دعوى عدوانية تعاليم الإسلام بتقسيم البلاد إلى دار سلام ودار حرب
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا قيام لدين الإسلام الكامل الشامل إلا بوجود دولة يقوم عليها، ولا يتصور وجود دولة بغير أرض تطبق فيها أحكام الإسلام، ويستقل عليها أهله.
2) دار الإسلام هي التي تعلوها شريعة الإسلام، أو ما كان المسلم فيها آمنا بوصفه مسلما، ودار الحرب على العكس من ذلك، وهناك دار العهد وهي التي ترتبط مع المسلمين بعهد.
3) ليس معنى تقسيم الديار إلى دار إسلام ودار حرب – أن علاقة المسلمين بغيرهم أساسها الحرب والقتال، إنما هو تقسيم فرضته ظروف الواقع، فأعداء الإسلام هم الذين جعلوا علاقتهم بالمسلمين علاقة حرب، ومن ثم صارت ديار المسلمين ديار حرب بالنسبة إليهم، فصارت ديارهم ديار حرب من باب المعاملة بالمثل.
4) دار الإسلام لا يمكن أن تتحول إلى دار كفر مهما طال الزمن، حتى لو اغتصبها الكفار، فلا بد من عودتها إلى ساحة الإسلام.
5) تناغما مع مستجدات العصر وظروفه، ظهرت اجتهادات عديدة للتوفيق بين هذا التقسيم و تلك المستجدات.
6) للهجرة أحكام متعددة، فقد تكون واجبة أو مندوبة أو مباحة أو محرمة، ولكل حالة ضوابطها.
التفصيل:
أولا. لا قيام لدين الإسلام الكامل والشامل إلا بوجود دولة يقوم عليها، ولا يتصور وجود دولة بغير أرض تطبق فيها أحكام الإسلام، ويستقل عليها أهله:
إن تكوين الدولة في الإسلام يقوم على أساس العقيدة التي يعتنقها جميع الأفراد عن رضا وطواعية، وتعتبر العقيدة هي الأساس المشترك الذي يجمع بين المؤمنين على اختلاف الأمصار والديار، وقد جعلهم الإسلام إخوة في ظل عقيدته السامية، فقال عز وجل: )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات:10)، وأكدها الرسول بقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم».[1] وجعل الإسلام هذه الأخوة القائمة بين المؤمنين جنسية لكل من ينطق بالشهادتين في أي بقعة في العالم، ورتب على ذلك جميع الحقوق والواجبات.
فالجنسية والعنصرية والتوطن في بلد معين، ليس لها اعتبار في تكوين الدولة الإسلامية، وهذه خاصية منطقية وحتمية لشريعة عالمية صادرة عن الله عز وجل، وهذه الشريعة بحد ذاتها تنظم كافة العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات، سواء أكانت بين المسلمين أنفسهم أم بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى.
فالاعتبار في الإسلام للدين قبل الأرض، وإذا كان للأرض اعتبارها في الأنظمة الحديثة، وعلى أساس الانتماء إليها والتوالد فيها تمنح الجنسية، وهي كذلك ركن من أركان الدولة، ولأجلها تشب الحروب، فإن الإسلام يعتبر كل أرض امتدت إليها تعاليم الإسلام، وسادت بها أحكامه، وظهرت فيها شعائره، أرضا إسلامية وبلادا إسلامية، لا فرق فيها بين جنس وجنس، ولغة وأخرى.
وكما أن الإسلام شرع الجهاد دفاعا عن العقيدة، فقد شرعه أيضا دفاعا عن دار الإسلام، لما يؤدي إليه انتقاص الدار من انتقاص السلطان، وإذا كان الجهاد فرض كفاية خارج ديار الإسلام، فهو في داخلها فرض عين لاسترداد ما اغتصب منها.
والدين يتلاءم مع قيام الدولة في دار الإسلام؛ إذ لا قيام للدين الكامل الشامل إلا بوجود دولة يقوم بها، ولا قيام للدولة الإسلامية إلا بقيام دين يحكم فيها ويكون ظاهرا عليها، ومن هنا نستطيع القول بأن الأرض ركن من أركان الدولة الإسلامية؛ إذ لا يتصور وجود دولة إسلامية بغير أرض تطبق فيها أحكام الإسلام، ويستقل عليها أهله.
وفي القانون الدولي الحديث يترتب على قيام الحرب بين دولتين أو أكثر انقسام العائلة الدولية إلى فريقين: فريق المحاربين، ويشتمل على الدول المشتبكة في الحرب، فريق غير المحاربين ومن اتخذ صفة الحياد، ويشمل باقي الدول الأعضاء في العائلة الدولية.
وجمهور فقهاء الإسلام يقسمون الدنيا إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، ويعتبرون للحرب أثرا في هذا التقسيم، حيث يعتبر وصف الدار تبعا لحالة الفتح من انتصار أو هزيمة بين المسلمين وغيرهم، وقد رتب الفقهاء على هذا التقسيم اختلافا في أحكام الشريعة بسبب الحرب الدائرة بين المسلمين وأعدائهم[2].
ولكي نتعرف على حقيقة انقسام الدنيا في نظر الفقهاء المسلمين إلى دار إسلام ودار حرب، فلا بد لنا من تعريف دار الحرب ودار الإسلام لديهم، وبيان هذا فيما يأتي.
ثانيا. دار الإسلام هي التي تعلوها شريعة الإسلام، ودار الحرب على عكس ذلك[3]:
- تعريف دار السلام أو الإسلام:
قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر على أحكام الإسلام لم تكن دار إسلام، وإن لاصقتها في الحدود.
فدار الإسلام: هي المنطقة التي يحميها جنود مسلمون، وتقام فيها شريعة الله. ونلاحظ هنا أن جمهور الفقهاء يعتبرون أن الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ليست دار إسلام، بل دار حرب، ولو كان أهلها من المسلمين، ولكن الإمام أبا حنيفة ومن معه يعتبرها دار إسلام إذا وجد فيها المسلمون آمنين، وكانت متاخمة لديار الإسلام، فإذا انتفى الأمان والملاصقة، وسيطرت أحكام غير الأحكام الإسلامية فهي دار حرب، وعلى الرأي الأخير لا تعد دار حرب ولو عطلت فيها أحكام الإسلام أو تم إلغاؤها، ولكن لا بد من ملازمة الأمان والملاصقة في الحدود.
والواقع أن كل إقليم حكم حكما إسلاميا، واستقر فيه الحكم الإسلامي مدة، هو دار للإسلام، ولو أزيل عنه حكم الإسلام بعد ذلك، وأخرج أهله منه؛ لأن العبرة في ذلك بقيام شريعة الله واستقرارها فيه لمدة من الزمان، وكل حكم قائم عليه بعد ذلك يعتبر مغتصبا، ويتعين على المسلمين استرداده، ومثل ذلك: الأندلس، وميراث المسلمين من القوقاز وفلسطين بكل مدنها ومقدساتها؛ لأنها أرض انتشر فيها الإسلام وحكمها المسلمون، فهي لذلك ديار إسلامية، وإذا كان يطلق مفهوم دار الإسلام عند المسلمين على البلاد التي تمتد إليها ولاية الإسلام وتحكمها قواعده وأحكامه الشرعية، فإن هذه الصفة لا تنتفي عنها عندما تتعرض للاغتصاب والاحتلال؛ لأن وجود المسلمين بها كاف لبقائها دارا للإسلام، ووجب على المسلمين استردادها وتحريرها.
