دعوى قصور التشريع الإسلامي عن الوفاء بحاجات الأقليات المسلمة في مجال العبادات والمعاملات
وجها إبطال الشبهة:
1) مسايرة التشريع الإسلامي لكل الظروف و الأحوال، وصلاحيته لكل زمان ومكان أمر ثابت، لا مماراة فيه.
2) عموم التكليف في شريعة الإسلام يقتضي أن يتساوى المسلمون في أداء التكاليف والالتزام بالتعاليم، وقد اجتهد العلماء لضبط أحوال الأقليات المسلمة بضوابط الشرع، مراعين أن المشقة([1]) تجلب التيسير،([2]) والنماذج على ذلك كثيرة,وكلها تؤكد مرونة هذا التشريع.
التفصيل:
أولا. مسايرة قواعد الشرع لكل الظروف والأحوال مع اختلاف الزمان والمكان:
إن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان أمر ثابت لا جدال فيه، أتينا على ذكره في ردود كثيرة سابقة، وقلنا إن هذه الشريعة تتضمن مبادئ عامة ثابتة لا خروج عليها بمرور الأعصار واختلاف الأمصار، وبين هذه المبادئ العامة والأصول الكلية، هناك مساحة من حرية الحركة المحدودة بهذا الإطار العام، تتيح للمسلمين الاجتهاد بخصوص مستجدات عصرهم ومصرهم لإنزال أحكام الشرع على أرض الواقع وضبط مجرياته بها، وبناء على هذه الإمكانيات وتلك المرونة، فإنه لا شيء في حياة الناس يجد، يمكنه عن ضوابط الشرع وقواعده أن يند([3]).
ثانيا. الاجتهادات في مواجهة المستجدات:
يستطيع المجتهدون من علماء الشرع أن يتصدوا دائما لضبط ما يجد من أحوال وما هو غير تقليدي معروف من الظروف بضوابط الشرع، وإخضاع هذه المستجدات لقواعده وتعاليمه، ومن هذا الباب أحوال الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، وما تعيشه من أوضاع مغايرة([4]) تستدعي قدرا هائلا من الاجتهادات الشرعية.
وقد ضرب العلماء – وما يزالون – بسهم وافر في هذا الميدان، وهذه بعض نماذج من اجتهاداتهم:
- في مجال العبادات:
- الصلاة والصيام في المناطق القطبية الشمالية:
من المعروف أن ظروف هذه المناطق – القصية – المناخية والفلكية مغايرة تماما لما عليه الحال في المناطق المعتدلة؛ ولهذا فقد لزم إفتاء المسلمين فيها بشأن كيفية ضبط توقيت صلواتهم وصيامهم ليتمكنوا من أداء التكاليف الشرعية مع التيسير عليهم، وفي هذا الصدد يقول د. وهبة الزحيلي: “المعروف في البلاد المعتدلة تقارب الليل والنهار أحيانا؛ حيث يقصر النهار قليلا عن الليل، كما في الشتاء، وقد يكون النهار في الصيف حوالي 16 ساعة، أما المناطق القطبية، فيتساوى فيها نصف العام مع النصف الآخر، حيث يكون النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر، وقد تغرب الشمس قبل الساعة العاشرة صباحا كما في بلغاريا، وقد يمتد النهار والصيام إلى أكثر من 18 ساعة، كما في الدنمارك والسويد أحيانا، وقد يكون وقت صلاة العشاء في الدنمارك بعد الساعة الحادية عشرة ليلا، وهذا لا يتحمله الأطفال غالبا الذين يبكرون إلى مدارسهم في السادسة صباحا.
وهذه الظاهرة توقع الناس في حرج أو مشقة غير محتملة، سواء في الصلاة أو الصيام، وهذا لا يتفق مع منطق التكليف وسماحة الإسلام؛ لأنه إذا ضاق الأمر اتسع والمشقة تجلب التيسير، وما رجحه علماء العصر أن من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا، لعموم قوله عز وجل: )أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)( (الإسراء).
ومن كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا، ولا تطلع فيها شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها إلى ستة أشهر مثلا، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم، تتمايز فيها الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، لما ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حدث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: «ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. فقيل: يا رسول الله، الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له»([5]).
فيجب على المسلمين في البلاد المذكورة، أن يحددوا أوقات صلاتهم، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد معتدلة لهم، يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية، في كل أربع وعشرين ساعة([6]).
- تعارض العمل مع صلاة الجمعة:
في البلاد غير المسلمة تكون الإجازة الأسبوعية يوما آخر غير الجمعة، كالأحد مثلا، ويوم الجمعة بالتالي يصير يوم عمل، ومن هنا قد يتعذر على المسلم أداء الجمعة في جماعة، فما الحل؟ يقول د. وهبة الزحيلي: “رأى بعض السذج أو السطحيين من عوام المسلمين، ولو كانوا مثقفين بثقافة أخرى غير شرعية أن يوم الجمعة كغيره من الأيام، فتؤجل صلاة الجمعة إلى يوم الإجازة الأسبوعية “الأحد”، وهذا جهل فاضح بحقيقة الزمان وفرضية الصلاة في وقت معين، فيوم الجمعة هو اليوم الحقيقي المطابق لزمان معين، لايجوز تخطيه ولا تجاوزه، ولا تأجيله أوتأخيره إلى زمن أو يوم آخر، لقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع( (الجمعة: 9).
وعلى الموظف أو العامل المسلم في معمل غربي أو أوربي أو أمريكي، أن يأخذ إجازة لمدة ساعة أو أقل لأداء صلاة الجمعة، التي هي فريضة في الإسلام، وإذا كان عدد المسلمين في المعمل كبيرا مثل أربعين رجلا في مذهبي الشافعية والحنابلة أو اثني عشر في مذهب المالكية أو ثلاثة مع الإمام في مذهب الحنفية، جاز لهم – إذا سمح لهم – إقامة جمعة في معملهم.
