر بن ساوى، وإلى النجاشي في الحبشة، ولقد عثر على الأصول الحقيقية لهذه الرسائل، فضلا عن التي لم يعثر عليها وأخبرتنا به كتب التاريخ والسير.
- المواثيق والعهود:
ومما يدل على انشار الكتابة انتشارا واسعا في عهد النبوة كثرة المواثيق والعهود والمعاهدات التي عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – سواء بين المؤمنين وبعضهم، أو بين المؤمنين وغيرهم من اليهود والمشركين، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل تعليم الكتابة والقراءة رأس مال يفتدي به الأسير نفسه في بدر، فمن لم يكن لديه ما يفدي به نفسه، دفع إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – عشرة من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإن أتم مهمته فذاك فداؤه[12].
ومن ذلك أيضا ميثاق التحالف الإسلامي الذي عقده النبي – صلى الله عليه وسلم – بين المؤمنين أزال به ما كان من حزازات الجاهلية والنزاعات القبلية، ولم يترك مجالا لتقاليد الجاهلية[13]، وكذلك المعاهدة التي عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – مع اليهود في المدينة عندما هاجر إليها[14]، ومن تلك الأمور التي تدل على انتشار الكتابة في عهده – صلى الله عليه وسلم – انتشارا واسعا معاهدة الصلح التي تسمى صلح الحديبية بين المسلمين بقيادة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقريش سنة 6هـ[15] وغير ذلك.
- انتشارالمصاحف ثم صحف الحديث:
ثمة أدلة أخرى على شيوع الكتابة في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – منها تلك المصاحف التي كان يكتب فيها الصحابة كل ما ينزل من القرآن، وكذلك نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن كتابة الحديث في بادئ الأمر، فقد ورد عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئا، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه»[16]، ثم أمره بعد ذلك وترخيصه في كتابة الحديث حيث قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق»[17]. وبعيدا عن الخوض في موضوعات هذه الأحاديث، فإن فيها دلالة واضحة على أن أمر الكتابة كان مشهورا ومنتشرا، وإلا لما حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الكتابة ولما رخص فيها. ويدلنا على انتشار الكتابة أيضا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: «ما من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب»[18].
كما أن كتب الطبقات والرجال تعد من الصحابة عشرات بعد عشرات كلهم كاتب ضابط لما يكتب، إذ حض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المسلمين والصحابة على التعلم، وأمرهم بتعلم الكتابة خاصة، واعتنى المسلمون والصحابة بذلك مما كان له أكبر الأثر في تعلم الكتابة والخط، وإتقان ذلك.
وليس أدل على انتشار الكتابة في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وشيوعها مما أورده الجهشياري[19]، وابن عبد ربه[20]، والمسعودي[21] – من ذكر أسماء الذين كتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعلوهم مراتب، وقدروهم منازل: فكتاب يكتبون بين يديه – صلى الله عليه وسلم – فيما يعرض من أموره وحوائجه، وآخرون يكتبون بين يدي الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال الصدقات، وكاتب يكتب خرص[22] الحجاز، وآخر يكتب مغانم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثالث يكتب إلى الملوك ويجيب رسائلهم، ويترجم بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، وكتاب آخرون يكتبون الوحي، ثم يعقب المسعودي بعد أن ينتهي من ذكر أسماء هؤلاء الكتاب واختصاصهم بقوله: “وإنما ذكرنا من أسماء كتابه – صلى الله عليه وسلم – من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره، دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة؛ إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبا، ويضاف إلى جملة كتابه”[23].
فأي شيوع نرجوه لكتابة أكثر من أن يبلغ الكاتبون من الكثرة منزلة تجعلهم يتخصصون في أنواع ما يكتبون، يستقل كل فرد منهم أو كل جماعة بضرب واحد؟ إن هذه الكثرة في عدد الكاتبين هي التي دعت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى أن يقول: “لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف”[24]، ودعت كذلك عثمان بن عفان – رضي الله عنه – إلى أن يقول: “لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف…”[25]؛ إذ لو كانت الكتابة قليلة بين العرب لقبل عمر وعثمان من أي كاتب أن يكتب.