ويبين الشيخ محمد أبو زهرة سبب تسمية دار المخالفين بـ “دار الحرب” فيقول: “تكاد تجمع كلمات الفقهاء أجمعين على أن دار المخالفين تسمى “دار حرب”، والسبب في ذلك أن الحرب كانت مشتعلة في عصر الاجتهاد الفقهي، بسبب الاعتداءات المتكررة من الأعداء، والمدافعة المستمرة من المسلمين.
والسبب في ظهور هذا الاصطلاح عند فقهاء المسلمين بتسمية أو تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، هو أن الدول التي استخلص الإسلام منها الشعوب أخذت تنظر إلى هذا الدين نظرة عدائية؛ لأنه يحترم الفرد ويحرر الشعوب ويحمي الحريات، وتلك المبادئ لا تتفق مع الحكم المطلق الذي كان سائدا في تلك الأزمنة، فنازعوا المسلمين جميعا في قوس واحدة، وراحوا يقاتلون المسلمين أينما وجدوا، فقاتلهم المسلمون بالصورة نفسها؛ فأخذت التسمية في الاصطلاح حكم الواقع.
وتسمى دار الإسلام كذلك دار العدل؛ لأن العدل واجب فيها في جميع أهلها بالمساواة، ويقابل هذه التسمية اسم “دار البغي” وهي اسم الجزء من دار الإسلام، تفرد به جماعة من المسلمين بخروجهم على طاعة الإمام الشرعي، بحجة تأولوها لتسويغ خروجهم عليه، وتحصنوا في تلك الديار، وأقاموا عليهم حاكما منهم، وصار لهم بها جيش ومنعة.
وأما دار الحرب: فهي الدار التي لا تطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية؛ لوجودها خارج نطاق السيادة الإسلامية، وتسمى عند الإباضية “دار الشرك”، وهي الدار التي أمرها للمشركين، يجرون فيها أحكامهم الشركية، ويقابلها عندهم “دار التوحيد”، وتظل الدار في رأيهم “دار عدل”، ولو غلب عليها أهل الضلال من مشركين ومنافقين، ما دام يمكن لأهل العدل إظهار دينهم فيها.
وللفقهاء في تعريف دار الحرب قولان:
الأول: أن دار الحرب هي الدار التي لا يكون فيها السلطان والمنعة للحاكم المسلم، وغلب فيها حكم الكفر، ولا تطبق فيها أحكام المسلمين، ولم يكن بينهم وبين المسلمين عهد، فما دامت الديار خارج منعة المسلمين وعهدهم، فهي دار حرب، يتوقع الاعتداء منها دائما، وعند ذلك وجب على المسلمين أن يكونوا على أهبة الاستعداد لرد الاعتداء.
الثاني: وهو قول أبي حنيفة،إذ يقول: السلطان والمنعة لغير المسلمين لا يجعل الدار دار حرب، وكذلك لا تكون دار حرب إذا غلب أهل الحرب على دار الإسلام، وإن ارتد أهل مصر، وغلبوا وأجروا أحكام الكفر، أو نقض أهل الذمة العهد وتغلبوا على دارهم، ففي كل هذه الصور لا تصير الديار ديار حرب إلا بأمور ثلاثة:
- إجراء أحكام أهل الشرك.
- اتصالها بدار الحرب.
- أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنا بالأمان الأول.
وقد اتفق أبو حنيفة مع صاحبيه أبي يوسف ومحمد على أن دار الكفر تصير دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها.
وبالنظر إلى رأي أبي حنيفة، نجد نوعين من الأرض، لا يدخلان في تعريف دار الإسلام، ولا في تعريف دار الحرب وهما:
o الديار التي لا يتحقق فيها السلطان الإسلامي.
o الديار التي لا تتاخم المسلمين.
ومعنى ذلك أن البلاد التي لا تتاخم المسلمين، ولا يتوقع منها اعتداء، فهي دار سلم ينطبق عليها معنى اعتزال المسلمين لبعد الديار.
ثم إن اعتبار شرط المتاخمة ساقط في هذا العصر؛ وذلك لأن المسافات بين الدول أصبحت متقاربة، وأصبح الإنسان يتحكم في الأجواء، وأصبحت وسائل الوصول إلى أي هدف عسكري وفي أي بلد كان – لا يكلف سوى دقائق أو لحظات، فالطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والصواريخ العابرة للقارات والمراكب السيارة في الفضاء – أصبحت كلها تتحكم في أي بقعة على الأرض، ويسهل الوصول إليها في أية لحظة.
دار العهد: وهناك دار ثالثة في تقسيم الفقهاء، وهي دار العهد، وهذه هي التي ترتبط مع المسلمين بعهد، ويكون هذا العهد إما مؤبدا وإما مؤقتا، فإن كان العهد مؤبدا، فهو في عهد الذمة الذي يلتزم به الكفار بجزية للمسلمين مقابل حمايتهم، ودار العهد في هذه الحالة تعتبر دار إسلام عند الفقهاء جميعا، سواء أكان العقد صلحا أم كان العقد ابتداء من المسلمين، أو منهم بالتراضي بين الطرفين.
وقال الماوردي عن الصلح لأهل الذمة: أن تكون أرضهم لهم بشروط حمايتنا لهم، وأن يعقد الشرط على أمانهم، فقد صارت أرضهم بهذا الشرط دار إسلام، وصاروا فيها أهل ذمة، ولا يقرون إلا بجزية، ويكون خراج أرضهم مع بقائها في أيديهم جزية عن رؤوسهم وحمايتهم.
وأما إذا كان العهد مؤقتا، فإن دار العهد في مثل هذه الحالة تعتبر من جملة دار الحرب، وبهذا صرح الأحناف، فهي دار حرب حيث بيننا وبينهم موادعة إلى وقت محدود، وقال الكمال بن الهمام: ” ولو وادعوا على أن يؤدوا كل سنة شيئا معلوما، وعلى أن لا يجري عليهم في بلادهم أحكام المسلمين، لا يفعل ذلك إلا أن يكون خيرا للمسلمين؛ لأنهم بهذه الموادعة لا يلتزمون أحكام المسلمين ولا يخرجون عن أن يكونوا أهل حرب، وجاء في شرح السير الكبير “فإن دار الموادعين دار الحرب لا يجري فيها حكم المسلمين”.
وقد خالف جمهور الفقهاء الحنابلة والشافعية، واعتبروا دار العهد دار إسلام؛ لأنهم صاروا بالصلح أهل ذمة تؤخذ جزية رقابهم، ورأي الشافعي هذا يصلح أن يكون أساسا للعلاقات الدولية الحاضرة بين المسلمين وغيرهم، حتى تؤمن مصلحة المعاملات التجارية، وجميع المصالح الاقتصادية والسياسية وغيرها، حيث تعتبر حالة السلم لا الحرب هي الأساس في العلاقات الدولية مع الأمم والدول الأخرى.