فإن تعذر كل ذلك، واضطر العامل إلى كسب العيش ولم يجد دخلا أو عملا آخر، جاز له للضرورة أو الحاجة أن يصلي صلاة الظهر، حيث يصبح المنع في بلد أجنبي من إدارة العمل عذرا من أعذار الجمعة والجماعة، أو لقيامه بوظيفة الحراسة في بلد إسلامي مثلا, فقد ذكر الفقهاء أن صلاة الجماعة والجمعة لا تترك إلا لعذر، لقوله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر»([7]) ([8]).
- إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية:
قد يكون المصلون في بلد أجنبي لا يعرفون العربية، هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى، فقد شرعت الخطبة لوعظهم وإرشادهم، فلا بد أن تلقى بلغة يفهمونها، فما العمل في مثل هذه الحالة؟أتلقى الخطبة باللغة العربية,أم يجوز أن تلقى بغيرها؟وعن هذا يجيب فضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر – رحمه الله – بعد أن فصل آراء فقهاء المذاهب بقوله: ” ولما كانت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة على هذا النحو السابق إجماله في شأن خطبة الجمعة، واشتراط كونها باللغة العربية، لدى جمهور الفقهاء – لا سيما فيما كان من أركانها – أما غير الأركان فقد يسرته بعض تلك المذاهب. وكانت هذه الخطبة، إنما شرعت للنصح والتذكير بالعواقب، أو كما قال الخليل: هي للتذكير بالخير فيما يرق له القلب، وكانت الخطبة باللغة العربية في حضور قوم لا يعرفون هذه اللغة ولايفهمونها، مجرد صوت يتردد في المسجد دون أن يتحقق المقصود المستهدف من خطبة الجمعة، وهو الموعظة والنصيحة والوصايا، وربما تعليم بعض الأحكام الشرعية.
وكان خطباء الجمعة في البلاد الإسلامية التي لا تنطق اللغة العربية، أو تنطق آيات من القرآن، دون فهم لما يتلون من الذكر الحكيم، يلتزمون ما استوجبه جمهور الفقهاء من لزوم الخطبة باللغة العربية، كتكبيرة الإحرام، واختلفت طرائق الخطباء في نصح المسلمين من هذا الصنف ووعظهم:
o فبعض المساجد يكون فيها درس في موضوع قبل دخول الخطيب المسجد ورقيه المنبر، ثم إذا ما حان وقت الخطبة ألقاها الخطيب باللغة العربية التي يجري بها لسانه، دون ترجمة ملتزمة بمذهب مالك الذي تتبعه مثلا.
o وبعض المساجد تترجم فيها خطبة الجمعة في درس الجمعة المقبلة، وبعض المساجد تترجم الخطبة بلغة القوم بعد الصلاة؛ حيث لا يرضون ترجمة لها أثناء إلقائها.
وإذا كان الخطباء قد اختلفت طرائقهم على هذا الوجه وغيره، بين أقوامهم الذين لا يعرفون اللغة العربية، ولا يفهمونها استمساكا بنصوص الفقه المذهبي في كل موقع من بلاد المسلمين، وكان هذا الصنيع مضيعا للفوائد المستهدفة من خطبة الجمعة وموقعها في هذا اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون أسبوعيا، وكانت المذاهب المعتبرة كلها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان الأمر على ما قدمنا من أقوال فقهاء المذاهب، ثم من أحوال الخطبة في البلاد الإسلامية، كان الأخذ بقول الإمام أبي حنيفة – رضي الله عنه – في جواز الخطبة بغير اللغة العربية أولى، باعتبار أن ما يقال فيها ذكر أو تذكير أو وعظ أو وصايا، وفقط يلتزم الخطيب بتلاوة آيات القرآن بلفظها العربي، وله أن يفسرها بعد تلاوتها بلغة القوم طلبا للفائدة المرتجاة.
وإذا كانت مراعاة فقه المذهب الذي ارتاده الناس في جهة ما، واعتادوا أداء شعائر الإسلام وفقا لأحكامه، أمرا قد يكون لازما لاستدامة وحدتهم واطمئنانهم في عبادتهم، فإن فقه المذاهب جميعا لم يمنع الجمع بين الخطبة باللغة العربية بأركانها وشروطها وسننها، وبين إعادة إلقائها بلغة القوم بالترتيب، فتكون باللغة العربية أولا في الخطبة الأولى، ثم يلقيها بلغة القوم، ثم يجلس ثم يبدأ الخطبة الثانية باللغة العربية، ثم يلقيها مرة أخرى بلغة القوم.
وبهذا الصنيع – إذا لم يرق الأخذ بقول أبي حنيفة الذي انفرد به بإطلاق؛ حيث أجاز الخطبة بغير اللغة العربية من لغات البشر – يمكن أداء الخطبة على الوجه الذي ارتضاه جمهور الفقهاء، أخذا بعموم الحديث الشريف:«صلوا كما رأيتموني أصلي»([9])، مع نفع القوم المصلين بإعادة الخطبة مترجمة من ذات الخطيب، أو من معاون له، ومن ثم يهون الخطب، ([10]) وينتفع الناس بخطبة الجمعة دون مساس أو انتقاص من الحكم الفقهي لجمهور الفقهاء أو خروج عليه.
أما أن تلقى الخطبتان بغير اللغة العربية، أو تترجما إلى اللغة الوطنية فوق المنبر قبل إلقاء الخطبة الأولى والثانية باللغة العربية، فذلك كالدرس قبل الصلاة، ولا تكون خطبة الجمعة إلا تلك التي ألقيت باللغة العربية أخيرا.
والأولى أن يقوم الإمام الخطيب بإلقاء خطبتي الجمعة ويترجم كل خطبة إلى لغة قومه عقب إلقائها باللغة العربية، ويعتبر ما ألقي بالعربية وما ترجم منها إلى غيرها خطبة واحدة، أي: الخطبة الأولى والثانية، كل منهما مكون من جزأين:
أولهما باللغة العربية؛ ارتباطا بالحكم الفقهي.
والآخر بلغة القوم؛ طلبا لنفع الناس، وإرشادهم وتذكيرهم بلغتهم، أو وصولا إلى إعمال قاعدة واجبة في الإسلام هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه لا تنفذ بغير لغة القوم التي يفهمونها.