وفي ضوء ما قدمنا نستطيع أن نفهم فداء الأسرى في بدر حين أذن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لمن كان كاتبا من الأسرى أن يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة؛ إذ لا ريب أن هذا الإذن لم يكن منصبا على حالة فردية، وإنما يدل على أن هؤلاء الكاتبين من الأسرى كانوا جماعات[26].
ثالثا. وصف العرب بالأميين لا يعني أمية القراءة والكتابة:
لقد حاول المغرضون الاستدلال على زعمهم بأن العرب كانوا يجهلون القراءة والكتابة بوصف القرآن لهم بأنهم أميون، وهذا جهل فاضح منهم إذ إن معنى الأمية التي وصف بها العرب في القرآن الكريم غير ما توهموا، ولتوضيح ذلك نقول: لقد وصف العرب في جاهليتهم بأنهم أميون في ثلاث آيات؛ قال سبحانه وتعالى: )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم( (آل عمران: ٢٠)، وقال سبحانه وتعالى: )ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل( (آل عمران: ٧٥)، وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: ٢).
غير أن هذا الوصف بالأمية لا يعني الأمية الكتابية ولا العلمية، وإنما يعني الأمية الدينية؛ أي أنهم لم يكن لهم قبل القرآن الكريم كتاب ديني، ومن هنا كانوا أميين دينيا، ولم يكونوا مثل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين كان لهم التوراة والإنجيل.
ومن الأدلة على ذلك أن القرآن الكريم قد وصف فريقا من أهل الكتاب بالأميين، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة).
فأمية هذا الفريق ليست أمية كتابية؛ لأنه قد أخبر أنهم كانوا يكتبون بأيديهم، وإنما هي أمية دينية؛ أي جهل بالدين، وإنكار له وعدم تصديق، ومن أجل هذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما هاتين الآيتين فيما رواه ابن جرير الطبري بإسناده إليه، قال: “ومنهم أميون؛ قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتبا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله”[27]. وقال: “قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم؛ ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله”[28]. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»[29]، فلا ينقض ما قدمنا؛ وذلك لأنه قال ذلك في حديث الصيام عن رؤية الهلال، وهذا لا يعني إلا ضربا خاصا من الكتابة والحساب، وهو حساب سير النجوم، وتقييد ذلك بالكتابة لمعرفة مطلع الشهر، فقد أخبر أن هذا الضرب من العلم المدون المسجل القائم على الحساب والتقويم لم يكن للعرب عهد به، ومن هنا علق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير.
والحديث لا يعني نفي الكتابة والحساب نفيا عاما شاملا؛ وذلك لأن عرب الجاهلية قد كانوا يكتبون ويحسبون، وإنما هو نفي لأن تكون الكتابة وأن يكون الحساب نظاما عاما متبعا في كل الشئون كما كان ذلك عند بعض الأمم الأخرى ذات التقاويم الفلكية[30].
الحديث إذن لا ينقض ما قدمنا من أمر معرفة العرب بالكتابة وانتشارها بينهم، وأن أميتهم إنما كانت أمية دينية فحسب، وبهذا تبطل حجة من يزعم أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكن لديهم معرفة بالكتابة والخط.
الخلاصة:
- لقد استبان بالدليل المادي الملموس المتمثل في النقوش الحجرية المكتشفة، أن عرب الجاهلية قد عرفوا الكتابة بالحروف العربية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، وكتبوا بهذا الخط ثلاثة قرون قبل الإسلام على أقل تقدير.
- إن معرفة عرب الجاهلية بالكتابة معرفة فيها شيء من الانتشار يبعد عنهم ما وصموا به من الجهل بها، وقد دللنا على ذلك بوفرة النصوص والروايات التي تنبئ عن النشاط التعليمي في الجاهلية، وقيام ما يشبه الكتاتيب في عصرنا الحاضر، أو المكتب آنذاك، وتوافر عدد المعلمين الذين كانوا يعلمون الكتابة، وذلك كله في البيئات المتحضرة مثل: مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار.