والواقع أن فكرة “دار العهد” تساير تطور علاقة الدول الإسلامية في العصر الحديث مع غيرها من الدول غير الإسلامية؛ إذ يمكن عقد عهد أو ميثاق بين المسلمين وبين أي دولة من غيرهم، شريطة أن يحقق هذا العهد العدل الإنصاف للمسلمين، وألا يكون على حساب دينهم أو شيء من أرض الإسلام. وهذا يؤدي إلى إقامة العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين المسلمين وغيرهم.
ومما تقدم يعلم أن دار الحرب تنحصر في دائرة الدولة المحاربة للمسلمين، وتسري على كل الدول التي تساند دار الحرب عليهم، أو تساندهم أدبيا ومعنويا أو ماديا، وبذلك فإن الشريعة الإسلامية تلتقي مع القانون الدولي في اعتبار أن الدنيا دار واحدة، وأن الحرب أمر عارض يقيم حالة العداء المؤقت بين بلدين.
والذي يجب ألا يغيب عن الأذهان، أن الإسلام حريص كل الحرص على أن يدخل الناس فيه من غير إكراه، فإن ناصبه أعداؤه العداء، وأجمعت دول على محاربته وأفكاره، أو سلبت أرضا من دياره، فهي دار حرب، وتجري عليها أحكام هذه التسمية.
والإسلام دين يحافظ على العلاقات الطيبة بينه وبين الدول الأخرى، ويحترم الحقوق والعهود، وقد أعطى أهل الذمة من الحقوق والأمان ما لا تعرفه الأنظمة المعاصرة، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوصي الخليفة من بعده بقوله: «أوصى الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خيرا، وأن يوفي إليهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم»[4].
ثالثا. ليس معنى تقسيم الديار إلى ديار حرب وديار إسلام – أن علاقة المسلمين بغيرهم أساسها الحرب والقتال:
ليس المقصود من دار الحرب أن تكون العلاقة بينها وبين دار الإسلام حربا دائمة، أو عداء دائما؛ لأن المقصود من كلمة الحربي، هو الذي بيننا وبين بلده حرب أو عداء، ولم تكن بيننا وبين بلاده معاهدات أمن أو صداقة، ولا يلزم أن يكون عداء مستمرا بين دار الحرب ودار الإسلام، فقد يرتبطون بمعاهدات ومواثيق، ولا يشترط في الميثاق أو المعاهدة أن يدفعوا للمسلمين مالا، وهؤلاء مع المستأمنين يعتبرون أجانب، بحسب الاصطلاح العصري الحديث في التفريق بين الوطني والأجنبي.
وأما المقصود من دار الإسلام، فهي الدار التي تضم جميع الأقاليم الإسلاميةـ مهما كانت متباعدة – ورعاياها من المسلمين وغير المسلمين الذين يقيمون فيها إقامة دائمة، وهم الذميون، وأما المستأمنون، فهم الذين يدخلون بلاد الإسلام بأمان لمدة سنة أو دونها، فهم مثل الأجانب الذين يقيمون في بلاد غير بلادهم، بموجب إقامة مؤقتة لمدة سنة ولا تتعداها.
فالمسلمون والذميون شعب لدار الإسلام، يتمتعون بالجنسية الإسلامية التي تربطهم بها، ولكن الذميين لا يعتبرون من جنس الأمة الإسلامية من حيث العقيدة، ولكن لهم ما للمسلمين من الحقوق، وعليهم ما على المسلمين من الواجبات.
فالمسلمون في دار الإسلام يكونون جماعة دينية أو سياسية في آن واحد، فكونهم جماعة دينية تربطهم وحدة الدين والعقيدة، ولكونهم جماعة سياسية تضمهم وغيرهم وحدة الولاء والتبعية لدولة واحدة.
إذن فالإسلام دين وجنسية وعقيدة وعبادة وحكم، فهو دين ودولة، ودستور هذه الدولة هو الشريعة الإسلامية، فهي وحدها التي تقيد إرادة الحكام، والسيادة فيها ليست مطلقة، بحيث تكون حرة في إدارة شئونها الخارجية وتحديد علاقاتها بسائر الدول الأخرى وإعلان الحرب متى شاءت، وإنما هي مقيدة بأحكام القرآن والسنة الصحيحة وإجماع الأمة بأولي الحل والعقد فيها، وتقوم على أساس المساواة في السيادة مع الدول الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك من أن العلاقة ببن المسلمين وغيرهم الأصل فيها هو السلم دون الحرب، فلماذا قسم الفقهاء الدنيا إلى دارين: دار حرب، ودار سلام أو إسلام، مع العلم أن هذه التسمية توهم – بلا ريب – أن الأصل في العلاقة هو الحرب؟
نقول في الإجابة عن هذا السؤال: قسم فقهاء الإسلام الكرة الأرضية إلى دارين، وذلك لسببين رئيسين هما:
- حاجة المسلمين في أول أمرهم إلى توحيد شئونهم، وإبراز شخصيتهم الإسلامية، وتوجيه قواهم نحو عدو خارجي مشترك، من أجل المحافظة على كيان الإسلام، وإبراز شخصية المسلمين بين الأمم.
- تأصيل فقهي لواقع العلاقات التي كانت بين المسلمين وغيرهم، والتي كانت الحرب هي الحكم الوحيد في هذا الشأن، ما لم تكن هناك معاهدة ولم يكن بد منها، فقد صور الفقهاء لنا حالة الحرب الفعلية بين العرب وغيرهم كالفرس والروم في ذلك الزمن، ودون أن تتوقف بعدئذ حملات العرب على عدوهم بسبب عداوتهم، فاعتبرت بلادهم أرض حرب.
وقد ظل هذا الواقع إلى عصر الاجتهاد الفقهي وما بعده، حتى إن البلاد الإسلامية شهدت معارك عنيفة، أوشكت القضاء على الإسلام، فكان الأعداء يثيرون حلقات الحروب المتسلسلة، فمن حرب الروم والفرس، والمغول والتتار، إلى تعصب الصليبيين في القرون الوسطى، إلى طمع المستعمرين في العصر الحديث، تلك السلسلة من المعارك، جعلت فقهاء الإسلام يضعون هذا التقسيم للدنيا، وجعلها دار حرب ودار إسلام.
والحقيقة أن هذا التقسيم إنما هو اجتهاد من فقهاء المسلمين، ومرجعه – كما بينا سابقا – الواقع، وإن كانوا يرون أن القتال لم يكن هو العلاقة الأصلية بين المسلمين وغيرهم، وإنما الأصل هو السلام، وأن الحرب إنما هي لرد كيد العدو، وحماية نشر الدعوة، ورفع الظلم.
وليس فقهاء المسلمين بدعا في هذا التقسيم، فله مثيله عند غيرهم، ففي القانون الروماني يقسم الأشخاص إلى: وطنيين، ولاتينيين، وأجانب. وكان الأجانب يسمون في الأصل “الأعداء”، وإذا لم يرتبط هؤلاء الأجانب بروما بمعاهدة أو محالفة، كان لأي قادم أن يستولي عليهم كما يستولى على أي شيء مباح، ولا يعترف بشخصية قانونية لهم.