هذا إذا وجد الخطيب أن في الأخذ بقول الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – فتنة بسبب الالتزام المذهبي السائد لدى بعض الشعوب الإسلامية من العرب، وغير العرب قال الله عز وجل: )تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)( (الإسراء).
وإذا كانت كل المخلوقات تسبح بحمد الله بقدراتها المختلفة التي خلقها الله، فأولى بالمسلمين من الناس أن يقبلوا على التسبيح والتحميد باللغة التي جبلوا عليها، وإن كان على غير العرب من المسلمين أن يتعلموا لغة القرآن؛ ليتدبروا آياته، ويتعبدوا بتلاوته، وما خطبة الجمعة وغيرها من الخطب المشروعة في الجملة، إلا تكبير وتحميد وتسبيح وتذكير وموعظة وتلاوة لبعض آياته: )يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)( (النساء)([11]).
- جواز احتفال مسلمي جنوب أفريقيا بعيد الأضحى مع الحجيج بمكة، رغم اختلاف المطالع، وتقبلهم خبر يوم “عرفة” بواسطة المذياع أو غيره من وسائل الاتصالات الحديثة:
فقد اختلفت المطالع في رؤية الهلال في جنوب أفريقيا عام 1408هـ فثار السؤال موجها لمكتب شيخ الأزهر: إذا لم ير الهلال في جنوب أفريقيا فمن يمكن أن نتبع؟ فكانت الإجابة المختارة، بعد استعراض آراء فقهاء المذاهب المختلفة: والراجح هو رأي الجمهور: إنه لا عبرة باختلاف المطالع لقوة دليله؛ ولأنه يتفق مع ما يقصد إليه الشارع من وحدة المسلمين وجمع كلمتهم، وأنه متى تحققت رؤية الهلال في أي بلد من البلاد الإسلامية يمكن القول بوجوب الصوم على جميع المسلمين الذين تشترك بلادهم مع بلد الرؤية في جزء من الليل.
واستقر مؤتمر علماء المسلمين المنعقد بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمرهم الثالث المنعقد 1386هـ/1966م، بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية على ما يأتي:
o أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري، كما يدل عليه الحديث:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».([12]) وأنه يعتمد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر، إذا لم تتحقق الرؤية، ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر السابق ثلاثين يوما.
o أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية، وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة.
o أن المؤتمر يهيب بالشعوب والحكومات الإسلامية أن يكون في كل إقليم إسلامي هيئة إسلامية يناط بها إثبات أوائل الشهور القمرية، مع مراعاة اتصال بعضها ببعض والاتصال بالمراصد والفلكيين الموثوق بهم.
وعلى ضوء ما تقدم، وتمشيا مع ما وصلت إليه الاتصالات السلكية واللاسلكية بين الدول الإسلامية المختلفة المتباعدة، وما تطورت إليه وسائل الإعلام الحديثة المسموعة والمرئية، وما ترتب على ذلك من سهولة الاتصال بين البلاد الإسلامية في شتى البقاع، فقد أصبح من الميسور جدا أن ينقل الخبر في لحظات من دولة إلى أخرى عن طريق وكالات الأنباء المختلفة، أو بواسطة المذياع والتليفزيون، أو عن طريق البرق والهاتف.
وبناء على ما ارتآه بعض فقهاء المالكية من أنه يعمل بالإشارات التلغرافية وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة المتطورة بأنواعها المختلفة في إثبات الصوم؛ إذ إنها من وسائل التخاطب بين الدول الإسلامية البعيدة والقريبة.
وإذا كان ما تقدم في شأن رؤية الهلال لا يختص بهلال رمضان فقط، بل يعم جميع الأشهر القمرية، ومنها شهر ذي الحجة الذي يقع فيه موسم الحج كل عام، وكانت الهيئات الإسلامية المشار إليها في السؤال تهدف إلى إيجاد تقويم إسلامي موحد؛ بغية الوصول إلى وحدة الأمة الإسلامية في احتفالاتها بشعائر الإسلام.
وإذا كانت مناسك الحج جميعها تؤدى في مواقعها في أرض الحجاز بمكة وعرفات وما حولها، وكان عيد الأضحى هو اليوم التالي للوقوف بعرفات، كان على كافة المسلمين، أيا كان موقعهم على أرض الله، التوافق مع الحجيج بعرفات في موقفهم وعيدهم.
وإذا كان ذلك، فإنه على جميع مسلمي جنوب أفريقيا وغيرهم أن يحتفلوا بعيد الأضحى المبارك مع كافة الحجيج في مكة المكرمة، على الرغم من اختلاف المطالع، لما سبق بيانه، كما يجوز لهؤلاء وغيرهم أن يتقبلوا خبر يوم عرفة بواسطة المذياع أو غيره من وسائل الاتصالات، أو أجهزة الإعلام المختلفة، بشرط أن يكون المصدر بلدا إسلاميا، امتثالا لقوله عز وجل: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر( (البقرة:185)، وقوله عز وجل: )وما جعل عليكم في الدين من حرج( (الحج: 78)([13]).
- في مجال المعاملات:
وهو أوسع نطاقا وأكثر تعقيدا وأشد التصاقا بظروف المجتمع غير المسلم – بعاداته وتقاليده ونظمه غير الإسلامية – الذي تقطنه الأقلية المسلمة، وعليها أن تلتزم – في الغالب – نظمه وقوانينه في معاملاتها؛ ومن ثم فهو مجال خصب للاجتهاد والتكييف الفقهي لأوضاع الأقليات المسلمة.