- لقد اتسع ميدان الكتابة وتشعبت موضوعاتها، فكان العرب يكتبون في موضوعات شتى، كما ثبت وصف أدوات الكتابة وآلاتها عن طريق النقوش الحجرية، وما وصل إلينا في بطون كتب التاريخ والأدب.
- جاء عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبدأت الكتابة تنتشر وتزداد، وهو ما دلت عليها النقوش، والرسائل والمكاتبات إلى الملوك والأمراء، كما ساعد على انتشارها حض النبي – صلى الله عليه وسلم – على تعلم الكتابة والخط، وأخذ الصحابة بهذا التوجيه، حتى تعلموا اللغات الأخرى كالفارسية والعبرية وغيرها.
- من الأدلة على انتشار الكتابة في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أيضا ما ثبت من نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن كتابة الحديث، ثم ترخيصه في كتابته؛ إذ إن هذا يثبت انتشار الكتابة.
- إن وصف العرب بالأمية لا يعني الأمية الكتابية والعلمية، إنما يعني الأمية الدينية، ودليل ذلك أن القرآن الكريم وصف فريقا من أهل الكتاب بالأميين، بقوله سبحانه وتعالى: )ومنهم أميـون لا يعلمـون الكتـاب إلا أمانـي وإن هـم إلا يظنـون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة)، فهذا الفريق لم تكن أميته أمية كتابية، إنما هي أمية دينية؛ إذ قد أخبر تعالى أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم.
(*) الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، محمد حمزة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005م. دراسات في الحديث النبوي، د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1413هـ/ 1992م.
[1]. مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص23، 24.
[2]. مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص23: 32.
[3]. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق: سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ط3، د. ت، (2/ 101، 102).
[4]. جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، (1/ 9: 30)، نقلا عن: تدوين وتوثيق السنة في حياة الرسول والصحابة، د. جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م، ص55.
[5]. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق: سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ط3، د. ت، (11/ 120).
[6]. العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي، دار الاستقامة، القاهرة، 1940م، (2/ 306).
[7]. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص109.
[8]. تدوين وتوثيق السنة في حياة الرسول والصحابة، د. جمال خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م، ص60، 61.
[9]. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق: سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ط3، د. ت،، (2/ 119).
[10]. البيان والتبيين، الجاحظ، (3/ 179)، نقلا عن: مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص99.
[11]. مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص32.
[12]. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص230.
[13]. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص187.
[14]. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص192.
[15]. الرحيق المختوم، المباركفوري، دار المؤيد، الرياض، 1418هـ/ 1998م، ص342.
[16]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).
[17]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، (10/ 16، 17)، رقم (6510). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).
[19]. انظر: الوزراء والكتاب، أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط1، د. ت.
[20]. انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي، دار الاستقامة، القاهرة، 1940م.
[21]. انظر: التنبيه والإشراف، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، تحقيق: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي، القاهرة، 1938م.
[22]. الخرص: تقدير ما على النخل من الرطب تمرا.
[23]. التنبيه والإشراف، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، تحقيق: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي، القاهرة، 1938م، ص245، 246.
[24]. أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، كتاب: جمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ القرآن في المصحف، باب: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف، (1/ 39)، رقم (29).
[25]. أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، كتاب: اختلاف أكان العرب في المصاحف، باب: لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف، (1/ 108)، رقم (88).
[26]. مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص53.
[27]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (2/ 270).
[28]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (2/ 259).
[29]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا نكتب ولا نحسب”، (4/ 151)، رقم (1913).
[30]. انظر: مصادر الشعر الجاهلي، د. ناصر الدين الأسد، دار الجيل، بيروت، ط7، 1988م، ص44: 46.