وفي القانون الدولي الحديث تنقسم الدول إلى: دول محاربة، ودول غير محاربة (محايدة).
ولنا أن نتساءل: ما الذي دفع الفقهاء إلى مثل هذا التقسيم؟! أليس أعداء الإسلام الذين ناصبوه العداء منذ أيامه الأولى، وواصلوا عداءهم له إلى يومنا هذا؟! وهل تحولت مواقفهم تجاه الإسلام والمسلمين في العصر الحديث؟!
كلا! إنه منذ نشأة القانون الحديث كان من المقطوع به اعتبار الإسلام خارج نطاق العلاقات الدولية، وعدم الاعتراف بتمتع الشعوب الإسلامية بالحقوق التي يقررها هذا القانون.
وأقوال فقهاء القانون الدولي الأوربيين تشهد بعدم رغبتهم في إقامة العلاقات الطيبة مع الدول الإسلامية؛ فهذا جروسيوس – أبو القانون الدولي – قال بوجوب عدم معاملة الشعوب غير المسيحية على قدم المساواة مع الشعوب المسيحية، مع أنه يرى أن القانون الطبيعي يجيز عقد المعاهدات مع أعداء الدين المسيحي، إلا أنه نادى بضرورة تكتل الأمراء المسيحيين ضد أعداء العقيدة.
وهذا جنيتليس قد هاجم ملك فرنسا فرا نسوا الأول؛ لعقده معاهدة مع الخليفة العثماني سليمان القانوني سنة 1535م، مع أن هذه المعاهدة أقامت سلاما بين الدولتين، وأعفت الرعايا الفرنسيين من دفع الجزية التي كانت مقررة على غير المسلمين إذا ما أقاموا في دار الإسلام، ومنحتهم امتيازات دينية وقضائية؛ وذلك على أساس أن هذه المعاهدة تقيم تعاونا بين ملك مسيحي وبين غير المؤمنين! وهو تعاون – في نظر رجل القانون الدولي – لا يجوز، بل يجب أن يبقى التناكر والتعادي بين الفريقين، وأن تهيأ الفرص لسفك المزيد من الدماء!! بم نعلق )قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26)( (سبأ).
بل لقد ذهب فقهاء آخرون إلى أنه من الممكن إقامة سلام دائم في أوربا، على أساس تكتيل الدول المسيحية ضد العثمانيين – أي ضد المسلمين – وظهرت عدة مشروعات من هذا النوع.
إن الدولة الأوربية في تعاملها مع الشعوب الإسلامية كانت تنظر إليها بوصفها جماعات همجية غير جديرة بالتمتع بقواعد الحرب! ولقد اعتبر الاستيلاء على أراضي المسلمين عملا فاضلا يدعو إلى الفخر!
ونخلص مما تقدم إلى أنه حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر لم تكن الدولة العثمانية – أو أية دولة إسلامية أخرى – تتمتع بحقوق القانون الدولي.
هكذا كانت النظرة إلينا حتى بدايات العصر الحديث! والواقع أن رجال الحرب والسياسة والقانون، كانوا قبل الحروب الصليبية وبعدها ينظرون إلينا ببغضاء عميقة، وقد ورثوا عن آبائهم كفرا برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – ورغبة جامحة في تشويهها والقضاء عليها!
فقالوا: محمد مدع لا صلة له بالنبوة! وأتباعه مخدوعون لا يقبل منهم إيمان، وليس لهذا الدين ولا لمن دخل فيه حق مادي أو أدبي يراعي! إنهم خارجون على القانون، فمن اغتالهم أو اجتاحهم لم يرتكب إثما!
ماذا يفعل المسلمون إذا رأوا هذا الحيف، وهم موقنون بأن الله واحد، وأن رسله كلهم – ومعهم محمد – صلى الله عليه وسلم – حق؟ أإذا عدت أرضهم دار حرب، أيعدون أرض غيرهم دار سلام؟ هذه بلاهة!! كان عباد الأصنام يشمئزون من عقيدة التوحيد!، ويرفضون سماع شيء عنها: )وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46)( (الإسراء).
إذن فليكن: )لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (41)( (يونس). لا، لن ندعك تدعو، ولن ندع الآخرين يتبعونك، والسيف هو الحاكم! ويصور القرآن الموقف في هذه العبارة: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة:217).
فإذا جاوزنا الوثنيين إلى أهل الكتاب، وجدنا الضغائن أشد، والأنياب أحد، إنهم لا يطيقون سماع كلمة عن الإسلام )وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا( (البقرة:135) كلا الفريقين من يهود ونصارى يريد أن ننسلخ عن ديننا ونتبعه! إننا يا قوم أعرف بموسى وعيسى، وأرعى لتراثهما الصحيح، وأسرع إلى مرضاة الله الذي أرسلهما، وأرسل بعدهما محمدا صلى الله عليه وسلم.
ويبذل أهل الكتاب جهود المستميت؛ لسحق الدين الجديد، وتعويق المصدقين له، وصرفهم ولو إلى الإلحاد أو الوثنية!! وإنك لترى تقريع الأسى والغضب في تعليق القرآن على هذا الموقف الوضيع: )قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99)( (آل عمران).
ماذا يصنع المسلمون بإزاء هذه العداوات المحيطة؟ إن الذي يطلب منهم الاستكانة لها لا ذرة لديه من عقل..
وها قد طلع العصر الحديث، عصر عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم ومجلس الأمن، وقيل إن للإنسان حقوقا، وللشعوب كرامات! فهل اختفت المواريث القذرة في تاريخ العالم وتخلصت البشرية من طبائع الظلم والغبن؟
إن قضية فلسطين نموذج لشر ضروب التعصب؛ فقد طرد شعب مسلم من داره وحلت محله إسرائيل، وقالت الدولة الراقية: لقد خلقت إسرائيل لتبقى، وستتبع فلسطين أقطار أخرى ما دامت جزءا من أرض الإسلام؛ لأنها في نظر الاستعمار دار حرب! إننا لا نحب هذا التقسيم، ولكن غيرنا ألجأنا إليه وإذا تركه تركناه[5].
رابعا. دار الإسلام لا يمكن أن تتحول إلى دار كفر وحرب مهما طال الزمن، حتى لو اغتصبها الكفار فلا بد من استردادها إلى حظيرة الإسلام والمسلمين:
لا خلاف بين الفقهاء في أن دار الحرب في أصلها، ما كانت السلطة والمتعة فيها لأهل الحرب، وكانت أحكامهم هي الظاهرة فيها، ولكنهم اختلفوا فيما تصير به دار الإسلام دار حرب، وصورة هذه المسألة أن يتغلب أهل الحرب على دار الإسلام، أو يرتد أهل مصر من الأمصار، أو ينقض أهل الذمة العهد، ويتغلبوا على دارهم، أو يظهر الخارجون على الإمام العدل في جزء من أقاليم الإسلام، ويقيموا لهم دولة وسلطانا.