وهذه بعض النماذج المدللة على إمكانية استيعاب القواعد الشرعية للمستجدات وإيجاد الأحكام والحلول المناسبة لها:
- طلاق المسلمين في غير ديارهم:
استفتي فضيلة الإمام الشيخ جاد الحق فيما يأتي: يحدث طلاق المسلم في البلاد الغربية، خاصة تلك التي يوجد بها نظام المساعدات الاجتماعية، لسببين هما:
o سبب مادي بحت، الهدف منه زيادة الدخل المادي، من مكاتب المساعدات الاجتماعية، ويتم مثل هذا الطلاق باتفاق الزوجين معا.
o إذا وقع خلاف بين الزوجين وتعذر الوصول إلى حل، وفقد الأمل في عودة الناشز، والحال أن الزوج يرغب في تحصين نفسه حتى لا يقع في المحرم، فإنه لايمكنه التزوج بأخرى ما دامت الزوجة الأولى – الناشز – مسجلة على اسمه، وذلك ما تقضي به قوانين البلاد الغربية، حيث لا يسمح لأي زوج بالتعدد؛ لذلك يضطر الزوج إلى إيقاع الطلاق مع عدم وجود نية بالطلاق الإسلامي إلابعد تسوية المشكلة القائمة بينه وبين زوجته الناشز، وحصوله على حقوقه المترتبة على زوجته بعد فشل الإصلاح، إذا فالرجل في هذه الحالة مجبر – مكره – على القيام بمثل هذا الطلاق بسبب القانون الذي لايسمح بالتعدد.
والسؤال: هل يقع الطلاق، المتفق عليه، والمشار إليه سلفا، طلاقا إسلاميا مهما كان نوع وهدف ذلك من غير معرفة نية الرجل عند قيامه بالطلاق؟ وقد جاء الجواب على النحو الآتي:
الحكم الشرعي في المسألة الأولى التي عرضها السائل هو وقوع الطلاق، لأن الزوج أوقعه بكامل حريته واختياره، وبصريح ألفاظه، وباتفاق مع زوجته على الطلاق بلا إكراه ولا إجبار، فوقع الطلاق دون حاجة للنية؛ لأنه من صريح الطلاق، وكان إيقاعه ابتغاء الحصول على مال يزيد الدخل، وهذا خروج بالطلاق عن حكمة مشروعيته، ومن ثم كان المال الذي يحصلان عليه بهذا الطريق غير مشروع ومحرم شرعا؛ لأنه جاء بطريق التحايل الممقوت، وأسلوب من أساليب السحت التي تهدم الأسرة وتعرضها للضياع.
أما إيقاع الطلاق للسبب الثاني، وهو فقدان الأمل في استمرار الزوجية ونشوز الزوجة، فإن الزوج صاحب الكلمة في هذا، وهو غير مجبر على إمساك زوجة ناشز ينتظر أن يحصل منها على إبراء من حقوقها الزوجية قبله بافتدائها نفسها واختلاعها؛ لأن الخلع من الإجراءات الجائزة شرعا وليس واجبا.
وأما ما أشار إليه السائل من تحصين الزوج نفسه وإعفافها بالزواج الثاني لنشوز الأولى، هو واجب شرعي ليس للزوج أن يعطله لحين حصوله على حقوقه من الزوجة الناشز، وله أن يطلقها بدون عوض ولا فداء([14]) ولا خلع حفاظا على دينه، وليس في هذا الطلاق إجبار ولا إكراه من الدولة التي تمنع تعدد الزوجات؛ لأن قانونها معلن لم يفاجأ به المطلق الراغب في تحصين نفسه، وما دامت الزوجة قد نشزت فلا محل لأن يقال: إن المطلق مجبر أو مكره على طلاقها؛ لأن نشوزها كاف في تطليقها، ما دام الزوج يعلم مسبقا أن قانون الدولة لا يجيز تعدد الزوجات كانت شروط تحقق الإكراه غير متوافرة، ولا يتوقف وقوع الطلاق في تلك الحال على نية الزوج المطلق إذا تلفظ بصريح الطلاق منجزا([15]) غير معلق([16]) ولا مضاف([17]).
جاء في مذكرة السائل أن حكومة السويد تنفيذا لقانونها؛ أجبرت زوج الزوجتين على طلاق إحداهما، وتعيش معه كصديقة وعلى استبقاء زوجة واحدة رسمية، ولما كان هذا الإجراء – باتخاذ المطلقة صديقة – مخالفا لشرع الله في القرآن الكريم، فلا يحل للمسلم أن يعاشر مطلقته كصديقة، لقول الله عز وجل: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان( (النساء: 25).
وعلى جماعة المسلمين في هذه الدولة أن تختار لجنة من أناس صالحين فاهمين لدينهم، لهم دراية بأحكام النكاح والطلاق، يقومون بإصلاح ذات البين، ([18]) وإذا وقع الطلاق بين زوجين بسبب خاص أو بسبب تنفيذ قانون الدولة، فإنه – إصلاحا واستمرارا للزوجية – يراجع الزوج زوجته في حال الطلاق الرجعي ما دامت الزوجة في العدة أو يعقد عليها عقدا جديدا بمهر جديد أمام اللجنة، إذا انقضت العدة في الطلاق الرجعي – دون رجعة – أو كان الطلاق بائنا([19]) بينونة صغرى أولى أو ثانية على الإبراء، وبذلك تعود الزوجة لزوجها بإجراء شرعي معتبر شرعا، دون الوقوع في اتخاذ الأخدان([20]) الذي نهى الله عنه، ويتفادى المسلمون المقيمون في السويد بذلك ما ينغص عليهم حياتهم، أو يوقعهم في مخالفات شرعية.
وهذه الجمعية الإسلامية بالسويد – صاحبة الاستفسار – وقد أعطت اهتماما كبيرا للأسرة المسلمة، وبخاصة في شأن ما يقع من الطلاق، تبتغي له حلولا تتفق وحكم الإسلام، لهي بذلك تخدم الأسر المسلمة وتقيم الدين، لكن الإسلام لا يقر التحايل أو التزوير للحصول على المساعدات الاجتماعية.
ومن ثم فإنه مالم تكن المرأة المسلمة مطلقة فعلا وواقعا، لايحل لها شرعا اقتضاء تلك المساعدات التي قررتها دولة السويد للمطلقات([21]).
هل يجوز لقاض غير مسلم أن يطلق المسلمة؟
جاء الاستفسار هذه المرة من امرأة مسلمة، من أم زائيرية وأب بلجيكي، تعيش في بلجيكا، تزوجت من زائيري مسلم وأنجبت منه ثم غادر إلى زائير وتركها دون نفقة، وطالت غيبته فراسلته، فلم يرد، فطلبت الطلاق للضرر فتعنت، فأشير عليها برفع الأمر للقضاء ليحكم بالطلاق رغما عن الزوج من أجل رفع الضرر.
والسؤال: لايوجد ببلجيكا قاض مسلم يمكنه إيقاع الطلاق، فماذا علي أن أفعل لاعتبر مطلقة منه؟ ومتى يمكنني أن أتزوج غيره؟ فهل يكفي أن أطلق نفسي منه، وأشهد على طلاقي له؟ فإذا لم يكن لي ذلك، فهل يمكن أن يقوم غير القاضي المسلم في غيبته بإيقاع هذا الطلاق للضرورة الملحة؟
والجواب: ” إن معايشة المسلمين لغير المسلمين في ديارهم، والتعاون معهم في أمور الحياة، أمر مباح غير منهي عنه، فمتى أمن المسلم على دينه، ومارس شعائر الإسلام بحرية في بلد ليس له دين أصلا، أو له دين غير دين الإسلام تصح إقامته فيه، أما إن خاف على دينه وخلقه أو على ماله وعرضه، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد يجد فيه الأمان، ففي الحديث الشريف: «الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، من أحيا مواتا فهي له»([22]).
كما صح أن بعض المسلمين الأوائل هاجر إلى الحبشة، وأقام بها بأمر من رسول الله r ولم تكن الحبشة دار إسلام، ومن أقوال العلماء والمحققين: إذا وجد المسلم أن بقاءه في أرض الكفر يفيد المسلمين الموجودين بدار الكفر بتعليمهم وقضاء مصالحهم، أو يفيد المسلمين الموجودين في دار الإسلام أو يفيد الإسلام نفسه بنشر مبادئه ورد الشبه عنه، كان وجوده في هذا المجتمع أفضل من هجرته، ويتطلب ذلك أن يكون المسلم قوي الإيمان والشخصية والنفوذ، حتى يمكنه القيام بمهمته، وقد كان للدعاة والتجار أثر في نشر الإسلام في بلاد الكفر.
ولقد شرع الله زواج المسلمة من المسلم دون غيره، غضا للبصر وحفظا للشرف وسكنا ومودة ورحمة بين الزوجين، صيانة للمجتمع من الاختلاط المضيع للنسل، فبالزواج يتحقق العفاف والطهر والسعادة والغنى والمحبة والألفة والاستقرار الأسري، ما دام كل من الزوجين قائما بواجباته نحو الآخر في حدود شرع الله – عز وجل – لكن إذا قصر كلا الطرفين أو أحدهما في حق الآخر، فإن العلاقة الزوجية تتعرض لما يفقدها التعاون والمودة والرحمة، نتيجة تباعد في الطباع، وتباين في الأخلاق يترتب عليهما حدوث الشقاق والكراهية وطلب الفراق؛ لأن رابطة الزواج لم تثمر ثمرتها، ولم تحقق غايتها.
ودفعا لهذه المضار شرع الله الطلاق حلا لعقدة النكاح، متى اشتد الخلاف قال الله عز وجل: )وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)( (النساء)، وجعله بيد الزوج تحملا لمسئولياته، وتجنبا لعواقبه.
وإذا كانت الشريعة قد قضت بأن يكون الطلاق – وهو أبغض الحلال إلى الله – بيد الرجل، فإن عدالتها اقتضت أن للزوجة حق طلب التفريق بينها وبين زوجها إذا وجد به عيب يفوت ثمرة الزواج، أو تختل به العشرة والألفة، أو كان الزوج معسرا بنفقتها أو ممتنعا عن الإنفاق عليها بغير حق، أو كان يضيرها ويؤذيها، أو خافت على نفسها العنت، ([23]) والسقوط في مهاوي الرذيلة بسبب غيبته، أو هجره لها أو حبسه، ولم تصلح المساعي – الأهل والحكماء – في إصلاح ذات بينهما، أو أمسكها الزوج إضرارا بها، كان لها أن ترفع أمرها إلى القضاء المسلم، صاحب الولاية في هذا دون غيره؛ إذ ليس لغير المسلم ولاية على المسلم، قال عز وجل: )ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)( (النساء)، وعلى القاضي المسلم متى عرض عليه أمر النزاع أن يبادر إلى عرض الصلح على الزوجين، فإن أعرضا أو أحدهما كان له أن يفرق بينها وبينه، إذا ثبت لديه وقوع الإضرار من جانب الزوج، سواء أكان الزواج موثقا رسميا، أو استوفى شرائط العقد الصحيح دون توثيق رسمي.
ولا يجوز التقاضي أمام محكمة قاضيها غير مسلم؛ لأن طلاق القاضي غير المسلم على المسلم غير نافذ؛ إذ إن القاضي يوقع الطلاق على الغائب أو غيره بولايته العامة، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، كما سبق بيانه.
وننصح الزوجة المسلمة السائلة التي تعثرت حياتها الزوجية – حسب ما جاء بالسؤال – أن تسعى للوفاق مع زوجها على الطلاق بالأوجه المشروعة التي شرحها الفقهاء أخذا من نصوص القرآن والسنة، كالطلاق خلعا، أو نظير الإبراء من الحقوق الزوجية.
ولها إن تعذر الوفاق مع الزوج على الطلاق، أن ترفع أمرها إلى قاض مسلم بالإجراءات القانونية المقررة في القوانين واللوائح، وفي أي بلد فيه قضاء إسلامي في مسائل الأحوال الشخصية، دون التقيد بموطن العقد، ولعل في زائير، موطن زوج السائلة ومحل إقامته، قضاء للأحوال الشخصية للمسلمين، ويعلم ذلك عن طريق سفارة أو قنصيلية زائير ببروكسل.
ويمكن للسائلة أيضا أن تتصل بأخوالها في زائير أو أحد من أولادهم، ليقوموا بالتفاوض مع هذا الزوج من أجل أولاده في بروكسل، وزوجته المتضررة بغيابه عنها وإصراره على عدم تطليقها، ويذكروه بقول الله عز وجل: )فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه( (البقرة: 231).