وقد ذهب الفقهاء في هذه المسألة إلى مذهبين[6]:
الأول: رأي الجمهور ومعهم الصاحبان من الأحناف: أبو يوسف ومحمد، وهؤلاء أجروا حكم الدار في مثل هذه الحالة لحكم دار الحرب، وساروا على قاعدتهم فيها، وهي ظهور المنعة والسلطان منهم مع ظهور أحكام الكفر فيها.
والثاني: هو مذهب أبي حنيفة – رحمه الله – وقد ذهب إلى أن دار الإسلام لا تصير دار كفر إلا بثلاثة شروط وهي: ظهور أحكام الكفر فيها، وأن تكون متاخمة لدار الكفر، وأن لا يبغي فيها مسلم ولاذمي آمنا بالأمان الأول. وجاء في حاشية ابن عابدين: أنه لو أجريت أحكام المسلمين وأحكام أهل الشرك في ديار، لا تكون دار حرب، وقال: وبهذا ظهر أن ما في الشام من جبل تيم الله – المسمى جبل الدروز – وبعض البلاد التابعة كلها دار إسلام، لأنها وإن كانت لها حكام دروز أو نصارى، ولهم قضاة على دينهم، وبعضهم يعلنون شتم الإسلام والمسلمين، لكنهم تحت حكم ولاة أمورنا، وبلاد الإسلام محيطة ببلادهم من كل جانب.
والذي نخلص إليه مما مر معنا: أن دار الإسلام لا تصير دار حرب بمجرد استيلاء دولة كافرة عليها، ما دام يجري فيها بعض أحكام الإسلام، وحجة الإمام فيما ذهب إليه كما ذكرها الكاساني هي: أن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام أو الكفر، ليس عين الإسلام والكفر، وإنما المقصود هو الأمن والخوف، ومعناه: أن الأمان للمسلمين فيها على الإطلاق، والخوف للكفر على الإطلاق، فهي دار إسلام، وإن كان الأمان فيها للكفرة على الإطلاق، والخوف للمسلمين على الإطلاق فهي دار كفر، والأحكام مبنية على الأمن والخوف، لا على الإسلام والكفر، فكان اعتبار الأمان والخوف أولى.
ولقد صرح ابن حجر الهيثمي من الشافعية، بأن دار الإسلام لا تصير بعد ذلك دار كفر مطلقا، واستدل بقول ابن عباس: «الإسلام يعلو ولا يعلى».[7] وقال: لو حكمنا بأن دار الإسلام التي استولى عليها الكفار تنقلب إلى دار كفر أو حرب، فإن هذا يؤدي إلى حكم فاسد، وهو أن المسلمين لو تمكنوا بعد ذلك بالقوة العسكرية من استعادة هذه الأرض التي يملكها ملاك مسلمون، فإنهم بفتحها عن طريق القوة يملكون هذه الأرض، مع أنها في الأصل مملوكة لملاك مسلمين قبل استيلاء الكفار عليها، وهذا مما يترتب عليه ضياع أجزاء من دار الإسلام التي استولى عليها الكفار – مثل الأندلس والقوفاز والقرم وتركستان وفلسطين – فالبلاد التي صبغت بصبغة الإسلام ثم يستولي عليها أعداؤه، فإنها دار إسلام مغصوبة يجب على المسلمين تحريرها وإعادتها إلى بلاد المسلمين.
ودار الإسلام تعد دار المسلمين جميعا مهما تباعدت بلادهم، وكذا الذميين باعتبار إقليم الدولة ذات السلطة المركزية الموحدة، فالوطن بحدوده الجغرافية أو السياسية المتعارف عليها حديثا – لا ينطبق على الوطن الإسلامي، فالمسلم جميع بلاد الإسلام وطنه، فهو يمتد مع العقيدة أينما وجدت، (وهو كما قال “الزحيلي” في كتابه ” آثار الحرب في الإسلام “: المسلم كالسمك في الماء لا وطن له، وإنما جميع بلاد المسلمين وطنه، قال الله عز وجل: )يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56)( (العنكبوت).
وعلى هذا فإنه يتعين على المسلمين جميعا في بقاع الأرض الدفاع عن أي جزء في وطنهم الإسلامي الكبير، والذي يتحدد بوجود المسلمين فيه، وفي أي بقعة من الأرض.
والهدف من إقامة حكومة دار الإسلام، هو حماية مبادئ الشريعة الإسلامية، وإحقاق الحق والعدل، وليس الهدف من ذلك تكوين حكومة عالمية واحدة، وسيطرة فئة إسلامية على العالم أجمع، وهذا أمر ليس مستطاعا، فالبشر خلقهم الله في الأرض منهم كافر ومنهم مؤمن، ولكن غاية الأمر أن دار الإسلام فيها حاكم مسلم يدير شئون البلاد الإسلامية بمقتضى شريعة الإسلام. وقد أفتى الفقهاء بجواز تعدد الإمامة عند اتساع الرقعة الإسلامية وتباعد أقطارها، لما في ذلك من تسهيل تدبير شئون كل إقليم، وفهم حاجات أهله من المسلمين من واقع قريب.
خامسا. تناغما مع مستجدات العصر وظروفه، ظهرت اجتهادات عديدة للتوفيق بين هذا التقسيم وتلك المستجدات:
إن تسمية الفقهاء دار المخالفين بأنها دار حرب لايقتضى أنهم أغفلوا المثل العليا التي دعا إليها الإسلام وأعلاها التمسك بالعدل والفضيلة؛ لأنهم مع هذه التسمية قد قرروا أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم خاضعة لقانون العدل، لا لقانون الفتح، وما عرف المسلمون أن الفتح يعطي حقا للفاتح غير الحق والعدل والمعاملة بالمثل العليا تحت سلطان الفضيلة والتقوى، وما كانت التسمية مسوغة للمسلمين أن يعتدوا على أموال المحاربين أو أرواحهم أو حرياتهم من غير طريق الميدان، ولذلك لم تكن التسمية مغيرة للحقائق الثابتة المقررة.
ونحن إذا نظرنا إلى الكلام الذي جاء في الفقه الإسلامي في معنى دار الإسلام ودار الحرب وجدناه ينتهي إلى رأيين:
أحدهما: ينظر إلى الأحكام والنظم، فإن كانت إسلامية فالديار إسلامية، وإن كانت غير إسلامية فالديار ليست إسلامية، ولو وصفت بأنها إسلامية.
والآخر: ينظر إلى أمن المسلم وولايته، فإن كان المسلم آمنا، بوصف كونه مسلما، فالدار دار إسلام، وإلا فهي دار حرب.
والثاني وهو رأي أبي حنيفة، وهو الأقرب إلى معنى الإسلام، ويوافق الأصل في فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء، فإنه حيث فقد أمن المسلم كان الاعتداء متوقعا، وحيث ثبت الأمن كان الاعتداء غير متوقع، فكانت الأولى جديرة بأن تسمى دار حرب، والثانية جديرة بأن تسمى غير ذلك[8].
ولعل هذا الرأي السابق – وله اعتباره في الفقه الإسلامي – لا يختلف كثيرا مع النظم القانونية الدولية المعاصرة؛ فحيث تأمن الدولة على نفسها ورعاياها تعتبر الدار دار سلم وموادعة، وحيث يثبت العكس تعتبر دار عداء، وتحتفظ بحقها في إعلان الحرب عليها في أية لحظة.