وتخاطبهم في شأن مقاضاة زوجها لدى المحكمة في زائير، محكمة مسلمة في مسائل الطلاق وغيره، وبتوكيل منها توثقه رسميا لدى جهات التوثيق في بروكسل، وينوب عنها أحد أقربائها في رفع دعوى الطلاق للضرر بسبب الهجر([24]) أو الامتناع عن الإنفاق، كما أن لها أن تقاضيه بهذا الطريق في شأن نفقتها عليه كزوجة ونفقة أولادهما إلى أن يفصل قضاء في أمر الطلاق، إذا ترافعت في شأنه أمام محكمة في زائير.
وإذا تم بتوفيق الله وتيسيره طلاق السائلة على أي وجه من تلك المقترحات القضائية أو الرضائية، فإن عليها أن تعتد، فلا تتزوج حتى تحيض ثلاث حيضات، إن كانت ممن تحضن، أو يمضي عليها ثلاثة أشهر، إن كانت لا يأتيها الحيض([25]).
- حكم تعامل الأقليات الإسلامية في الخارج مع البنوك الربوية والشركات التي تتعامل بالربا:
أفاض في الحديث حول هذا الموضوع المهم والحيوي بالنسبة لمسلمي الخارج د. وهبة الزحيلي، ومما جاء في كلامه: ” كثرت الهجرة من البلاد الإسلامية إلى البلاد غير الإسلامية لأسباب كثيرة، كالعلم أو التجارة أو كسب المعيشة، أو لظروف سياسية اقتضت الهرب أو الفرار، أو لجور السلطة الحاكمة ونحو ذلك، وكثر المهاجرون إلى كل بلد غير إسلامي، حتى عد بعضهم في أوربا أو أمريكا بالملايين، واختلطوا بالسكان الأصليين، ووجدوا قوانين وأنظمة جديدة تهيمن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ونظرا لضغط الحاجة في مبدأ الاغتراب، أو حبا في التفوق والثراء، كالمواطنين بعد الاستقرار، عمل بعضهم في المطاعم الغربية والحانات، وانصرف أكثر العمال إلى خدمات، كقيادة سيارات الأجرة والعمل في محطات البنزين، ولم يجدوا مناصا من شراء هذه السيارات إلا بقروض مصرفية، وتورط بعضهم في قروض لشراء البيوت السكنية، أو لفتح محلات تجارية، أو إقامة مصانع أو مطاعم أو نحو ذلك.
فهل هذه الظروف تقتضي إباحة التعامل بالربا بين هذه الأقليات وبين البنوك الربوية، أو الشركات التي تتعامل بالربا بشراء الأسهم؟ الأمر يحتاج إلى تفصيل وبيان، ووضع ضوابط لحال الإباحة أحيانا، والالتزام بأصل الحكم الشرعي في غير هذه الحالة.
إن محاولة تمييع الأحكام الشرعية بحجة تيسيرها للناس، ومسايرة مزاعم التنمية بسذاجة وغباء، مرفوضة قولا وعملا؛ لأن مجال التيسير إنما هو فيما يسرته الشريعة وحددته، لا في تخطي الحرام القطعي أو الصريح المنصوص عليه في القرآن والسنة، فذلك هدم للشريعة، وتجاوز للنصوص تحت ستار أو غرور القول بالتجديد، ومسايرة الشريعة لأهواء الناس وشهواتهم, ولو درس هؤلاء حقيقة الاقتصاد وخطورة الربا فيه، لبادروا إلى تغيير آرائهم، وحينئذ يقولون: لقد خدعنا وأوقعنا الغوغائيون في الخطأ.
جاء في قرار مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في المؤتمر الإسلامي الثاني (1385هـ/1965م): الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة – في مجموعها – قاطعة في تحريم النوعين.
لا تمييز في تطبيق الأحكام الشرعية، ولا سيما دائرة المحظورات بين الفرد والدولة، وبين الفرد والمؤسسات العامة، وبين الشخص والبنوك الربوية أو الشركات المتعاملة بالربا؛ لأن الشريعة الإلهية واحدة للجميع بالإجماع، والمسلمون كلهم أيا كانت مراكزهم وإمكاناتهم ومواقعهم وبلدانهم مخاطبون على السواء بتنفيذ الحكم الشرعي الواحد، عملا بقوله عز وجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)( (المائدة)، وقوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء)، وقوله عز وجل: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء).
لقد سوى الإسلام بين المسلمين قاطبة في تطبيق الحكم الشرعي، لا في دائرة الحدود – العقوبات المقررة – فقط؛ لإنكار النبي – صلى الله عليه وسلم – على أسامة بن زيد الشفاعة في امرأة قرشية سرقت، وإنما في جميع التكاليف الشرعية.
الإسلام دين ذو نزعة عالمية، ورسالة إصلاح للمجتمع الإنساني كله، وخطاباته عامة للناس جميعا، فإن طبقت أحكامه في بلد أو انتشر في أقطار إسلامية، لا يعني ذلك على الإطلاق، تغيير صفة الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المسلمين المؤمنين برسالته في بلاد أخرى غير إسلامية، لأن المسلم وصبغة الإسلام متلازمان، يعرف أحدهما بالآخر على السواء، والإسلام يريد من وراء دعوته ليس تصحيح العقيدة فقط، وإنما إصلاح الأخلاق والمعاملات والعبادات في كل أنحاء الدنيا، وإلا كان إسلاما ناقصا أو مبتورا أو مشوها أو انتهازيا، يحل لشخص ما يحرم على آخر، وهذا يتناقض مع سمو شريعة الله وموضوعيتها وتجردها، وحاكميتها على أساس الحق والعدل والمساواة بين جميع الناس، وإلا لجاز ارتكاب المحرمات من زنا وسرقة وقتل مثلا في البلاد غير الإسلامية بحجة كون أهلها كفارا، أو مجتمعا فوضويا فاسدا في شئون الأعراض والدين، فأين إذن ميزة الإسلام؟!
وما أصوب وأروع كلمة الإمام الشافعي – رضي الله عنه – في هذا الشأن حيث يقول: ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون ويجتمعون عليه، أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئا.
إنه لايحل إذن لفرد مسلم أو أقلية مسلمة التعامل بالربا في أي بلد في العالم، في داخل البلاد الإسلامية أو في خارجها، لا مع البنوك الربوية، ولا مع الدولة ذاتها، ولا مع الشركات المساهمة التي تتعامل بالربا، فذلك هو جوهر الشريعة وأساسها، وغيره تناقض وضلال وانحراف عن منهج الإسلام، مالم تكن هناك ضرورة شخصية أو حاجة عامة متعينة، يقتصر فيها على صاحبها، وتترك للفتوى الخاصة، لا للقرارات العامة.
وقد ذكر فقهاء الحنفية طائفة من الأحكام الفقهية تختلف باختلاف الدارين: دار الإسلام ودار الحرب، منها ما يأتي: لو دخل مسلم دار الحرب بأمان، فعاقد حربيا عقدا مثل الربا – أي العقود الفاسدة -، جاز عند أبي حنفية ومحمد، ولم يجز عند أبي يوسف وجمهور الفقهاء.
واستدل أبو حنفية وصاحبه بأن المسلم يحل له أخذ مال الحربي من غير خيانة ولا غدر؛ لأن العصمة – صون المال – منتفية عن ماله، فإتلافه مباح، وفي عقد الربا المتعاقدان راضيان، فلا غدر فيه، والربا كإتلاف المال، قال محمد بن الحسن في السير الكبير: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم، بأي وجه كان، لأنه إنما أخذ المباح على وجه عرا عن الغدر، فيكون ذلك طيبا منه.
واستدل أبو يوسف والجمهور بأن حرمة الربا ثابتة في حق المسلم والحربي، أما بالنسبة للمسلم فظاهر، وأما بالنسبة للحربي؛ فلأنه مخاطب بالحرمات، قال الله – عز وجل – عن اليهود: )وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161)( (النساء).
الواقع أن الأخذ برأي أبي يوسف والجمهور هو المتعين؛ لاتفاق ذلك مع مقاصد الشريعة الغراء، ومع إشاعتها للإصلاح في كل مكان، ولعموم أحكامها دون تخصيص، أو استثناء أحد، أو قصر على بلد دون آخر، أو مراعاة ظروف فئة في حال دون حال؛ لأن الحرام لا يصير حلالا في أي مكان، واستباحة مال الحربي بطريق الغنيمة يختلف عن أخذه بطريق العقود المدنية التي تغري بارتكاب الحرام، ويتجرأ الناس بها على العصيان، فكان القول بالتحريم المطلق سدا للذريعة، وحفاظا على سمو تعاليم الإسلام والاحتفاظ بقداسته في أنظار الآخرين، حتى يحترم الناس أحكامه وشرائعه في أية بقعة من العالم.
ومع ذلك، فإن فتوى أبي حنيفة وصاحبه ليست خطأ محضا؛ فإن مال الحربي ودمه هدر، سواء تم معه إبرام عقد صحيح أم فاسد، ولا تصلح هذه الفتوى لإباحة الربا للأقليات الإسلامية في ديار غير إسلامية؛ لأن مقصد أبي حنيفة إضعاف الحربيين بكافة الوسائل، وأما فعل المسلمين اليوم مع غير المسلمين في ديارهم فهو إما إيداع أموال واستثمارها وأخذ فوائدها، وهذا حرام؛ لأنه ليس أخذا لمال الحربيين، وإنما هو نقيض ما أراده أبو حنيفة، ففي ذلك تقوية لهم؛ حيث يقوون بأموالنا صناعاتهم ومشاريعهم، وإما اقتراض بالفائدة وفي هذا ضرر محقق؛ لأن المقترض يقترض مثلا مائة ألف دولار، ويسددها ثلاث مائة ألف دولار فهذا إعطاء وتقوية، وليس أخذا أو إضعافا كما أراد الإمام أبو حنيفة.
ثم إن وجود دار الحرب في عصرنا الحاضر يكاد يكون نادرا أو محدودا جدا؛ لأن الدول الإسلامية انضمت لميثاق الأمم المتحدة التي جعلت العلاقات بين الدول قائمة على السلم والأمان الدوليين، وليس الحرب، فديار غير المسلمين اليوم ديار عهد وميثاق لا ديار حرب؛ والربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين, وأما الضرورة أو الحاجة للتعامل بالربا، فلا أجد فيها فرقا أو علة تميز ديار غير المسلمين عن بلاد المسلمين، فالظروف واحدة والمصالح واحدة؛ ولا بد من مراعاة ضوابط الضرورة أو الحاجة في أي مكان للعمل بالرخصة الشرعية.
ومن النادر توافر ظروف الضرورة أو الحاجة بالمعيار أو المفهوم الشرعي، فمن مقتضى الضرورة: أن يتعرض الإنسان لخطر الموت جوعا إن لم يتناول الحرام، ومن مقتضى الحاجة: أن يتعذر وجود السكن بالإيجار مثلا، ويتعرض الإنسان للمبيت في الشارع مثلا، وهذا لاتختلف فيه البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، فكيف نجيز للأقليات الإسلامية في ديار الغرب أو الشرق ما لا نجيزه للضعفاء في العالم الإسلامي أو العربي؟!
إن العبث بعموم الأحكام الشرعية ومحاولة تقييدها أو تخصيصها، أو اللجوء للرخصة من غير وجود مسوغاتها، كل ذلك مصادم لشرع الله ودينه، وإن قصد التبسيط أو التيسير للأقليات يفتح الباب أمامها لتجاوز الأحكام الشرعية، سواء في حال الضرورة والحاجة بالمعيار الشرعي أم في مختلف الأحوال، فتسد الذرائع ورعا واحتياطا.
وبعد مناقشته لأدلة المبيحين والمانعين لهذه المعاملات الربوية، يختتم د. وهبة الزحيلي كلامه بقوله: لقد وضح الطريق وحصحص الحق، وتبين لكل مسلم غيور على حرمات دينه، وكل متعامل في مجال القروض والمساهمات أن قليل الربا وكثيره، سواء في التحريم بالنصوص الشرعية القاطعة وإجماع الفقهاء، إلا من شذ، ومن شذ في النار، ويد الله مع الجماعة.
فيحرم الاقتراض بفائدة من البنوك الربوية، كما يحرم الإيداع بفائدة في هذه البنوك، سواء في بلد إسلامي أو غير إسلامي، للمسلمين جميعا أو لطائفة قليلة أو معينة.