كما أن استناد هذا التقسيم إلى الظرف التاريخي في نشأته – أكثر من ارتكازه على نصوص شرعية، يفتح المجال لإجالة النظر فيه بين الحين والحين بما يواكب تغيرات الظروف وتقلبات الأحوال؛ ففي بيان المراد من التقسيم الفقهي للدنيا إلى دارين أو ثلاث يقول د. وهبة الزحيلي: ” إن مما يشيع بين القانونيين هو أن الفقهاء المسلمين قسموا الدنيا إلى دارين هما: دار الإسلام ودار الحرب، أو إلى ثلاثة بإضافة دار العهد في رأي بعض الفقهاء.
- ودار الإسلام هي البلاد التي تكون فيها السلطة للمسلمين، وتنفذ فيه أحكام الإسلام وتقام فيها شعائره، وأهلها هم المسلمون والمعاهدون.
- ودار الحرب هي الديار أو البلاد التي لا تطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية، لوجودها خارج نطاق السيادة الإسلامية، وأهلها هم الحربيون.
- ودار العهد هي الأقاليم التي بينها وبين المسلمين معاهدات سلمية تجارية ونحوها، أو إبرام عقد صلح أو هدنة طويلة الأمد، ويلحق بها حالة المحايدين كالحبشة وأهل النوبة وأهل قبرص في التاريخ الإسلامي.
والواقع أن هذا التقسيم ليس له مستند نصي، وإنما هو توصيف لما يحدث بسبب اشتعال الحرب بين المسلمين وغيرهم، فهو وصف طارئ واقع حادث، وهو شبيه بما يقرره فقهاء القانون الدولي من أنه يترتب على قيام الحرب بين دولتين أو أكثر انقسام العائلة الدولية إلى فريقين: فريق المحاربين، ويشمل الدول المشتبكة في الحرب، وفريق غير المحاربين ومن اتخذ صفة الحياد، ويشمل باقي الدول الأعضاء في العائلة الدولية.
والحق أن الفقه الإسلامي – كما قرر الإمام الشافعي، وهو المقرر في القانون الدولي المعاصر – يجعل الدنيا دارا واحدة، فإذا اختل الأمن وحلت الحرب محل السلام، وجدت منطقتان: إحداهما سلمية وأخرى حربية.
وليس صوابا ما يذكره بعض المستشرقين أن دار الحرب في حالة عداء دائم مع دار الإسلام؛ فإن العداء مؤقت ومتصور على مناطق القتال أو النزاع المسلح[9].
وتحت عنوان “فكرة دار الحرب ودار الإسلام ليست ملزمة للفكر الإسلامي” يقول الشيخ “راشد الغنوشي”: فكرة دار الحرب ودار الإسلام مرتبطة بظرفها التاريخي، وليست ملزمة للفكر الإسلامي، وليس فيها نصوص من الشرع، إنما ظهرت لأنه لم يكن هناك قانون دولي يحكم العالم، بل كان قانون القوة هو الحاكم، وليست كل علاقة خارج البلد الذي نعيش فيه تصبح علاقة حرب، لكنها بعض هذه البلاد، كما هو الحال بين العرب وإسرائيل، ولكن ليس المسلمون في حالة حرب مع 180 دولة في العالم. فهناك دول يحدث بينها وبين البلاد الإسلامية تبادل دبلوماسي وتجاري واقتصادي، فهذه تسمى ديار عهد.
فمفهوم دار الإسلام ودار الحرب مفهوم تاريخي، فكل دار يأمن فيها الإنسان على نفسه وعرضه ودينه، فهي دار إسلام، بل قد تكون الإقامة في هذه البلاد أولى من بعض ديار الإسلام التي يضطهد فيها المسلمون. فبعض البلاد – مثل تونس مثلا – تمنع الحجاب، بينما معظم البلاد الغربية تعتبر هذا من الحرية الشخصية[10].
سادسا. حالات الهجرة وضوابطها:
ليس للهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام حكم تكليفي واحد في الفقه الإسلامي، وإنما لها أحكام متعددة، فهي تدور بين الوجوب والإباحة والحرمة ونحو ذلك، وفقا لظروف وأحوال معينة.
وفي أقسام الهجرة وأحكامها، يقول الأستاذ النحاس[11]: “عند التحقيق نلاحظ أن حكم الهجرة من دار الكفر قد يندرج تحت أي حكم من الأحكام التكليفية المعروفة، بمعنى أنها قد تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة (ليست واجبة ولا مستحبة)، وقد تكون أيضا حراما، حسب حالة الشخص الذي يريد الهجرة.
- الهجرة الواجبة:
وتتحقق هذه الهجرة إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه، ولم يستطع أن يتفادى إكراه المشركين له على تكثير سوادهم، فتجب عليه الهجرة إن قدر عليها، ويأثم إن لم يفعل ذلك؛ لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم والمعقول، وإليك بيان ذلك.
- من الكتاب:
قال عز وجل: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)( (النساء)، والآية دليل على وجوب الهجرة من أي موضع لا يتمكن المسلم فيه من إقامة دينه، حيث نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين – أنه ظالم لنفسه مرتكب حراما.
- من السنة المطهرة:
عن جرير بن عبدالله «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فأمر لهم بنصف العقل – الدية – وقال: أنا بر يء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين».[12] والحديث يدل على وجوب الهجرة لمن لا يستطيع إظهار دينه؛ لما يترتب على عدم استطاعته إظهار دينه وعدم معرفة المسلمين له أنه قد يقتل على أنه من الكفار، ومما يدل على وجوب الهجرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – تبرأ ممن أقام بين المشركين وهو مسلم، قال المباركفوري: هذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وعن بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده، قال: قلت: «يا نبي الله، ما آيات الإسلام؟ قال: “أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله – عز وجل – وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران، لا يقبل الله – عز وجل – من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين».[13] وما ذهب إليه المباركفوري هو ما ذهب إليه ابن حجر، فقد أول حديث جرير السابق وحديث بهز بن حكيم على من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، قال ابن حجر في فتح الباري: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وعن عطاء بن رباح، قال: «زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، فسألناها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله – عز وجل – وإلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد ظهر الإسلام واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية»[14].
قال ابن حجر: أشارت عائشة – رضي الله عنها – إلى بيان مشروعية الهجرة – أن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق، لم تجب عليه الهجرة منه، وإلاوجبت.
- الإجماع:
نقل الإجماع على وجوب الهجرة لكل من لا يتمكن من إظهار الدين وإقامته عند القدرة عليها عدد من العلماء، منهم ابن كثير؛ إذ قال: نزلت هذه الآية الكريمة: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم( (النساء: ٩٧) عادة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع. وقال ابن رشد: وجب بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين، ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم؛ لئلا تجري عليه أحكامهم. وقال أحمد بن قاسم العنسي: فوجوب الهجرة من دار الكفر ظني، ولهذا اختلف العلماء في الوجوب وعدمه، أما دار الحرب فوجوب الهجرة عنها بالإجماع.