ويحرم أيضا التعامل مع الشركات المساهمة التي تقترض بالفائدة الربوية وتودع بالفائدة في البنوك مطلقا، في بلد إسلامي أو غير إسلامي؛ إذ لا تفرقة في الحكم الشرعي بحسب البلاد أو العباد، لعموم النصوص وعدم الاستثناء والاجتهاد فيما يخالف ذلك مردود؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص، وليس إفتاء مفت يرفع الخلاف، فهذا في القضاء، وفي الحالات التي لا تتصادم مع النصوص الشرعية القطعية أو الظنية الواضحة، فإن توافرت ضرورة أو حاجة عامة للتعامل مع البنوك الربوية أو مع الشركات المساهمة بضوابطهما الشرعية جاز ذلك، وهاتان حالتان نادرتان يترك الافتاء فيهما لكل حالة بحسب ظروفها على حدة.
اللهم إني أبرأ إليك من قرار عام في هذا الشأن، ومن تورط في ذلك، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، وإعلان الرجوع عن قراره؛ لأن إباحة الربا الذي هو من الكبائر، ومما أذن الله فيه بحرب من الله ورسوله على مرتكبه ليس بالأمر الهين”([26]).
لعل هذه النماذج العديدة السابقة من اجتهادات العلماء في قضايا فقه الأقليات، توضح بجلاء أن طبيعة التشريع الإسلامي من السعة والمرونة بحيث لا تقصر عن استيعاب أية مستجدات ولا يند عن وسعها ضبط أية معاملات، مما يدحض مقولة عجز أو حتى قصور هذا التشريع حيال تطورات الحياة المعقدة وتقلباتها المتسارعة، فأينما تولوا فثم شرع الله.
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء
وكما لا يمكنه أن يمرق من إسار ملك ربه، كذا لايتأتى له أن يبدع من الأحوال ما يند عن استيعاب شرعه.
الخلاصة:
- مسايرة التشريع الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان أمر ثابت، لا مماراة فيه، وشواهده من هذا التشريع عديدة متوافرة.
- عموم التكليف في التشريع الإسلامي يقتضي أن يتساوى المسلمون في أداء التكاليف والالتزام بالتعاليم، دون تعلل بظروف غير تقليدية أو أحوال غير عادية، وقد اجتهد العلماء لضبط أحوال الأقليات المسلمة بضوابط الشرع مراعين أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع.
- النماذج التي سبق إيرادها لاجتهادات العلماء توضح بجلاء أن طبيعة التشريع الإسلامي من السعة والمرونة بحيث لا تقصر عن استيعاب أية مستجدات، ولا يند عن وسعها ضبط أية معاملات، مما يدحض مقولة عجز أو حتى قصور هذا التشريع حيال تطورات الحياة المعقدة وتقلباتها المتسارعة.
- لقد استطاع الفقه الإسلامي أن يعالج مشكلات المجتمع المتغيرة,وأن يجد الحلول للكثير مما جد وتطور في أحوال الناس,برغم صرامة الالتزام المذهبي,وانتشار التقليد بين العلماء,ولكن طبيعة الشريعة الإسلامية وسعتها ومرونتها,غلبت على ضيق التقليد وتزمته,فاستطاعت أن تواجه كل جديد بما يدفع الحرج والغدر,ويحقق مصالح العباد.
(*) قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م.
[1]. المشقة: الجهد والعناء والشدة، ويقال: شق الأمر علينا أي ثقل. والمشقة تجلب التيسير، والمشقة سبب للرخصة, والمشقة أعلى من الحرج.
[2]. التيسير: مصدر يسر، فيقال: يسر الأمر إذا سهله ولم يعسره ولم يشق على نفسه أو غيره فيه، والتيسير خاصية من خصائص الشريعة الإسلامية في أحكامها وعقائدها.
[3]. يند: يغيب.
[4]. مغايرة: مخالفة.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (7560).
[6]. قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص31: 34.
[7]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة (793)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، باب التأمين (895)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6300).
[8]. قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص35، 36 بتصرف.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة (605)، وفي مواضع أخرى.
[10]. الخطب: الأمر الشديد.
[11]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ج1، ص392: 399.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا” (1810)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2567).
[13]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ج1, ص559: 563.
[14]. الفداء: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، فقد يكون الفداء لارتكاب أحد محظورات الإحرام، أو الوقوع في الأسر أو غير ذلك.
[15]. الطلاق المنجز: هو الطلاق الذي يصدر بصيغة ليست معلقة على شرط ولا مضافة إلى زمن مستقبل، بل قصد من أصدرها وقوع الطلاق في الحال، وهو الطلاق الخالي في صيغته من التعليق والإضافة.
[16]. الطلاق المعلق: هو ما يفيد وقوع الطلاق عند حدوث أمر ممكن الوجود في المستقبل، ويستوي أن يعلق الطلاق على فعل للزوجة أو للزوج أو لغيرهما.
[17]. الطلاق المضاف: هو الطلاق المضاف إلى زمن؛ أي قرنت صيغته بوقت بقصد وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت؛ كأن يقول لزوجته: أنت طالق غدا، فإن الطلاق يقع في الغد.
[18]. ذات البين: ما بين القوم من القرابة والصلة والمودة، أو العداوة والبغضاء.
[19]. الطلاق البائن: نوعان:
البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إليه إلا بعقد جديد ومهر وبرضاها؛ كالطلاق قبل الدخول.
البائن بينونة كبرى: هو ما كان بعد الطلاق الثالث، ولا ترجع المرأة إلى زوجها الأول حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها حتى يطلقها أو يموت عنها.
[20]. الأخدان: جمع الخدن، وهو الصديق في السر.
[21]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص355: 366 بتصرف.
[22]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 318)، باب الفاء: فضالة بن عبيد الأنصاري (823)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2766).
[23]. العنت: المقصود الزنى.
[24]. الهجر: هو ترك فراش الزوجية، أو ترك الجماع، أو إعطاء الرجل ظهره لزوجه في نومه كنوع من التأديب.
[25]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص371: 375.
[26]. انظر: المعاملات المالية المعاصرة، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص238 وما بعدها.