- المعقول:
ولأن القيام بأمر الدين واجب، والهجرة من ضرورة الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مما سبق يتضح جليا إجماع أهل العلم على وجوب الهجرة من دار الكفر – بشرط القدرة عليها – لمن لا يستطيع إظهار دينه، وأنه يأثم من لم يفعل ذلك.
- الهجرة المندوبة:
وفيها خلاف كبير بين العلماء، نظرا لقدرة المسلم على إظهار دينه من ناحية، وإقامته الدائمة في دار الكفر من ناحية أخرى، ومجمل أقوال الفقهاء في هذه المسألة ما يأتي:
القول الأول: يرى جمهور الشافعية والحنابلة استحباب الهجرة من دار الكفر لمن يقدر على إظهار دينه، واستدلوا على ذلك «بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، منهم العباس بن عبد المطلب».[15] فدل على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها.
وعن نعيم النحام حين أراد أن يهاجر، جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت في دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر.
فلم تجب الهجرة لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة: وكان – صلى الله عليه وسلم – يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم «ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين». [16] ووجه الدلالة أنه – صلى الله عليه وسلم – لا يخيرهم إلا فيما يحل لهم.
القول الثاني: يرى المالكية وبعض فقهاء الشافعية والحنابلة وابن حزم والزيدية أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في دار الكفر وهو قادر على الخروج عنها، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
o حديث جرير بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»[17].
o أنه تجري على المسلم في دار الكفر أحكام الكفر، وتكون كلمته فيها سفلى ويده.
- الهجرة المباحة:
وتكون لمن يعجز عنها لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه.
- الأدلة من الكتاب:
أخبر الله – عز وجل – في أكثر من موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، قال عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة:286)، وقال أيضا: )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها( (الأعراف:42)، وقال: )لا تكلف نفس إلا وسعها( (البقرة:233)، وقال عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها( (الطلاق:7)، وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال عز وجل: )فاتقوا الله ما استطعتم( (التغابن:16)، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: )ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به( (البقرة:286)، فكل هذه النصوص تدل على أنه – عز وجل – لا يكلف نفسا ما تعجز عنه. قال عز وجل: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99)( (النساء).
ووجه الدلالة من الآية السابقة: أن الله – عز وجل – استثنى المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان، وحالوا بينهم وبين الهجرة، من العذاب الذي عذب به القوم الذين ادعوا الاستضعاف، وهم كاذبون في ادعائهم؛ لأنهم كانوا يستطيعون الهجرة إلى المؤمنين، ولكنهم آثروا البقاء في دار الكفر، فتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة؛ إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه.
قال ابن كثير: وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا كيف يسلكون الطريق، ولهذا قال: )لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء)، يعني: طريقا، وقوله عز وجل: )فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99)( (النساء)، أي: يتجاوز الله عنهم بترك الهجرة.
- الأدلة من أقوال الصحابة:
عن ابن أبي مليكة «أن ابن عباس – رضي الله عنهم – تلا: )إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( فقال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله». قال ابن حجر: قوله: «كنت أنا وأمي ممن عذر الله».[18] أي: في الآية المذكورة.
- الهجرة المحرمة:
تكون الهجرة حراما في الحالات الآتية:
الحالة الأولى: إن قدر على الاعتزال والامتناع في دار الحرب، ويمكن التعبير عن ذلك في عصرنا بالحصول على الحكم الذاتي؛ لأنه بمقامه في تلك الدار تصير دار إسلام، وإذا هاجر منها تعود دار حرب، ولما يرجى بمقامه من دخول غيره في الإسلام.
الحالة الثانية: إذا كانت المصلحة ببقائه راجحة على هجرته، ومن الأدلة على ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأمر النجاشي بالهجرة إلى المدينة وبترك دياره – رغم أن الحبشة كانت دار كفرـ وما ذلك إلا لأن في إقامته في بلاده كملك بعض المصالح التي تفوق مصلحة الهجرة، من حيث إقامته العدل بين رعيته، بالإضافة لدوره الكبير في حماية من هاجر إليه من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – من مكة… وبناء على ما سبق فإنه يكره، وقد لا يجوز هجرة من يجعله الله سببا لإنقاذ المسلمين من الذوبان في مجتمعات الكفر؛ وهم من يقومون بالعمل على توحيد المسلمين في البلد الذي هم فيه، بحيث تنعدم الفوارق بينهم ويصبحون جماعة واحدة ليس لها انتماء إلا الإسلام، وكذلك من يقومون بإنشاء المراكز الدينية أو الاهتمام بها وبنشاطاتها، وإنشاء المساجد التي يصلي فيها المسلمون ويتعلمون دينهم، ويقومون كذلك بإصلاح ذات البين بين أفراد المهاجرين المسلمين، ليتحاشوا التحاكم إلى محاكم غير إسلامية.
الحالة الثالثة: هجرة المسلم من ديار الإسلام إذا احتلت من الكفار؛ لأن دار الإسلام تظل حكما دار إسلام إلى يوم القيامة، ولأنه لو حدث وهجرها جميع المسلمين فإن الدار بذلك تكون قد أصبحت دار كفر وليست دار إسلام، ولأنه – كما هو معلوم – إذا نزل الكفار ببلد من بلاد الإسلام فإنه يتعين الجهاد على كل مستطيع، فلو صارت باحتلال الكفار لها دار كفر، لما وجب على المسلمين تحريرها واستعادتها.
ولكن إذا كانت الهجرة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المسلمين بهدف المقاومة والجهاد كان ذلك واجبا، وأما إذا لم تكن الحال كذلك، ولم تكن هناك مناطق غير خاضعة لسيطرة الاحتلال، وليست هناك دول مجاورة ينطلق منها الجهاد والمقاومة، فإنه عندئذ تحرم الهجرة.
ومما سبق يتضح خطأ بعض العلماء الذين أفتوا بهجرة المسلمين من بلادهم إذا احتلت من قبل الكفار، ومن هذه الفتاوى ما أفتى به الشيخ محمد الطاهر بن الشيخ محمد النيفر عن أهل الجزائر وعدالتهم وقبول شهادتهم بعد أن أخمدت الثورات وأصبحت الجزائر تحت الحكم الفرنسي، وذلك بناء على أحوالهم في الهجرة أو البقاء في الجزائر، قال: ونحن لا نشك في أن أهل الجزائر وولايتها على ثلاثة أقسام:
o قسم اكتسى حماية دينية حتى يخلص بذلك من أحكام قضاة المسلمين هناك، وهذا لا شك في كفره مع كونه متزييا بزي المسلمين.
o وقسم باق على حاله من التمسك بدين الإسلام والعمل بأصوله وفروعه، إلا أنه قادر على الهجرة ولم يهاجر، وهذا مؤمن فاسق بتركه الواجب عليه، وهذا لا تقبل شهادته لفسقه، وعدم قبول شهادة القسم الأول واضح.
o وقسم هو مثل الذي قبله في التمسك بدينه إلا أنه عاجز عن الهجرة، وهذا لا يفسق من هذه الجهة، فإذا توفرت فيه شروط العدالة قبلت شهادته، ولا تمييز بين الأقسام الثلاثة عندنا، فإذا وردت علينا شهادة من أهل الجزائر ومن بعض أعمالها، فإن علمنا أن شهودها من القسم الثالث واستكملت ما يعتبر فيها شرعا لم نتوقف في قبولها، وإن أشكل علينا الحال توقفنا.
ونقول: لو كان قد أخذ أهل الجزائر بهذه الفتوى – التي هي دعوة للهجرة للقادر عليها، ولو كان مستطيعا للتمسك بدين الإسلام، وللعمل بأصوله وفروعه، كما ذكر الشيخ عن حال أهل القسم الثاني – لضاعت الجزائر مثلما ضاعت الأندلس، ولكن الشعب الجزائري استطاع بصموده وجهاده وعزيمته وبمحافظته على إسلامه أن يدمر الاحتلال ويقضي على الاستعمار.
تلك حالات الهجرة وصورها المتنوعة، وهذه عللها وضوابطها وأحكامها. فلعله ظهر لمن يدعي أن الإسلام لا يوجب الهجرة قولا لازما لا فكاك منه لإحداث الفصام التام بين دارين يرى إحداهما عدوا له على الدوام، بل العكس هو الصحيح؛ إذ الأصل – كما وضح لدينا – في علاقة دار الإسلام بغيرها – هو السلم لا الحرب، ما لم يطرأ ما يقيد هذا الأصل فنتحول عنه للفرع، فإذا زالت العلة الطارئة انتفى المعلول – الفرع – ورجعنا إلى الأصل وهو السلم، فلم يبعث الله رسله – خاصة محمد – صلى الله عليه وسلم – الرءوف الرحيم، كما وصفه ربه – قاهرين معذبين، بل بعثهم منذرين مبشرين.
الخلاصة:
- لا قيام للدين الكامل الشامل إلا بوجود دولة يقوم بها وتجري عليها أحكامه، فالإسلام دين وجنسية وعقيدة وعبادة وحكم، فهو دين ودولة، ودستور هذه الدولة هو الشريعة الإسلامية، فهي وحدها التي تقيد إرادة الحكام، والسيادة فيها ليست مطلقة، إنما هي مقيدة بأحكام القرآن والسنة الصحيحة، وإجماع الأمة أهل الحل و العقد فيها.
- إن مما يشيع بين القانونيين، هو أن الفقهاء قسموا الدنيا إلى دارين هما: دار الإسلام ودار الحرب، أو إلى ثلاثة بإضافة دار العهد في رأي بعض الفقهاء.
فدار الإسلام: هي البلاد التي تكون فيها السلطة للمسلمين، وتنفذ فيها أحكام الإسلام، وتقام فيها شعائره، وأهلها هم المسلمون والذميون.
ودار الحرب: هي الديار أو البلاد التي لا تطبق فيها أحكام الإسلام الدينية والسياسية، لوجودها خارج نطاق السيادة الإسلامية، وأهلها هم الحربيون.
ودار العهد: هي الأقاليم التي بينها وبين المسلمين معاهدات سلمية و تجارية ونحوها، أو إبرام عقد صلح أو هدنة طويلة الأمد، ويلحق بها حالة المحايدين مثل الحبشة وأهل النوبة وأهل قبرص في التاريخ الإسلامي.
- والواقع أن هذا التقسيم ليس له مستند نصي، وإنما هو توصيف لما يحدث بسبب اشتعال الحرب بين المسلمين وغيرهم، فهو وصف طارئ وحكاية لواقع حادث، وهو شبيه تماما بما يقرره فقهاء القانون الدولي، من أنه يترتب على قيام الحرب بين دولتين أو أكثر انقسام العائلة الدولية إلى فريقين: فريق المحاربين ويشمل الدول المشتبكة في الحرب، وفريق غير المحاربين ومن اتخذ صفة الحياد، ويشمل باقي الدول الأعضاء في العائلة الدولية.
- والحق أن الفقه الإسلامي كما قرر “الإمام الشافعي”، وهو المقرر في القانون الدولي المعاصر يجعل الدنيا دارا واحدة، فإذا اختل الأمن، وحلت الحرب محل الإسلام، وجدت منطقتان: إحداهما سلمية، وأخرى حربية.
- ليس صوابا ما يذكره بعض هؤلاء أن دار الحرب في حالة عداء دائم مع دار الإسلام!! فإن العداء مؤقت، ومقصور على مناطق القتال أو النزاع المسلح.
- أعداء الإسلام هم الذين جعلوا علاقتهم بالمسلمين علاقة حرب، ونظروا إلى ديار المسلمين على أنها ديار حرب، فكانت المعاملة بالمثل على أرض الواقع، وأصبحت ديارهم ديار حرب.
- أي دار قام فيها حكم الإسلام ولو لمدة من الزمن فهي ديار إسلام، ولا يمكن أن تتحول إلى ديار كفر وحرب، وإن اغتصبها الكفار فلا بد من استردادها إلى حظيرة الإسلام، والجهاد في سبيل تحريرها حينئذ فرض عين على كل أحد في الأمة.
- لم يوجب الإسلام الهجرة إلى دار الإسلام قولا واحدا لا مراجعة فيه، بل إن للهجرة حالات متباينة و صورا متعددة، ولكل منها أحكامها وضوابطها، وقد وصل بعضها إلى حد تحريم الهجرة من غير دار الإسلام إليها، لا إيجابها مثلما يزعم المدعون.
(*) ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، عبد الملك البراك، النور للإعلام الإسلامي، عمان، 1418هـ / 1997م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2310)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم (6743).
[2]. المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. محمود إبراهيم الديك، المكتبة الوطنية، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص62، 63 بتصرف يسير.
[3]. المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. محمود إبراهيم الديك، المكتبة الوطنية، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص63 وما بعدها.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (1328).
[5]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص76:73 بتصرف يسير.
[6]. المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. محمود إبراهيم الديك، المكتبة الوطنية، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص68:66.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام، معلقا عنه به.
[8]. نظرية الحرب في الإسلام، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص28.
[9]. قضايا الفقه والفكر المعاصر، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص613،612.
[10]. دار الإسلام هي التي تحترم كرامتك، حوار مع: راشد الغنوشي على موقع “إسلام أون لاين”.
[11]. التعاون والاشتراك في جيوش غير المسلمين، محمد السعيد النحاس، دار التقوى، القاهرة، 1427هـ /2006م، ص39 وما بعدها.
[12]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (2647)، والترمذي في سننه، كتاب السير، باب كراهية المقام بين أظهر المشركين (1604)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (2645).
[13]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه (20049)، والنسائي في المجتبى، كتاب الزكاة، باب من سأل بوجه الله عز وجل (2568)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (2568).
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4058)، وفي مواضع أخرى بطرق مختلفة، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد (4938)، وفي موضع آخرى بطريق مختلف.
[15]. أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار، كتاب السير، باب فرض الهجرة (14/233)، وهذا القول منسوب للشافعي.
[16]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو (4619).
[17]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (2647)، والترمذي في سننه، كتاب السير، باب كراهية المقام بين أظهر المشركين (1604)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (2645).
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة النساء (4312)، وفي موضع آخر بطريق آخر.